أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الكشك الأخير














المزيد.....

الكشك الأخير


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 15:00
المحور: الادب والفن
    


حين انهارت الجدران وبقيت القلوب

(قصة قصيرة

كان في المدن، قبل أن تتكاثر الأبراج وتعلو الجدران الزجاجية، مقاعدُ خشبية عند الأبواب، وأكشاك صغيرة عند زوايا الأزقة، تحفظ للناس ما لا تحفظه دفاتر الدولة ولا كاميرات المراقبة. هناك، في تلك المساحات الضيقة، كانت الأرواح تتنفّس، والسرائر تُخفِّف حمولتها، والقلوب تتعلّم كيف تحب وتسامح وتنتظر. غريبٌ كيف يستطيع لوح خشبي متواضع أن يصير ملجأً لرجالٍ تعبوا من الحياة، وملاذًا لخجل الفتيات، وممرًّا لمدينةٍ تكافح كي لا تُمحى من ذاكرة نفسها.
من قال إن الخراب يبدأ من الجدران؟ ربما يبدأ من لحظةٍ يشعر فيها الإنسان أن ما بناه من وجوه وابتسامات ومودّات صار مهدّدًا بجرافةٍ لا تعرف من العالم سوى الأوامر. هناك، لا يُختبر المكان فقط، بل يُختبر القلب: هل هو معلّق بخشبٍ وحديد، أم معلّقٌ بأيدٍ امتدّت إليه يومًا… وقلوبٍ اعتاد أن يطمئنّ إليها أكثر من أيّ شيء آخر؟

كان الزقاق في البصرة القديمة يشبه سطرًا من كتابٍ عتيق؛ ضيقًا، ملتويًا، لكنه محشوّ بالمعاني. البيوت متقاربة، شناشيلها الخشبية تكاد تتلامس، والنخل المتلاصق يطلّ كأنه شاهد خجول على كل ما يجري. رائحة الرطوبة تختلط برائحة الماء القادم من الشطّ، وببخار الشاي المغلي، ودخان السجائر، وملح البحر الذي تتسلل نكهته مع الريح.
عند مدخل الزقاق وقف الكشك؛ مربع صغير من الخشب، بابه بسيط، ورفوفه تضيق بما عليها من بضاعة متواضعة. خلف الشباك يجلس الحاج عبد الستّار: وجه هادئ، عينان حكيمتان، وجسدٌ أتعبته الأيام لكنه لم يتعب من الناس. لم يكن الكشك سرّه الحقيقي، بل الناس الذين يأتون إليه: طلاب الإعدادية الذين يتوارون من مراقب الدوام، نساء يسلّمن عليه من بعيد، وأطفال يشترون «حامض حلو ونساتل» بضحكات لا تهدأ.
كان حسين، طالب الإعدادية النحيل، واحدًا من زوّار الكشك الدائمين. يختبئ قرب الحاج حينًا، ويشتري علكة لا يمضغها، ويترقّب الوقت الذي تمرّ فيه سلوى — طالبة ثانوية البنات — بخطوات خجولة ورأس منخفض. في اللقاء الأول لم يحدث شيء خارق: نظرة، ارتباك، تسارع في الخطى. لكن القلب، كما هي عادته، حفظ اللحظة كأنها نبوءة صغيرة.
منذ ذلك اليوم صار حسين يضبط توقيت مروره بدقة. يقف قرب الكشك دون سبب واضح، يشتري ما لا يحتاجه، ويستمع إلى وقع خطواتها وهي تعبر الزقاق. في كل مرة تتوقف لحظة عند الشباك، تشتري بسكوت «أبو النخلة» لأخيها، وتلقي تحية خفيفة. وكان عبد الستّار يرى ولا يتدخّل… يكتفي بنظرة طويلة تحمل حكمة، لا حكمًا.
تراكمت الإشارات الصغيرة بين حسين وسلوى:
– نظرة تطول أكثر مما ينبغي.
– ورقة صغيرة يمرّرها طفل الجيران.
– وردة جافة تُعاد داخل دفترها.
لكن شيئًا كان يقبض صدر حسين: نظرات الحاج عبد الستّار. صامتة، لكنها نافذة، يشعر معها أن قلبه مكشوف.
وذات يوم، مرّت سلوى مسرعة، وجهها شاحب. التفت حسين نحو الحاج… فوجده ينظر إليه نظرةً تجمع التعاطف بالقلق. شعر كأن أسراره كلها تتناثر. تلك الليلة لم ينم. خاض صراعًا داخليًا يليق بأبطال دوستويفسكي:
هل ما أفعله خطأ؟ هل الحب خطيئة؟ أم الخوف هو الخطيئة؟
ابتعد عن الكشك أيامًا طويلة.
لم يسأل الحاج عنه… لكنه شعر بغيابه كما يشعر المرء بغياب كرسيّ في مجلس عامر.
وحين عاد، استقبله الحاج بجملة بسيطة:
— نورت الزقاق، يا ولَد.
فانهارت جبال من القلق عن صدره.
لكن لم يمض وقت طويل حتى جاءت البلدية. علّق الموظفون على جدار الكشك ورقة رسمية تقول:
إزالة جميع الأكشاك المخالفة.
تحوّل الخبر إلى همّ جماعي. الرجال يتجادلون، النساء يتنهّدن، الأطفال يسألون ببراءة:
— منين نشتري «حامض حلو ونساتل»؟
أما الكشك، فقد صار مثل مريض ينتظر موعد أنفاسه الأخيرة.
وفي صباح تموزي خانق، دخلت الجرافة الزقاق. وقف عبد الستّار أمام كشكه، يده ترتجف، وصوته يتهدّج:
— هذا مو كشك… هذا عمر!
ارتجّت القلوب. انهار السقف، تكسّرت الرفوف، وسقط الكرسي الذي جلس عليه أربعين سنة.
من خلف باب نصف مفتوح، كانت سلوى تشاهد المشهد. في يدها رسالة من حسين اكتشفها أبوها ليلة البارحة. غضبه، تهديده، منعها… كل ذلك امتزج الآن بصوت الجرافة.
سقط الكشك… وسقط شيء في صدرها معه.
لزم عبد الستّار بيته يومين، لا يخرج ولا يتكلم. كان يسأل نفسه بصمتٍ موجع:
هل ما كنتُ عليه مجرد بائع؟ أم كنت شيئًا أعمق؟ وإذا كنت كذلك… أين أذهب بروحي الآن؟
وفي اليوم الثالث خرج، يحمل كرسيًا بلاستيك. وضعه في موضع الكشك المهدوم… وجلس.
لم تمر دقائق حتى جاء رجل يحمل شايًا، ثم آخر بسيجارة، ثم ثالث بكأس ماء. الأطفال داروا حوله، النساء سلّمن عليه من بعيد، وببطء تكوّنت دائرة كراسي حول الشيخ.
قال طفل صغير:
— حجي… تسوي كشك جديد؟
ضحك الحاج بدمعة خفيفة:
— عمو، الكشك مو خشب… الكشك وجوهكم.
وهكذا وُلدت مضيفة الزقاق.
صار حسين يأتي كل مساء. جلس قرب الشيخ وقال بصوت منكسر:
— أخاف يا حجي… أخاف من كلشي.
ردّ الحاج بهدوء:
— تحبّها؟
— أحبها.
— إذا تحبها، روح للباب… مو للدربونة. الرجال يدخلون من الباب، حتى لو الباب ثقيل.
أطاع. ذهب إلى بيت سلوى مع عمّه. فتح الأب الباب بصرامة، لكنه لم يغلقه. قال بصوت متوتر:
— العلاقة تنتهي الآن. بس… ما أمنع النصيب إذا صار رجال ويجي مثل ما إجه اليوم.
خرج حسين بنصف جرح… ونصف أمل.
مرّت الأيام.
صارت مضيفة الزقاق واقعًا لا يُمحى. يجلس عبد الستّار على كرسيه، يحيط به رجال يتذكرون الماضي، وشباب يحلمون بالمستقبل، وأطفال يضحكون، ونساء يمررن بالسلام. لم تعد هناك بضاعة تُباع… لكن الأرواح ازدادت امتلاءً.
تمرّ سلوى أحيانًا، تلقي تحية، وتواصل طريقها. يرى حسين ظلّها، ويعرف أنها ليست بعيدة… وأن الزمن — إن صبر القلب — سيخلق طريقه.
وفي بعض الليالي، حين يسكن الضجيج وتتلألأ نجوم البصرة، يقول عبد الستّار لنفسه:
— صحيح… انهارت الجدران. لكن القلوب، والله، بقيت.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ
- طيور السطح
- العراق بين حلم الدولة المدنية وواقع المحاصصة
- بيت الزجاج
- لم يعد… لكنه عاد
- قاربٌ من الطين
- تنّور أم زينب


المزيد.....




- مؤرخ وعالم آثار أميركي يُحلل صور ملوك البطالمة في مصر
- -المعرفة- في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد
- روزي جدي: العربية هي الثانية في بلادنا لأننا بالهامش العربي ...
- إيران تكشف عن ملصق الدورة الـ43 لمهرجان فجر السينمائي
- هوس الاغتراب الداخلي
- عُشَّاقٌ بَيْنَ نَهْرٍ. . . وَبَحْر
- مظهر نزار: لوحات بألوان صنعاء تروي حكايات التراث والثقافة با ...
- في حضرةِ الألم
- وزير الداخلية الفرنسي يقدّم شكوى ضدّ ممثل كوميدي لتشببيه الش ...
- -بائع الكتب في غزة-.. رواية جديدة تصدر في غزة


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الكشك الأخير