أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - أنسحاب الضوء














المزيد.....

أنسحاب الضوء


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 15:42
المحور: الادب والفن
    


كانت سعاد تمشي، أو هكذا بدا لها، بينما كانت ساقاها تجترّان سبعين عاماً من تعبٍ مالح.
لم يبقَ في روحها إلا خيطٌ رفيع، تشدهُ بكل ما أوتيت من وهنٍ كي لا ينقطع، ففي الطرف الآخر منه يرقد "جبار"، زوجها الذي صار ظلاً لتاريخٍ طويل، يشهقُ الهواء بصعوبة وكأنه يستعيرُ أنفاسه من ثقبِ إبرة.

في ذلك الصباح الرمادي، لم تخرج سعاد لتتسول، بل خرجت وفي كفّها وصفة طبية تعتصرها كمن يمسك بجمرة.
راتب الرعاية الاجتماعية الهزيل تبخر منذ منتصف الشهر، والدواء صار ترفاً لا يقوى عليه الفقراء. وقفت أمام الصيدلي، كان الزجاج الفاصل بينهما سميكاً وبارداً.

تمتمت بصوتٍ يشبه حفيف الثوب القديم:

– "يمّه... الدوه."

نظر الصيدلي إلى الوصفة، ثم إليها، وقال بنبرة عملية جافة خالية من أي عدائية، لكنها قاتلة في حيادها:

– "الحساب زاد يا حاجّة. ما يكفي اللي بإيدچ."

تجمد الدم في عروقها. لم ترَ الصيدلي، ولا الرفوف المكدسة بالألوان. رأت فقط وجه جبار وهو يختنق ليلاً، يمد يده في الفراغ باحثاً عنها.

دون وعي، وبحركة يائسة تفتقر إلى مهارة اللصوص، امتدت يدها المرتعشة. التقطت العلبة ودفنتها في سواد عباءتها. لم تكن سرقة؛ كانت محاولة ساذجة لاسترداد حياة.

لكن العيون التي لا تنام كانت أسرع.

ارتفع صوتٌ حاد: "حرامية!".

لم تهرب. كيف تهرب وهي التي بالكاد تقف؟ حين حضر رجال الشرطة، لم يقيدوها بعنف، فلم يكن هناك داعٍ للعنف مع امرأة تتهاوى بمجرد اللمس.
لكنهم اقتادوها. سقطت كرامتها قبل أن يسقط جسدها، وغاب العالم في عينها.

أفاقت في المستشفى، يدها مكبلة إلى السرير الحديدي. القيد لم يكن يؤلم معصمها النحيل بقدر ما كان يحزّ في روحها. كانت تنظر للسقف وتبكي بصمت، دموعاً حارة تحفر أخاديد جديدة في وجهها المجعد.

بعد يومين، دُفِع كرسيها المتحرك إلى قاعة المحكمة. ثوب المستشفى، المغذي المعلق كشاهد صامت، والقيد الذي يلمع كإهانة تحت شمس الظهيرة.

في القاعة، توقف الزمن. القاضي "محسن"، رجلٌ خبر الوجوه وقرأ فيها آلاف القصص، رفع نظره عن الأوراق. توقف طويلاً عند هيئتها.

سأل بصوتٍ خفيض كسر جمود الهواء:

– "ماما... ليش؟"

لم ترفع رأسها. كان صوتها يأتي من بئر عميق من الانكسار:

– "جبار... راح يموت لو ما أخذ الدوه . والله ما عندي... والله ما أمد إيدي للحرام، بس الموت ما يصبر."

ساد صمتٌ في القاعة أبلغ من كل المرافعات. حتى كاتب الضبط توقف عن الطرق على آلته الكاتبة.

زفر القاضي ببطء، كأنما يزيح جبلاً عن صدره. نظر إلى الشرطي الواقف بجانبها، وقال بنبرة حازمة مشوبة بالمرارة:

– "افتح القيد."

تردد الشرطي لحظة، لكن نظرة القاضي لم تترك مجالاً للتأويل.

طرق القاضي بمطرقته، لا ليعلن حكماً، بل ليعلن حقيقة:

– "تُحفظ القضية لعدم الأهمية الجنائية... ولشدة الأهمية الإنسانية."

ثم انحنى قليلاً إلى الأمام، متجاوزاً مسافة المنصة العالية، وخاطبها بصوتٍ سمعه الجميع:

– "القانون يا أمي يُعاقب المجرمين، لا من خذلتهم الحياة... ونحن من اوصلناك الى هذه الحالة "

أشار إلى أحد الموظفين بأن يرافقها لتأمين الدواء على نفقته الخاصة ، وإيصالها إلى بيتها.

خرجت سعاد من المحكمة، الدواء في يدها، والدموع لا تزال على خديها. لم يتغير العالم، ولم تمطر السماء ذهباً، لكنها في تلك اللحظة، شعرت بأن جبار سيعيش ليلة أخرى، وأن الله قد مرّ من هنا، ووضع يده على كتفها المتعب.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل
- جبار البنّاي… آخر حراس الطين


المزيد.....




- -فاطنة.. امرأة اسمها رشيد- في عرضه الأول بمهرجان الفيلم في م ...
- النجمات يتألقن في حفل جوائز -جوثام- السينمائية بنيويورك
- الأدب الإريتري المكتوب بالعربية.. صوت منفي لاستعادة الوطن إب ...
- شذى سالم: المسرح العراقي اثبت جدارة في ايام قرطاج
- الفنان سامح حسين يوضح حقيقة انضمامه لهيئة التدريس بجامعة مصر ...
- الغناء ليس للمتعة فقط… تعرف على فوائده الصحية الفريدة
- صَرَخَاتٌ تَرْتَدِيهَا أسْئِلَةْ 
- فيلم -خلف أشجار النخيل- يثير جدلا بالمغرب بسبب -مشاهد حميمية ...
- يسرا في مراكش.. وحديث عن تجربة فنية ناهزت 5 عقود
- هكذا أطلّت الممثلات العالميات في المهرجان الدولي للفيلم بمرا ...


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - أنسحاب الضوء