ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 14:01
المحور:
الادب والفن
هل الطفولة هي مصنع الحطام الأول للإنسان في مسلسل الآثم ؟
تتعدد طبقات شخصية كورا تينتي في مسلسل الآثم The Sinner. إذ تتشابك فيها الأقدار النفسية والاجتماعية والأخلاقية والفلسفية، في سردية إنسانية هائلة القوة والجرح. إن تحليلي لشخصية كورا يشبه محاولة فك خيوط متشابكة داخل نسيج محكم، خيوط بعضها واضح وبعضها مغمور في الظلام، لكنها جميعاً تتجمع لتصنع معنى مركباً عن الإنسان حين يسقط، وحين يحاول أن يُشفى، وحين يرفض الاستسلام.فالمشهد الأول والعائلة تقف على شاطىء الماء، في الحقيقة هم يغرقون في الداخل، كما أن البحر ليس مكاناً للمتعة. بل ملجأ للهرب بالنسبة لهم .ومناداة زوجها لها "كورا!كورا" كأنه يقول كل شىء منذ البداية من خلال خوفه الشديد عليها وهو الخوف من اختفاء انسان حقيقي في داخله قبل اختفائه جسدياً . فهل وضعنا الكاتب أمام شخصية تعاني من ضغط عائلي واجتماعي ومحاصرة بدور الأم والزوجة وتبحث عن صمت لأن صوتها مفقود؟
واجهت كورا أزمة نفسية حادة (انفصال عن الواقع) وصرخة تعيد وجودها الذي هربت منه صرختها "أنا قتلته "قد تكون اعترافاً بقتل الذات القديمة .فكورا ليست مجرمة بالمعنى التقليدي، وليست ضحية بالمفهوم الرومانسي، بل هي إنسان مركب تحطم بين مطرقة الصدمة وسندان الذنب، بين ذاكرة ممزقة وإحساس لا يُحتمل بالعجز، بين عالم رفض أن يرى آلامها وعقل لم يعد قادراً على حمل ثقل ما عاشه. إنها ليست قصة جريمة، بل تجربة حياة كاملة حول السؤال الأصعب في علم النفس والعدالة معاً وهي إلى أي مدى يمكن اعتبار الإنسان مسؤولًا عن فعل ارتكبه تحت تأثير جروح لا يراها الآخرون؟ وهل الطفولة هي مصنع الحطام الأول للإنسان ؟ وهل حالة الضغط النفسي حين تتجاوز قدرة التحمل ، تتحول إلى انفجار غريزي لا عقلاني ؟
تبدأ كل مأساة عظيمة من جان فالجان إلى مسلسل الآثم بصوت صغير في الطفولة. كورا لم تولد معطوبة، لكن العالم الذي نشأت فيه كان مشرّباً بالقسوة والإهمال والضغط الديني المرضي. القمع الأخلاقي الذي مارسته أمها، والبيئة الأسرية المعبأة بالعقاب النفسي والشعور الدائم بالذنب، خلقت داخل كورا طفلة تحاول دائماً أن تكون كاملة كي تُحب، وكي يشعر الآخرون بأنها تستحق الوجود. فالعنف اللحظي الذي بدأ من الحلقة الأولى كشف عن هشاشة الروابط العائلية والاجتماعية، وهو يعري زيف الاستقرار الظاهري الذي بُني عند كورا على كبت طويل.وعندما ينهار رمز الأمومة، ينهار مركز الوجود. الطفل يعرف أكثر مما يريد العالم تصديقه، ويعبر بجملة بسيطة تهدم كل الأقنعة.فهل المشاهد استبطنت وفرضت تساؤلات منها .هل الأطفال يرون ما لا يراه الكبار؟ هل الإيمان لا يمحو الألم بل يرافقه ؟ والأهم هل العنف يمزق العائلة من الداخل قبل أن يظهر على السطح؟ وماذا يحدث لطفل يكتشف أن الخطر يأتي من البيت لا من الخارج؟
تُنشئ الطفولة المليئة بالعار إنساناً محطّم الحدود النفسية، غير قادر على الدفاع عن نفسه أو فهم ما يستحقه. والدليل النفسي واضح جداً في المسلسل حيث الأطفال الذين ينشأون تحت ضغط الذنب والإدانة الدائمة يطورون ميلًا لإلقاء اللوم على الذات في كل مصيبة تقع حولهم، حتى حين لا علاقة لهم بها. وهذا بالضبط ما عاشته كورا طوال حياتها في محاولة هوسية لتفسير الألم بإدانة الذات بدلًا من مواجهة الحقيقة. فالاحتفاظ بالمشاعر داخل النفس هو الأسوأ ويتمثل في القول " الناس يحتفظون بالكثير من الأمور في داخلهم، ثم شىء ما يثيرهم، ويأخذ شخص مسكين العبء كله." وهكذا، فإن المأساة لم تبدأ حين قتلت فرانكي، بل قبل ذلك بسنوات طويلة، عندما تعلمت أن تحمل الذنب الأكبر حتى عن أشياء لم ترتكبها. فهل الاستغلال العاطفي يبدأ حين يتحول الحب إلى قيد؟
تكون الهوية في سن المراهقة ضمن طور التشكل.إذ يصبح أي ارتباط عاطفي قوة هائلة يمكنها البناء أو الهدم. دخول ج.د. لامبرت إلى حياة كورا كان نقطة تحول بنيوية. لم يكن عاشقاً بل صياداً نفسياً، استخدم ضعفها العاطفي ليؤسس علاقة قائمة على السيطرة وليس على الحب. فقد استخدم ج.د. أدوات السيطرة النفسية المعروفة في علم النفس السريري مثل الإغواء ثم الحرمان،الضم والإبعاد،هدم الثقة بالنفس، خلق الإدمان العاطفي، فكورا لم تكن تحبه بقدر ما كانت تتعلق به كطوق نجاة من الفراغ الداخلي. كانت ترى فيه باباً إلى الحرية، لكنه كان الباب ذاته الذي قادها إلى الجحيم. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا قالت كورا :"لا أعرف لماذا فعلت ذلك." هل لأن العنف لم يولد في لحظة الجريمة، بل في هذه اللحظة الأصلية من الطفولة؟
الإقرار بالجريمة يمثل التحول من الانفعال العاطفي إلى المسؤولية الشكلية. هذه اللحظة تشبه مشهد كورا مع الأم حيث تُفرض قواعد الحياة والنجاة على الضحايا الصغار، لكن البالغون يواجهون القانون بدلاً من الأم، وحين فقدت كورا السيطرة على حياتها، فقدت السيطرة على ذاتها، فتعلمت أول درس مأساوي بأن الاستغلال العاطفي لا يقتل الجسد فقط، بل يقتل القدرة على معرفة الذات. فهل حين يحاول العقل إنقاذ الجسد بالخداع وبالذاكرة المفقودة؟
الاختفاء لمدة شهرين لم يكن هروباً واعياً، بل كان انهياراً دفاعياً عصبياً. العقل البشري حين يواجه ما لا يحتمله، يلجأ إلى آليات الحماية القصوى، أبرزها الكبت العميق والانفصال عن الوعي.فكورا دفنت الألم داخل طبقات من الصمت الداخلي، وبدلًا من الانهيار الكامل، اختارت اللاوعي أن يبتلع الذكريات المروعة، ليحافظ على بقائها البيولوجي. الذاكرة لم تختفِ، لكنها اختبأت خلف باب مغلق بإحكام، ولم يُفتح إلا حين رأت فرانكي على الشاطئ وهو محفز بصري أعاد كل شيء دفعة واحدة. وهذا أحد أعظم مشاهد الألم النفسي في هذا المسلسل من الجزء الأول منه والحلقات الأولى فالذاكرة لا تموت، إنها تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر.
حين طعنت فرانكي، لم تكن كورا في حالة وعي طبيعية، بل كانت في حالة اضطراب انفعالي شديد، حيث تختلط الحاضر بالماضي، والوجه الحقيقي بوجه الجلاد القديم، والفعل الواعي برد فعل بدائي هدفه البقاء. القتل لم يكن فعلًا إرادياً مدروساً، بل انفجاراً عصبياً أمام ذاكرة لم تُعالَج. وهذا فرض السؤال الفلسفي والقانوني والاستثنائي وهو هل يمكن محاكمة الألم كما يحاكم الفعل؟هل يمكن معاقبة إنسان على ما لم يختره؟هل العدالة انتقام أم فهم؟
إن قرار القاضي بتخفيف الحكم وتحويله إلى علاج في مؤسسة نفسية كان انتصاراً لفلسفة العدالة العلاجية، لا للعقابية.إنه اعتراف بأن الإنسان ليس آلة حسابية للفعل والنتيجة، بل بنية معقدة من الوعي واللاوعي، ومن الجرح والرغبة في النجاة. فالذنب هو السجن الداخلي الأشد قسوة؟
إن الذنب الذي حملته كورا لم يكن مفروضاً بالقانون، بل كان ناراً تحترق داخلها. تحملت مسؤولية موت أختها، وفشلها في إنقاذ فرانكي، وضياع نفسها.لقد أصبحت سجينة داخل عقلها قبل أن تدخل أي جدران ملموسة. والمفارقة المؤلمة الكبرى هي السجن الطبي الذي نُقلت إليه لم يكن عقاباً بقدر ما كان فرصة للخلاص.
فالحرية ليست الخروج من باب، بل القدرة على مواجهة الذات دون أن تنهار. وفي اللحظة الأخيرة قبل دخولها المؤسسة النفسية، يأتي صوت زوجها وطفلها ليكسر دائرة العذاب الطويلة."رح زورك، رح أتأكد إنهم عم يعاملوك منيح. رح يكون منيح. رح يكون منيح." ليست مجرد جملة، بل عقد جديد مع الحياة. كأن الضوء الأخير يقول لها نعم، كل شيء تحطم، لكن ما يزال بالإمكان أن يُعاد البناء.
كورا ليست مجرد شخصية عابرة في مسلسل الآثم ، بل مرآة لكل إنسان مرّ بصدمة ولم يجد صوتاً يدافع عنه. إنها رمز لحقيقة أن الجريمة ليست دائماً شراً مقصوداً والضحية يمكن أن تصبح جلاداً دون إرادة والشفاء يحتاج شجاعة أكثر من الألم والعدالة الحقيقية تبدأ حين نفهم، لا حين نحكم . إنها درس عميق في علم النفس، والقانون، والفلسفة، والدراما الإنسانية. كورا تعلمنا أن الإنسان لا يُقاس بما فعل، بل بما حمل، وما تحمله كان أكبر من قدرتها على البقاء. ومع ذلك، بقيت. وهذا بحد ذاته معجزة إنسانية.
كورا شخصية تُعد واحدة من أعقد وأعمق الشخصيات النفسية الدرامية المكتوبة بصياغة إنسانية عظيمة، تتحدى القوالب التقليدية للخير والشر، الضحية والمجرم، العدالة والقانون .إنها عمل كامل يمس القلب قبل العقل، ويدفعنا لإعادة تعريف معنى الإنسانية نفسها. وفي قولها " لقد فعلت ما فعلت ...لا أستطيع فعل شىء." يعكس الإحساس بالعجز بعد الفعل العنيف، ويبين أن الذنب المكبوت، الفشل في السيطرة على النفس، والانفجار العاطفي كلها تتجمع لتخلق حالة نفسية معقدة بعد وقوع الجريمة، تؤثر على كل المشاركين ، من الجاني إلى الشهود والعائلة . فهل الأمومة السامة في الطفولة هي التي ساعدت في تشكيل الذنب المكبوت والانهيار النفسي والمستقبلي لكورا ؟
الأمومة في مسلسل الآثم الجزء الأول منه تمثل عامل ضغط مستمر، إذ تربط بين الحب والطاعة، بين الرعاية والعقاب.هذا يؤدي إلى تراكم شعور الذنب والضغط النفسي المكبوت لدى الشخصيات الصغيرة، وهو ما يظهر لاحقاً في تصرفات كورا والقتل المفاجىء لفرانكي. نعم يمكن القول أن الأمومة المسمومة في المسلسل هي عامل مركزي في تفسير العنف والتصرفات الانفعالية . ففي خلفية بعض المشاهد تظهر ذاكرة الأمومة والطفولة والمرض والدين والذنب والشعور بالعجز كأعمدة ثقيلة تحمل الحياة الشخصية لكورا وطفولتها المثقوبة، وتجعل من كل مشهد في حاضرها امتداداً لندوب لم تُعالج أبداً. كما أن الأم الصارمة والمركزة على الاختبار الديني والأخلاقي جعل كورا تشعر دائما أنها مسؤولة عن حياة الآخرين.والأب مشغول أو غائب، ما يزيد شعورها بالإهمال. فهل شخصية كورا في هذا المسلسل تشهد على تفاعل الصدمات المبكرة مع الإهمال العاطفي والضغوط الدينية والمجتمعية؟ فهل بعد كل هذا يمكنني القول أن كورا تحمل قناعة سامة بأنها تستحق الألم ؟ ...يتبع
بيروت - لبنان -الأربعاء في 3 كانون الأول 2025الساعة الثانية عشرة ظهرا
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟