أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض قاسم حسن العلي - الإشراقية: فلسفة النور بين العقل والذوق وميراث الحكمة الشرقية















المزيد.....



الإشراقية: فلسفة النور بين العقل والذوق وميراث الحكمة الشرقية


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 15:57
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تقوم فلسفة الإشراق على مفهوم مركزي واحد: النور.
في اللغة، الإشراق هو الإضاءة والانكشاف، وهو لحظة عبور الظلّ إلى العيان. وفي الاصطلاح الفلسفي-الصوفي، يصبح الإشراق حضورًا داخليًا لضياءٍ معنوي، تتبدّى فيه الحقيقة للعارف بوصفها رؤية من الداخل، وكشفًا يُسكب في القلب كما تُسكب الشمس على صفٍّ من الماء الصافي.
ولهذا ارتبطت الإشراقية بتجربة المعرفة الحدسية والكشف الصوفي؛ إذ يرى بعض المتصوفة أنها "ظهور الأنوار الإلهية في القلب"، فيما عرّفها فلاسفة آخرون بأنها "معرفة بالله تنبعث من نورٍ غير محسوس يفيض على الذهن".
هكذا يلتقي في الإشراق العقل والذوق، البرهان والحضور، الفلسفة والتصوّف، في منظومة معرفية تبحث عن الحقيقة عبر النور لا عبر المفاهيم وحدها.
في هذا الأفق ظهر شهاب الدين السهروردي المقتول (1155–1191م)، مؤسس مدرسة الحكمة الإشراقية، الذي مزج الفلسفة اليونانية، والحكمة الفارسية القديمة، والسينوية، والتجربة الصوفية، في بناء ميتافيزيقي يعدّ من أكثر المشاريع الفكرية أصالة في التراث الإسلامي.

● جذور الشرقيات القديمة

في جذور "الشرقيات" التي أعاد السهروردي تشكيلها، لا نجد ابتكارًا منفصلًا عن الذاكرة الميتافيزيقية للشرق القديم، أنما نرى امتدادًا لمجرى طويل من التصورات التي جعلت النور أساسًا للوجود، ومفتاحًا لفهم العلاقة بين الإنسان والعالم. فالسهروردي، في مشروعه الإشراقي، يقدّم مفهوم النور بوصفه مرآةً تتلألأ فيها تراثاتٌ روحية وفلسفية ضاربة الجذور في حضارات ما قبل الإسلام.
ففي الزرادشتية، على سبيل المثال، يحتل النور موقعًا محوريًا في البنية الكونية والدينية؛ إذ يُمثّل تجلّي أهورا مزدا، الإله الأعلى، رمز الحقيقة والخير والخلق. هذا النور قوة كونية تتصارع دومًا مع الظلمة، التي تمثل عالم الشر والجهل. وهذا التقابل الأنطولوجي بين النور والظلام أسّس نوعًا من الفهم الازدواجي للعالم، ظلّ فاعلًا في المخيال الفلسفي والروحي للمنطقة على مدى قرون.
أما الحكمة الإيرانية القديمة، فقد حملت في طياتها نزعة ثنائية دقيقة، تجعل من النور مبدأ الهداية والمعرفة، ومن الظلمة مبدأ الوهم والاضطراب. هذه الرؤية التي تتقاطع في بعض جوانبها مع التعاليم الزرادشتية، كانت أشبه بخزان رمزي عميق عاد إليه السهروردي ليستلهم منه جوهر "حكمة المشارقة"، تلك الحكمة التي يرى أنها كانت تنتقل عبر الحكماء القدماء، وأنها لم تُدفن رغم التحولات الكبرى.
ويأتي حضور الإشارات المانوية ليمنح هذه الثنائية بعدًا جديدًا، فماني، في مذهبه الذي انتشر على تخوم الحضارات الفارسية والهيلينية، جعل النور جوهر الروح وموطنها الأصلي، في حين جعل الظلمة مادة الجسد وقيد الوجود الأرضي. هذه الثنائية الروحية الوجودية تركت أثرًا لافتًا في الفكر المشرقي، وقد التقط السهروردي بعض خيوطها ليعيد نسجها في رؤية إشراقية ترى أنّ طريق الخلاص يبدأ من تحرير الوعي من عتمته.
ولم تكن الفلسفات الهندية بعيدة عن هذا المسار. فالتعاليم اليوغية والڤيدانية، خصوصًا، جعلت من "نور الوعي" حقيقةً أولى، وعدّته شرطًا لظهور العالم كلّه. نور الذات (Ātman) في هذه الفلسفات حقيقة معرفية كبرى تؤدي إلى التحرر، كما أن كشف هذا النور في الداخل هو سبيل النجاة من جهل الوجود.
السهروردي رأى في هذه التراثات المتناثرة — الفارسية والمانوية والهندية — تنويعات على حكمة واحدة أصيلة، ضاعت ملامحها عبر الزمن، لكنها بقيت ممكنة الاستعادة. ولذلك صاغ ما أسماه "الحكمة الشرقية" أو "حكمة الإشراق"، التي أراد بها إحياء جوهر تلك الرؤية القديمة التي تجعل من النور مبدأ الوجود وعلّة المعرفة. وقد وضع هذه الحكمة في مواجهة "الحكمة الغربية" المتمثلة بالفلسفة المشائية ذات الجذر الأرسطي، التي رأى أنها تعتمد على البرهان العقلي وحده وتقصي التجربة الروحية.
هكذا ظهر الإشراق عند السهروردي مشروعًا لإعادة وصل القطيعة بين العقل والحدس، بين الفلسفة والباطن، وبين الميراث الشرقي الماورائي والميراث اليوناني العقلاني. فقد أراد أن يعيد إلى "المشرق" — بوصفه رمزًا للنور والانبثاق — مكانته في مسار الحكمة، باعتباره الأصل الذي صدرت عنه المعارف القديمة، والذي يمكن استعادة روحه ليُضيء عوالم الوجود والوعي معًا.

● أثر الأفلاطونية المحدثة

في الامتداد الفلسفي الذي يصل السهروردي بالأفلاطونية المحدثة نرى انخراطًا عميقًا في البنية الميتافيزيقية التي صاغها فلاسفة الإسكندرية وما بعدهم، تلك البنية التي جعلت الوجود سلسلةً من المراتب، يتقدّم فيها النور على الظلمة، والواحد على الكثرة، والجوهر على الصورة المتغيرة.
فمن الأفلاطونية المحدثة ورث السهروردي، قبل كل شيء، التسلسل الهرمي للوجود؛ ذلك النظام الذي يبدأ من "الواحد" أو "مبدأ الخير" في أعلاه، ثم يفيض عنه العقل، فالنفس، ثم العوالم السفلية على درجات متناقصة من الصفاء. هذا البناء الوجودي أصبح أساسًا لفهمه الإشراقي للعالم: عالم يُرى فيه الوجود بوصفه مدارج نورانية، يتكاثف فيها النور وينطفئ، يرتفع فيها الصفاء أو يتلبّد، بحسب قربها أو بعدها عن المبدأ الأعلى.
ومن هنا جاء تأكيده على صعود النفس، وهو مفهوم محوري في الأفلاطونية المحدثة، لكنه عند السهروردي تحوّل إلى رحلة إشراقية تتجاوز البرهان العقلي نحو الكشف والذوق. فالنفس — في تصوره — كائن نوراني في جوهره، لكنها محاطة بقشور الظلمة، ومسارها الحقيقي هو التحرر من هذه الأغلفة لتعود إلى أصلها المشرق، تمامًا كما تسعى النفس الأفلاطونية للعودة إلى عالم العقل.
أما فكرة الفيض أو الانبعاث، فقد شكّلت حلقة وصل أخرى بينه وبين فلاسفة الأفلاطونية المحدثة. فالفيض، في بنيته الكونية، يعني صدور الأدنى عن الأعلى على نحو لا ينتقص من العلة شيئًا، كما يصدر الضوء عن الشمس، أو الشعاع عن مصدره. السهروردي لم يكتفِ باستعارة هذا المفهوم، لكنه أعاد تفسيره ضمن رؤياه الإشراقية: فالعوالم تتولّد عن أنوار متدرجة، كلّ واحد منها يحمل إشراقًا أقل من الذي فوقه، ويمنح إشراقًا أكثر مما تحته.
هكذا يصبح الكون عنده شبكةً متصلة من الأنوار المتناغمة، تتدفق من الأعلى إلى الأسفل، وتتسلّق النفس من خلالها رحلةً معكوسة نحو العلو. وفي هذا المشهد الكوني، يتداخل المفهوم الأفلاطوني مع التراثات الشرقية التي تبنّاها، ليتشكل بناء فريد: بناء يرى في النور مبدأ الوجود الأول، وفي التدرّج الوجودي سلمًا حقيقيًا للمعرفة والخلاص.
بهذه المزاوجة الدقيقة كان السهروردي يعيد صوغ الميتافيزيقا قديمة لتصبح قلب مشروعه الإشراقي، ويحوّل الفيض من نظرية مجردة إلى هندسة نورانية تسكن العالم والإنسان معًا.

● العلاقة المعقدة مع ابن سينا

في سنواته الأولى، كان السهروردي متمرسًا في الفلسفة المشّائية؛ قرأ شروحها، وتمرّن طويلًا على مفاهيمها البرهانية، وفكّك بتأنٍ أدلة الشفاء والنجاة لابن سينا، حتى أصبح ملمًّا بأدواتها الاستدلالية وقدرتها على بناء نسق عقلي محكم. ومع ذلك، فقد شعر بأن هذا البناء، على صلابته، يُضيء الذهن ولا يحرّك الروح، وأنه يشحذ آلة العقل لكنّه لا يفتح بابًا نحو المعنى الأعمق. كان يدرك أن البرهان قادر على الكشف، لكنه عاجز—في نظره—عن الإشعال: إشعال القلب، وتوليد تلك الومضة التي تجعل المعرفة حضورًا لا فكرة، ونورًا لا معادلة.
ومن هذه المفارقة، بدأ انتقاله الفلسفي. لم يكن انشقاقًا عن الشيخ الرئيس بقدر ما كان بحثًا عن بعد آخر ظلّ غائبًا في الفلسفة المشّائية. وهكذا تشكّل لديه مسار جديد يجمع بين ثلاثة محاور تتشابك كأنها خيوط في نسيج واحد:
١. قوة المنطق: أبقى السهروردي الأدوات البرهانية جزءًا لا ينفصل عن مشروعه. كان يرى أن العقل هو الأداة الأولى لترتيب المعرفة وتصفية الوهم، وأن الإشراق لا يتحقق إلا بعد تأسيس أرضية منضبطة تقوم على وضوح التصور وصحة الاستدلال.
٢. نور المعرفة الحدسية : لكن العقل وحده لا يكفي. فهناك معرفة تتجاوز حدود المفهوم والمنطقيات، معرفة تُقتنص عبر الحدس، حيث تضيء الحقيقة فجأة كما تنفتح نافذة على عالم كان موجودًا لكن محجوبًا. هذه المعرفة الحدسية امتداد للعقل في مستوى أعلى من الإدراك.

٣. الشهود وتجربة الحضور : وهو البعد الأكثر تميّزًا في فلسفته. فالسهروردي يؤمن بوجود مستوى من المعرفة لا يُنال بالبرهان ولا بالحدس وحده، لكن عبر الحضور المباشر للحقيقة في النفس. إنها لحظة يتوارى فيها الفصل بين العارف والمعروف، ويصبح العلم ذوقًا، والحقيقة شهودًا حيًا، لا فكرة في ذهن.

بهذا التكوين الثلاثي، تجاوز السهروردي المشائية دون أن ينقضها، وفتح أفقًا جديدًا للفلسفة؛ أفقًا لا يُختزل في العقل، ولا يكتفي بالذوق، لكنه يجمع بين حزم البرهان ونور الإلهام وتجربة الكشف الداخلي. وهكذا ولد الإشراق بوصفه طريقًا للمعرفة يقوم على مزاوجة العقل والقلب في عبور واحد نحو الحقيقة.

-------------

●الفيلسوف – الصوفي – الشهيد

كان حضور السهروردي الإنساني والفكري تركيبًا لا يتكرر بسهولة؛ فقد اجتمعت في شخصه صرامة الفيلسوف الذي يطلب الدليل، ورهافة العارف الذي يمتحن المعرفة بذوقه الباطني، وروح المصلح الذي يظن أنّ في الحكمة القديمة ما يستحق الإحياء، ثم مصير الشهيد الذي يدفع ثمن اختلافه. هذا التداخل بين العقل والحدس، بين الحجاج الصارم والتجربة الروحية، صاغ شخصية غير قابلة للاختزال، وترك أثره العميق في مشروعه الفلسفي بأكمله.
انعكست هذه الطبائع المتشابكة في نتاجه الواسع الذي تجاوز الخمسين مصنفًا بالعربية والفارسية، فكان كأنه يبني مكتبة كاملة لحكمته الإشراقية. يمكن اعتبار "حكمة الإشراق" قلب المشروع وأعلى قممه؛ ففيه بلور منظومته النورية، ورؤيته للوجود كتراتبية من الأنوار، وموقفه النقدي من المشائين. أما "المشارع والمطارحات" فتمثّل عتبة الدخول إلى طريقته، وتجمع بين الجدل الفلسفي وإشارات الذوق. وتأتي "التلويحات" لتكشف عن قدرة استثنائية على صوغ البيان المنطقي بلغة مشبعة بإيحاءات روحية، كأنها تمرين على تحويل البرهان إلى إشراق.
غير أنّ الجانب الأكثر خصوصية في إرثه يتجلّى في نصوصه الرمزية، وفي مقدمتها "الغربة الغربية"، وهو عمل يزاوج بين السرد الفلسفي والرؤيا الصوفية. يحمل النص كثافة إشاراته النورانية، ويتحرك بين مستويات متعددة من الوجود، كأنّه دعوة إلى عبور الحدود الفاصلة بين العالم المادي و"موطن الأنوار". في هذه الأعمال، يبدو السهروردي كمن يحاول أن يمنح الفلسفة قلبًا نابضًا، وأن يمنح العرفان عقلًا متماسكًا، وأن يجسر هوة القرون بين حكمة المشرق القديمة ونظريات العقل اليوناني.
كان السهروردي مشروعًا كاملاً لإنعاش تقاليد الحكمة عبر مزج العقل بالحدس، وإعادة تأويل الإرث الشرقي القديم ضمن بنية معرفية دقيقة؛ وهو ما جعله يحتل مكانة فريدة بين فلاسفة الإسلام، ويظل حضوره مقامًا من مقامات "الفكر الشاهد" الذي لا ينفصل فيه التأمل عن التجربة الحيّة.

● بنية الوجود: الهرم النوراني

في "حكمة الإشراق" يرسم السهروردي خريطة كونية شديدة الاتساق، تقوم على قلبٍ واحد: النور. ليس النور عنده مجازًا ولا استعارة، لكنه بنية الوجود نفسه، العنصر الأول الذي تتفرّع عنه كل مرتبة من مراتب الكينونة. ولأن النور—بحسب منطقه—ظاهر بذاته، مظهر لغيره، فقد جعله الأصل الذي يُستغنى به عن أي تعريف سابق، والمرجع الذي تُقاس به سائر الموجودات.
ينطلق السهروردي من القمة: "نور الأنوار"، وهو المبدأ الأول، أصل كل فيض وعلّة كل ظهور. لا يسبقه شيء، ولا يحدّه حدّ، لأنه نور محض لا ينال منه الظلام، ومتعالٍ عن العلاقة بالماهية والمقدار. هو الوجود في صفائه الأول.
ومن هذا المبدأ تتنزّل الأنوار القهرية، وهي العقول المفارقة والملائكة؛ قاهرة لأنها تؤثّر ولا تتأثّر، وتفيض ولا تستقبل من دون توسط. يشكّل هذا العالم العقلي الرفيع شبكة من الأنوار المتمايزة بالرتبة والشدة، تتفاعل وفق نظام دقيق يشبه موسيقى كونية تضيء بعضها بعضًا.
ثم تنحدر السلسلة إلى الأنوار النفسية: الأرواح.
هذه الأنوار أقلّ شدّة، مرتبطة بالعالم المادي عبر أدواتها وصورها، لكنها تظل مشدودة إلى موطنها النوراني. النفس البشرية عنده "نور أسير"، تعيش بين علويتها الأصلية وثقل الجسد، وتحاول باستمرار أن تستعيد حضورها الأول عبر المعرفة والشهود.
وعندما تنتهي درجات النور إلى أدنى مستوياتها، يظهر عالم "المواد الغسقية"—وهو توصيفه البليغ للأجسام المظلمة، الكثيفة، التي لا تملك نورًا ذاتيًا، انما تستعير إشراقها استعارة. فالمادة ظل النور، كثافة متراكمة لطبقات متدرجة من التلاشي النوراني.
بهذا البناء، يتحوّل العالم عند السهروردي إلى طيف واسع من الإضاءات، يتراوح بين الشدة المحضة لنور الأنوار، والتلاشي شبه الكامل للمادة. الكون عنده رحلة في درجات الضوء: كلما ازدادت الأنوار صفاءً اقتربت من المبدأ، وكلما تثاقلت تناقص نورها حتى صارت ظلاً، أي مادة.
إنّ هذه الرؤية تجعل الوجود حركة دائمة من الإشراق والفيض، وتمنح الكائن الإنساني مكانًا متفردًا: فهو الكائن الذي يمكنه أن يعبر السلم النوري صعودًا، ويتذوق حضورات تتجاوز العقل المفهومي إلى شهود يجعل المعرفة ضوءًا يُعايَن، لا فكرة تُعرّف.
قدم السهروردي ميتافيزيقا أنطولوجيا ضوئية تعيد تفسير الكون كله كمقامات متدرجة من النور.

●مبدأ الإشراق:

تستند الميتافيزيقا الإشراقية عند السهروردي إلى ركيزتين فلسفيتين واضحتين، مثّلتا الأساس الذي بُني عليه نسقه النوراني كلّه. هاتان الركيزتان أداتان تفسيريتان أراد بهما السهروردي أن يمنح العالم بنية منطقية، ومراتب متناسقة، ونظامًا كونيًا لا يترك فيه للصدفة موضعًا ولا للفوضى مدخلًا.

1: مبدأ العلّة الكافية: العالم كشبكة من الأسباب النورية حيث يرى السهروردي أنّ كل موجود في الكون—مهما دقّ أو عَظُم—لا يظهر من ذاته، ولا يمكن أن يكون قائمًا بلا علّة. لكن هذه العلّة هي علّة نورية: نور يفيض عن نور أعلى منه، فينشأ عنه أثر يتناسب مع درجته. فالموجودات ليست متولّدة من مادة سابقة أو صورة أرسطية، انما هي صادرة من فيض إشراقي يتدرّج من الأعلى إلى الأدنى.
حيث يتحوّل الكون إلى سلم من الإشراقات، كل مرتبة منه مشروطة بالتي فوقها. فالأنوار القهرية تستمد حضورها من نور الأنوار، والأنوار النفسية تستمد نورها من الأنوار العقلية، والكثافات المادية لا تظهر إلا لأن نورًا أعلى ألقى عليها ظلًّا فصار وجودها عَرَضًا من أعراض النقص النوري.
يؤدي هذا المبدأ وظيفتين مركزيتين:
يمنع الفراغ الأنطولوجي: لا شيء بلا سبب.
يضبط حركة الفيض: كل ظهور يتطلب نورًا أعلى يبرّره ويمنحه إمكان الوجود.

فيصبح الوجود شبكة سببية مضيئة، يكفي فيها أن نسأل عن "نور أعلى" حتى نكتشف مصدر كل شيء.

2: استحالة اللانهاية الفعلية: ضرورة وجود مبدأ واحد أول ، حيث ينتقل السهروردي من المبدأ الأول إلى ضرورة تمنع الانزلاق في متاهة لا نهائية من العلل. فهو يرفض—كأرسطو وكابن سينا من قبله—إمكان وجود سلسلة غير متناهية بالفعل من المؤثرات، لأن ذلك يعني أن الوجود مؤجّل دائمًا ولا يقوم على أساس ثابت.
يستحيل عنده أن تمتدّ سلسلة الأنوار، أو أي سلسلة سببية، إلى ما لا نهاية، لأن:
العلّة التي ليس لها بداية لا تستطيع أن تملك فاعلية،
والمعلول الذي ينتظر ما لا نهاية لن يجد لحظة الوجود ليظهر فيها،
والكون سيبقى معلّقًا دون أصل يشعّ منه.
لذلك لا بد—ضرورة عقلية وميتافيزيقية—من وجود نور واحد أول، يتجاوز كل مراتب التسلسل، نور لا يفتقر إلى علّة قبله، ولا يمكن تفسير ظهوره إلا بأنه أصل الظهور ذاته.
هذا هو "نور الأنوار" الذي منه يبدأ الفيض، وبه يُختَتم السؤال، وفيه تستقرّ كل سلسلة سببية. هو مبدأ الوجود، بذاته وبلا واسطة.

بهذين المبدأين يضمن السهروردي نظامًا للكون:
متدرّجًا: لا تختلط فيه المراتب،
ضروريًا: لا مكان فيه للعبث،
مضيئًا: يفسّر الوجود من خلال شدة النور وضعفه،
وموحّدًا: ينتهي إلى نقطة واحدة، هي أصل كل إشراق.
وهكذا تُبنى ميتافيزيقا الإشراق على عقلانية ذات جوهر نوراني، تتجاوز البرهان المشّائي من دون أن تنقضه، وتفتح للعقل والروح معًا طريقًا نحو فهم العالم بوصفه رحلة داخل طبقات الضوء.

● المعرفة الإشراقية

في التصور الإشراقي، لا تُفهم المعرفة بوصفها عملية عقلية محضة، ولا باعتبارها نشاطًا ذهنيًا يعتمد على التجريد والمنطق فقط؛ انما هي حركة وجودية تشمل الكائن كله، وتنطوي على عبورٍ من مستوى الإدراك الحسّي والعقلي إلى مستوى الكشف الداخلي. ولذلك يميز الإشراقيون، وعلى رأسهم شهاب الدين السهروردي، بين نمطين رئيسين من إدراك الحقيقة:
1. المعرفة البرهانية :وهي المعرفة التي تعتمد على المنظومة العقلية المشّائية الموروثة عن أرسطو، بما تتضمنه من استدلال منطقي، وحدود، وتصنيفات، ومقدمات يقينية تُفضي إلى نتائج يقينية. هذا النمط من المعرفة ضروري، لأنه يمنح الذهن ترتيبًا وانسجامًا، ويؤهل الإنسان لفهم بنية العالم وفق قواعد التفكير السليم. لكنه، في نظر الإشراقيين، يبقى معرفة غير مكتملة، أشبه بخرائط خافتة لما تضيئه الحقيقة في ذاتها.

2. المعرفة الذوقية / الحدسية :وهي المعرفة التي تتحقق عبر الحضور المباشر للنور في القلب، أي عبر كشف داخلي لا يتوسّط فيه العقل الاستدلالي. هنا تتحول الذات إلى مرآة تتلقى الإشراق، وتدرك الحقيقة بوصفها نورًا يُعايَن ولا يُستنتج. هذا اللون من المعرفة هو أعلى درجات الإدراك، حيث يصبح العارف جزءًا من المشهد الذي يتأمله، ويشهد الوجود من الداخل لا من خارجه.

انطلاقًا من هذا التمييز، يعيد السهروردي ترتيب منزلة العقل في سلّم المعرفة:
العقل مقدمة ضرورية، أداة تمهيدية تنظّف الطريق وتمنع السقوط في الوهم، لكنها لا تستطيع أن تمنح الحقيقة بتمامها. الحقيقة، في جوهرها، لا تُنال إلا عندما ترتقي النفس في مراتب النور، وتتحرر من علائق الظلمة المادية، وتتجه بكامل شوقها وتشوفها نحو النور الأعلى الذي تتكشف عنده أسرار الوجود.
وهكذا تصبح الإشراقية مشروعًا يجمع بين الانضباط العقلي والتجربة الروحية، بين الدليل والكشف، وبين الحكمة البرهانية والحكمة الذوقية، ليبلغ المرء معرفة تُرى بالبصيرة لا بالبصر.

● الشهود والتطهير

في الرؤية الإشراقية، لا يتحقق العارف من الحقيقة عبر البرهان وحده، ولا عبر مجرد حضور الحدس في لحظة خاطفة؛ فالوصول إلى مرتبة الشهود يتطلب سلوكًا روحيًا طويلًا، تتكامل فيه التجربة الداخلية مع صفاء النفس وتحوّلها التدريجي من عالم الكثافة إلى عالم اللطافة. فالمعرفة هنا ثمرة جهاد متصل وتهذيب عميق للبنية الباطنية للإنسان.
ولهذا يؤكد الإشراقيون أن التحقق بالنور يمرّ عبر شبكة من المجاهدات الروحية، مثل:
الصوم الذي يخفف ثقل الجسد ويجعل النفس أكثر استعدادًا لتلقي الإشراق.
العزلة التي تُبعد الضوضاء الخارجية وتفتح المجال لحوار داخلي لا يسمعه إلا القلب.
الذكر الذي ينقّي الذاكرة الوجودية ويعيدها إلى نبضها الأول.
وتطهير النفس من الظلمة، أي من الشهوات والترسبات التي تحجبها عن رؤية حقيقتها.

فالمعرفة في الفكر الإشراقي مشروطة بقدرة النفس على الارتقاء من عتمتها إلى نورها، كما يقول السهروردي؛ أي أن عملية الإدراك الحقّ تفترض خلع أثقال العالم الأدنى، والتخفف من شوائب الأنانية، والانفتاح على شدة النور التي لا يُطيقها القلب ما لم يكن مهيّأ لها بالتطهير والمجاهدة.
وعند اكتمال هذا المسار، تتحول المعرفة من فكرة تُفهم إلى حقيقة تُشاهَد.
ذلك أن الشهود، في جوهره، حدث وجودي يتجاوز حدود العقل والتصور، حيث تتجلّى الحقيقة بوصفها نورًا مباشرًا، وتصبح النفس مرآة صافية تنعكس عليها المعاني بلا عوائق ولا وسائط.
وهكذا يكون التحقق الإشراقي حركة صعود، وتحوّل ذاتي، وميلاد جديد للنفس في أفق النور.

● الفلسفة طريق للوحدة

في المشروع الإشراقي تُعاد الفلسفة إلى جذورها الأولى حيث كانت الحكمة تجربة حيّة، وعبورًا داخليًا نحو وحدة الوجود والمعرفة. فالسهروردي يرى أن الفلسفة لا تبلغ حقيقتها إلا إذا صارت طريقًا روحيًا، مسلكًا للتطهر والتهذيب والكشف، تمامًا كما هو الحال في التصوف.
ولهذا يحرّر السهروردي الفلسفة من طابعها المدرسي الجامد، ويمنحها أفقًا وجوديًا رحبًا؛ فالغاية هي الوصول إلى نمط من الإدراك يجعل الفيلسوف قادرًا على معانقة الحقيقة من الداخل. من هنا جاء قوله الشهير: "إن من لم يذق لم يعرف"، وهو قول ينقل المعرفة من مستوى القول إلى مستوى الذوق، ومن مستوى البرهان إلى مستوى التجربة.
بهذا المعنى، تصبح الفلسفة عنده طريق الوحدة:
وحدة بين العقل والروح.
وحدة بين التفكير والمجاهدة.
وحدة بين الكشف والبرهان.
وحدة بين الإنسان والعالم الذي يتأمله.

فالسهروردي يعيد الفلسفة إلى أصلها القديم، حين كانت الحكمة نورًا يُعاش قبل أن يكون قضية تُبرهَن، وحين كان الفيلسوف حكيمًا يتقدّم في مسار كشفٍ باطني، لا مجرد باحث يكدّس الأدلة.
وهكذا يتحول العمل الفلسفي إلى رحلة عميقة نحو الذات والعالم، هدفها بلوغ الحقيقة في صفائها الأول، قبل أن تتكثف في اللغة أو تُحبس في الحدود المنطقية.

---

● أثر الإشراقية في الشرق الإسلامي

رغم أن مشروع السهروردي لم يجد طريقه إلى أوروبا لغياب ترجمات لاتينية لأعماله، فإن حضوره في الشرق الإسلامي ظلّ ممتدًا ومؤثرًا، وكأنه خُلق ليعيش في بيئة تتقبل الجمع بين العقل والكشف، وبين الفلسفة والتصوف. فقد بقيت الإشراقية، عبر القرون، حاضرة في الذاكرة الفلسفية والروحية للمشرق، تتطور وتتجدّد بتأثير شيوخ وفلاسفة ومتصوفة وجدوا فيها أفقًا خصبًا لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والنور.
ففي القرون التالية لوفاته، نهض بشرح تراثه وتوسيعه أعلام كبار مثل الشهرزوري، الذي وضع أول تفسير شامل لأفكار السهروردي ومفاتيحها الرمزية، وقطب الدين الشيرازي الذي أعاد تنظيم البناء النظري للإشراقية وضمّنها أبعادًا كونية ولغوية أعادت لها قوتها المعرفية. وقد وجدت هذه الروح الإشراقية موطئ قدم واسعًا أيضًا بين المتصوفة الإيرانيين، الذين رأوا فيها صيغة فلسفية تُترجم تجربتهم الروحية، وتمنح ذوقهم العرفاني لغة أشمل وأعمق.
ومع الزمن، أصبح للإشراقية حضور خاص في التيارات الروحانية داخل الفلسفة الشيعية المتأخرة، حيث التقت رؤيتها للنور مع تأملات العرفان والتصوف الفلسفي، لتشكل مجالًا معرفيًا يزاوج بين التجربة الباطنية والبحث العقلي.
لكن الأثر الأبرز تمثّل في المشروع الفلسفي الكبير لـ الملا صدرا الشيرازي، الذي صنع في القرن السابع عشر تركيبًا فريدًا جمع فيه بين الفلسفة المشائية، وحكمة الإشراق، والعرفان النظري. عنده أصبحت الإشراقية جزءًا من منظومة ميتافيزيقية أوسع، تقوم على الحركة الجوهرية، وتعمّق مفهوم الحضور، وتمنح الوجود بُعدًا حيًا يتجاوز التقسيمات التقليدية.
وهكذا بقيت الإشراقية، رغم غيابها عن الفكر الأوروبي الوسيط، تيارًا حيًا في الشرق الإسلامي؛ تيارًا يربط العقل بالنور، ويمنح الفلسفة روحًا، ويجعل من التجربة الداخلية شرطًا أساسيًا لفهم الحقيقة في أعمق طبقاتها.

● إحياؤه في العصر الحديث

على الرغم من أن الإشراقية بقيت متداولة في المدارس الفلسفية الشرقية عبر القرون، فإن حضورها في الفكر العالمي الحديث لم يستعد إشراقه إلا مع الجهد الكبير الذي بذله المستشرق والفيلسوف الفرنسي هنري كوربان في القرن العشرين. فقد كان كوربان أول من فتح الباب أمام قراءة حديثة للسهروردي باعتباره رائدًا لتقليد روحي كامل، وواحدًا من أعمدة الحكمة الشرقية. ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة:
"مؤسس الفلسفة الإسلامية الإيرانية، وباعث الحكمة الشرقية بعد أفولها."
يعد هذا الحكم خلاصة مشروع طويل رأى فيه كوربان أن السهروردي أعاد إلى الفلسفة الإسلامية بعدًا رمزيًا وروحيًا افتقدته حين سيطر عليها الجدل المنطقي وحدود البرهان. ولهذا قدّم قراءة تُخرج الإشراقية من إطارها التقليدي، لتصبح جسرًا واسعًا يصل بين طبقات متعددة من الفكر والميتافيزيقا:
الفلسفة الإسلامية في تياراتها المتعددة، بما فيها المشائية المتأخرة والعرفان النظري.
الهرمسيات وما تحمله من لغة رمزية وأسطورية تُفسّر العالم باعتباره طبقات من النور والمعنى.
التصوف الذي وجد في إشراق السهروردي صدى لنظرية الكشف والمشاهدة، بوصفهما مصدرًا للمعرفة لا يقلّ عن البرهان العقلي.
الرؤى الروحية للعالم الفارسي، تلك التي تجعل من الرموز والأساطير والنوريات عناصر مفتاحية لفهم الإنسان والكون.

بهذا التأويل، تحوّل السهروردي في كتابات كوربان إلى حاضر ميتافيزيقي أكثر منه شخصية تاريخية؛ إذ أصبح يمثل خطًّا روحيًا ممتدًا يعبر القرون، وتستعيده المدارس المعاصرة المهتمة بفلسفة الدين، والأنثروبولوجيا الروحية، ودراسة الخيال الفلسفي.
لقد أعاد كوربان للإشراقية صوتها الكوني، ومنحها موقعًا في الحوار العالمي حول الروح والمعنى، وجعل من السهروردي جزءًا من الخريطة الفلسفية الحديثة، لا مجرد فصل من تاريخ الفلسفة الإسلامية. وهكذا عاد النور الإشراقي ليصبح موضوعًا للفكر المعاصر، ونافذة لفهم علاقة الإنسان بالعالم، وبما يتجاوز حدود العقل نحو أفق أكثر رحابة وعمقًا.
---

● الإشراقية كمشروع مضاد للمشائية

كان ظهور الإشراقية لدى السهروردي تحولًا جذريًا زعزع البنية المعرفية التي رسّختها الفلسفة المشائية منذ ابن سينا. فقد قدّم السهروردي نقدًا بنيويًا لطريقة البرهان المشائي، ورأى أن الاعتماد الكامل على العقل الاستدلالي يحجب عن الإنسان إمكانية بلوغ الحقيقة الكاملة. ومن هنا نشأ مشروعه المضاد، الذي يمكن تتبّع ملامحه عبر ثلاث مراحل مترابطة:
1. مرحلة التكوين المشائي : ففي بداياته، انغمس السهروردي انغماسًا عميقًا في تراث ابن سينا، فقرأه قراءة دقيقة أتاحت له فهمًا متينًا للمنطق والميتافيزيقا المشائية. هذه المرحلة كانت تأسيسًا للقدرة على تجاوزها، إذ أمدّته بالأدوات العقلية التي يحتاجها ليشرع في بناء مشروع جديد.

2. مرحلة النقض :بعد استيعاب المشائية، بدأ السهروردي نقدها من الداخل، معتبرًا أن البرهان العقلي—رغم ضرورته—يبقى عاجزًا عن ملامسة جوهر الحقيقة، لأنه يخلو من «نور الكشف»، أي من تلك التجربة الداخلية المباشرة التي تمنح المعرفة بعدها الوجودي. وهكذا كشف حدود العقل النظري، ودعا إلى إدراك يتجاوز المفاهيم إلى الحضور والذوق.

3. مرحلة التأسيس : وفي هذه المرحلة صاغ السهروردي منظومته النورانية، حيث يصبح النور مبدأ الوجود والمعرفة معًا، وتتحول الفلسفة إلى مسار روحي يتداخل فيه العقل والحدس، والبرهان والكشف، والبحث النظري والرياضة النفسية. بهذا التأسيس تجاوز السهروردي المشائية عبر توسيع نطاقها لتشمل تجربة روحية معرفية أعمق.

يمكن القول ان هذا التحول يمثل نقطة انعطاف كبرى في تاريخ الفلسفة الإسلامية بعد ابن سينا؛ إذ أعاد طرح أسئلة الوجود بمرجعيات تستند إلى النور والكشف بدل الجوهر والصورة، مزج الميتافيزيقا بالعرفان، مانحًا البحث الفلسفي أساسًا روحيًا غير مسبوق، ونقل مركز الثقل في المعرفة من المفهوم العقلي إلى التجربة الداخلية الحيّة.
وبذلك قدّم السهروردي رؤية بديلة لطرائق إدراك الحقيقة، رؤية تعيد وضع العقل في فضاء أوسع يقود إلى إشراق الذات وامتلائها بالنور.

---

● الإشراقية رؤية فلسفية للكون والإنسان

تقوم الإشراقية على تصور شامل يجعل العالم والإنسان والمعرفة حلقات في سلسلة واحدة من النور. ليست فلسفة جزئية ولا بناءًا نظريًا معزولًا، لكن ميتافيزيقا متكاملة تُعيد تعريف الوجود عبر مفهوم واحد: النور. ومن هنا يتشكل فهمها للكون، وللنفس البشرية، ولطبيعة المعرفة نفسها.

1. الكون: شبكة من الأنوار : في المنظور الإشراقي، لا يكون الكون مادة تتحرك أو عناصر تتفاعل كما في التصورات الطبيعية، انما هو طبوغرافيا نورانية تتدرج فيها الموجودات بحسب نصيبها من الإشراق.
إنه عالم مراتب، لا عالم أشياء.
كل موجود يُعرَّف بقدر ما يحمل من النور.
كل مرتبة عليا تُفيض نورًا على ما دونها.
وكل ما يفتقد النور يُقترب من العدم، ولهذا سمّاها السهروردي "الظلمة المخفّفة".
بهذا المعنى يغدو الوجود ذاته إشراقًا، لا فعلًا ميكانيكيًا ولا حركة مادية.
العالم ليس قائمًا بذاته لكن بارتباطه بنور الأنوار، أي المبدأ الأول. كل شيء انعكاس، ظلال، تجليات.
العالم يضيء لأنه مُفيض.
هذه الرؤية تحوّل الكون من فضاء منفصل إلى نسيج متصل من الأنوار، وكأن الوجود كله خريطة واحدة تتوزع فيها درجات القرب أو البعد عن النور الأعلى.

2. الإنسان: روح تبحث عن أصلها :في قلب هذا العالم المتنور يقف الإنسان بوصفه كائنًا نورانيًا هبط إلى العالم الكثيف، فغمره الغسق، ونسي أصله.
وجوده في العالم منفى.
وبحثه عن الحقيقة حنين إلى الشرق؛ الشرق الذي هو عند السهروردي رمز الوجود الأول، والعالم قبل السقوط، وعاصمة الأنوار.
رحلته إذن ذات مسارين:
مسار التحرير الجسدي: تخفيف ثقل المادة، وتحرير النفس من أسر العادة والشهوة والظلام الداخلي.
مسار العودة الروحية: عبر الذكر والتجلي والرياضة والتطهير، حتى يستيقظ في القلب نور كان كامناً منذ البدء.

بهذا يصبح الإنسان في الإشراقية قصة صعود:
من الغسق إلى الفجر،
من الظلمة إلى الإشراق،
من العالم السفلي إلى موطنه الأول.
إنه كائن من نور يبحث عن نور.

● المعرفة: اتحاد العارف بالمعروف

في الفلسفات العقلية التقليدية، تُعد الحقيقة شيئًا خارجيًا على العاقل، موضوعًا يمكن دراسته، تحليله، وتقسيمه إلى مفاهيم وقواعد. العقل هنا مراقب منفصل: يدرس الموضوع من بعيد، يفسره، لكنه لا يتعايش معه، ولا يُلامس جوهره. المعرفة في هذا السياق تقتصر على نقل المعلومات أو تكوين مفاهيم، بعيدًا عن أي تجربة وجودية حقيقية.
أما في الإشراقية، فالمنظور يختلف جذريًا: الحقيقة حضور يتجلى في النفس. إنها نور يسكن القلب، وضياء يتكشف في الروح، لا يُدرَك عن طريق المفهوم وحده، لكن أيضا عن طريق الكشف والذوق الباطني. هنا تتوقف المعرفة عن كونها عملية عقلية جامدة، لتصبح حدثًا وجوديًا حيًا، يغير الشخص قبل أن يغير ما يعرفه.
بهذا المعنى، تعرف الإشراقية المعرفة بأنها
اتحاد العارف بالمعروف.
وهذه حقيقة أنطولوجية؛ أي أن طبيعة الوجود نفسها تمنح العارف فرصة أن يصبح جزءًا من الحقيقة التي يطلب إدراكها. عندما يسطع النور في القلب، تزول المسافة بين الذات والموضوع؛ حيث يصبح العارف مكونًا من نور الحقيقة، جزءًا حيًا من الجوهر الذي يسعى إلى معرفته.
المعرفة الإشراقية إذن تحول شامل في الوجود: تحوّل في الوعي، في النفس، وفي حضور الإنسان في العالم. كل معرفة حقيقية تُعيد الإنسان إلى أصله النوراني، إلى تلك اللحظة التي فيها كان ضوءه حاضرًا قبل أي انفصال أو غياب، قبل أن يختلط بالظلمات.
في هذا الإطار، يتجلّى مشروع الإشراقية الفلسفي بأبعاده الكبرى:
الكون: شبكة من الأنوار تتدرج في كثافتها، كل ما في الوجود انعكاسات للضوء الأعلى.
الإنسان: كائن نوراني غريب في عالم كثيف، مدعوّ للعودة إلى أصله عبر رحلة وجودية.
المعرفة: اتحاد مباشر بين العارف والمعروف، حضور داخلي يحوّل النفس، ويعيد ترتيب علاقتها بالكون.
بهذا المعنى، تصبح الإشراقية فلسفة إعادة صياغة الوجود بأكمله: حيث كل شيء—الكون، الإنسان، المعرفة—مرتبط بضوء واحد، والنفس الحية هي المرآة التي تكشف عن هذا النور، والرحلة المعرفية هي صعود الروح نحو الانسجام مع هذا النور الأبدي.

● الإشراقية فلسفة تُعيد للوجود ضياءه

ظهر مشروع السهروردي في لحظة حرجة من تاريخ الفلسفة الإسلامية، حين بدأت المشائية، التي هيمنت على الفكر بعد ابن سينا، تفقد قدرتها على التجاوب مع الأسئلة الروحية والميتافيزيقية العميقة. كان العقل في هذه المرحلة قادرًا على البرهان والاستدلال، لكنه عاجز عن كشف جوهر الوجود وضوءه الداخلي.
جاء السهروردي ليعيد إلى الفلسفة بعدًا آخر: بعدًا روحيًا، حضوريًا، ووجوديًا. لقد ذكّر العقل البشري بأن البرهان وحده لا يكفي، وأن الإنسان، مهما بلغ من المعرفة المنطقية، يظل بحاجة إلى نور يفيض من الحقيقة ويضيء النفس قبل أن يضيء المفاهيم. بهذا أصبحت الفلسفة مسارًا لتحويل الوجود وفهمه في ضوء التجربة المباشرة.
الإشراقيةجسر يربط بين أبعاد متعددة للمعرفة بين الحكمة الشرقية القديمة، التي تصيغ المعنى عبر النور والرمز، وبين العقل الإسلامي، الذي يبرهن ويفهم لكنه يحتاج إلى توجيه روحي،وبين التجربة الصوفية، التي تمنح للمعرفة طابع الحضور والإحساس، وبين ميتافيزيقا النور، التي تصوغ لغة كونية للمعنى، تجعل كل موجود انعكاسًا للضوء الأول.

إن الإشراقية ترشد الباحث المعاصر إلى حقيقة أساسية: الحقيقة مسار للتنوير الداخلي، ومسار للعودة إلى أصل النفس وضوءها الأصلي. المعرفة هنا تعني الانكشاف في القلب، وتجربة اتحاده مع النور الذي منه بدأ كل شيء.
بهذه الرؤية، تصبح الإشراقية أكثر من فلسفة؛ إنها دعوة للوجود ليستعيد ضياءه، ومسارٌ يربط بين العقل، والروح، والكون، ويمنح الإنسان القدرة على إدراك ذاته والكون من خلال نور مباشر يتجلى في قلبه ويحوّل وجوده بأسره.
في النهاية، هي فلسفة تحفز الإنسان على أن يصبح حاضرًا في الحقيقة، متوحدًا مع النور الأبدي الذي يمر عبر كل شيء، ويجعل من الحياة رحلة صعود مستمر نحو الصفاء، والفهم، والإشراق الداخلي.
----------------------
اقتراحات القراءة :

1. أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي – محمد علي أبو ريان
كتاب مؤسس، يدرس أصول فلسفة الإشراق عند السهروردي من الناحية المنهجية والفكرية.
2. السهروردي: مؤسس الحكمة الإشراقية، دراسات ومختارات – عبد الفتاح رواس قلعه جي/ دراسة مختارة عن فكر وسيرة السهروردي، تجمع نصوصًا وتحليلات.
3. مقدمات لمولفات شهاب الدين السهروردي الفلسفية والصوفية – هنري كوربان /هذا العمل لكوربان يعد من أهم مداخل الفلسفة الإشراقية، ويقدم تمهيدًا وتحليلاً لكثير من نصوص السهروردي.
4- المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي /دكتور محمود محمد علي.
5 - إشراق الفكر والشهود في فلسفة السهروردي /غلام حسين الإبراهيمي الديناني/ دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع/ 2005
6- السهروردي الإشراقي ونقده للفلسفة اليونانية/ياسين حسين الويسي/2007
7- حكمة الإشراق عند شهاب الدين السهروردي بين الفلسفة والتصوف/محمد الصالح الربعاوي/تونس 2021.
وغيرها الكثير.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقفون الجدد
- العقل بين الازدهار والانكسار: مسار المعرفة في الحضارة الإسلا ...
- الإنسان على حافة الهاوية: بين ذئابية هوبز وألوهية فويرباخ – ...
- تجربة ابن سينا مع كتاب -ما بعد الطبيعة- لأرسطو
- الفلسفة وقيمة السؤال: نحو فهم جديد لمعنى التفكير الفلسفي
- انطباع ضد الموضوعية: دفاع عن الذات القارئة
- السرد، القارئ، والأنطولوجيا الإنسانية
- باروخ سبينوزا: الفيلسوف الذي عاش منفياً من معابد البشر
- عودة إلى سبينوزا مرة أخرى ورؤيته في علم الأخلاق
- الفردية والإيديولوجيا: قراءة فلسفية ونفسية في فكر كارل يونغ
- أفول أوروبا: بين النقد الجذري لأونفراي والسخرية الاستراتيجية ...
- القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق
- حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
- التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
- رافاييل: الجمال والانسجام
- وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
- الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
- حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س ...
- الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
- في نقد الإيديولوجية النسوية


المزيد.....




- جورجينا رودريغيز تجمع بين الأناقة والاحتشام على شاطئ الدوحة ...
- -المسيرة الغامضة نحو تغيير النظام في فنزويلا- - مقال في نيوي ...
- أونكتاد: إعادة إعمار غزة ستكلف 70 مليار دولار وتستغرق عقوداً ...
- دعوة لحضور مؤتمر صحفي
- شروط السلام الأمريكية.. تحفظ أوكراني وأوروبي ورفض روسي لمقتر ...
- حماس والجهاد الإسلامي ستسلمان جثة رهينة إسرائيلي في وقت لاحق ...
- غينيا بيساو.. الرئيس إمبالو ومنافسه دياس يتنازعان الفوز بالا ...
- استطلاع رأي يتوقع فوز جوردان بارديلا برئاسة فرنسا
- -العبقري- التركي يظفر بأرفع جوائز إيمي الدولية.. ومسلسل ألما ...
- عُثر عليها بالصدفة.. بيع أولى نسخ -سوبرمان- بـ9.1 ملايين دول ...


المزيد.....

- كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم / تاج السر عثمان
- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض قاسم حسن العلي - الإشراقية: فلسفة النور بين العقل والذوق وميراث الحكمة الشرقية