أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صوت الطاحونة القديمة














المزيد.....

صوت الطاحونة القديمة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 14:37
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

ثمّة أصواتٌ لا يغمرها الزمن بالنسيان، لأنها قامت مقام القلب في حياة الناس. وكما ينبض القلب ليوزّع الحياة، تنبض الأشياء التي نحبّها لتوزّع الذكرى. وما الطاحونة القديمة إلا نبض بيت، وشاهدٌ على زمنٍ كان فيه الجهد صلاة، والرزق بركة، والناس أقرب إلى بعضهم من ظلّهم.

كانت القرية الواقعة عند أطراف ابو الخصيب تتربّع بين بساتين نخيلٍ خضراء تشقّها السواقي، وتغسل ترابها نسائم الفجر الرطبة. بيوتها من الطين، متواضعة، غير أنها دافئة كحضن أمّ، لا تُغلق أبوابها في وجه عابرٍ ولا محتاج. وكان أهلها يعيشون كعائلة ممتدّة، يجمع بينهم الخبز والماء والفرح والحزن.
وفي وسط الطريق الترابي المؤدي إلى الناحية، كان بيت آل حيدر. بيت بسيط تحرسه شجرة سدرٍ عتيقة، وفي داخله طاحونة حجرية ورثها أبو حيدر عن أبيه. لم تكن مجرد آلة لطحن القمح، بل كانت جزءًا من ذاكرة القرية نفسها. صوتها كان ينبض مع الصباح، فيتشابك مع صياح الديكة ونداء المؤذن وأغنيات الفلاحين، حتى غدت كأنها جزء من إيقاع الحياة.
كان أبو حيدر رجلاً نحيل الجسد، قوي الروح، يعمل في حرّ الصيف وبرد الشتاء دون أن يسمع منه الناس شكوى، كأن جهده صلاة لا تُقال بالألفاظ بل بالفعل. كان إذا أدار الرحى انحنى ظهره، لا ضعفًا، بل خشوعًا أمام قيمة الرزق الذي يأتي من العرق.
كبر حيدر وهو يرى أباه يصارع الحجر بصبرٍ ورضا. وكان قلبه يخفق كلما رأى زينب، الفتاة التي كانت تأتي مع أمها لطحن القمح. لم يكن بينهما كلامٌ كثير، غير أن النظرات كانت تكفي لتقول إن الحياة تخفي وعدًا ما.
غير أن الزمن لا يترك الأشياء على حالها.
ظهرت المطاحن الكهربائية، وخفت صوت الحجر، وقلّ الزبائن. كما لو أن الصوت الذي كان يجمع القرية، أصبح فجأة غير ضروري. جلس أبو حيدر أمام باب الطاحونة في السنوات الأخيرة، ينظر إلى الطريق كمن ينتظر ما يعرف أنه قد رحل.
وحين مات، صمتت الطاحونة.
وبدا البيت كأنه فقد جزءًا من نبضه.
أما حيدر، فقد أنهى دراسته وخرج يبحث عن عمل، لكن المدن الكبيرة لا تفتح أبوابها بسهولة، ولا تعترف بذاكرة القرى. كان يعود كل مرة أكثر صمتًا، وأكثر حيرة أمام الأسئلة.
وفي مساء شتويّ هادئ، عاد إلى البيت. وقف أمام الطاحونة. لمس خشب الباب، فارتفع غبار خفيف كأنه روح الماضي تستيقظ. جلس أمام الرحى، وأغمض عينيه، فسمع صوت أبيه دون أن يسمع كلمة واحدة.
في صباح اليوم التالي، استيقظت القرية على صوت الطاحونة من جديد.
خرج الناس من بيوتهم كما لو أن عيدًا حلّ فجأة.
لم يكونوا بحاجة إلى الطحين فقط؛
كانوا بحاجة إلى أن يتذكّروا أنفسهم.
جاءت زينب كذلك، ووقفت عند الباب، وقالت بصوت يشبه ابتسامة الندى:
«عاد البيت يتنفس.»
ابتسم حيدر.
وفي تلك الابتسامة، اكتمل ما كان غائبًا.
ومع الأيام، لم تعد الطاحونة مكانًا لطحن القمح فحسب، بل غدت مقهىً صغيرًا للذاكرة.
فنجان شاي على موقد فخار، حديث هادئ، ذكريات تُروى، ووجوه تستعيد ما خسرته من صوتها الداخلي.
وصوت الرحى يدور ببطء… كأنه يدور بقلوب الناس.
وفي ليلة ساكنة، وقف حيدر أمام الطاحونة، ووضع يده على الحجر، وقال كمن يخاطب الغائب الحاضر:
«أبي… لقد عدت.
هذه الطاحونة ليست تجارة.
هذه سيرة بيت.
وسيرة بيت لا تُباع ولا تُغلق.»
والأشياء التي نصنعها بأيدينا نصنعها بأرواحنا.
ولهذا تبقى حيّة حتى بعد أن نغيب.
وما الحنين إلا محاولة صادقة لإنقاذ الجميل من أن يموت تمامًا.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ
- طيور السطح
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد
- قاربٌ من الطين
- تنّور أم زينب
- ذكرى لا تُباع
- ألمُ الفقد
- نبضٌ لا يموت
- ضجيجُ العيش وصمتُ الحكمة
- حديقة البيت رقم ١٧
- ظل الصباح
- الملفد ١٩٥٤ / ظل الجسر
- مقهى على دجلة
- كرسيٌّ فارغ… ووردةٌ على الطاولة
- مرثيّة الظلّ البعيد


المزيد.....




- مكتبة الملك عبدالعزيز تطلق فيلم الحج -على خطى ابن بطوطة-
- الجمال آخر ما تبقى من إنسانيتنا
- -ستيريا-: أول مهرجان ستاند أب كوميدي في سوريا!
- أبوالغيط يؤكد أهمية الثقافة كجسر للتواصل في العلاقات الدولية ...
- زلزال في -بي بي سي-: فيلم وثائقي عن ترامب يطيح بالمدير العام ...
- صورة -الجلابية- في المتحف تثير النقاش حول ملابس المصريين
- مهرجان -القاهرة السينمائي- يعلن عن أفلام المسابقة الدولية في ...
- زلزال في -بي بي سي-: فيلم عن ترامب يطيح بالمدير العام ورئيسة ...
- 116 مليون مشاهدة خلال 24 ساعة.. الإعلان التشويقي لفيلم مايكل ...
- -تحيا مصر وتحيا الجزائر-.. ياسر جلال يرد على الجدل حول كلمته ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صوت الطاحونة القديمة