أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الجامعة وجرح لا يندمل














المزيد.....

الجامعة وجرح لا يندمل


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 10:30
المحور: الادب والفن
    


كل إنسان يحمل في قلبه جرحًا لا يندمل، قد تخفّ آلامه بمرور السنوات، لكنه يظلّ حاضرًا كظلّ لا يفارقه. جرحٌ يعلّمه أن الحياة ليست كما يتخيّلها في البدايات، وأن الحب ليس دائمًا كافيًا ليهزم العادات والحدود. مذكّراتي هذه ليست سوى محاولة للبوح بجراحٍ قديمة، جراح بدأت بين قاعات الجامعة، وانتهت عند صورةٍ ما زالت تطاردني حتى اليوم.

الكاميرا لا تكذب…
ها أنا واقف يوم التخرج، ابتسامة باهتة على وجهي، وسميحة بجانبي، ترتدي ثوبًا أبيض بسيطًا. نظرتها كانت مزيجًا من الفرح والحزن، عيناها محمّلتان بالدموع. التفتت نحوي وسألت بصوت مرتجف:
ــ ما الله هداها الوالدة؟
سكتُّ لحظة، كأنني أبحث في داخلي عن جواب ينقذنا. لكن الكلمة الوحيدة التي خرجت من فمي كانت:
ــ قافلة.
انتهى كل شيء عند هذه الكلمة… أو لعلّه بدأ منها.
كل صورة تحمل حكاية، لكن بعض الصور تختزن جرحًا أبقى من الزمن نفسه.

دخلتُ قاعات الجامعة بخطواتٍ واثقة، كأنني أحمل على كتفي مفاتيح المستقبل. كانت الجدران عالية، كأنها تناديني لتكتب قصتي عليها. غير أنّ نشوة الدخول سرعان ما اصطدمت بجدار الواقع الصلب؛ محاضرات متراكمة، منافسة حادّة، وإرهاق لا يرحم.

كنتُ أقضي صباحي في قاعات الموسيقى العسكرية، ثم أهرول بعد الظهر إلى قسم اللغة الإنكليزية. أعود إلى البيت منهكًا، أحمل الكتب أكثر مما أحتمل، وأحلامًا أكبر من طاقتي.

ما أقسى أن يكون الحلم أثقل من الكتف الذي يحمله.
في زحمة القاعات والنادي الطلابي، ظهرت هي. سميحة… بابتسامتها العذبة، ودفاترها المرتبة، وصوتها الهادئ الذي يبدّد التعب. اقتربت مني ذات يوم وقدّمت دفترًا بخط أنيق:
ــ هاي محاضرات الأمس… شرحتلك الملاحظات المهمة.
مدّت الدفتر بيدها، ولم تكن تعلم أنها بذلك مدّت خيطًا بين قلبين.
أحيانًا تبدأ الحكايات بورقةٍ تُمدّ إليك، لا بكلمة حب.
بمرور الأيام، شعرت أن اهتمامها بي يتجاوز الزمالة: تسأل عن غيابي، تلاحظ ملابسي، تبتسم كلما رأتني. وذات مساء، في النادي الطلابي، كانت الطاولات مزدحمة، والأصوات تختلط برائحة الشاي ودخان السكائر. نظرت إليّ فجأة وسألت:
ــ ما رأيك بالحب؟
اهتزّ كياني. شاعر وفنان ودارس للغة شكسبير، هل يعقل أن أجيب إجابة عابرة؟ لم أقل الكثير، لكن صمتي كان أبلغ من الكلام. ومنذ تلك اللحظة، أدركت أنّ ما بيننا يتجاوز دفاتر الجامعة.
ثمة أسئلة تفتح أبوابًا لا تُغلق بعد ذلك أبداً.
في أحد لقاءاتنا، صارحتها بحياتي كلها: طفولتي في صرائف خلف السدة، أيامي البسيطة، الموسيقى العسكرية، دوامي المزدوج. كنتُ أحكي وهي تصغي بانبهار، كأنها تقرأ رواية حيّة. وحين انتهيت، رأيت في عينيها إعجابًا لم تخفِه.
أحسست أنّ قلبي بدأ يميل إليها، رغماً عن خوفي.

كانت سميحة مسيحية، وأنا ابن عائلة جنوبية متديّنة. لم تكن المشكلة بيننا، بل بين عالمَين لا يلتقيان.
أحيانًا لا ينهزم القلب أمام الحب، بل أمام الأسماء التي نولد بها.
لكن الخوف كان يزداد مع كل يوم. كيف سأواجه أمي؟ تلك المرأة الجنوبية التي لا يسقط من لسانها قسم دون ذكر الحسين والعباس؟

وذات ليلة، وهي تضع الشاي على الطاولة، نظرت إليّ وقالت بلهجة عتاب:
ــ ها يمه، شوكت نفرح بيك؟ مو مرمرتنا!
تلعثمتُ، ثم تجرأت وقلت الحقيقة. اشتعل الغضب في عينيها، صمتت أيامًا لا تكلمني فيها، كأنني ارتكبت خطيئة لا تُغتفر.
الغضب أحيانًا لا يحتاج إلى كلمات… يكفيه صمت الأم.

حين أخبرتُ سميحة بما جرى، لم تنطق أول الأمر. فقط دموعها نزلت بصمت، وارتجفت يداها وهي تحاول أن تمسحها بمنديل. كان بكاؤها أشد وقعًا من أي كلمة. منذ ذلك اليوم، ذاب عنفوان العلاقة سريعًا. بقينا زملاء، لكن القلب كان مثقلاً بجراحه.
أقسى الدموع هي تلك التي لا تملك أن تمسحها بيدك.

جاء يوم التخرج. وقفنا جنبًا إلى جنب لآخر مرة. التقطت الكاميرا ابتسامتنا المرتبكة، وأُغلقت القصة بكلمة واحدة: _قافلة.

لكن ذلك لم يكن فصلها الأخير من حياتي. بعد وفاة والديها، هاجرت سميحة إلى أستراليا لتلتحق بأختها، غير أن الغربة لم تقطع خيوط التواصل بيننا. ظللتُ أتتبّع أخبارها أولًا بأول، وهي تخبرني بتفاصيل حياتها هناك؛ عن الغربة، عن الوحدة، عن محاولاتها لبناء حياة جديدة.

لم تعد هي الزميلة التي تشرح المحاضرات وتستنسخ الدفاتر، بل أصبحت ظلًا بعيدًا، وصوتًا عبر المسافات. ومع كل خبر يصلني منها، كنت أدرك أن بعض الحكايات لا تموت، بل تتحوّل إلى جرحٍ نازف… جرحٍ لا يندمل.
بعض الوجوه تغادر المكان، لكنها لا تغادر الذاكرة.

وأنا أكتب هذه السطور الآن، أدرك أنني لم أنسَ سميحة قط. لم تكن مجرد زميلة أو حبيبة مؤجلة، بل كانت مرآةً لحلمي الأول، وجُرحي الأول. وربما… كانت الدرس الذي علّمني أن القلب لا يُشفى من حبٍ صادق، بل يتعلّم فقط كيف يتعايش مع نزفه.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين البندقية والباسون
- ذكريات لا تُنسى / ٣
- ذكريات لا تنسى / ١
- ذكريات لا تُنسى / ٢
- ذكريات لا تموت
- الزانية
- حين صار الحزن انا
- انتظر .... عسى الله يفرجها
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان
- السيّار… حين يتوقف الحديد وتتحرك القلوب
- الرصاصة الرابعة
- الجندي المجهول _ حكاية الهوية العراقية
- نور في العتمة
- أشبيدي آنه ؟
- صوت وطن
- الضفة الاخرى


المزيد.....




- -بائع الكتب في غزة-.. رواية جديدة تصدر في غزة
- البابا يؤكد أن السينما توجد -الرجاء وسط مآسي العنف والحروب- ...
- -الممثل-.. جوائز نقابة ممثلي الشاشة SAG تُطلق اسمًا جديدًا و ...
- كيف حوّل زهران ممداني التعدد اللغوي إلى فعل سياسي فاز بنيويو ...
- تأهل 45 فيلما من 99 دولة لمهرجان فجر السينمائي الدولي
- دمى -لابوبو- تثير ضجة.. وسوني بيكتشرز تستعد لتحويلها إلى فيل ...
- بعد افتتاح المتحف الكبير.. هل تستعيد مصر آثارها بالخارج؟
- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الجامعة وجرح لا يندمل