أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر














المزيد.....

ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 15:48
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

لم يكن في نيّتي أن أستعيد ما مضى، لكنّ صباحًا من شتاء بغداد جرّني بقوةٍ إلى ذاكرةٍ مضى عليها أكثر من ستة عقود. كانت نسمة باردة تهبّ من جهة دجلة، تحمل رائحة الطين القديم… رائحة الطفولة التي لا تزول مهما طال العمر.

أول الطريق… المدرسة
أتذكّر يوم دخولي المدرسة قبل خمسةٍ وستين عامًا. كنت صغيرًا، أتشبّث بكفّ أبي، وقلبي يخفق كعصفورٍ يريد الطيران ولا يعرف كيف.
كان باب المدرسة من حديدٍ ثقيل، والصفّ الأول يعجّ بأصوات الأطفال وضربات كعب المعلمة على الأرض. جلستُ في المقعد الأخير، أراقب حرف الألف يُرسَم على السبورة، وأشعر أنّ العالم واسعٌ ومتوحّش لطفلٍ جاء من زقاقٍ ضيّق في أطراف بغداد.

مصيادة العصافير… ومطاردات الأزقة
بعد المدرسة، كنت أتحوّل إلى طفلٍ آخر. أحمل مصيادة صغيرة — تلك الأداة البدائية لصيد العصافير — وأتسكّع في شوارع بغداد وحدائقها.
أطلق الحجر فيرتدّ إلى زجاج نافذة وينكسر، فأهرب.
أركض في الأزقة الضيقة، والغبار يعلو حذائي… وأضحك.
كانت تلك الضحكات حصني الوحيد من العقاب، كأنني أملك العالم وأنا أهرب.

نهر دجلة… الغرق الأول
ولمّا لم أعرف السباحة، قفزت يومًا إلى دجلة متظاهرًا بالثقة أمام أصدقائي.
لكنّ الماء ابتلعني سريعًا. شعرتُ بأنني أغرق… أهبط… أختفي.
ثم امتدّ ذراعٌ قوية وانتشلتني.
شابٌ طويل القامة ضربني على مؤخرتي ضربة لن أنساها ما حييت، وقال بصوتٍ غاضب:
"تريد تموت؟ لو تريد أمّك تموت قبلك؟"
كانت تلك الضربة أقسى دروس الحياة… وأصدقها.

الفصل الأول من العمر — مراهقةٌ تتفتح على الدنيا
بعد ذلك الغرق، كبرتُ كما يكبر الغصن بعد أول عاصفة.
صرتُ أتنقّل بين مكتبات السعدون، أقتني الكتب المستعملة، أسمع موسيقى إذاعة بغداد، وأحلم بمدنٍ لا أعرفها.
ارتديت أول بدلة من "حسو إخوان"، وبدأتُ أرى العالم بطريقة أخرى.
كانت تلك السنوات مثل مسافة صامتة بين نغمتين… لكنها تحمل سرّ اللحن كله.

الفصل الثاني — مطلع الشباب وبناء الطريق
حين عبرت العتبة الأولى للشباب، كنت أبحث عن هويّة.
عملتُ في كل شيء:
ساعدتُ بائع الصحف، حملت أكياس الطحين، وقفت في طوابير طويلة من أجل وظيفة قد لا تأتي.
بغداد كانت تُعلّمني الصبر:
أن أبتسم وأنا متعب،
وأحلم رغم ضيق اليد،
وأخسر دون أن أنهار.
كنت أجلس أمام بيتنا ليلاً وأقول:
"متى يكون لي طريق؟ متى يكون لي بيتٌ وزوجة أضع رأسي على كتفها؟"

حين يشيخ العمر… ويرحل النصف الآخر
مرت الأعوام…
وتزوّجتُ المرأة التي جعلت العالم أقلّ قسوة.
كانت ضحكتها نورًا، وصمتها طمأنينة، وصبرها جناحًا يظلّل تعب الأيام.
سرنا معًا خمسين عامًا…
ثم جاء اليوم الذي لم أستطع الهروب منه.
اليوم الذي رحلت فيه زوجتي.
رأيتُ الروح تغادرها ببطء…
ورأيت الأطباء يرفعون أيديهم…
ورأيت نفسي أنحني على يدها الباردة، كطفلٍ عاد من المدرسة يبحث عن أمّه فلا يجدها.
حين خرجت من المستشفى، شعرتُ أن العمر كلّه — بمدارسه ومصايده وغرقه وفرحه وشقائه — قد انكسر فجأة، كما ينكسر زجاج نافذة أصابته مصيادة طفلٍ شقيّ.

المشهد الأخير — دجلة مرة أخرى
في ليلةٍ حزينة، خرجت نحو دجلة.
نفس الضفة التي كادت تبتلعني طفلًا.
نفس الماء… لكني هذه المرة لم أعد أملك شيئًا أتمسّك به.
وقفتُ طويلًا.
كانت الريح تعبر النهر مثل همس الراحلين.
كنتُ أسمع اسم زوجتي في كل تموّج صغير، كأن الماء يحفظ صورتها أكثر مما أحفظها أنا.
رفعتُ صوتي نحو العتمة:
"يا نهر…
أخذت طفولتي،
وحملت شبابي،
وكنت شاهدي في كل تحوّلاتي…
لكن لماذا أخذت نصف روحي ولم تعده؟"
رأيتُ انعكاس رجلٍ عجوز في الماء.
لم أعرفه أول الأمر… ثم أدركت أنه أنا.
لم أعد أصرخ.
لم أعد أتوسّل.
فقط بكيت… بصمت، كأن القلب ينزف بلا صوت.
ثم همستُ، وكأنها تسمعني:
"ما عاد في العمر إلا ذكرياتك…
وطُشّار عمرٍ كنتِ أنتِ أجمل ما فيه."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل
- جبار البنّاي… آخر حراس الطين
- عدسة مكسورة
- الكشك الأخير
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة


المزيد.....




- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- -سيرة لسينما الفلسطينيين- محدودية المساحات والشخصيات كمساحة ...
- لوحة للفنان النمساوي غوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُب ...
- معاناة شاعر مغمور
- الكويت تعلن عن اكتشافات أثرية تعود لأكثر من 7 آلاف سنة
- الصين تجمّد الأفلام اليابانية في ظل اشتعال ملف تايوان
- حي بن يقظان لابن طفيل.. قصة فلسفية تجسد رحلة البحث عن المعرف ...
- لوحة للفنان النمساوي كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُباع في م ...
- ثاني أغلى عمل فني يباع بمزاد علني في التاريخ.. لوحة للفنان ا ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر