أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - باب الدفترجي














المزيد.....

باب الدفترجي


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 12:21
المحور: الادب والفن
    


سالم… حارس الشورجة الأخير

في البدء كان القلب.
فالإنسان لا يُختَبَر حين تُفتَح له أبواب الرزق، بل حين يرى الجائعين عند باب دكّانه: هل يغضّ البصر ويمضي، أم يلتفت ليُكمل ما بدأته السماء من قسمة؟ وفي الأزقّة الضيّقة، حيث تختلط رائحة العرق بالهيل، يُمتحَن الضمير أكثر مما يُمتحَن في المعابد. هناك، بين نداءات الباعة وصدى الخطى على الأرض الخشنة، تتقرّر مصائر صغيرة لا يكتب عنها التاريخ، لكنها تُكتَب عميقًا في دفاتر أخرى لا تراها العيون.
كان سوق الشورجة في بغداد يستيقظ مع أول خيطٍ من الفجر.
رجال يجرّون عرباتهم، صبية يحملون الشاي، وروائح تتشابك: هيل وقماش، غبار ومطر بعيد.
وعند باب السوق الحديدي، جلس سالم على صندوق خشبي قديم، يحمل دفتره الأصفر الكبير، ويقيد فيه ديون الفقراء، لا ليغتني، بل ليُبقي للناس بابًا مفتوحًا حين تُغلق في وجوههم كل الأبواب.
لم يكن سالم وحده في عالمه.
كان هناك شاب اسمه نور، في أوائل الثلاثينات، هادئ الطباع، صادق العينين.
قبل عام، جاء نور إلى سالم خجولًا، يريد دينًا صغيرًا ليشتري قماشًا يكفي ليبدأ بسطته الأولى.
تردد قليلًا، ثم قال بصوتٍ خافت:
"عمّي سالم… إذا تساعدني، أرجعلك الدين من أوّل ربح."
نظر سالم إليه طويلًا، ثم ابتسم تلك الابتسامة الهادئة التي تصنعها الخبرة والرحمة معًا، وكتب اسمه على الورق دون سؤالٍ أو ضمان.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى عاد نور، يحمل المال بيده اليمنى، والامتنان بيده الأخرى.
ومنذ ذلك اليوم، صار يجلس قرب سالم في أوقات الفراغ، يستمع إلى حكاياته عن السوق أيام زمان؛ عن تجارٍ رحلوا، وبسطياتٍ اختفت، وعن رجالٍ لم يبقَ منهم إلا ذكراهم على صفحات الدفتر الأصفر.
كان نور أحد الذين آمنوا بأن سالم ليس مجرّد رجلٍ يجلس عند الباب، بل هو روح الشورجة، ميزانها الخفي، وبركتها الصامتة.
وذات يوم، وفي ظهيرةٍ ثقيلةٍ من أيام الصيف، جاء إلى سالم شابٌ لا يعرفه أحد. كان اسمه حسّان. عيناه قلقتان، تتنقّلان بين الوجوه كمن يبحث عن مكانٍ يختبئ فيه.
جلس قرب سالم وقال:
"أريد دينًا أفتح بيه بسطة. زوجتي والولد محتاجين… وما عندي غير رحمتك."
استمع له سالم كلّه، ثم فتح الدفتر وكتب اسمه رغم اعتراض أحد التجار:
"سالم، هذا ما نعرفه، باچر يطفر!"
لكن سالم اكتفى بالقول:
"إذا ماكو واحد يثق بيهم… منو يبقى لهم؟"
بدأ حسّان يبيع بحماس، ووقف سالم يراقبه من بعيد، كأبٍ يرى ابنه يتعلم خطواته الأولى.
لكن بعد أسابيع، اختفى حسّان.
وتركت بسطته آثار غيابٍ لا تخطئه العين.
عادت السخرية إلى السوق:
"گلنالك يطفر."
لكن ما انكسر في قلب سالم لم يكن المال، بل الثقة.
ولأوّل مرة، زلزل سؤال داخلي روحَه:
"هل الطيبة غباء؟ أم واجب… حتى لو خانونا؟"
وفي يومٍ آخر، جاءت أرملة تحمل طفلها.
كانت الكلمات تخرج من فمها بشقّ الأنفس:
"دَين صغير… حتى أستر الولد."
تردد سالم طويلًا، وصورة حسّان تومض في ذهنه كالسكين.
لكن حين نظر إلى الطفل، وإلى عيونٍ تنتظر بصمت، فتح الدفتر وأعطاها.
لم يكن واثقًا، لكنه شعر أنّ الحذر التام هو باب آخر من أبواب القسوة.
وفي مساء شتوي، حين هبّت رياح باردة تحمل رائحة المطر، وقع حدث غيّر مصائر الجميع.
عند باب السوق، تجمع الناس حول شابٍ سقط فجأة.
كان حسّان، شاحبًا، منهكًا، كأنه عاش أعوامًا في أيام.
اقترب سالم منه، وجثا على ركبتيه بصعوبة.
فتح حسان عينيه وقال بصوتٍ مكسور:
"عمّي… سامحني. ما هربت فرحان… هربت مخنوق."
وتابع بأنفاس متقطّعة:
"ضاع كل شي… وخفت أرجع اراويك وجهي"
ووضع يده المرتجفة على صدره.
تجمّد الهواء.
وسالم يسمع كأن الكلمات تأتيه من أعماق لن يطولها الضوء.
مدّ يده إلى كتف الشاب وقال:
"الناس تخطأ… بس باب الرحمة إذا انسدّ، الدنيا تصير كبر."
لكن قلب سالم كان يُعلن تعبه.
شعر بوخزة حادة في صدره، ثم خفتت الأصوات حوله كأن السوق غرق في الصمت.
قبض على الدفتر الأصفر بقوة… ثم سقط على الأرض.
بعد أيام قليلة، أعلن السوق خبر وفاته.
لم يُغلق أحد دكانه، لكن كل شيء بدا بطيئًا، أقل ضجيجًا، أقل حياة.
وأُبقي الكرسي الخشبي قرب الباب، وعليه الدفتر الأصفر، مفتوحًا على صفحةٍ لم تُكتب بعد.
جاء نور صباحًا، وقوفه في ذلك المكان بدا وكأنه اختبار.
جلس على الكرسي، تنشق رائحة البهارات والغبار، لمس غلاف الدفتر الأصفر، وسمع صوتًا داخليًا يذكّره بيومه الأول مع سالم.
مرّ التاجر القديم وسأله:
"ها نور… ناوي تصير مثل سالم؟"
رفع نور عينيه، نظر إلى وجوه الناس، إلى التعب الذي لا ينتهي، وقال:
"باب السوق يحتاج واحد يكعد هنا… واحد يشوف الفقير إنسان، مو رقم."
فتح صفحة جديدة في آخر الدفتر، وكتب بخطٍّ ثابت:
"هذا دفتر سالم… وكل اسم يُكتَب فيه، تُكتب معه روحه."
هبت نسمة خفيفة، رفرفت معها صفحات الدفتر كأجنحةٍ صغيرة، كأنها تهمس:
إنّ باب الدفترجي… لا يُغلَق.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ
- طيور السطح
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد
- قاربٌ من الطين
- تنّور أم زينب
- ذكرى لا تُباع


المزيد.....




- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي ...
- الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال ...
- ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
- لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار ...
- جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - باب الدفترجي