أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد














المزيد.....

حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8538 - 2025 / 11 / 26 - 12:36
المحور: الادب والفن
    


على تخوم بغداد، حيث تنحني خضرة الريف أمام هدير المدينة، كانت مزرعة الحمّاد تمتدُّ بهدوءٍ كأنها صفحة من كتابٍ قديم، كتبتْه يدُ الزمن بحروفٍ من نخيلٍ وماء. السواقي تنساب كأنها أنفاس الأرض، والنسيم يمرّ على النخلات فيبعث فيهنّ حياة لا تنطفئ. في هذه البيئة الهادئة ولدت ليلى الحمّاد؛ فتاة مدللة، رقيقة الطبع، تربّت بين أذرع الدلال وحسن الرعاية، حتى ظنّت أن الحياة لا تُرى إلا من نافذة قلبها.
كان علي محروس يمرّ كل صباحٍ أمام بيتهم، محاطًا بذلك السكون الذي يليق بأبناء الريف الذين يحفظون حكايات الأرض في ملامحهم. في قلب ليلى شيءٌ كان يميل إليه بصمت، كالندى حين يتشبث بورقةٍ يظنّ الناس أنها جافة. كانت تحبه دون أن تعترف، وتنتظر طلته كأنها تنتظر فصلاً من فصول الطمأنينة. لكنه أحبّ قريبته سعاد، تلك الفتاة التي يشبه حضورها نسمة تمرّ على بستانٍ فتعده بالإزهار. وحين أعلنت العائلتان خطبتهما، شعرت ليلى أن قلبها تلقّى طعنة لا تُرى، لكن أثرها بقي يخفق في أعماقها.
ولم تلبث أن هبّت رياح الطائفية، فارتجفت القرى، وضاقت الطرقات، واشتدّت الوحشة على أطراف بغداد. جفت منابع الأمان، وعمّ الخراب حتّى مست مزرعة الحمّاد نفسها. في تلك الأيام خرجت ليلى من شرنقة نعومتها، وأصبحت امرأة تقاوم الجوع والخوف، وتواجه السوق وحدها، وتنهض بالبيت كما تنهض الأم العجوز ببقايا أولادها.
في الأسواق التقت برائد العلوان؛ رجل طويل القامة، يحمل على كتفيه آثار زمنٍ مضطرب، وتبدو في عينيه حكمة تُولد من رماد التجارب. كان مروره الأول عابرًا، لكن حضوره بقي ثابتًا كأن بينه وبين ذلك المكان سرًا قديمًا. رأى ليلى وهي تفاوض التجار بشجاعة، لكنها تحاول أن تخفي خلف صلابتها خوفًا صغيرًا لا يراه إلا من مرّ بوجعٍ يشبهه.
صار يزور المزرعة بين حينٍ وآخر، وقلبه يقترب منها خطوة بعد خطوة. وفي الوقت نفسه كان يبتعد داخل نفسه مسافةً مساوية، كأن اقترابه منها يعيد إليه رائحة جرحٍ لم يندمل. لم تتساءل ليلى يومها عن سبب حذره، لكنه كان يعرف أن قلبه ما زال يختزن قصة لا يريد للريح أن تكشفها.
كان يحمل جرحًا قديمًا، قصة امرأة دخلت حياته في زمنٍ مضطرب، أحبّها بكل ما في قلبه من صدق، لكنها رحلت فجأة حين اختطفها الخوف من الطرقات الموحشة، فلم تعد إلى بيت أهلها يوم خرجت لزيارة أختها. بحث عنها طويلًا، وسأل كل من يعرف ومن لا يعرف، ولكن لم يعثر إلا على وشاحها عند طرف الطريق، كأنه بقايا حلم انطفأ في لحظة. تركته تلك الحادثة معلّقًا بين حبٍّ لم يكتمل، وحزنٍ لم يجفّ بعد. لم يجرؤ أن يبوح بالقصة لليلى، خوفًا من أن يوقظ في قلبه حزنًا نام، لكنه قال لها ذات مساء، وهو ينظر إلى الأرض كمن يخشى أن تفضحه عيناه:
"القلب يا ليلى، إن انكسر، يظل فيه خطّ، وإن عاد يلتحم."
وفي ليلة شتوية خانقة، هوجمت قافلة كانت تقلّ سعاد وبعض أقاربها، وسقطت سعاد برصاصة عمياء كالريح السوداء التي لا تعرف اسمًا ولا وجهًا. يومها انطفأ علي محروس كما تنطفئ شمعة في مهب الريح. جلس عند باب البيت منكسرًا، والدمع يبلل يديه، كأن جزءًا من روحه تُرك في الطريق حيث سقطت سعاد. رأته ليلى من بعيد، فشعرت أن الفقد أخذ من قلبها نصيبًا أيضًا، وأن حبها القديم له خرج من صدرها هادئًا كما يدخل النسيم من نافذة مُغلقة.
وبينما كان علي يغرق في حزنه العميق، كانت ليلى تقترب أكثر من رائد، لا هروبًا من الماضي، بل بحثًا عن معنى يسند القلب في زمنٍ أجهض الأحلام. ومع مرور الوقت، صار حضور رائد في حياتها يضيء مسافات لم تكن تعرف أنها مظلمة.
لكن الخوف كان يقف بينهما مثل ظلّ لا يزول. رائد يخاف من قلبه الذي جُرح قديمًا، ويخاف من أن يكون حبّ ليلى له مجرد محاولة لملء فراغ صنعته الخسارات. وليلى تخشى أن تنكسر مرة أخرى، وأن تفقد الرجل الذي شعرت معه بالأمان الذي غاب عنها منذ زمن.
وفي ليلة صافية، تتدلّى فيها النجوم على استحياء، وقفت ليلى أمام رائد، ونطق قلبها بما لم تعد تستطيع إخفاءه:
"ما عدت أعرف طريقي بلا وجودك… ابقَ، فإن قلبي لم يعد يحتمل وحدته."
اقترب منها ببطء، ووضع يده على كتفها، وكانت تلك اللمسة تحمل ألف شعور مختلط: حنانٌ قديم، وحزنٌ بعيد، ووداعٌ يتهيأ للرحيل. قال بصوتٍ مُتعب:
"ليلى… القلب الذي أردتِه لكِ أتعبته الخيبات. لا قدرة لي أن أحمل حكاية فيها كل هذا الألم… ولا أريد أن أكون ظلًّا تبحثين فيه عن ماضيك."
ثم ابتعد ببطء، كأنه يجرّ وراءه تاريخًا أثقل من أن يُحمل، وتركها واقفة على العتبة، تمسك الهواء بين أصابعها، وكأنها تحاول الإمساك بما لم يعد موجودًا.
وقفت ليلى طويلًا بعد رحيله، تستمع لوقع خطواته يختفي شيئًا فشيئًا، ثم رفعت رأسها نحو السماء التي بدأ الفجر يفتح ستارها، وقالت بصوتٍ يشبه وعدًا داخليًا لا يموت:
"الغد وِعاءٌ آخر، تُسكب فيه أحلام جديدة."
عادت إلى مزرعة الحمّاد، إلى الأرض التي تُربّي الجرح بالصبر، وتمنح الخائف ملجأ يشبه حضن أم. هناك، بين النخيل والرائحة الخفيفة لطين دجلة، شعرت بأن الحياة — رغم الفقد — ما تزال تُخبّئ في قلبها متسعًا للحنين، ولأملٍ يتجدد كلما عبرت الريح من فوق الحقول.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل
- جبار البنّاي… آخر حراس الطين
- عدسة مكسورة
- الكشك الأخير
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم


المزيد.....




- لوحة ذاتية للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو تُباع بأكثر من 50 م ...
- مدير المسرح الفلسطيني بالقدس: الاحتلال يحاربنا بشتى الطرق
- مدير المسرح الفلسطيني بالقدس: الاحتلال يحاربنا بشتى الطرق
- الذكرى الـ11 لرحيل الفنانة اللبنانية صباح..قصص من وراء الكوا ...
- مهرجان المقالح الشعري يضيء -غبش- صنعاء غدا
- الكويت تجذب السياحة الثقافية وتسعى لإدراج جزيرة فيلكا تراثا ...
- قناطر: لا أحبُّ الغناء العراقي .. لكن
- القضاء المصري يحكم بعرض فيلم -الملحد-
- النسيان على الشاشة.. كيف صوّرت السينما مرض ألزهايمر؟
- وفاة فنان عراقي في أستراليا


المزيد.....

- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد