أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - جبار البنّاي… آخر حراس الطين














المزيد.....

جبار البنّاي… آخر حراس الطين


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 19:53
المحور: الادب والفن
    


في البيوت القديمة سرٌّ لا يُرى…
روحٌ تُصاغ من ترابٍ رطبٍ وشمسٍ متأنية، لا من إسمنتٍ يعجَل فتجفّ معه الذاكرة.
فالبيت، في الزمن الذي سبق ضجيج المدن، لم يكن أربعة جدران، بل مخلوقًا حيًّا يتنفّس مع أهله: يشيخ معهم، ويتّسع لأحزانهم، ويَختزن ضحكاتهم في مسامّ الطابوق.
وفي تلك العصور الهادئة، كان البنّاي حكيمًا أكثر منه صانعًا؛ يعرف كيف يوجّه الضوء، وكيف يربّي الظلّ، وكيف يترك للريح نافذة تدخل منها برفق، لا بعصف.
كانت المهنة أشبه بطقسٍ قديم، والبيوت أشبه بكتبٍ مفتوحة على أسرار الطين.
لكن حين تغيّر الزمن، تغيّرت البيوت…
وانكمشت الروح خلف الجدران الجاهزة، حتى صار البنّاي القديم كمن يحرس ذكرى في زمنٍ لا يذكر.

هذه القصة ليست عن رجلٍ بنى بيوتًا… بل عن رجلٍ آمن أن المكان إذا فقد روحه، فقد أهله معه.
في زمنٍ صار الإسمنت فيه أسرع من الذاكرة، بقي الطابوق الفرشي شاهدًا على عمارة العراق القديمة، وعلى البيوت التي كانت تُبنى بالصبر والماء والظلّ ورائحة التراب.
وفي المدن المقدّسة، ظلّ هذا النوع من البناء جزءًا من الوقار الروحي؛ لا يقيم جدرانًا فحسب، بل يحيي ذاكرة البيوت.
ومن بين آخر البنّائين الذين ظلّوا أوفياء للطين، كان جبار البنّاي… الرجل الذي وُلد في بيتٍ صغير على أطراف النجف، حيث لا شيء يعلو على صوت الريح وهي تضرب جدران الطين في مواسم الشتاء.
كان جبار طفلًا حين بدأ يرافق أباه في الورشة الطينية خلف البيت. والده، حجي محسن البنّاي، كان واحدًا من قلة نادرة تُجيد بناء الأقواس، وخلط الطين بالطريقة القديمة، وتحديد مواضع الظلّ والهواء في البيوت.
كان يقول لابنه:
"أوليدي… الطابوكة ما تنحط، تُسمَع. إذا ما تسمع صوتها… تنكسر بيدك."
علّمه كيف يقف على الطين وهو رخو، وكيف يضغطه بقدميه حتى يسمع "طقطقته" الخفيفة، العلامة التي يعرف بها البنّاي أن الطين جاهز.
علّمه أن القوس لا يُبنى بالقوة، بل بالاتزان، وأن النافذة لا تفتح للضوء فقط، بل لتنفس الروح.
كبر جبار وهو يظن أن الدنيا كلها تُبنى بالطابوق الفرشي… حتى اكتشف لاحقًا أن الناس تركت الطين وانشغلت بالإسمنت.
كانت المهنة تتطلب جهدًا جسديًا كبيرًا؛ يقف ساعات طويلة تحت شمس النجف الشرسة، وقدماه غارقتان في الطين، ويداه متشققتان مثل جدران بيوت الشتاء.
لم تكن أجورهم عالية، ولم يكن العمل ثابتًا. ومع اجتياح البناء الحديث للمدن، صار جبار يعود إلى البيت ويده فارغة.
كانت نظرات الآخرين تلاحقه؛ نظرات العمال الجدد الذين يستهزئون بالمهنة ويعتبرونها تراثًا لا يفيد. ورغم ذلك، ظلّ يذهب كل صباح إلى الورشة… ليس لأنه يحصل على عمل، بل لأنه كان يخاف أن يتخلى الطين عنه.
كان يعيش في حيّ قديم، بيوته متلاصقة، جدرانها متعبة لكنها دافئة. في الأزقة يسمع بكاء طفل خلف جدارٍ من الطين، وأذانًا يخرج من جامع صغير، ورائحة خبز تنبعث من بيتٍ ما يزال يحتفظ بتنور جدّته.
الحيّ بالنسبة لجبار لم يكن مكانًا… كان مدرسة.
كان يرى الطابوقة كيف تشيخ، والجدران كيف تتألم، والظلّ كيف ينتقل من زاوية لأخرى ككائن حي. وكان يؤمن أن البيوت مثل البشر: منها ما يتنفس ومنها ما يموت واقفًا.
ومع مرور الزمن، بدأ البنّاؤون القدامى يرحلون واحدًا بعد الآخر… أبو عباس، أبو فلاح، حجي سلطان… حتى صار جبار ينظر حوله فلا يرى أحدًا. كان يسمع عمال الكونكريت يقولون:
"عمي جبار… أنت آخر البنّايين. ما ظل أحد يريد طابوك فرشي."
وكان يبتسم بهدوء، وكأنه يقول في سرّه:
"إذا الناس نسوا الطين… الطين ما ينسى الناس."
وفي صباحٍ هادئ، جاءه شاب يحمل صورة قديمة لبيتٍ من طين. قال الشاب:
"أريد أرجّع بيت جدي… أريده يرجع نفس ريحته."
وعاد شيء ما يلمع في قلب جبار، كأنه رأى أباه واقفًا خلف الشاب. قال له:
"إذا تريد ترجع ريحة البيت… لازم نرجّع صبر الطين."
بدأ جبار عمله… يعجن الطين ببطء، يقف عليه كما كان يفعل وهو طفل، يبني القوس بحذر، يترك نافذة للريح، يراقب كيف يتوزع الضوء، كأنه يعيد ترتيب ذاكرة المكان.
وحين انتهى، دخل الشاب الغرفة وبكى:
"هذي مو غرفة… هذا حضن جدي."
ابتسم جبار… لكنها كانت ابتسامته الأخيرة. فبعد أيام قليلة، رحل الرجل الذي كان يحمل أسرار الطين في يديه.
لكن صوته بقي في البيت الذي رمّمه، يمرّ مع كل نسمة هواء تدخل من نافذته:
"لا تبنون بس حجر… ابنوا ذكرى.
البيت اللي ما يحمل روح… يبقى جدار بارد."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عدسة مكسورة
- الكشك الأخير
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ
- طيور السطح
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد


المزيد.....




- ليوناردو دافنشي: عبقري النهضة الذي كتب حكاية عن موس الحلاقة ...
- اختفاء يوزف مِنْغِله: فيلم يكشف الجانب النفسي لطبيب أوشفيتس ...
- قصة القلعة الحمراء التي يجري فيها نهر -الجنة-
- زيتون فلسطين.. دليل مرئي للأشجار وزيتها وسكانها
- توم كروز يلقي خطابا مؤثرا بعد تسلّمه جائزة الأوسكار الفخرية ...
- جائزة -الكتاب العربي- تبحث تعزيز التعاون مع مؤسسات ثقافية وأ ...
- تايلور سويفت تتألق بفستان ذهبي من نيكولا جبران في إطلاق ألبو ...
- اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج ...
- حوارية مع سقراط
- موسيقى الـ-راب- العربية.. هل يحافظ -فن الشارع- على وفائه لجذ ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - جبار البنّاي… آخر حراس الطين