أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - بين السماء والأرض















المزيد.....

بين السماء والأرض


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


رحلة رجلٍ عاد بزوجته في تابوت

قصة قصيرة

المقدمة
في هذه القصة، نرافق رجلًا في رحلة لا تشبه أي رحلة.
طائرةٌ تُحلّق بين السماء والأرض،
وجثمان زوجته يرقد في عنبر الشحن أسفل قدميه،
بينما ذاكرته تتقافز بين اللحظة الحاضرة
ومحطات العمر الذي عاشه معها:
اللقاء الأول،
الحب،
الزواج،
الأولاد،
ثم المرض…
فالوداع الأخير.
هذه ليست قصة عن الموت فقط،
بل حكاية عن الحب الذي يظل واقفًا حتى حين يرحل صاحبه.
سردٌ عاطفي، إنساني، هادئ وموجع،
يمزج بين المشاهد السينمائية والذكريات المتقطعة،
ويقدّم صورة صادقة لرجلٍ يعود وحيدًا…
إلا من قلبٍ لم يدفنه مع زوجته.

القصة
كنتُ جالسًا في الطائرة، محلقًا بين السماء والأرض…
جسدٌ مربوط بحزام المقعد، لكن روحي غير مربوطة بأي شيء.
تحوم…
تنزل…
وتصعد…
كأنها تبحث عن مكان تلتصق به ولا تجده.
أسفل قدميّ، في عنبر الشحن،
يرقد التابوت الرمادي…
التابوت الذي يحمل امرأة عشت معها خمسة وعشرين عامًا،
وأحببتها كما لم أحبّ أحدًا،
وفقدتُها كما لم أفقد شيئًا في حياتي.
كانت الطائرة تهتزُّ قليلًا،
ولا أعرف إن كانت الهزّة من المطبات الجوية،
أم من قلبي الذي لا يعرف أين يستقرّ.
أغمضتُ عينيّ،
فانفتحت بوابة الذاكرة…

عمّان… اللحظة التي توقفت فيها الحياة

كنتُ واقفًا قرب سريرها في المستشفى.
وجهها شاحب،
أنفاسها ثقيلة،
وصوت جهاز الأوكسجين يهبط ويعلو مثل قلبٍ يحتضر.
مسحتُ على يدها التي أصبحت خفيفة كريشة،
وقلت لها:
«أمل… اسمعيني… أنا يمّچ.»
فتحت عينيها بصعوبة،
نظرت إليّ نظرة واحدة فقط…
نظرة جمعت الوداع والخوف والرجاء.
ثم جاء النفس الأخير…
خرج مثل حشرجةٍ صغيرة،
واختفى.
توقف قلبها…
ووقف العالم معه.

النقطة التي بدأ منها كل شيء.

أفتح عينيّ على واقع الطائرة،
فتأخذني الذاكرة إلى يومٍ قديم،
يوم دخلتُ دائرتي لأول مرة.
كانت جالسة خلف مكتبها…
قاسية،
صلبة،
لا تبتسم،
ولا ترفع رأسها إلا بقدر الضرورة.
ناولتُها أوراق التعيين،
فقالت دون أن تنظر إليّ:
«استلم الصادر والوارد.»
خرجتُ من مكتبها وأنا أقول لنفسي:
"هذه المرأة لا تُطاق."
لم أكن أعلم أن هذه المرأة ستصبح زوجتي…
وحياتي…
ونهايتي.

ليلة الدراسة

في يومٍ من أيام العمل، حدثت بينها وبين معاونها مشادة عنيفة بشأن دراسة مُستعجلة للمدير العام.
دخلتُ مكتبها،
وسحبتُ منها الملف،
وقلت بهدوء:
«باچر الصبح تكون الدراسة على مكتبچ.»
سَهِرتُ الليل كله،
كتبتُ الدراسة قبل الفجر،
وقدّمتها لها.
لم تقل كلمة شكر واحدة…
لكن شيئًا في عينيها تغيّر.
تغيّر دون أن تعترف به.

البصرة… أول شرخ في صلابة القلب

سافرنا معًا للبصرة لمهمة عمل.
وفي الطريق، في السيارة،
رأيت امرأة متعبة…
لا رئيسة صارمة.
اعترفت لي تلك الليلة:
«أحيانًا أتمنّى أكون إنسانة عادية…»
كانت هذه أول مرة أراها بلا درع.
أول مرة يذوب فيها الجليد قليلًا فوق قلبها.

الموصل… حين بدأتِ تسألينني عن نفسي

في رحلتنا إلى الموصل،
سألتني فجأة:
«كم عمرك؟
متزوج؟
من أي عائلة؟»
أسئلة صغيرة…
لكنها كانت بداية الطريق.
كانت تقترب…
وأنا أقترب معها دون أن أفهم لماذا.

ليلة العشاء… ولادة الاعتراف

بعد سنة،
دعتني إلى العشاء.
جلستْ أمامي كأنها امرأة أخرى…
أكثر هدوءًا،
أقل خوفًا.
قالت لي تلك الليلة:
«أريد الليلة أتكلّم كإنسانة… مو كرئيسة.»
وكانت تلك اللحظة بداية الحب،
حتى لو لم نقل الكلمة بصوتٍ عالٍ.
وبعد أسابيع…
قالت بهدوء:
«شنو رأيك… نعلن خطوبتنا؟»
وأعلناها.
وبعدها بثلاثة أشهر…
تزوجنا.
خمسة وعشرون عامًا… وأربعة جدران تمتلئ بالدفء
عشنا خمسة وعشرين عامًا بلا مشكلة تُذكر.
هي كانت قلب البيت،
وعقله،
وروحه.
أنجبنا ثلاثة أولاد وبنتين…
وكانت تقول لي دائمًا:
«خليهم خمسة… حتى يصير البيت عامر.»
كانت تلمس حياتي كلها…
تصلح حزني،
وتخفف همّي،
وترتب فوضاي بصمت.
كنت أعود إلى البيت منهكًا…
لكن وجودها يجعل كل شيء محتملًا.

حين جاء المرض…

بدأت القصة بألمٍ في بطنها.
أخذتها للطبيبة.
ثم الفحوصات…
ثم الجملة التي لم يتهيأ لها قلبي:
«زوجتك مصابة باللوكيميا.»
سافرنا إلى أربيل…
ثم إلى عمّان…
كانت تقوى يومًا،
وتنهار يومًا،
لكنها لم تشكُ.
كانت تقول بصوت ثابت:
«الله كبير.»
وفي المرة الأخيرة…
كانت الكبيرة التي ودّعتها.

العودة إلى بغداد بجثمانها

هبطت الطائرة…
ونزل الركاب.
وبقيتُ أنا…
أجمع أنفاسي قبل أن أذهب لاستلام نعشها.
في عنبر الشحن،
وضعت يدي على التابوت وقلت:
«رجعنا يا أمل… بس مو مثل ما تمنّيت.»
وحملناه إلى السيارة…
ثم إلى البيت…
ثم إلى المقبرة.

القبر… اليقين الأخير

وقفتُ أمام قبرها
وشعرت أن الأرض تُسحب من تحت قدميّ.
قلت لها:
«صباح الخير يا أمل…
أول صباح أجيچ وما تجاوبي.»
ثم سكتُّ طويلًا…
وهي صامتة أكثر.
أهيل التراب فوق التابوت…
وانتهى فصلٌ كامل من عمري.

الليل الأول… والبيت الخالي

عدتُ إلى البيت…
فتحت الباب…
لا رائحة عطرها،
ولا صوتها،
ولا ضحكتها.
جلستُ على السرير،
لمستُ الوسادة التي كانت تنام عليها…
كانت باردة.
باردة كالقبر.
رفعتُ صورتها من الطاولة،
مسحتُ وجهها بإصبعي،
وتمنّيت لو أن الصورة تتنفس.
لكنها لم تتنفس.

الختام

في تلك الليلة…
عرفت أن الإنسان يموت مرة،
لكن الذي يحبّه…
يموت ألف مرة.
ومنذ ذلك اليوم،
كلما رفعت رأسي نحو السماء،
أقول لها بصوتٍ لا يسمعه أحد سواها:
«كنتِ عمري كله يا أمل…
ولم يتبقَّ لي بعدك إلا الذكرى.»



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل
- جبار البنّاي… آخر حراس الطين
- عدسة مكسورة
- الكشك الأخير
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب
- ظلّ تحت الجسر
- سارة
- يا راحلتي — نورٌ لا ينطفئ


المزيد.....




- -كنت أكره أنني أبدو آسيوية-: نجمة فيلم -كيه بوب ديمون هانترز ...
- مصر.. وزير الثقافة يوضح التطورات الصحية للموسيقار عمر خيرت
- مهرجان إدفا 2025.. السينما الوثائقية وتشريح الاحتجاج زمن الح ...
- بيروت: سفارة دولة فلسطين تستضيف عرض الفيلم الوثائقي
- أنتوني هوبكنز.. السير يروى سيرته السينمائية
- خيول ومقاتلات وموسيقى.. استقبال مهيب لولي العهد السعودي في ا ...
- لا رسوم على خدمات الترجمة في الرعاية الصحية في بليكينغه
- تداول فيديو لتوم كروز وهو يرقص مع ممثلة قبل فوزهما بجوائز ال ...
- هل هززتَ النَّخلة؟
- ‎-المجادِلة- يفوز بجائزة ريبا للعمارة في الشرق الأوسط 2025


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - بين السماء والأرض