نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 17:13
المحور:
الادب والفن
حين يتنفس الحزن بين جدران الصبر
انفتح باب الطوارئ على صريرٍ شقّ سكينة الصباح،
واندفعت نجلاء تحمل طفلها حيدر بين ذراعيها،
وجهه محموم، وعيناه تومضان برجاءٍ خافت،
فيما ركضت الممرضات نحوها: قفازات، أجهزة، أصواتٌ متداخلة،
وصرخة الطبيب المقيم عليّ:
— «أوكسجين! بسرعة!»
ولحقت به الممرضة زينب، صوتها وديعٌ لكنه ثابت:
— «خالة، لا تخافين… أحنه يمّه.»
سكنت العاصفة تدريجيًا.
عاد النفس إلى صدر الصغير متقطّعًا لكنه حاضر،
وجلس الدكتور عليّ قرب الأم، ملامحه تجمع بين التعب والطمأنينة:
— «صار عنده هبوط من الجرعة، بس سيطرنا. راح نخليه تحت المراقبة يومين، ونراجع الخطة بعد التحاليل.»
هزّت رأسها بصمت، وضمّت البطانية الزرقاء إلى صدرها.
لم تكن الكلمات تُنقذ، لكنها تُبقي على رجفة الأمل حيّة.
كانت قاعة الانتظار تشبه ميناءً للقلق.
وجوهٌ باهتة، مقاعد متعبة، أنفاسٌ متقطّعة بين الرجاء والاستسلام.
على الطرف جلس رجل ستينيّ بدشداشةٍ نظيفةٍ باهتة اللون، يسبّح بحباتٍ خشبيةٍ عتيقة.
حين عبرت نجلاء أمام الكافتيريا تعدّ ما تبقّى من نقودها، رفع رأسه وقال بصوتٍ دافئٍ يقطر أبوة:
— «بنتي، إذا ناقصچ شي، تره آني مثل أبوچ.»
— «تسلم عمّي، ما تقصّر… بس أحسب.»
— «لا تتعبين روحچ، اسمي جبار. الدنيا تمشي بالناس لبعضها، مو بالفلوس.»
أومأت بابتسامةٍ خفيفة.
كانت تلك الكلمات البسيطة تُشبه يدًا تُمسك بها وسط زحامٍ من الخوف.
في الردهة البيضاء، كانت زينب تصلح ارتفاع المحلول وتُداعب حيدر بصوتٍ يشبه النسمة:
— «حبيبي حيدر، شتگول نتصوّر يم الشجرة جوّه من تطلع؟»
— «السيارة الحمرة… لا تبيعوها.»
— «تبقى إلك، وعد!»
ابتسمت الأم، ومرّ في عينيها بريق حياةٍ قصيرةٍ تتشبّث بما تبقّى منها.
خارج الغرفة، وقف الدكتور عليّ يُراجع الملفات.
قالت زينب وهي تمرّ بجانبه:
— «دكتور، سمعت عن الحالة الميؤوس منها؟»
— «سمعت، بس بعد ما نعرف منو.»
ثمّ ابتسم فجأة، كأنّه تذكّر حياته قبل الردهات:
— «تدرين زينب… لو مو طبيب، چان صرت موسيقي.»
ضحكت بخفوت:
— «ما تختلف، لأن الطب هم موسيقى… بس وجعها أكبر.»
ساد بينهما صمتٌ قصير، يشبه نغمةً ناقصةً في معزوفةٍ طويلة،
ثم افترقا كلٌّ إلى عمله.
الأيام تمشي ببطءٍ، تتشابك فيها الحقن والمواعيد،
وتتعب فيها القلوب أكثر من الأجساد.
كانت نجلاء تذهب كل يومٍ لصيدليات خارج المستشفى لتشتري أدويةً ناقصة،
حتى جاء يومٌ باعت فيه ساعتها الثمينة — تلك التي أهداها لها زوجها أيام الخطوبة.
وقفت أمام البائع، وقالت بصوتٍ خافتٍ متردّد:
— «هاي الساعة… أريد أبيعها.»
رفعها في الضوء وقال ببرود:
— «تمشي.»
ناولها المبلغ، فضمّته بين أصابعها كأنّها تقبض على ذكرى.
في طريق العودة، أحسّت أن الوقت نفسه باعها أيضًا.
وقف الدكتور عليّ عند نافذةٍ تُطلّ على نهر دجلة ، وجاءت زينب بقربه تستعيد أنفاسها.
قالت بهدوءٍ شارد:
— «تدري دكتور، الأجهزة تتعب من الأصوات، بس ما تحچي.»
— «وإحنا نتعب، بس ما نحچي أكثر.»
— «يمكن لأنّا نتعلّم نسمع بين النبضات.»
ابتسم وقال:
— «الطب والموسيقى يشبهون بعض… اثنينهم يشتغلون على الإيقاع.»
— «بس فرقهم إن الطبيب يسمع الوجع، والموسيقي يسمع الجمال.»
ضحكا بخفةٍ تُخفي تعبًا كبيرًا،
ثمّ افترقا حين ناداهم الجهاز إلى حالةٍ جديدة.
في الليلة التاسعة والثلاثين، كان الليل أطول من صبرها.
ارتجف جسد حيدر فجأة، وعلت صفّارة الجهاز.
صرخ دكتور عليّ:
— «أوكسجين بسرعة!»
وأسرعت زينب تُثبّت القناع، وصوتها يرتجف رغم ثبات يديها:
— «خالة، خلي إيدچ بإيده، گوليله آني يمّك.»
همست الأم بصوتٍ مبحوح:
— «يمّه… لا تخاف، آني يمّك.»
فتح عينيه وقال بضعفٍ طفوليٍّ نقيّ:
— «السيارة الحمرة… لا تبيعوها… والشجرة… نتصوّر يمّه؟»
ابتسمت وهي تدمع:
— «نتصوّر… وعد.»
توقّف الخط الأخضر.
ساد الصمت.
مات حيدر .
ثم جاءوا، ورفعوه برفقٍ إلى الثلاجة.
لم تبكِ نجلاء فورًا،
كانت تنظر إلى الفراش الخالي كأنّه سؤالٌ لا يُجاب.
دخلت زينب بخطواتٍ هادئة:
— «خالة، لازم نكمّل الإجراءات. آني وياچ، لا تخافين.»
في شعبة الوفيات، الأوراق كثيرة، والأختام أسرع من التنفس.
وقّعت نجلاء بأيدٍ مرتجفة، ثم خرجت إلى الممر الطويل.
هناك، كان جبار ينتظرها جالسًا على الدكّة.
حين رآها، نهض ببطءٍ، اقترب منها وقال بصوتٍ أبويٍّ عميق:
— « بنتي ، تريدين مي؟ آجيب كرسي؟ آني مثل أبوچ، لا تنحرجين.»
هزّت رأسها ودموعها تنزل بخفّةٍ على وجنتيها:
— «تسلم عمّي… الله يطوّل بعمرك.»
— «الله يقوّيچ بنتي… وإذا احتاجيتي شي، آني حاضر. تره الأب لو فقد بنت، يبقى يدور وجهها بكل الناس.»
قالت بصوتٍ متهدّج:
— «الله يخليك، عمّي جبار… وجودك خير.»
وقفت عند نافذةٍ تُطلّ على الفناء.
كانت الشجرة التي وعدت حيدر بالتصوير تحتها تلوّح بغصنٍ صغيرٍ للريح،
كأنها تذكّره بالوعد الذي لم يُنجز.
اقترب منها دكتور عليّ وقال بخفوتٍ متردّد:
— «سامحينا أم حيدر… ما قصرنا، بس…»
قاطعته بلطفٍ منكسر:
— «ما قصّرتوا، القصّر بالدنيا.»
ثم جاءت زينب وهمست بخفوتٍ حنون:
— «إذا تحبّين، أبقى وياچ للباب.»
— «أجلس شوي يم الشجرة… وبعدين أروح.»
سارت ببطءٍ في الممرّ،
كل مقعدٍ تلمسه عيناها يحكي عن انتظارٍ آخر.
في نهايته، كان صبيٌّ صغيرٌ على كرسيٍّ متحرّك، ترافقه ممرضةٌ شابّة.
ضحك الصبيّ لها ولوّح بيده، وكان على رأسه قبعة صوفية زرقاء تشبه قبعة حيدر.
توقّفت، وكأنّ الزمن التفت نحوها.
اقتربت الممرضة وقالت بلطفٍ:
— «خالة، هذا الطفل أمّه بعيدة، ما تجي كل يوم. يحب اللي يحجيله قصص. إذا تحبّين… مرّي عليه.»
مسحت نجلاء دمعتها وقالت:
— «أجي… وأحچيله عن الشجرة والسيارة الحمرة.»
ابتسم الصغير، ولوّح بيده،
وحرّكت الريح قبّعته الزرقاء كما لو أنّها تُجيب التحية عنها وعن روحٍ أخرى كانت هناك.
عند الباب الخارجي، كان جبار ينتظرها وسبحته تدور بهدوءٍ في يده.
قال وهو يساير خطواتها القصيرة نحو الضوء:
— «بنتي… الطريق برّه طويل. إذا تحبّين أوصّلچ، آني وياچ.»
قالت بابتسامةٍ شاحبةٍ صادقة:
— «وجودك كافي، عمّي. الله يخليك ويطوّل بعمرك.»
— «الله يقوّيچ، ويخلّيچ دايمًا رافعة راسچ. تره الله يشوف الصابرين قبل الدموع.»
توقفت عند العتبة بين رائحة المعقّم وهواء الشارع،
والتفتت نحو الداخل.
كانت القاعة كما تركتها:
أصوات أجهزة، خطوات متسارعة،
وحياةٌ تتشبّث بظلّها في انتظارٍ لا ينتهي.
شدّت البطانية الزرقاء إلى صدرها،
ونظرت إلى الفناء حيث الشجرة تلوّح بغصنها،
فلمحت في البعيد قبعةً زرقاء تميل،
ويدًا صغيرةً تلوّح لها بابتسامةٍ مطمئنة.
رفعت رأسها للسماء،
وقالت همسًا كأنها تحادث الغيب:
«راح أمرّ باچر… أحچي للصبي عن الشجرة والسيارة الحمرة…
وعن مقعدٍ بقاعـة الانتظار ظلّ يحتفظ بنبضٍ صغير لكل أمّ فقدت قلبها هناك.»
ثم مضت.
وخلفها، بقي المقعد ساكنًا في الضوء المائل،
يحمل أثر ذراعٍ أموميةٍ لم تزل،
ويحرس في صمته روحًا صغيرةً تدور بين جدران الصبر… لا تُرى، لكنّ القلوب تعرفها حين تمرّ.
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟