نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8525 - 2025 / 11 / 13 - 11:18
المحور:
الادب والفن
حارس الحزن
ليس الحزنُ تذكاراً معلَّقاً على جدارٍ بعيد؛
إنّه حارسٌ يقظٌ يجلس داخلنا،
يدوّن ما لا نريد محوه، وما لا نستطيع ردَّه.
والوقت—هذا المخلوق الصامت—لا يرجع،
لكنّه يُجيد شيئاً أدهى:
يُبقي الأثر في الأشياء؛
في رائحة الخشب حين يبلّه العَرَق،
في خشخشة وترٍ انقطع ثم أُعيد شدُّه،
في صورةٍ جامعيةٍ تبهتُ ألوانها لكن يسطعُ منها العتاب.
من لم يتعلّم كيف يحمل خسارته،
سيحمل الناسَ كلَّهم على أن يشاركوه حملها؛
ومن تعلّم حملها، قد يغريه أن يتّخذها ديانةً سريّةً،
لا يبوح باسمها إلّا لأداةٍ موسيقية.
في مقهى صغيرٍ في الكاظمية،
على مقربةٍ من الأزقّة المؤدية إلى ضريحي الامامين الكاظميين ،
جلس عليٌّ وعودُه القديم على ركبته
كطفلٍ يعود إلى حضن أبيه بعد ليلٍ طويل.
الضوء الأصفر يهتزّ تحت مروحةٍ تئنُّ ببطء،
ورائحة الهيل والبنّ تتصاعد مع دخان السكائر،
وعرقٌ باردٌ يلمع على صفيح الحنفيّة قرب الباب.
كانت الطاولات الخشبية تذخر بخدوشٍ دقيقة،
كلّ خدشٍ كأنّه سطرٌ لم يتمّ.
وصاحب المقهى يبدّل الاستكانات على مهلٍ،
يصغي بحاجبٍ مرفوعٍ إلى ما يشبه اللحن ولا يشبهه.
لم يكن عليّ موسيقياً محترفاً؛
لكنه، مذ عاد من الأسر، وهب للعود وظيفةً أخرى:
أن يكون دفتراً للضمير.
سبعُ سنواتٍ عبرت عليه في غربةٍ مرّة،
وهناك—في ذلك البعيد الذي بلا تقويم—
عُرض عليه اللجوء إلى بلدٍ أوروبيّ.
قالوا له: «تنقذ حياتك، تُعاد صياغتك من جديد.»
لكن عليّاً، وقد بقيت في صدره نافذةٌ تُطلّ على شجرةٍ في سنتر الكلية،
نافذةٌ اسمها سلمى، رفض.
لم يرفض حياةً واسعةً أو وعداً مريحاً؛
رفض أن ينقطع صوته الداخلي عن المكان الذي تعلّم فيه معنى الوعد.
ظنَّ أن الوفاء حصنٌ ضدّ الريح،
ولم يدرِ أنّ الريح ستدخل من نافذةٍ أخرى.
عاد بعد سبع سنين،
فوجد الخبر البسيط القاطع: تزوّجت سلمى.
لم يصرخ ولم ينهَر.
اشترى عوداً، وجلس في هذا المقهى
كمن يتدرّب على طريقةٍ جديدةٍ في الكلام.
كان يعزف لا أغنيةً ولا مقاماً؛
كان يعزف الفراغ بين النوتات،
المساحة التي تقع فيها الكلمة حين تخجل من نفسها.
في ظهيرةٍ خانقة،
جاء صبيٌّ من بسطات الكتب في شارع المتنبي يحمل لفافةً بنيةً صغيرة.
داخلها صورةٌ جامعيةٌ قديمة:
عليّ في الوسط، عن يمينه سلمى، وعن يساره زملاءٌ يضحكون.
الألوان باهتة،
لكنّ عطر الصابون الرخيص يكاد يُشمّ من الورق.
أسفل الصورة خطٌّ باهت:
«سنتر الكلية — ربيع العمر».
ارتجف وترٌ في صدره قبل أن ترتجف أصابعه.
لم تعد سلمى «خبراً»،
ولا الحبّ «ذكرى» أمينة؛
صارت الصورة عتاباً مادياً يُدخِل الماضي إلى الآن،
ويهزُّ يقين عليّ بأنه «يحفظ الزمن» كما هو.
أيحفظه حقاً؟
أم يحفظ نسخته وحده؟
انتشر خبرُ «لحن الفراغ» في الأزقّة.
صار الناس يقولون:
«إذا مرّيت بالمقهى وسمعت وتر عليّ، تذكّرت كلّ خساراتك.»
كان يتدفّق إلى صوته شيءٌ لا يُشترى:
القدرة على أن يجعل الآخرين يسمعون ما سكتوا عنه طويلاً.
صاحب المقهى، وهو يحرّك السكّر في استكانٍ يبرد،
يتمتم:
«الملح ما يذوب كلّه… يبقى أثره بالكاسة.»
في تلك الليلة، جلس عنده شيخٌ مسنّ،
بوجهٍ محروثٍ بالتجاعيد وسبّحةٍ تنقص حبّة:
فقدها يوم فقد ابنه.
حدّثه بصوتٍ مبحوح:
«ولدي… اترك الحزن… الزمن ما يرجع.»
كانت الجملة كحجرٍ وقع في ماءٍ راكد.
رفع عليّ رأسه، وابتسم ابتسامةً ضيّقةً كحدّ السكين:
«أنا لا أريد الزمن… أنا فقط أحفظه.»
هزّ الشيخ رأسه وقال:
«يا بني، الحفظُ قد يكون قفصاً إن لم تفتحه على الهواء.
أنا حفظتُ صوت ابني حتى صار يوقظني كلّ فجرٍ ليعاتبني:
لم تغفر؟»
ثم سكت، كمن يضع حجراً آخر في القاع.
توالت ليالٍ صار فيها العود مرآةً يتعرّف الناس فيها إلى وجوههم المنسيّة.
لكن المرآة—مثل كلّ مرآة—لا ترحم.
كانت صورة سنتر الكلية، المطويّة بعنايةٍ في جيب عليّ الداخلي،
تُخرج يدها من القماش وتلمس قلبه في كلّ عزف.
لم يعد يعرف:
هل يعزف ليستعيد،
أم يعزف ليُبعد؟
كان يتقلّب على حدٍّ حادّ:
إذا اقترب من الذكرى نزفت،
وإذا ابتعد منها فقد ظلاله.
جاءته الرسالة عبر واسطةٍ قديمة:
«تريد سلمى لقاءك على ضفاف دجلة.»
كانت المسافة بين المقهى والنهر قصيرة،
لكنها بدت في تلك الليلة أطول من سنوات الأسر.
الهواء ينساب بارداً على المياه السوداء،
ومصابيح الجسر ترسم سواقيَ من ذهبٍ على صفحة النهر.
وقفت سلمى أمامه،
حجابٌ بسيط، وجهٌ فقد شيئاً من امتلائه،
ولكن عينيها… عينان تعبتا من حمل الحياة.
قالت أولاً، كمن يخاطب ظلّه:
«لم أخنك. خفتُ الفضيحة، خفتُ الفقر،
خفتُ أن أموت دون سندٍ وأنا أحمل أمّي المريضة.
تزوّجتُ لأحفظ من بقي لي.
لم أستطع أن أحفظك وأنت أسيرٌ خلف عالمٍ لا يصل إلينا.»
قال عليّ، والنهار القديم يصعد في حلقه:
«عُرض عليّ اللجوء.
كان يمكن أن أكتب لك من هناك، أن أتشبّث بالخيط البعيد.
رفضتُ حبّاً بكِ.
لا أريد حياةً جديدةً تكونين أنتِ غصّتها.»
قالت:
«أو يكون رفضك نوعاً من كبرياءٍ مُقَنَّع؟
كنتَ تريدني أن أبقى معلّقةً لك في الهواء… كتمثالِ وعد.
أنا بشرٌ يا عليّ.
البشر يأكلون، يمرضون، يحتاجون سقفاً في الليل.»
سكت.
رأى نفسه في عينيها، لا بطلاً ولا خائناً،
بل إنساناً يتعكّز على جرحه كي لا يقع.
كان ثمة صوتٌ أكثر قسوةً يتسرّب من بين خرير الماء:
ربما حفظتَ الزمن لأنك تخاف أن تراه دونك،
أن تعيش أنت وهو بلا دورٍ بطوليّ.
هنا انكسرت في صدره نافذةٌ ظلّت مهزوزةً سبع سنوات.
لم يمدّ يده نحوها.
لم تمدّ يدها نحوه.
بينهما مرَّ قاربٌ صغير،
وخلف القارب رائحةُ مازوتٍ رقيقةٌ
تذكّر المرء بأنّ الحياة تستمرّ
وهي تتسخ وتتنظّف وتتعوّد.
عاد عليّ إلى المقهى قبل الفجر.
صاحب المقهى نائمٌ على الكرسيّ الأخير،
والضوء الأصفر يهتزّ لمّا يزل.
أخرج الصورة الجامعية ووضعها على الطاولة.
لامسَ الخشبَ، فبدا الخشبُ أكثر دفئاً.
ثم أعاد الصورة إلى الجيب،
لا ليطويها، بل كمن يعيد كتابَ قانونٍ إلى مكانه في الرفّ.
رفع العود.
شدّ وتره المشروخ حتى سمع في شدِّه أنيناً رفيعاً.
بدأ يعزف.
لم تكن هذه المرّة عزفاً على الفراغ وحده؛
كان عزفاً على الفراغ الذي اختار أن يحرسه.
في كلّ انتقالةٍ نبرةُ قرار،
وفي كلّ قرارٍ ظلُّ اعتراف.
كان الشيخُ قد قال له:
«افتح قفص الحفظ على الهواء.»
لكن عليّاً، وقد جرّب أن يلامس الهواء،
عاد إلى القفص وأغلق الباب بنفسه.
ليس ضعفاً، ولا بطولة،
بل لأنّه أدرك أن كلَّ ما فقده ياسره:
الحبّ، الحلم، وضحكة الصورة في سنتر الكلية.
ظلّ يعزف حتى ارتجفت الملعقة في الاستكان الخاوية،
وحتى بدا للساعة المتأخّرة أن تعود دقيقةً إلى مكانها،
ثم ندمت فتراجعت.
وفي اللحظة التي انتهى فيها اللحن،
كان يشبه باباً يُغلق ببطءٍ خلف حبٍّ طويل.
سُمِع صوتُ «الْكَالون» واضحاً،
لكن لا أحد قام ليفتح.
تناهى إليه من جهةِ النهر أذانٌ بعيد،
والريح حملت رطوبة الفجر على حجارة الرصيف.
مسح جبينه بظاهر كفّه.
أعاد العود إلى حجره كمن يُعيد طفلاً إلى سريره،
ثم نظر إلى صاحب المقهى النائم،
إلى الضوء الذي يهتزّ،
إلى الباب الذي يُغلق في داخله كلّما انفتح للخارج.
هنا فهم شيئاً أخيراً، شيءً صغيراً وواضحاً:
إنّ الحزن، إذا استحقّ أن يُحرس،
فليس لأنه يطالب بالقصاص،
بل لأنه يشهد على عهدٍ قُطع ثم انكسر.
ومن يُبقي الشهادة حيّة،
قد لا يُعانَق في ساحات العالم،
لكنه—على الأقل—
يعرف أين يضع يده حين تنقص حبّةٌ من السبّحة،
ويعرف أنّ الأثر الذي يبقى في الأشياء
يكفي لأن يستمرّ في العزف…
إلى أن يهدأ الوتر،
أو يهدأ القلب،
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟