أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حديقة البيت رقم ١٧















المزيد.....

حديقة البيت رقم ١٧


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 01:51
المحور: الادب والفن
    


لمّا دخل “جاسم الصائغ” بيتَه الجديد في البتاويين، ظنّ أنه امتلك حكايةً قديمة بواجهةٍ مجدّدة: شباك خشبي مُقوّس، أرضية مزخرفة بالطابوق الكربلائي، وحديقة صغيرة تنمو فيها شجرة نارنجٍ وحيدة تقاوم جفاف السنوات.
كان البيت مهجورًا طويلاً، اشتراه بثمنٍ بدا كالحلم مقارنةً بأسعار الكرادة والكرخ. قال له السمسار مبتسمًا:
ـ "بيوت البتاويين مثل الصور القديمة… تحتاج بس شوية ضو."
لكن الضوء في بغداد تلك الأيام كان نادرًا، والكهرباء تقطع أكثر مما تأتي، والقلوب على وجل.

في صباح قائظ من صيف 2005، بدأ العمّال توسعة البيت على حساب الحديقة.
حفروا الأرض بعمق مترين تقريبًا لعمل الأساس الجديد، فإذا بمعولٍ يصطدم بشيءٍ صلب.
صرخ أحدهم، وتجمّع الآخرون حوله حين ظهرت عظمة بشرية كأنها سؤالٌ مدفون.
تراجع جاسم مذهولًا، بينما قال أحد العمّال وهو يبتلع ريقه:
ـ "هاي مو مال جدي… هاي مال گصّة!"
بعد ساعة، كانت الشرطة قد طوّقت المكان.
دخل الرائد وسام ومعه فريق صغير: مصوّر، وخبير آثار دم، وعنصران لرفع الأدلة.
شمّ الرائد هواء الحديقة؛ رائحة التراب المبتلّ بالماء تختلط مع نكهةٍ خفيفة لمحلولٍ كيميائي… شيء لا يطمئن.
سأل جاسم بصرامةٍ مهذّبة:
ـ "أستاذ، منين اشتريت البيت؟"
ـ "من ورثة واحد كان عايش بالأردن، اسمه محمد كاظم. ما أعرف عنه غير هذا."
ـ "وشنو وضع البيت قبل الشراء؟"
ـ "كان مهجورًا، هيچ كالوا."
ـ "ومن سكن قبله؟"
ـ "ما أدري، المنطقة كلها تعرف أنه ظل فارغ سنين."

أخرج الرائد قفّازين، جلس عند الحفرة، وطلب من المصوّر التوثيق بدقّة.
ظهرت العظام متقاربة، حبلٌ مهترئ عند موضع المعصمين، قطعة قماشٍ سوداء متفتتة، وبقايا سبحة سوداء انفرطت حباتها.
قال الخبير:
ـ "الدفن سطحي نسبيًا… مو منظم، احتمال استعجال."
هزّ الرائد رأسه:
ـ "استعجال يدفن جثة بالحديقة؟ ليش مو جوة ؟ ليش هنا؟"

في المساء، انتشرت الحكاية في الزقاق:
ـ "جثة بحديقة بيت رقم ١٧."
ـ "سمعتوه؟ هاي البتاويين مو أول مرة!"
ـ "الله يستر… ترى هذيك السنين طلعت قصص خطف."

في الطب العدلي، جاء التقرير الأولي بعد أيام:
"العظام تعود لرجلٍ في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات. آثار تقييد بالمعصمين، كسور في الأضلاع، ضربة في الجمجمة بآلة غير حادة. تقدير زمن الوفاة: قبل سنة إلى سنتين."
سنة أو سنتان… أي بين 2003 و2005، حين كانت بغداد تُعَلَّق بين زمنين: زمنٍ يسقط وآخر يتكوّن بالشك والدم.

عاد الرائد وسام إلى البيت رقم ١٧ مساءً، وجلس مع جاسم على عتبة الباب.
الشارع هادئ، بقالة صغيرة في الزاوية، وولدٌ يركض حافيًا وراء كرةٍ جلدية.
قال وسام:
ـ "ما أشكّ بيك، بس لازم نعرف كل شي صار بالبيت قبل."
ـ "اسأل الجيران، أنا جديد بينهم."
هزّ الرائد رأسه ونهض.
شهادات الجيران كانت مترددة.
قالت امرأة مسنّة:
ـ "كنا نشوف سيارة سوداء توكف بالليل، مرتين أو ثلاثة، بس ما نعرف بيت مَن تقصد."
وقال رجل خمسيني يعمل في الحدادة:
ـ "مرة سمعت طكّ طكّ بالليل، مو طلق، مثل دكّات على باب حديد."
سأل وسام:
ـ "وشفت أحد يدخل؟"
ـ "أظن شفت واحد يغطي وجهه بكوفية. الباب القديم مال البيت ينفتح بسرعة ويدخل. بعدين اختفوا فترة."
التقط وسام هذه الخيوط مثل صيادٍ صبور. السيارات السوداء، الكوفية، الدكّات الليلية… وجوهٌ تنام في الظلّ.
بعد يومين، أخرج الخبير كيسًا صغيرًا وناول الرائد:
ـ "تم العثور على بقايا ورقة داخل قماشٍ ممزق، مكتوب عليها نصف اسم: ( محمود ....)."
توقّف الزمن لحظة. الاسم نصف دليل، لكنه أمل.
بحث وسام في سجل البلاغات القديمة، فوجد بلاغًا عن مفقودٍ اسمه محمود جاسم ، شاب من الوزيرية اختفى عام 2004 أثناء ذهابه إلى عمله في بغداد الجديدة.
استُدعي والده، رجل شائب عيناه كحقلين بعد حصاد.
قال وسام بلطف:
ـ "ما نكدر نجزم بعد، نحتاج مطابقة."
ـ "مطابقة شنو؟"
ـ "الأسنان، أو DNA من أحد أفراد العائلة."
أومأ الرجل وبكى بلا صوت.
في اليوم التالي، سلّمت أم محمود خصلةً من شعره كانت تحتفظ بها منذ خدمته العسكرية.
وبعد أسبوعين جاءت النتيجة: مطابقة إيجابية. الجثة هي لمحمود جاسم .
عاد وسام إلى البتاويين وقد غمره شعورٌ ثقيل بالاعتذار.
وقف في الحديقة، حدّق في موضع الحفرة ثم رفع رأسه إلى شجرة النارنج.
سأل نفسه: مَن دفنه هنا؟
تبيّن أن البيت كان مهجورًا، والشارع شهد ليالٍ بلا شهود.
عثر وسام أثناء التفتيش على مفتاح صدئ قريبٍ من موضع الجثة، منقوش عليه الحرفان (A.M).
بحث في أنحاء البيت حتى وجد في سقيفة الحديقة خزانة حديدية قديمة، فأدخل المفتاح… دار ببطء ثم طقطق خفيف، وانفتحت.
في داخلها: قنينة كلوروفورم نصف ممتلئة، قفاز طبي قديم، وورقة ملوّثة بالزيت مكتوب فيها: "التوصيل عند منتصف الليل… لا تُكثر الكلام."
قال الخبير:
ـ "هاي أدوات تخدير بدائي، تُستخدم للسيطرة على الضحية قبل النقل."
همس وسام:
ـ "يعني البيت استخدم كنقطة وسط، مو مكان قتل أول."
أعاد ترتيب الخيوط: محمود اختفى في 2004. سيارة سوداء. تخدير. نقل. دفن مستعجل. لماذا هنا؟
الجواب كان بديهيًا ومؤلمًا: لأن البيت خاوٍ وآمن، والحي متشابك الأزقة، والدنيا يومها بلا قانونٍ ولا شهود.

وصلت معلومات من مصدرٍ سري: مجموعة صغيرة تعمل خارج القانون مرّت بالبتاويين تلك الأعوام، واجهة دينية تُخفي تجارة اختطافٍ وفديةٍ وتصفية.
قيل إن زعيمهم سافر خارج العراق ، وآخر قُتل بتفجير، وثالث بدّل اسمه ولاذ بالفرار .
الأسماء تتطاير بلا أجنحةٍ ثابتة، كلّ اسمٍ ظلّ يبحث عن جسده.
دُفن محمود في وادي السلام بالنجف الاشرف بعد يومين من تأكيد الهوية.
وقفت أمّه عند القبر، وضعت كفّها على الشاهدة، وبكت.
قال وسام للأب بصوتٍ خافت:
ـ "الحقّ ما يموت، بس مرات يضيع بالطريق."
فأجابه الأب:
ـ "رجّعتوا لي عظام ولدي، بس مَن يرجّع العمر؟"
لم يجب وسام، كان يعلم أن الملفات في تلك السنوات أثقل من القلوب.

في مساءٍ باهِت، عاد الرائد إلى البيت رقم ١٧ وجلس مع جاسم.
قال له:
ـ "تقدر تكمّل البناء، بس الحديقة… خِلّي إلها نصيب من الرحمة. ازرع شجرة."
ـ "أزرع نارنج غير اللي موجود؟"
ابتسم وسام:
ـ "ازرع سِدر… ظلّه رحيم."
في اليوم التالي، زرع جاسم سدرةً فوق الموضع الذي أُخرجت منه الجثة.
صار الأطفال يمرّون ويشيرون: "هنا كانت جثة!" فتوبّخهم أمهاتهم: "قولوا: هنا قبرٌ لمرحوم ارتاح."
ملفّ قضية محمود بقي مفتوحًا.
كتب وسام في تقريره الرسمي:
"الدلائل تشير إلى مجموعةٍ عملت خلال 2003–2005 في محيط البتاويين. استخدمت البيت رقم 17 كنقطة إيداعٍ مؤقتة، مع أدوات تخدير بدائي. الجناة مجهولون. التحقيق مستمر."
وفي دفتره الشخصي كتب بخطٍّ صغير:
"بعض البيوت تحفظ أسرارها مثل العظام… لا تُظهرها إلا حين نزيد البناء."
ليلة الجمعة، جلس وسام عند دجلة، يسمع الموج الخفيف تحت الجسر، ويتذكّر الحديقة والشجرة والسبحة السوداء.
قال لنفسه:
ـ "المدينة تتذكّر… حتى لو سكتت."

وفي البتاويين، ظلّ البيت رقم ١٧ قائمًا، تُظلّل سِدرته الجديدة فناءً صغيرًا يتنفّس ببطء.
أما جاسم، فكان كلّما سقى الشجرة، قال بصوتٍ يسمعه التراب:
ـ "الله يرحمك يا ولد… سامحنا لأن تأخّرنا نلقاك."

( من مجموعة «ذكريات لا تُنسى – الجرائم والظلال» للكاتب اعلاه )



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل الصباح
- الملفد ١٩٥٤ / ظل الجسر
- مقهى على دجلة
- كرسيٌّ فارغ… ووردةٌ على الطاولة
- مرثيّة الظلّ البعيد
- عزاء في الأزقة
- وصيّة في باص مزدحم
- رائحة الخبز في بغداد
- ساعة لا تدقّ
- مقعد في قاعة الانتظار
- حُلْمٌ يُحاكَمُ في اليقظة
- كلية واحدة للحب
- مرثيَّةُ الرُّوحِ الغائبة
- الطريق الى المخيم
- رسالة لم تُسلَّم
- ذاكرة التيار
- الفستان
- حذاء صغير عند العتبة
- ليل المستشفى
- رسائل لم تصل


المزيد.....




- هل تصدق ان فيلم الرعب يفيد صحتك؟
- العمود الثامن: لجنة الثقافة البرلمانية ونظرية «المادون»
- في الذكرى العشرين للأندلسيات… الصويرة تحلم أن تكون -زرياب ال ...
- أَصْدَاءٌ فِي صَحْرَاءْ
- من أجل قاعة رقص ترامب.. هدم دار السينما التاريخية في البيت ا ...
- شاهد/ذهبية ثالثة لإيران في فنون القتال المختلطة للسيدات
- معرض النيابة العامة الدولي للكتائب بطرابلس يناقش الثقافة كجس ...
- شاهد.. فيلم نادر عن -أبو البرنامج الصاروخي الإيراني-
- تمثال من الخبز طوله متران.. فنان يحوّل ظاهرةً على الإنترنت إ ...
- مسك الختام.. أناقة المشاهير في حفل اختتام مهرجان الجونة السي ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حديقة البيت رقم ١٧