أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - طيور السطح














المزيد.....

طيور السطح


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 08:22
المحور: الادب والفن
    


في المدن التي تضيق جدرانها وتعلو أصواتها، يبقى للسطوح حكايات لا يسمعها إلا من اعتاد الإصغاء للصمت. هناك، حيث يقترب الإنسان من السماء أكثر مما يقترب من الناس، تتكوّن صداقات خفية بين الأرواح المتعبة والطيور الحرة. هذه حكاية رجلٍ وحيد وطفلٍ يبحث عن ملاذ، وسطحٍ صار وطنًا صغيرًا للهاربين من ضجيج الحياة.
كان أبو عارف يسكن في بيتٍ متواضع في أحد أزقّة مدينة بغداد القديمة، بيتٌ يبدو صغيرًا من الأسفل، لكن سطحه كان أشبه بفضاء مفتوح على رحابة السماء. رجلٌ جاوز الستين، نحيل الجسد، ساكن النظرات، حمل في روحه شيئًا من صمت الذين تعبوا من الكلام. فقد زوجته منذ زمن بعيد، ولم يُرزق بولدٍ يورثه اسمه أو يشاركه كأس الشاي عند الغروب. ظل وحده، لكنه لم يكن وحيدًا تمامًا… فهناك الحمام.
على السطح، كانت الأقفاص مصطفّة كصفّ جنود في استراحة هادئة. كلُّ حمامة لها اسمٌ يعرفه، وطبعٌ يميّزها. كان حين يطلق صفيره الصباحي، تهبط الطيور من أعلى وكأن السماء نفسها ترسل إليه أنفاسها. كان يبتسم ويقول بصوت منخفض لا يسمعه سواه:
"الحَمَام ما يِغدر مثل البشر… يرجع لوين ما يطير…"
وفي يومٍ جاءه كرار، طفلٌ من جيرانه في الدار المقابلة. كان الطفل هادئًا كأن صوته قد وُضع في صندوقٍ وأُغلق عليه. والدٌ غليظ، أمٌ صامتة، وبيت لا يعرف غير الصراخ. تردّد الطفل على السطح بلا موعد. جلس أول مرة بعيدًا، ثم اقترب في المرات التالية. ولم يسأل أبو عارف لماذا جاء، ولا من أين. اكتفى بأن يقرّب له حفنة قمح:
"هاذي إلها… لا تكثر حتى لا تتدلّل."
ابتسم الطفل، وكانت تلك أوّل ابتسامة خرجت من وجهه منذ شهور. صار السطح وطنًا صغيرًا للسكينة. كانا يقعدان جنبًا إلى جنب، بلا أسئلة، بلا كثير كلام. يكفيهما صوت الأجنحة وهي ترفرف.
ومن فوق ذلك السطح، كان أبو عارف يرى بيتًا آخر على الجهة المقابلة. في شرفة صغيرة كانت فتاة تخرج كل مساء لتسقي شتلات الريحان. شابة بعمر الورد، تضع منديلاً خفيفًا على رأسها، وتغنّي بصوتٍ يكاد لا يُسمع، لكنه يصل إلى السطح كنسمةٍ دافئة. كان كرار يرفع رأسه نحوها أحيانًا، فيشيح نظره خجلاً. أمّا أبو عارف فكان يبتسم في سرّه ويقول:
"هذي الريحان… مو شتلات، هاي قلوب تنسقي يا كرار."
وذات مساء ظهر شابٌ في الشرفة يحمل سطل ماء. كان يضحك معها وهما يسقيان الريحان معًا. فهم كرار المشهد بعفوية حزينة، وترك نظره يهبط نحو الأقفاص. أما أبو عارف فوضع يده على كتف الطفل وقال بهدوء حكيم:
"مو كل شي نريده نكدر نلمسه… بس نكدر نفرح إنه موجود."
في ليلةٍ عاصفة، صعد والد كرار إلى السطح غاضبًا. كان وجهه ممتلئًا بعروق بارزة، وصوته كالمطارق. صاح: "جنت أريده يصير رجال… شسويت بيه؟ دلّلتَه! خليتَه ينعزل!"
وركل قفصًا بقدمه فتطايرت الحمائم مذعورة في سماء الغروب. وقف أبو عارف ثابتًا، لم يرفع يده دفاعًا ولا ردَّ كلمة. كانت نظرته واحدة… نظرة رجل يعرف أن الألم أحيانًا أعمق من أن يُجادل.
رحلت العائلة بعدها بأيام. وبقي السطح وحده. بقيت الأقفاص فارغة من الضحكة الصغيرة التي كانت تتسلل بينها.
مرّت شهور. وفي صباحٍ شاحب الضوء، سمع أبو عارف صفيرًا يأتي من الدرج… صوت خافت، لكنه يعرفه. ظهر كرار وقد كبر قليلًا، عيونه ما تزال تحمل ذات الحزن، لكن شيئًا من الصمود كان قد وُلد فيها.
جلس قربه وقال بصوت متردد: "عمي… مشتاق للسكوت مال السطح."
لم يقل أبو عارف كلمة. اكتفى بابتسامةٍ صغيرة. رفع يده وصفّر.
هوت الحمائم من الأعالي، بهدوء، وكأن الزمن قد عاد خطوةً للوراء.
القلوب مثل الحمام… قد تبتعد، وقد تضربها الرياح، وقد تخاف وتطير بعيدًا.
لكن القلب الذي يجد مأواه الحقيقي… لا يضل الطريق طويلًا.
بل يعود.
دائمًا يعود.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد
- قاربٌ من الطين
- تنّور أم زينب
- ذكرى لا تُباع
- ألمُ الفقد
- نبضٌ لا يموت
- ضجيجُ العيش وصمتُ الحكمة
- حديقة البيت رقم ١٧
- ظل الصباح
- الملفد ١٩٥٤ / ظل الجسر
- مقهى على دجلة
- كرسيٌّ فارغ… ووردةٌ على الطاولة
- مرثيّة الظلّ البعيد
- عزاء في الأزقة
- وصيّة في باص مزدحم
- رائحة الخبز في بغداد
- ساعة لا تدقّ
- مقعد في قاعة الانتظار


المزيد.....




- مصر.. عمر هلال يجمع أحمد حلمي وهند صبري في فيلم -أضعف خَلقه- ...
- فنانة سورية تصبح سيدة نيويورك الأولى...من هي ؟
- صوّر في طنجة المغربية... -الغريب- خلال استعمار الجزائر في قا ...
- يتناول ثورة 1936.. -فلسطين 36- يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان ...
- -صهر الشام- والعربية والراب.. ملامح سيرة ثقافية للعمدة ممدان ...
- انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الأول للصناعات الثقافية في بيت ل ...
- رأي.. فيلم -السادة الأفاضل-.. حدوتة -الكوميديا الأنيقة-
- -المتلقي المذعن- لزياد الزعبي.. تحرير عقل القارئ من سطوة الن ...
- موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية وباتت الفرحة تملأ رواية ...
- السودان.. 4 حروب دموية تجسد إدمان الإخوان -ثقافة العنف-


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - طيور السطح