أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون














المزيد.....

​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 03:23
المحور: الادب والفن
    


​كانت ليلة من ليالي بغداد، ثقيلة ورطبة، كأنها تحمل وزن مئة عام من الحزن. الزقاق الفرعي المائل نحو منطقة السعدون كان غارقًا في وحل من الظلال المكسورة، وميض المصابيح القديمة يكاد لا يقطع هذا السواد. في تمام الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة، اهتزت طبقات الليل بصوتين فقط؛ طلقتان ناريتان، قصيرتان كصفير قطار سريع، أعقبهما صمت مفاجئ وسقوط جسد رجل أربعيني، انطفأ كجمرة سقطت في الماء.
​وصل المحقق جواد الربيعي، رجل تجاوز الخمسين، يحمل خريطة بغداد في تجاعيد وجهه. لم يكن الأمر جريمة؛ كان إعداماً. رصاصة في القلب، وأخرى للتأكيد في الكتف، من مسافة قريبة جداً. لم يجد جواد سلاحاً، لا آثار مقاومة، ولا حتى بقعة دم زائدة. كانت الجريمة "نظيفة" بطريقة استفزت حسه المهني، كأنها نُفذت بيد تعرف جيداً ما تفعله، وتثق في قدرة الظلام على ابتلاع كل الأدلة.
​بدأت خيوط التشابك تتكشف ببطء. سالم أبو الورّاق، غريم الضحية، كان شاهداً ضعيفاً. نزار عامل الورشة، كان خائفاً جداً. لكن الاسم الثالث، سهى صاحبة محل التجميل، حمل ثقلاً مختلفاً. كانت الأيام السابقة للجريمة قد سجلت لقاءات متوترة بينها وبين الضحية.
​حين دخلت سهى إلى غرفة التحقيق، لم تكن امرأة خائفة من اتهام؛ كانت كائنة أنهكها الصراع. وضعت حقيبة يد سوداء جلدية على الأرض بجوارها، بثبات بدا مصطنعاً. نظرت إلى جواد بعينين عميقتين، وقالت بهمس خافت، كأنه يخرج من بئر سحيقة:
​"انتهى كل شيء يا محقق. انتهى."
​لم تكن كلمة اعتراف، بل كانت كلمة خلاص. علق جواد على تلك الجملة، متجاهلاً دموع سهى البطيئة. ثم لاحظ جواد تفصيلاً دقيقاً: في مسرح الجريمة، كان هناك أثر مسحوب على الرصيف، مكان صغير يشبه حقيبة يد وُضعت للحظة ثم سُحبت بسرعة. لكن سهى كانت جالسة الآن، وحقيبتها بجانبها.
​في تلك الأثناء، دفع الضابط المناوب باسم "فراس" إلى الواجهة. شاب انهار واعترف تحت ضغط التحقيق بخلاف مالي أدى للقتل. كان اعترافاً يائساً، ولكنه بدا للقيادة طوق نجاة لإنهاء قضية بدأت تتشعب.
​لكن حدس جواد لم يهدأ. حين وصل تقرير مستشفى الراهبات، تأكد حدسه: فراس كان طريح الفراش في جناح العناية ليلة الجريمة.
​هنا، قرر جواد أن يعود إلى تفصيل اعتراف فراس الكاذب. تحت الإلحاح، قال فراس إنه شعر وكأن القاتل لم يكترث لجثة الضحية بعد إطلاق النار، "لقد مشى بعيداً فوراً دون أن يتأكد." هذه الملاحظة، رغم كذب الاعتراف الكلي، أشارت إلى أن القاتل لم يكن عابراً، بل كان لديه هدف محدد تحقق بالطلقة الأولى، وليس لديه ما يخشاه من بقاء الضحية حياً لثوانٍ إضافية.
​واجه جواد سهى مجدداً. بتقرير المخبرين عن الرجل ذي النظارات السوداء، ولقاءاتها السرية، ومعاينة مسرح الجريمة حيث اختفت حقيبة يدوية صغيرة، وأخيراً، بالتهديدات التي كان طليقها (الضحية) يبتزها بها لسنوات. سقطت سهى في بكاء هستيري، واعترفت بأن الضحية كان يهددها بنشر وثائق شخصية مدمرة.
​"استأجرت رجلاً لينهي العذاب. أعطيته كل مدخراتي ليوقف الابتزاز ويسترجع تلك الحقيبة."
​تم القبض على الرجل المستأجَر، وكان اسمه قيس. كان قيس مرعوباً، وشاحب الوجه. أقرّ باستلام المال والاتفاق، لكنه أقسم أنه لم يقتل. روى أنه تتبع الضحية، وفي اللحظة التي كان يستعد فيها لتنفيذ مهمته، ظهر "ظل" طويل القامة، سريع الحركة، من بين الظلال.
​"دوّت الطلقتان أمامي، ولم أرفع سلاحي. الشبح لم يطل النظر للجثة، بل انحنى بسرعة هائلة، التقط شيئاً صغيراً جداً من جواره، واختفى. وركضت أنا خوفاً من أن يقتلني أيضاً."
​سأله جواد عن الحقيبة، فقال قيس إنه لم يرَ حقيبة، بل فقط وثيقة ملفوفة أو دليلاً صغيراً كان الضحية يحمله.
​ثم جاءت الكلمة القاصمة.
​"سمعته يهمس، بصوت هادئ، كأنما يتنفس: خلص… كفى. "
​رجفة أصابت جواد. الكلمة ذاتها، بنفس نبرة الخلاص التي نطقت بها سهى في أول لقاء.
​أدرك جواد أنهم لم يكونوا يبحثون عن قاتل، بل عن مُنقذ أو مُمثل للعدالة الموازية. إن "الظل" لم يقتل من أجل المال؛ بل قتل ليحقق أمنية سهى الخفية، ولينهي الابتزاز، واستعاد الدليل الذي كان يبتزها به.
​عاد جواد إلى الزقاق وحيداً في ساعة متأخرة. رفع رأسه نحو سطح البناية القريبة، حيث أشار تقرير المخبرين إلى "ظل" شوهد قبل دقائق من الجريمة.
​كان الظلّ واقفاً. طويلاً، ساكناً، يمتص الظلمة من حوله.
​في اللحظة التي تحرك فيها جواد للاقتراب، أحسّ بثقل السنوات. استشعر أن هذا الظل يمثل حكماً صدر خارج أسوار المحكمة، حكماً ينهي عذاب امرأة عاجزة. هذا القاتل، أياً كان، فعل ما عجز عنه القانون.
​تراجع جواد خطوة. أغلق دفتره بهدوء.
​قال بصوت لا يسمعه غيره: "العدالة وُجدت اليوم، لكنها لن تُكتب في ملفاتي."
​ومشى جواد مبتعداً، تاركاً الزقاق لليله البغدادي. لم يكتب في تقريره النهائي سوى اسم قيس، مع إشارة إلى عدم كفاية الأدلة، وأُغلق الملف رسمياً.
​لكن في قلب جواد، بقي اسم واحد يلمع في الظلام، اسم لم يقله لأحد، ولم يكتبه في السجلات. كان اسماً يخص العدالة الناقصة… ولن يكتب في سجلاتها.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل
- جبار البنّاي… آخر حراس الطين
- عدسة مكسورة
- الكشك الأخير
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح


المزيد.....




- وفاة أيقونة السينما الهندية دارميندرا عن 89 عاماً
- تحولات السينما العراقية في الجمعية العراقية لدعم الثقافة
- وفاة جيمي كليف أسطورة موسيقى -الريغي- عن عمر ناهز 81 عامًا
- فيلم -الملحد- يعرض في دور السينما المصرية بقرار قضائي مصري و ...
- -شرير هوليود-.. وفاة الممثل الألماني الشهير أودو كير
- محكمة الجنايات تفرج عن الممثلة الكويتية إلهام الفضالة دون ضم ...
- وفاة نجم موسيقى الريغي الجامايكي جيمي كليف عن 81 عاما
- نظرة داخل المتحف المصري الكبير
- -عالم سعيد العدوي-: كتاب موسوعي عن أبرز فناني الحداثة في مصر ...
- وفاة نجم موسيقى الريغي الجامايكي جيمي كليف عن عمر 81 سنة


المزيد.....

- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون