أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - عزاء في الأزقة














المزيد.....

عزاء في الأزقة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 17:28
المحور: الادب والفن
    


في بلادٍ صارت الجنازاتُ فيها أكثرَ من الأعراس، صار الموتُ خبرًا عابرًا، والحياةُ انتظارًا مؤجّلًا للموت. كل شارعٍ يحمل ذكرى انفجار، وكل بيتٍ يخبّئ نحيب أمٍّ لا يراه أحد.
بعد احداث عام 2003 كانت بغداد تعيش على حافة الخوف، تُطفئ شمعة لتوقد أخرى فوق ركامٍ لم يبرد بعد. صار الناس يخرجون من بيوتهم وفي قلوبهم وصيّةٌ غير مكتوبة: إن لم أعد اليوم… فاذكروني غدًا.

في أزقّة مدينة الصدر، حيث تتعانق البيوت المتواضعة مثل صدورٍ متعبة، نُصِبَت سرادق العزاء على عجل. أعمدة من الخشب، وسجادٌ ترابيٌّ مفروشٌ على الأرض، ومكبرات صوتٍ تبثّ آياتٍ مرتّلة من سورة (يس). رائحة القهوة المرّة تمتزج بالغبار، والوجوه المتعبة تتناقل كلمات العزاء كمن يتنفس الوجع.
على الجدار المتهالك صورة الشاب القتيل، علي، بملابس التخرّج الجامعي، يبتسم كما لو أن الحلم لم ينكسر بعد. تحته شريط أسود كتب عليه:
"الشهيد علي – تفجير سوق جميلة، 2006."
الرجال يدخلون جماعاتٍ ويخرجون جماعات. أصواتهم تتقاطع:
ـ "الله يرحمه، بعده شاب!"
ـ "ما لحگ يتهنّى بحياته."
ـ "يگولون السيارة كانت مفخخة يم محل ابو الشربت."
ـ "الله ينتقم من كل ظالم."
كان كل واحدٍ منهم يحمل وجعًا يشبه الآخر، حتى صارت التعازي طقسًا مكررًا لا يميّز بين الميت والحيّ.

في صدر المجلس جلس والد علي، بوجهٍ شاحبٍ كغبار المدينة، وعيونٍ تشبه جمرًا في ليلٍ بلا قمر. أمامه فنجان قهوةٍ بارد، لم يمد يده إليه منذ الصباح. كان يسمع أحاديث الناس كأنها ضوضاء بعيدة، بلا معنى، بلا طعم.
اقترب منه أحد المعزين وقال بصوتٍ خافتٍ متردد:
ـ "الله يصبرك."
رفع الأب رأسه ببطء، وصوته يتهدّج بالمرارة:
ـ "الصبر لو ينفع… جان نفع أمّهات العراق كلهم."
سكت المجلس. حتى قارئ القرآن توقف لحظة.
انكسرت الكلمات في أفواه الناس، وكأن الجملة نزفت كل ما تبقّى من اللغة.
منذ ذلك اليوم، صار المجلس رمزًا لصوت أبٍ يختصر أوجاع وطنٍ بأكمله.

في احدى الغرف ، كانت أم علي تبكي بلا صوت. منذ ثلاثة أيام لم تنم، ولم تذق طعامًا.
تضمّ قميص ابنها الجامعي إلى صدرها كمن يحتمي برائحته الأخيرة، وتهمس بين شهقاتها:
"مو گلتلكم لا تخلوه يروح للسوك ذاك اليوم؟ مو گلتلكم قلبي لجمني؟"
كانت النساء حولها يحاولن تهدئتها. قالت جارتها العجوز برفق:
"اصبري بنتي… هذا ابتلاء."
فأجابت الأم بنبرةٍ مبحوحةٍ خنقتها الدموع:
"أي ابتلاء بعد؟ شنو بقى من الدنيا حتى نبتلي بيها أكثر؟"
لم تكن تبكي ابنها فقط، بل تبكي عمرًا كاملاً سُرق منها في لحظة.

في زاوية المجلس، جلس رجلان يتبادلان الحديث بوجوهٍ متعبة:
ـ "صار أسبوع ماكو تفجير بالمدينة، الحمد لله."
ـ "لا تفرح، باچر يرجع الطوفان."
ـ "والحكومة؟ وينها؟"
ـ "حكومة؟! كل حزب مشغول بحصته، والناس تموت."
تدخّل شيخٌ عجوز وهو يسحب نفسًا من سيجارته:
"صارت الجنايز روتين… حتى الحزن ملّ منّا."
ضحك آخر بمرارة وقال:
"عدنا بعد نكات عن التفجيرات! تخيّل وين وصلنا؟"
ثم عاد الهدوء، وسُمع صوت المقرئ يصدح:
"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية."
كان الحاضرون يرددونها في سرّهم، لكنهم يعلمون أن النفس المطمئنة أصبحت عملة نادرة في العراق.

مرّ طفل صغير أمام صورة الشهيد وسأل بصوتٍ بريء:
"عمو، هذا علي؟ يرجع لو لا؟"
تجمّد الهواء في المكان. الأب أطرق رأسه كمن تلقّى رصاصة أخرى.
لم يجب أحد.
حتى الريح التي مرّت بين السرادق بدت خجولة من أن تُحدث صوتًا.

حين انفضّ الناس وبقيت الكراسي فارغة، رفع الأب نظره إلى السماء وقال همسًا:
"يا رب… مو بس ابني راح، راح البلد كله."
كانت الراية السوداء المعلّقة على السقف تتحرك بهدوء مع نسمةٍ خفيفة، كأنها تلوّح له أو تواسيه.
لم يكن عزاء علي مجرّد وداعٍ لشابٍ واحد، بل كان مرثيةً لوطنٍ يُشيّع أبناءه كل يوم،
وكل مرةٍ يُدفن فيها ابنٌ، يُدفن معه جزءٌ من العراق.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصيّة في باص مزدحم
- رائحة الخبز في بغداد
- ساعة لا تدقّ
- مقعد في قاعة الانتظار
- حُلْمٌ يُحاكَمُ في اليقظة
- كلية واحدة للحب
- مرثيَّةُ الرُّوحِ الغائبة
- الطريق الى المخيم
- رسالة لم تُسلَّم
- ذاكرة التيار
- الفستان
- حذاء صغير عند العتبة
- ليل المستشفى
- رسائل لم تصل
- صوت المطر على المظلة المعدنية
- السماء المفتوحة
- غروب في المقبرة
- مذكّرات قائد فرقة عسكرية / ١
- أنابيب ضائعة
- دم الشهيد بين المكاتب


المزيد.....




- تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة
- مصطفى محمد غريب: تجليات الحلم في الملامة
- سكان غزة يسابقون الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار ...
- مهرجان الكويت المسرحي يحتفل بيوبيله الفضي
- معرض العراق الدولي للكتاب يحتفي بالنساء في دورته السادسة
- أرشفة غزة في الحاضر: توثيق مشهد وهو يختفي
- الفنان التركي آيتاش دوغان يبهر الجمهور التونسي بمعزوفات ساحر ...
- جودي فوستر: السينما العربية غائبة في أمريكا
- -غزال- العراقي يحصد الجائزة الثانية في مسابقة الكاريكاتير ال ...
- الممثل التركي بوراك أوزجيفيت يُنتخب -ملكًا- من معجبيه في روس ...


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - عزاء في الأزقة