أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - بين البندقية والباسون














المزيد.....

بين البندقية والباسون


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 21:35
المحور: الادب والفن
    


هذه صفحات من مذكرات طويلة، أدوّن فيها رؤوس أقلام من مسيرة امتدت لعقود بين السلاح والموسيقى. مسيرة بدأت بالصدفة، لكنها انتهت بصوت وطن يعلو في لندن.

لم يخطر ببالي يومًا، وأنا أسمع عزف النشيد الوطني العراقي في لندن وأتأمل في توزيع أنغامه بين الأبواق والطبول والآلات الوترية، أن رحلتي كلها ستبدأ من ورقة صغيرة قُدمت في دائرة تجنيد ببغداد. كنت واقفًا هناك، بعيدًا عن صرائف الطين التي نشأتُ فيها، أحمل بين يدي ثمرة عمرٍ طويل امتد لأكثر من أربعة عقود. في تلك اللحظة تساءلتُ: أي خيط سحري هذا الذي شدّني من جندي صغير إلى أن أكون مديرًا للموسيقى العسكرية وملحنًا ودارسًا؟
لكن القصة لم تبدأ من لندن، بل من عام 1969. كنت في الخامسة عشرة من عمري، فتىً يافعًا هزّه الفقر بعد فقدان أخي الكبير. البيت ضاق بأنفاسنا، والمائدة صارت صامتة. لم أرَ أمامي سوى باب الجيش، فقد كان الراتب عشرة دنانير ونصف، مبلغًا يعني الحياة لأسرتي.
دخلت دائرة التجنيد في الكرنتينة ببغداد، وقدمت أوراقي إلى نائب ضابط اسمه "كاكا حما". قلّب معاملتي ثم رفع رأسه بابتسامة:
ــ "إبني… ليش مقدم على البحرية بالبصرة؟ بيتكم هنا ببغداد. روح للموسيقى العسكرية، أقرب إلك وتكدر تروح وتجي."
لم أجادل. بدّلت الطلب كما طلب، دون أن أعرف أن كلماته ستغيّر مسيرة حياتي.
قبل أن أصل إلى الموسيقى، كان عليّ أن أتعلم لغة السلاح. ثلاثة أشهر في معسكر التاجي، حيث الغبار يختلط بالعرق، والصرخات العسكرية توقظنا قبل أن تشرق الشمس. حملتُ البندقية بيد مرتعشة، لكن قلبي ظل يهمس: "اصبر… الطريق يبدأ من هنا."
ثم التحقت بمدرسة الموسيقى العسكرية. لم يكن دخولي إليها عاديًا: أصوات الأبواق والطبول تملأ المكان، آلات نحاسية تلمع كالذهب تحت الشمس، وضوضاء لم أعرف لها مثيلًا. دخلتُ الدورة التمهيدية لتعلم النوطة والإشارات، وكنت الأول بين خمسين متطوعًا.
وفي نهاية الدورة سلّمني مدير الموسيقى آلة خشبية طويلة ملتوية الأنابيب وقال: "هذه آلتك… الباسون."
مسكتها بحذر، ولم أكن أعرف أنني أمسكت بقدري.
منذ تلك اللحظة، بدأت علاقتي بالعلم. فالموسيقى ليست مجرد أنغام، بل نظام ودراسة وانضباط. حين تولعتُ بالباسون، شعرت أن عليّ أن أكون جديرًا به، أن أتعلّم وأفهم. وهكذا دفعتني الموسيقى للمثابرة: أكملت دراستي الإعدادية رغم صعوبتها بجانب التدريب العسكري. لم يكن الأمر سهلاً، لكن الرغبة التي ولّدتها الموسيقى جعلتني أستمر.
وحين حصلت على شهادتي، دخلت دورة إعداد الضباط الموسيقيين. كان ذلك تحوّلًا جوهريًا: من جندي بسيط يحمل بندقية أو آلة، إلى ضابط في الجيش العراقي. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، لكن الموسيقى فتحت لي الباب.
وخلال الدورة، جاءني قبول آخر، فتح أمامي عالمًا جديدًا: كلية الآداب – قسم اللغة الإنكليزية. اخترتُه عن رغبة، فقد شعرت أن اللغة امتداد للموسيقى، كلاهما نظام وإيقاع، كلاهما جسر للتواصل بين البشر. درستُ قواعد اللغة، قرأت الأدب، وتعلمت أن النغمة والكلمة توأمان يولدان من رحم واحد.
تدرجت في مسيرتي العسكرية، من عازف بسيط إلى قائد فرقة، ثم إلى مدير الموسيقى العسكرية. أربعون عامًا من العروض والاحتفالات، من وداع الشهداء إلى استقبال الوفود الرسمية. كان الباسون صديقي الدائم: يبكي حين نبكي، يزمجر حين نعلن القوة، ويهمس حين نغني للوطن.
رأيت أجيال الجنود تتبدل، رأيت الحروب تتوالى، سمعت أصوات المدافع، لكنني كنت أوقن أن صوت الموسيقى يظلّ هو الروح التي تذكّر الناس بإنسانيتهم وسط العواصف.
وحين وقفت في لندن، أحمل أوراق توزيع النشيد الوطني العراقي، شعرت أن كل خيط من حياتي اجتمع هناك: كلمات "كاكا حما" في دائرة التجنيد، العرق في التاجي، حبي للباسون، مثابرتي على الدراسة، كلية الآداب، دور الضابط، وسنوات التدريب الطويلة. كل ذلك التقى في لحظة واحدة، حين ارتفع النشيد بصوت العراق أمام العالم.
لقد علمتني هذه الرحلة أن الطريق ليس خطًا مستقيمًا. أحيانًا يبدأ بصدفة صغيرة، بقرار متردد، بكلمة قالها رجل لم أره بعد ذلك. لكن هذه الصدفة تفتح لك بوابة، والبوابة تدفعك للمثابرة، والمثابرة تأخذك إلى العلم، والعلم يرفعك إلى حيث لا كنت تظن.
من جندي فقير يبحث عن الخبز، إلى ضابط موسيقي يحمل عصا القيادة. ومن طفل يجهل شكل الباسون، إلى مدير موسيقى عسكرية يوزّع النشيد الوطني في لندن.
ألم أقل لك يا صاحبي إن المسيرة طويلة؟ نعم… طويلة بقدر ما تحتمل الذاكرة من نغم وصوت وسلاح.

هذه المذكرات ليست سوى فاتحة الطريق لمسيرة امتدّت عبر سبعة وأربعين عامًا بين السلاح والموسيقى. ما قرأتموه رؤوس أقلام، وما لم يُكتب بعد أوسع وأعمق… سيأتي يوم تُروى فيه الفصول كاملة إن شاء الله.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات لا تُنسى / ٣
- ذكريات لا تنسى / ١
- ذكريات لا تُنسى / ٢
- ذكريات لا تموت
- الزانية
- حين صار الحزن انا
- انتظر .... عسى الله يفرجها
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى
- مدرسة الطين


المزيد.....




- -بائع الكتب في غزة-.. رواية جديدة تصدر في غزة
- البابا يؤكد أن السينما توجد -الرجاء وسط مآسي العنف والحروب- ...
- -الممثل-.. جوائز نقابة ممثلي الشاشة SAG تُطلق اسمًا جديدًا و ...
- كيف حوّل زهران ممداني التعدد اللغوي إلى فعل سياسي فاز بنيويو ...
- تأهل 45 فيلما من 99 دولة لمهرجان فجر السينمائي الدولي
- دمى -لابوبو- تثير ضجة.. وسوني بيكتشرز تستعد لتحويلها إلى فيل ...
- بعد افتتاح المتحف الكبير.. هل تستعيد مصر آثارها بالخارج؟
- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - بين البندقية والباسون