أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - سجّان بلا مفاتيح














المزيد.....

سجّان بلا مفاتيح


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 23:00
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

في أطراف بغداد، وعلى ضفة فرعٍ صغيرٍ يلمع كخيطٍ من الماء الباهت، كان يقف سجنٌ قديم ببوابةٍ حديديةٍ عالية اسودّ لونها بفعل الريح والغبار. بدا المكان كظلٍّ منسيٍّ على حافة المدينة، حيث الزمن لا يمرّ إلا ليترك بصماته الثقيلة على الجدران.
في ذلك السجن، كان يعمل أبو رعد حارسًا منذ ثلاثين عامًا.
كان رجلاً في منتصف الخمسين، قويَّ البنية، عريض الكتفين، غير أن عينيه وحدهما كانتا تحملان شيئًا لا يليق بمهنة السجّان: لينٌ عميق وشرودٌ طويل.
كان يتعامل مع السجناء بقدرٍ من الإنسانية، لا يراهم كأفعال ارتُكبت، بل كأرواحٍ تعثّرت. وكان يقول لابنه:
"يا بُني… الناس مو كلها مجرمة. بعضهم سقط من التعب، لا من الشر."
كان يعرف من يبكي في الليل، ومن يكتب رسائل لا تصل، ومن يتظاهر بالقسوة كي لا ينهار أمام الآخرين.
كان يعرفهم كما يعرف نفسه.
وفي مساءٍ خريفيٍّ ثقيل، وصل سجينٌ جديد يدعى جاسم.
كان وجهه مألوفًا، كأنه صفحةٌ قديمة أعاد الزمن فتحها فجأة.
تذكّره أبو رعد.
كان زميله في المدرسة.
كان جاسم يومها يحلم بأن يدخل كلية الفنون الجميلة، ويعزف ضمن السمفونية الوطنية.
كان يقول إن الموسيقى وحدها قادرة على أن "تنظّف الروح".
لكن الحياة لا تعزف دائمًا ما نريد سماعه.
ضاقت الطرق، تراكمت الخيبات، انجرف مع رفقةٍ سيئة، حتى وقع ما كان يهرب منه.
في تلك الليلة، جلس أبو رعد قربه على ضوء مصباحٍ خافت.
سأله بصوتٍ خفيض:
– "ما الذي جرى لك يا جاسم؟ ما الذي كسرك؟"
ضحك جاسم بمرارة قصيرة وقال:
– "لم أكسر… أنا تبعثرت فقط. ضاعت موسيقاي، وضاعت روحي معها. الزمن يا أبو رعد… قسا عليّ كثيرًا."
لم يتركه أبو رعد لقدره.
كان يقف معه في الساحة، يخفف وحشة الأيام، يحاول أن يذكّره بأن الإنسان قد ينهض ولو متأخرًا.
لكن السجن لا يعطي أحدًا فرصة مجانية.
كان هناك سجين يدعى كرموش، ضخم الجثة، اعتاد فرض هيبته على الآخرين.
وفي أحد الأيام، اختفى رغيف جاسم.
سكت جاسم، ثم طلبه من كرموش بنبرة هادئة.
فضحك الأخير وباغته بصفعةٍ أطاحت به أرضًا.
في الفجر، مرّ أبو رعد بالممر، فرأى جاسم والضمادة على وجهه.
اقترب منه وقال:
– "من فعل هذا؟"
– "زلة لسان… لا أكثر."
سكت أبو رعد طويلًا.
لكنه فهم.
في الصباح، جمع السجناء.
وقف أمام كرموش وقال بهدوءٍ ثابت:
– "هذا المكان له قانون. لا تظن أن القوة أعلى من النظام. كرّرت ما فعلت؟ سأعزلك. والجدران وحدها تعرف كيف تأكل الرجال."
كان الكلام هادئًا… لكنه أشد من العقاب.
ومنذ ذلك اليوم، لم يقترب أحد من جاسم.
مرت الشهور.
بدأ جاسم يستعيد شيئًا من موسيقاه.
كان يطرق بقطعة خشب على الحديد فيصنع إيقاعًا صغيرًا، لا يشبه أغنية… بل يشبه نبضًا يعود.
ثم جاء يوم الإفراج.
وقف جاسم عند البوابة، وفي الصباح ضوءٌ ناعم يمسّ الأسلاك.
كان أبو رعد هناك، ثابتًا كعادته.
غير أن عينيه كانتا مترعتين بالدمع.
قال جاسم بدهشة:
– "أتبكي يا أبو رعد؟"
مسح الرجل دمعة حارة وقال بصوتٍ خافت:
– "أنتَ خرجتَ الآن… قضيتَ مدتك.
أما أنا… فمدتي لا تنتهي."
وحين ابتعد جاسم في الطريق، ظلّ أبو رعد واقفًا عند الباب.
كان يشعر بأن شيئًا منه خرج مع ذلك الشاب، شيء كان قد ظلّ مخزونًا في صدره منذ أيام المدرسة، منذ شجرة التوت، منذ الحلم الذي لم يصبح يومًا حقيقة.
جلس قرب البوابة الحديدية، وأسند ظهره إلى الجدار.
نظر إلى الساحة الخالية، إلى العنابر الصامتة، إلى المفاتيح المعلّقة عند خصره.
ثم قال في نفسه، كأنما يهمس للعالم:
"ليس كل من في الداخل سجينًا…
وليس كل من في الخارج حرًّا."
أغمض عينيه قليلًا، بينما كان القمر يعلو فوق الأسلاك.
لم يكن ينتظر شيئًا.
كان فقط… يحرس عمره.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ
- طيور السطح
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد
- قاربٌ من الطين
- تنّور أم زينب
- ذكرى لا تُباع
- ألمُ الفقد
- نبضٌ لا يموت
- ضجيجُ العيش وصمتُ الحكمة
- حديقة البيت رقم ١٧
- ظل الصباح
- الملفد ١٩٥٤ / ظل الجسر
- مقهى على دجلة
- كرسيٌّ فارغ… ووردةٌ على الطاولة


المزيد.....




- مهرجان الفيلم بمراكش يكشف عن أفلام دورته
- ماذا نعرف عن -الديموقراطية التمثيلية- التي أسقطها ممداني؟
- -الخارجية- ترحب باعتماد اليونسكو 4 قرارات لصالح فلسطين: انتص ...
- الفنان المصري ياسر جلال يعتذر عن تصريحاته بشأن دور الجزائر ب ...
- ياسر جلال: رواية -غير مثبتة- عن دور للجيش الجزائري في القاهر ...
- مهرجان فلفل إسبيليت الأحمر: طعام وموسيقى وآلاف الزوار
- فيلم وثائقي يعرض الانهيار الأخلاقي للجنود الإسرائيليين في حر ...
- من -سايكو- إلى -هالوين-.. لماذا تخيفنا موسيقى أفلام الرعب؟
- رام الله أيتها الصديقة..!
- ياسر جلال يعتذر عن معلومة -خاطئة- قالها بمهرجان وهران للفيلم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - سجّان بلا مفاتيح