أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حِذاءُ كريم














المزيد.....

حِذاءُ كريم


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 23:26
المحور: الادب والفن
    


كان "كريم" شابًا من مدينة الصدر، يحمل على كتفيه أكثر مما يحتمل عمره. ترك الدراسة مبكرًا بعد أن مرض والده، فصار المعيل الوحيد لأمه وأخيه الصغير. افتتح دكانًا صغيرًا لتصليح الأحذية عند مدخل سوق مريدي ، دكان لا يكاد يسع جسده النحيل وعلبة أدواته الخشبية.
كان يجلس على كرسيٍ قديم، يمسك الأحذية كأنها أرواح متعبة تحتاج إلى عناية.
كان يقول للناس دائمًا:
"الشي اللي خدمك… يستاهل تحاول تنقذه، حتى لو كل الناس گالت خلّي نرميه."
لم يكن تصليح الأحذية عملًا عنده، بل نوعًا من الوفاء.
**
كان كريم يلعب كرة القدم في ملعبٍ ترابي قرب البيوت، يُجري جسده فوق الغبار ويشعر للحظات أنه أخفّ من الحياة.
وكان له حلم واحد صغير:
حذاء رياضي من ماركة عالمية.
لم يكن يقدر على شرائه، لكنه كان يدّخر ثمنه شيئًا فشيئًا.
يضع ما تبقّى من أجر يومه في علبة معدنية صغيرة داخل الدكان، ويقول:
"هذا مو للترف… هذا حتى أذكر نفسي إني أستحق شي حلو بهالدنيا."
**
في يومٍ من أيام الشتاء، دخلت فتاة إلى الدكان.
كانت تحمل حذاءً أسود ممزقًا من الخلف.
قالت بخجل وهي تقدمه له:
"أدري يمكن ما يتصلح… بس هذا أول شي اشتريته من راتبي."
رفع كريم رأسه، نظر في عينيها طويلاً.
لم يكن الحذاء هو الذي تحدث، بل الذاكرة التي تحمله.
ابتسم:
"إذا من تعبچ… لازم يرجع يمشي."
جلست على عتبة الدكان تراقبه.
كان يمرر الإبرة داخل الجلد برفق غير مألوف، كأنه يداوي شيئًا في داخله لا في الحذاء.
حين أعاد لها الحذاء بعد ساعة، كانت الدموع تلمع في صوتها:
"هذا مو تصليح… هذا رجّعت روحي ويا."
منذ ذلك اليوم، صارت تمرّ بين حين وآخر.
كانت تقول بخجل: "ما عندي شي أصلحه… بس چنت مارّة."
وكان يجيبها بضحكة خفيفة:
"الدكان مفتوح… والقلوب إذا ترتاح، الباب ما ينغلق."
تحدثت له عن عملها في مكتبة، عن حبها للكتب، عن خوفها من المجهول.
وكان يستمع… يستمع كما لو أنه يسمع العالم للمرة الأولى.
ومع الأيام، صار حضورها جزءًا من تنفس المكان، مثل رائحة القهوة التي تُشرب أمام الدكان كل صباح.
**
لكن الحياة لا تترك القلوب تنمو بهدوء.
مرض أخ كريم الصغير فجأة، واشتدت حاجته للدواء.
باع كريم ما استطاع بيعه، وحين لم يبق شيء، فتح العلبة المعدنية التي ادّخر فيها حلمه.
جلس أمامها طويلًا، يقلب النقود بين أصابعه.
كانت أصابعه ترتجف…
ليس لأن الحلم يرحل، بل لأن شيئًا منه سيرحل معه.
وفي النهاية… حمل النقود وذهب.
**
في المساء جاءت الفتاة.
رأته جالسًا وحده، يحيك جلدًا لحذاء لا حاجة له، كأنه يشغل يديه ليصمت قلبه.
سألته بقلق:
"شصار؟"
ابتسم، لكن ابتسامته كانت حزينة كضوء مصباح يوشك أن ينطفئ:
"أكو أحلام… نربيها شوي شوي… حتى نكول بيوم: هذا إلنا.
بس مرات… الحياة تريد من عدنا نرجعها.
مو لأن الحلم ما يستاهل…
لا… لأن أحد يحبه قلبنا أكثر."
وضعت يدها فوق يده.
كانت يداها ترتعشان.
كانت هذه المرة الأولى التي يلمس فيها أحد الألم بدل الحذاء.
**
ومنذ ذلك اليوم صار الناس يسمّون دكانه:
"محل إنقاذ الأشياء"
لكن الذين عرفوه حقًا، كانوا يعرفون أنه لم يكن ينقذ الأحذية ....
ولا الذكريات …
بل كان ينقذ القلوب التي تخاف أن تُرمى حين تتعب.
فالحياة ، ليست في ما نملكه ولا في ما نخسره.
الحياة هي تلك اليد التي تمتد إلينا حين نظن أننا لم نعد صالحين.
اليد التي تخيط جرحًا صغيرًا…
فتمنحنا القدرة على المشي من جديد.
تمامًا كما يفعل كريم
مع الأحذية…
ومع البشر أيضًا.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ
- طيور السطح
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد
- قاربٌ من الطين
- تنّور أم زينب
- ذكرى لا تُباع
- ألمُ الفقد
- نبضٌ لا يموت
- ضجيجُ العيش وصمتُ الحكمة
- حديقة البيت رقم ١٧
- ظل الصباح
- الملفد ١٩٥٤ / ظل الجسر


المزيد.....




- حضور فلسطيني قوي في النسخة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي ...
- للمرة الثانية خلال شهور.. تعرض الفنان محمد صبحي لأزمة صحية
- -كان فظيعًا-.. سيسي سبيسك تتذكر كواليس مشهد -أسطوري- في فيلم ...
- اشتهر بدوره في -محارب الظل-.. وفاة الممثل الياباني تاتسويا ن ...
- عرف النجومية متأخرا وشارك في أعمال عالمية.. وفاة الممثل الإي ...
- السيسي يوجّه بمتابعة الحالة الصحية للفنان محمد صبحي
- الفنان المصري إسماعيل الليثي يرحل بعد عام على وفاة ابنه
- الشاهنامة.. ملحمة الفردوسي التي ما زالت تلهم الأفغان
- من الفراعنة إلى الذكاء الاصطناعي، كيف تطورت الكوميكس المصرية ...
- -حرب المعلومات-.. كيف أصبح المحتوى أقوى من القنبلة؟


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حِذاءُ كريم