محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 06:50
المحور:
القضية الفلسطينية
لم يكن الفجر قد استوى بعد، ولم تكن الطرقات قد استفاقت من نعاسها الثقيل، حين وجدتها بين يديّ… خفيفة كنسيمٍ منهك، ساكنة كغصنٍ انكسر بلا صوت. حملتها وركضت، ركضتُ مسافةً بدت أطول من العمر كله، كأنني أحاول هزيمة القدر بخطواتٍ متعثّرة.
كان الغبار يلتصق بثوبها، كأن الأرض حاولت أن تستبق أثرها الأخير، وكأنها تخاف مثلنا أن يفلت زهرة البيلسان من بين أصابع العالم.
وصلتُ بها إلى غرفة الطوارئ في المستشفى.
لم أكن أعلم، في اللحظة الأولى، أن هذه التي أحملها هي زهرة البيلسان التي كانت تزرع الضحكة على وجوهنا كأنها عادة يومية لا تحتاج جهداً. كان المشهد أكبر من الإدراك، أثقل من التصديق.
الوجوه حولي تجمّدت، والعيون تلاحق التفاصيل بذهولٍ لا يعرف لغة. بدا المكان كأنه يعيش انقطاعاً عن الزمن، وكأن عقارب الساعة تثاقلَت عمداً، احتراما لحضور الفاجعة.
بيلسان… التي كانت تخشى التكنولوجيا، وتنفر من ضجيجها، ولا تحمل في حقيبتها سوى دفتر صغير وقلم،
كيف لها فجأة أن تستخدم وسيلة اتصال حديثة؟
كيف أرسلت تلك الإشارة التي قادتنا إليها؟
هل كانت محاولة استغاثة أخيرة؟ أم أنها كانت، بطريقة لا نفهمها، تُرتّب رحيلها بصمتٍ مكتمل؟
أسئلة كثيرة بقيت معلّقة في الهواء، ترتطم بجدران الطوارئ، ولا تجد لها جواباً.
هل قرّرت بيلسان الرحيل من تلقاء نفسها؟
هل شعرت بثقل الأيام فجأة، فآثرت المغادرة تحت جنح الظلام؟
أم أن الرحيل اختارها، ومرّ بها كما يمرّ الخريف على الأوراق الخضراء… بلا إذن، وبلا مقدمات؟
كان الغياب أكبر من قدرتنا على الكتابة، وأكبر من كل الكلمات التي حاولنا ترويضها كي تشرح ما حدث.
بيلسان لم تُودّع أحداً.
تركت خلفها فراغاً يتسع لكل الحزن، وصمتاً عميقاً نحتاج وقتاً طويلاً كي نفهم لغته.
رحلت زهرة البيلسان،
ورحلت معها خفّة دمها، ونقاء قلبها، وابتسامة كانت كفيلة بأن تُضيء الدنيا كلها.
أما نحن فبقينا نحمل سؤالاً واحداً لا يخفت:
كيف يرحل الذين نحبّهم هكذا… دون وداع، ودون أن يتركوا لنا حتى فرصة أن نقول:
ابقَي… حتى نرحل معاً، في صمتٍ واحدٍ وعالمٍ بلا فواصل.
محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟