أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض قاسم حسن العلي - الإنسان على حافة الهاوية: بين ذئابية هوبز وألوهية فويرباخ – صراع يتجاوز الطبيعة إلى المصير















المزيد.....


الإنسان على حافة الهاوية: بين ذئابية هوبز وألوهية فويرباخ – صراع يتجاوز الطبيعة إلى المصير


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 21:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ أن أطلّت الفلسفة الحديثة بوجهها على العالم، وهي تحمل في صميمها سؤالاً وجودياً مقلقاً: ما هي الحقيقة الجوهرية للإنسان؟ هل هو كائن منحوت من صخر الأنانية والعدوان، محكوم بغرائز بدائية تدفعه نحو التصارع والاستئساد، أم أنه حاملٌ لبذرة التقديس، قادر على أن يجد في أخيه الإنسان مرآةً لجوهره الإلهي؟ هذا التساؤل يمتد ليشكل أسس السياسة والأخلاق والدين. ويتجلى هذا الصراع الفكري بأبلغ صورة في مقولتين فلسفيتين أصبحتا نبراساً لفهم طبيعتنا: "الإنسان ذئب للإنسان" (Homo Homini Lupus) لتوماس هوبز، مقابل "الإنسان إله للإنسان" (Homo Homini Deus) للودفيغ فويرباخ. هاتان الرؤيتان هما نافذتان على كونين متضادين، يقدمان إجابات متعارضة حول مصير الجنس البشري.
-------------------------
● الكون الهوبزي: في ظل الليفياثان – حيث الخوف هو الأساس

الكون الهوبزي هو تحليل عميق لبنية الوجود الإنساني حين تُرفع عنه كل الأقنعة الثقافية والأخلاقية التي صنعها التاريخ. إنه محاولة جذرية للإجابة عن سؤال قديم متجدد: ماذا يبقى من الإنسان حين يُترك لذاته العارية، دون دولة، دون قانون، دون سلطة؟

1. الجذر الوجودي للخوف:
يرى هوبز أن الخوف هو المقوّم الأول للوجود الإنساني، العنصر الخام الذي تتخثر حوله بقية التجارب. إنه ليس خوفاً من شيء محدد يمكن الإشارة إليه بالأصابع، انما هو خوف مطلق، سابق على أي تحديد، يشبه تلك الرهبة الأولى التي يشعر بها الإنسان حين يفتح عينيه على عالم لا يعرف حدوده. هذا الخوف هو ما يسميه الفلاسفة "خوفاً أنطولوجياً"؛ لأنه ينهض من طبيعة الكائن ذاته، من وعيه المسبق بأن حياته معلّقة بخيط هش، وأن جسده عرضة للانكسار، وأن روحه قد تُنتزع في لحظة صامتة على يد آخر مجهول.
ليس صدفة أن تنبثق فلسفة هوبز من قلب الفوضى. الحرب الأهلية الإنجليزية كانت مختبراً وجودياً هائلاً: انحلال السلطة، انهيار القانون، تشظّي الثقة بين البشر، انكشاف العالم على احتمالية العنف المبرمج من كل اتجاه. في مثل هذا السياق، تتبدّى الطبيعة البشرية بصورتها الخام. لم يعد الناس محكومين بالأعراف أو التقاليد أو الأطر التي تمنح السلوك اتساقه. وبالتالي، أدرك هوبز أن الإنسان، حين يُترك دون سلطة فوقية يتصرف وفق مبدأ البقاء، الذي قد يدفعه إلى العدوان كما يدفعه إلى الهرب.
بهذا المعنى، الطبيعة البشرية هي حياد خطير. إنها قابلة لأن تكون أي شيء تبعاً للظروف التي تُلقى فيها. الشر يظهر حين يتفكك الإطار الذي يضبط الفعل الإنساني ويكبح اندفاعاته. ما يسميه الإنسان "شروراً" ليس أكثر من نتائج ميكانيكية لسلوك طبيعي وجد نفسه بلا حدود.
في ضوء هذه الرؤية، يصبح الخوف الحقيقة الأولى التي تحكم علاقة الإنسان بالعالم وبالآخرين وبنفسه. إنه الجذر الذي تنبت منه السياسة والأخلاق، والباب الذي يُطلّ منه هوبز على السؤال الأكبر: كيف يمكن لكائن هشّ، مهدد في كل لحظة، أن يعيش مع آخر هشّ بقدر هشاشته، دون أن يتحول العالم إلى ساحة موت دائم؟

2. حالة الطبيعة: مختبر القسوة والعقل معاً :
حين يتحدث هوبز عن "حالة الطبيعة"، فهو يصوغ تجربة فكرية حادّة تكشف ما يبقى من الإنسان حين يزيل عنه كل ما أضفته الحضارة من قوانين ورموز ولغات وطقوس. إنها لحظة تجريد قصوى، يُترك فيها الكائن البشري وجهاً لوجه أمام ذاته، دون وساطة الدولة أو الدين أو الأخلاق الاجتماعية. في هذا الفضاء النظري، تتجلّى المساواة كتهديد، لأن تساوي البشر في القدرة يعني تساويهم في إمكانية إلحاق الأذى.
المساواة، في هذا السياق، تتحول إلى معادلة خطرة: إذا كان كل إنسان يملك القدرة على قتل الآخر، فكل إنسان يصبح خطراً محتملاً. وحين تترافق هذه القدرة مع شحّ الموارد، ومع غموض نوايا الآخرين، فإن العقل نفسه يتحول إلى أداة للارتياب. لا شيء يضمن أن الآخر لن يسبقك إلى الضربة الأولى؛ لذا يُصبح الحذر نوعاً من الغريزة، والضربة الاستباقية مظهراً من مظاهر "العقل السليم" داخل عالم يحكمه الخوف.
هكذا يتحول عالم "حالة الطبيعة" إلى ساحة واسعة لانعدام الثقة. ليست ثمة محاكم تردع، ولا قوانين تحكم، ولا قيم مشتركة تُلزم الفرد بالتراجع. تصبح المنافسة على الموارد قانوناً لا يُناقش، ويغدو السعي إلى السلطة جزءاً عضوياً من البقاء. أما حب السيطرة فهو استجابة لوضع غير آمن: السيطرة هي محاولة لخلق منطقة صغيرة من الطمأنينة داخل واقع لا يمكن التنبؤ به.
من هنا، تغدو "حرب الكل ضد الكل" تشخيصاً دقيقاً لما يحدث حين يُجَرَّد الإنسان من كل البنى التي تفرض حدوداً على رغباته وقواه. إنها سلسلة لا تنتهي من الصراعات الصغيرة: صراع على الطعام، على المكان، على الأمان، على المبادرة، على البقاء.
وصف هوبز لحياة الإنسان بأنها "منعزلة، فقيرة، مقرفة، وحشية، وقصيرة" هو وضع الإصبع على جوهر المشكلة: حين تغيب المؤسسات التي تُنظم وتُهذِّب وتُقنن، ينكشف الإنسان باعتباره كائناً هشّاً في عالم شرس. يصبح أقرب إلى ذئب، لأن الذئب كائن يتصرف وفق منطق البقاء في بيئة لا ترحم. الإنسان في حالة الطبيعة لا يتحول إلى وحش لأنه يريد ذلك، لكن لأنه مضطر إلى ذلك، أو لأنه لا يجد خياراً آخر يسمح له بالاستمرار.
بهذا المعنى، "حالة الطبيعة" مختبراً للعقل وليست مختبرا للقسوة فقط فالعقل، عند هوبز، يظهر كأداة بقاء: حساب للمخاطر، تقدير للنوايا، استعداد للضربة قبل أن تأتي الضربة. إنها عقلانية دفاعية، لكنها عقلانية صلبة، تكشف كيف يتحول الإنسان من كائن اجتماعي إلى كائن منفرد تحكمه معادلات الضرورة.
هنا، يدرك هوبز أن الإنسان – بلا مؤسسات – لا يشكّل مجتمعاً، أنما يشكّل احتمالات عنف، وأن الحضارة صمام أمان يمنع الطبيعة البشرية من الانزلاق إلى هاويتها الأولى.

3. الذئب: مجاز للعقل لا للشر:
حين يستعير هوبز صورة الذئب ليصف الإنسان في حالة الطبيعة، فهو لا يقترح قراءة أخلاقية بقدر ما يقدّم تشخيصاً برانياً للآليات التي تحكم السلوك البشري تحت الضغط. فالذئب، في المخيال التقليدي، رمز للوحشية والغدر، لكن هوبز ينزع عنه هذا البعد الأخلاقي ليعيده إلى منطق الطبيعة: الذئب لا يقتل لأنه شرير، لكن لأنه محتاج. إنه يتبع، بصرامة غريزية، قوانين البقاء في بيئة لا تمنح ضمانات لأي كائن.
بالمثل، الإنسان في العالم الهوبزي لا يتحرك بدافع الشر المجرد، ولا ينطلق من نوايا سوداء تختزنها روحه، انما يتصرف وفق حساب عقلاني بارد. العقل هنا هو قدرة على ترتيب الأولويات وفق منطق الضرورة: إن لم أبادر فقد تُبادر أنت. وإن لم أحسب احتمال الخطر مسبقاً، فقد أُقتل قبل أن أُفكّر.
هذا المنطق الاستباقي هو ما يجعل الإنسان، في نظر هوبز، "كائناً عقلانياً" قبل أن يكون كائناً أخلاقياً. العقل، في ظرف العري الوجودي، يتحول إلى أداة دفاع، إلى حسّ يقظة دائم، مهمته قراءة الآخر باعتباره تهديداً يجب احتواؤه. فكل الآخرِين يمتلكون نفس القدرة على الإيذاء، ونفس الحوافز التي تدفع إلى الاستحواذ، ونفس القلق الذي يجعلهم مستعدين للضربة الأولى.
وهنا يتجلى البعد الميكانيكي في رؤية هوبز للسلوك البشري. الإنسان، في جوهره، ليس سوى "آلة خوف" تعمل وفق محركات ثلاث: حماية الذات، توقّع الخطر، وموازنة القوة. هذه المحركات تدفعه إلى اتخاذ مواقف تبدو عدوانية، لكنها في الحقيقة دفاعية من منظور الضرورة. العدوان نتيجة مباشرة لشعور دائم بالهشاشة، ولحسابات يفرضها الخوف من الآخر الذي لا يمكن التنبؤ به.
إن استدعاء صورة الذئب، إذن، محاولة لإعادة تعريف طبيعة الإنسان خارج القوالب الأخلاقية. فالذئب والإنسان يشتركان في نقطة مركزية: كلاهما كائن عقلاني عندما يجد نفسه في عالم لا يمنح أماناً. وبقدر ما يُظهر الذئب قسوته، فهو يكشف أيضاً عن استراتيجية دقيقة للبقاء، استراتيجية تحكم الإنسان حين تُسحب منه الضمانات وتُلقى به في العراء.
بهذا المعنى، الذئب مرآة يعكس فيها هوبز الطبيعة العقلانية للإنسان في أقصى لحظات الضيق. إنه يذكّرنا بأن ما يبدو قسوة قد يكون شكلاً من أشكال الحكمة في عالم بلا قانون، وأن العقل نفسه يمكن أن يتخذ هيئة الذئب حين تتحول الحياة إلى معادلة بقاء محضة.

4. العقد الاجتماعي: ولادة الدولة من رحم الخوف:

عندما يبلغ هوبز أقصى تخوم التشخيص السوداوي للطبيعة البشرية، لا يتراجع نحو خطاب أخلاقي أو ديني أو ميتافيزيقي؛ أنما يتقدّم نحو الحل الوحيد الذي يسمح للوجود الإنساني بالاستمرار: تنظيم الخوف. فليست الرحمة طريق الخلاص، ولا النزعة الخيّرة، ولا الإيثار، لأن جميع هذه القيم تظهر فقط بعد تأسيس النظام، لا قبله. الذي يفتح الباب أمام الخروج من الفوضى هو العقل الذي يدرك هشاشته، ويحسب المخاطر بصرامة، ويعرف أن الخوف، إذا تُرك بلا ضابط، يفترس الجميع بلا تمييز.
هكذا يولد "العقد الاجتماعي" بوصفه صفقة اضطرارية بين كائنات خائفة من بعضها ومن ذاتها. إنه ترتيب عقلاني يتفق فيه الأفراد على التخلي عن حقوقهم الطبيعية – أي حقهم في فعل كل ما يرونه ضرورياً للبقاء – مقابل أن تتجمع هذه الحقوق في يد سلطة واحدة مطلقة.
هذه السلطة، التي سمّاها هوبز "الليفياثان"، هي تجسيد رمزي لقوة المجتمع التي تُرفع فوق الجميع حتى لا يستخدم أحد قوته الخاصة في وجه الآخرين. "الليفياثان" هو آلة سياسية كبرى، وُجدت لتكون أقوى من كل فرد، وأقوى من مجموع الأفراد أيضاً، بحيث لا يجرؤ أحد على تحدّيها.
وبهذا المعنى، الدولة ليست مجرد جهاز لإصدار الأوامر أو فرض الضرائب أو تنظيم الشؤون العامة، بقدر ماهي بنية وجودية عميقة تُعيد تشكيل علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر. إنها تحوّل الخوف من علاقة مباشرة بين البشر – خوف كل واحد من الآخر – إلى علاقة عمودية: البشر يخافون من السلطة أكثر مما يخافون من بعضهم، وبذلك ينكسر منطق "الهجوم الاستباقي" وتُشل دائرة الشك المتبادل.
ولأن الخوف هنا يتبدل اتجاهه، فإنه يصبح قابلاً للتنظيم: فالإنسان، الذي كان يعيش في عالم مرعب بلا ضمانات، يجد نفسه في ظل الدولة محاطاً بقوة تمنع الآخرين من الاعتداء عليه. وبالمقابل، يقبل أن يخضع لها وأن يتخلى عن جزء من حرياته. التضحية بالحرية ليست انصياعاً للطغيان بقدر ما هي محاولة عقلانية لإيقاف نزيف الحرب الدائمة.
إن الدولة، في الرؤية الهوبزية صمام أمان وجودي. إنها الحارس الأكبر الذي يمنع البشر من التهام بعضهم بعضاً، واليد الثقيلة التي تكسر مخالب الذئب عندما يحاول الظهور من جديد. وحتى إذا كانت الدولة قاسية، فإن قسوتها أخفّ وأقل فتكاً من قسوة الطبيعة الأولى حيث لا شيء يردع ولا شيء يحمي.
بهذا المعنى، تنشأ الدولة من رحم الخوف، لكنها تستمد مشروعيتها من قدرتها على تحويل الخوف إلى نظام، وعلى تحويل الإنسان من آلة خوف فردية إلى جزء من جسد جماعي يضمن له الحياة، ولو بثمن الحرية. إنها – في جوهرها – علاج مرّ، لكنه العلاج الوحيد الممكن لكائن خُلِق هشّاً في عالم قاسٍ.

5. الأخلاق والقانون: صناعة بشرية لحفظ الحياة :

في العالم كما يتصوره هوبز، لا تُولد الأخلاق من أعماق الضمير، ولا تنبع من طبيعة خيّرة كامنة في الإنسان، لكنها تُصاغ داخل حدود السياسة. فالأخلاق، قبل الدولة، مجرد تفضيلات شخصية لا قوة لها. أما بعد قيام "الليفياثان"، فإن ما نسمّيه "خيراً" هو ما يدعم السلم ويحفظ البقاء، وما نسمّيه "شراً" هو ما يعيدنا إلى فوضى حالة الطبيعة، حيث لا ضمانة ولا قانون. إن القيمة الأخلاقية، في هذا المنظور انعكاساً لقرار سياسي هدفه الوحيد: منع الموت العنيف.
القانون بدوره صدى لصوت السيادة التي اتفق عليها الناس لأنهم أدركوا أن العيش بلا سلطة يعني العودة إلى الحرب الدائمة. القانون هو إرادة الدولة وقد تحولت إلى قواعد عامة، وهو – في جوهره – شكل من أشكال ضبط الخوف: يحاصر الخوف الفردي بتهديد أكبر، ويُحوّل الفوضى إلى انتظام، ويستبدل الصراعات المتناثرة بعلاقة واضحة بين الحاكم والمحكوم.
وهكذا تصبح الدولة شرطاً وجودياً للحياة الإنسانية، لا مجرد مؤسسة إدارية. فبدونها يتداعى البناء كله، وينهار ذلك النظام الدقيق الذي صنعه البشر لحماية أنفسهم من أنفسهم. يعود الإنسان حينها إلى جذوره الأولى، حيث يصبح العقل مزيجاً من الحذر والشك، والرغبة امتداداً للقوة، والبقاء جولة مستمرة مع احتمال الموت.

إن الكون الهوبزي هو الكون الذي يعرّي الإنسان من السرديات الجميلة التي بناها حول ذاته: أنه مخلوق روحاني، أو كائن اجتماعي بالفطرة، أو حامل لرسالة أخلاقية عليا. هوبز يفكّك هذه السرديات ليكشف الحقيقة الأكثر صلابة: الإنسان ضعيف، هشّ، قابل للكسر أمام خطر دائم. ومن هذه الهشاشة يولد الخوف، ومن الخوف ينبثق العقل، ومن العقل تُبنى الدولة.
إنها سلسلة ضرورية، محكمة كحلقة ميكانيكية، تحوّل الإنسان إلى كائن سياسي قبل أن يكون كائناً أخلاقياً. فلا معنى للأخلاق بدون دولة تحمي تطبيقها، ولا معنى للخير بدون قوة تمنع الشر من الظهور. في هذا العالم، السلطة هي الشرط الأساسي لإمكان الحياة. إنها الحاضنة التي تحمي العقل من السقوط في منطق الذئب، والإطار الذي يجعل البشر قادرين على العيش المشترك دون أن يفترس أحدهم الآخر.
بهذا التصور، تتخذ الدولة مكانها كقيمة وجودية؛ إنها السقف الأخير الذي يمنع السماء من الانهيار فوق رؤوس الكائنات الهشة التي سمّيت يوماً "بشراً".
----------------------------
●الكون الفويرباخي: حيث يصنع البشر آلهتهم – إعادة التقديس إلى الإنسان

حين ظهر لودفيغ فويرباخ في منتصف القرن التاسع عشر، كان الإرث الفكري الأوروبي مثقلاً بنزاعٍ طويل بين العقل والوحي، بين الفلسفة واللاهوت. غير أنّ ما فعله فويرباخ لم يكن مجرّد نقد للدين، أنما إعادة هندسة جذرية لفكرة الإله نفسها. لقد جرّد الخطاب اللاهوتي من سطوته، ثم أعاد بناءه من الداخل، ليخلص إلى أطروحة صادمة: الإنسان لا يُخلق على صورة الله، بقدر ما الله يُخلق على صورة الإنسان.
في كتابه جوهر المسيحية، يبدأ فويرباخ من فرضية بسيطة لكنها مزلزلة: الإنسان كائن محدود بالتجربة، لكنه محاط دائماً برغبةٍ لا حدّ لها. يعيش ضعفه اليومي، ومع ذلك يتوق إلى القوة الكاملة؛ يعاني جهل العالم، لكنه يحلم بمعرفة مطلقة؛ يختبر العجز، وفي داخله حنين إلى إرادة لا تُقهر. هذه الصيرورة النفسية—بين محدودية الواقع ولا محدودية التمنّي—هي التي تشكّل الفضاء الذي يولد فيه الدين.
يصبح الإله عند فويرباخ إسقاطاً وجودياً: صورة متخيّلة تُطرح خارج الذات كي تتحرّر من ثقل الجسد والتاريخ والزمن. الإنسان لا يتخلّى عن صفاته الجميلة حين ينسبها للإله، لكنه يعيد إنتاجها في صيغة مثالية تتجاوز إنسانيته الواقعية. إنه يرفع ذاته إلى مستوى الكمال، ثم يعيد النظر إليها كأنها شيء مفارق. هنا يظهر مفهوم الاستلاب: الإنسان يعطي ما هو أفضل فيه لكيانه المتخيّل، ثم يعود فينسى أنّه هو المصدر.
هذا التحليل يقلب العلاقة بين الإنسان والإله: ما كان يبدو “علاقة عبودية” يصبح علاقة انعكاس. وما كان يظهر كـ“إرادة سماوية” يتكشف كصدى لرغبات البشر وآمالهم وأشواقهم. لذلك، يصبح الدين في قراءة فويرباخ مرآة الإنسان الكبرى، لا سرّاً فوقياً. إن معرفة الإله، في جوهرها، ليست سوى معرفة مضاعفة بالإنسان نفسه.
لكنّ أطروحة فويرباخ لا تقف عند حدود التحليل النفسي للدين. إنها تنطوي على برنامج أنثروبولوجي جديد: إذا كان الإله هو تجسيد لصفات بشرية عليا، فإن استعادة تلك الصفات إلى المجال الإنساني يفتح الباب أمام أخلاق جديدة تُبنى على المحبة والتعاطف والاعتراف المتبادل. وهنا تتجلّى مقولته الشهيرة: "الإنسان إله للإنسان".
المحبة التي تُنسب للإله ليست سوى تلك القدرة البشرية الأصيلة على وصل الذات بالآخر، على منح الآخر معنى وكرامة ووجوداً. المعرفة التي تُنسب للإله هي الامتداد الأسمى لعقل الإنسان. والعدل الذي يُصف به الإله ليس إلا رغبة الإنسان في نظام أخلاقي يليق بكرامته. بهذا، يصبح الآخر—كفرد، كشريك في العالم—هو الكيان الذي يتحقق فيه “القدسي” الحقيقي. فالإنسان لا يكتمل إلا بالإنسان، ولا ينكشف جوهره إلا داخل شبكة العلاقات التي تربطه بالآخرين.
إن مشروع فويرباخ، رغم ظهوره كتفكيك للدين، هو في العمق تأسيس لاهوت إنساني. لاهوت يقوم على أن الإنسان يمتلك في ذاته منبع القيم التي ينسبها للسماء. إنه لاهوت ينقل القداسة من الماوراء إلى التجربة اليومية، من الخطاب الكهنوتي إلى العلاقة الإنسانية الحيّة.
وبهذا، يصبح انتقال الفلسفة من عالم هوبز إلى عالم فويرباخ انتقالاً من الخوف إلى المحبة، من تصور الإنسان ككائن يهدده الآخر إلى تصور الذات ككائن لا يكتمل إلا بالآخر. وإذا كان هوبز يرى أن الدولة تُبنى على الخوف من الفناء، فإن فويرباخ يرى أن المجتمع يُبنى على قوة الاعتراف المتبادل، وأن الإنسان يبحث عن معنى يتجسد في علاقة حقيقية مع آخر يشبهه ويختلف عنه في آن واحد.
إنه انتقال من “الإنسان ضد الإنسان” إلى “الإنسان مع الإنسان”، ومن الآلة الهوبزية إلى المرآة الفويرباخية، حيث يعود البشر ليجدوا في بعضهم ما كانوا يظنونه حكراً على السماء.

------------------

●امتدادات الصراع: في دهاليز السياسة ومقامات القداسة

لا يقف الخلاف بين هوبز وفويرباخ عند حدود تفسير الطبيعة البشرية، لكنه يتسع ليعيد تشكيل كامل البنية المفاهيمية التي ينظر من خلالها كل منهما إلى السياسة والدين. إن لكل منهما نقطة انطلاق مختلفة: هوبز يبدأ من الخوف بوصفه الحقيقة الأولية، وفويرباخ يبدأ من الاغتراب بوصفه جرح الوعي الحديث.

أولاً: الدولة عند هوبز — سلطة تُبنى على هشاشة الإنسان:
بالنسبة لهوبز، السياسة ليست مسعى أخلاقياً ولا مشروعاً لتحقيق العدالة، لكنها ضرورة وجودية تنشأ من العجز البشري عن ضبط ذاته. الدولة هي “الليفياثان”، الكائن الاصطناعي الجبار الذي يتشكل من تخلّي الأفراد عن عنفهم الطبيعي، ومن تجميع قوتهم في جسد واحد أعلى منهم جميعاً.
الدولة أداة ميكانيكية تمنع الانهيار. شرعيتها تقوم على وظيفتها: أن تحمي الفرد من الفرد. بهذا المعنى، تصبح الدولة الإله الأرضي الذي يوزّع الأمان بدل البركة، ويُخضع الجميع لكي لا يُخضِع بعضهم بعضاً.
هذه الرؤية تصوّر المجتمع باعتباره عقداً اضطرارياً بين ذئاب عقلانية، والخضوع للدولة هو الثمن الذي يقبله الجميع مقابل النجاة. إن هوبز يشيّد السياسة داخل ظلمة الخوف لا داخل نور الأخلاق، ويجعل الإنسان كائناً سياسياً فقط لأنه كائن خطير.

ثانياً: فويرباخ — الإنسان بوصفه مصدر القداسة وأصل القيم :

على الطرف الآخر، يرى فويرباخ أن السلطة—سواء اتخذت شكل الدولة أو المؤسسة الدينية—لا تُفهم إلا بوصفها نتيجة استلاب للجوهر الإنساني. فالإنسان، حين ينسب صفاته العليا إلى الإله، يفقد ذاته في كيان متخيّل يصبح سيده. وعندما يسلّم حقه في الإرادة الأخلاقية للدولة، فإنه يعيد إنتاج الاستلاب نفسه بشكل سياسي.
في نظر فويرباخ، الدين والسياسة التقليديان كلاهما يشتركان في وظيفة واحدة: نقل القوة الإنسانية إلى الخارج ثم إعادتها في صورة سلطة فوقية. لذلك، لا يمكن تحرير الإنسان إلا عبر كسر هذا الإسقاط المزدوج. الحل ثورة على بنية الوعي: أن يستعيد الإنسان إدراكه بأنه مصدر المعنى والقيمة، وأن العلاقات الإنسانية هي الفضاء الحقيقي للقداسة.
فويرباخ يرى أن الخطر يكمن في المسافة التي يضعها الإنسان بينه وبين ذاته، حين يعبد صورته في السماء أو يخضع لصورته المتضخمة في الدولة. إعادة اكتشاف الإنسان تعني، بالنسبة له، إعادة اكتشاف الحب، الاعتراف، التعاطف، بوصفها حقائق أولية أكثر رسوخاً من الخوف.

ثالثاً: صدام الرؤيتين — بين الدولة كقيد ضروري والدولة كنتاج استلاب :

يؤسس هذا التضاد بين الفيلسوفين لمنظورين متعارضين جذرياً فعند هوبز، السلطة هي شرط الحياة، ولا وجود للإنسان خارج قفصها الحامي ،بينما عند فويرباخ، السلطة التقليدية هي عارض مرضي لغياب الإنسان عن نفسه، ولانفصال الإنسان عن قيمه الداخلية.
لهذا، بينما ينطلق هوبز من الخوف من الآخر ليبرر الدولة، ينطلق فويرباخ من الحاجة إلى الآخر ليبرر الإنسانية.
في عالم هوبز، السلطة تُخضع الإنسان لحفظه ،وفي عالم فويرباخ، المحبة تُعيد الإنسان إلى ذاته كي لا يُخضعه أحد.
وبين هذين العالمين، تتشكل واحدة من أعقد ثنائيات الفكر الغربي: هل يحتاج الإنسان إلى سلطة تروضه، أم يحتاج إلى وعي يحرره؟
--------------------
●ما بعد التناقض: نحو أنطولوجيا مركبة للكائن البشري

أي الرؤيتين أكثر صدقاً؟
لا يبدو التاريخ حاسماً في دعم طرف دون الآخر. فهو يقدّم أمامنا أدلة لا يمكن تجاهلها: من جهة، حروب إبادة، صراعات مستمرة، نزاعات على السلطة والموارد، كل ذلك يبرهن على فطرية الخوف، وعلى قدرة الإنسان على أن يصبح ذئباً للآخرين حين يفتقد الضمانات. ومن جهة أخرى، نشاهد لحظات تضامن غير متوقع، تضحيات خارقة، محبة متبادلة تتخطى كل المصالح الذاتية، وتؤكد أن الإنسان قادر على بلوغ أعلى درجات الإنسانية، على أن يكون إلهاً في أفعاله وعلاقاته.
هنا تكمن الحكمة في رفض الثنائية الحادة: ليس كافياً أن نصف الإنسان بأنه ذئب أو بأنه إله. أنما يحتاج الفهم إلى أنطولوجيا مركبة للإنسان، رؤية ترى فيه كائناً يحمل إمكانات متطرفة للخير والشر على حد سواء. الإنسان ذئب محتمل عندما تتدافع غرائز البقاء والخوف والجشع، ويُحجب ضابط المجتمع والضمير، فتتحول القدرة إلى اعتداء، والحرية إلى فوضى. وفي المقابل، يصبح إله محتمل عندما تتاح له مساحات الاعتراف بالآخر، والتحرر من القيود النفسية الضيقة، فتنبثق المحبة، والعطاء، والتضامن، والقدرة على التقديس الواقعي لذات الآخرين.
من هذا المنطلق، السياسة الحكيمة ليست مجرد سلطة مطلقة تُخضع الإنسان لروتين الخوف، كما عند هوبز، ولا هي طوباوية تتغنى بالإنسان المحسن كما عند فويرباخ متجاهلةً المخاطر الواقعية. أنما هي سياسة تدرك الثنائية الجوهرية في طبيعتنا ، فمن جهة، تبني مؤسسات تُرشد الذئب الداخلي عبر العدالة وسيادة القانون، لتقيّد الغرائز التدميرية وتحمي المجتمع من الانهيار.
ومن جهة أخرى، تخلق مساحات للإنسانية، حيث تزدهر قدرة الفرد على الحب، والعطاء، والتعاون، والإبداع الأخلاقي، فتصبح القوة لا للهيمنة وإنما للإثراء المشترك.
هكذا يتحول السؤال الأزلي من مجرد "من نحن؟" إلى سؤال فاعل ومشروع:
أي جانب من أنفسنا سنختار أن نغذيه؟ وأي عالم سنبني على هذا الاختيار؟
فالخيارات الفردية والجماعية تصنع التاريخ: حين يسيطر الذئب الداخلي، يسود العنف والفوضى، وحين يُتاح للإله الداخلي أن يترسخ، تولد المجتمعات القادرة على التضامن، والعطاء، والعدل المستمر.
إن فهم الإنسان بهذا العمق، ككائن مزدوج القدرة على التدمير والإبداع، يشكل قاعدة فلسفية ضرورية لكل مشروع سياسي وأخلاقي. إنه يحررنا من اختزالات الخوف والطوباوية، ويدعونا لبناء مؤسسات تنسجم مع الطبيعة المركبة للوجود البشري، مؤسسات تحمينا من أنفسنا، وتتيح في الوقت ذاته لأفضل ما فينا أن يُظهر أثره في العالم.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجربة ابن سينا مع كتاب -ما بعد الطبيعة- لأرسطو
- الفلسفة وقيمة السؤال: نحو فهم جديد لمعنى التفكير الفلسفي
- انطباع ضد الموضوعية: دفاع عن الذات القارئة
- السرد، القارئ، والأنطولوجيا الإنسانية
- باروخ سبينوزا: الفيلسوف الذي عاش منفياً من معابد البشر
- عودة إلى سبينوزا مرة أخرى ورؤيته في علم الأخلاق
- الفردية والإيديولوجيا: قراءة فلسفية ونفسية في فكر كارل يونغ
- أفول أوروبا: بين النقد الجذري لأونفراي والسخرية الاستراتيجية ...
- القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق
- حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
- التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
- رافاييل: الجمال والانسجام
- وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
- الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
- حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س ...
- الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
- في نقد الإيديولوجية النسوية
- الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / ر ...
- الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
- نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي ...


المزيد.....




- فيديو متداول -للحظات الأولى لانفجار منطقة المزة في دمشق-.. ه ...
- من هم الأشخاص الذين ذُكرت أسماؤهم أيضاً في ملفات إبستين؟
- كيف تهدد هجمات روسية السلامة النووية في أوكرانيا وأوروبا؟
- البرازيل: آلاف الأشخاص يجوبون شوارع بيليم في مسيرة حاشدة للد ...
- إيران: الحرس الثوري يؤكد احتجاز ناقلة نفط في مياه الخليج
- وزير الإعلام الإريتري: إثيوبيا تسعى لإشعال حرب ضدنا
- نقل أحمد سعد إلى المستشفى إثر حادث سير
- سوريا ليست أفغانستان.. شاهد على التجربتين يكشف الفروق الجوهر ...
- لماذا لا ينبغي لبعض الأشخاص الجلوس بوضعية التربيع؟
- بوتين ونتنياهو يبحثان هاتفيا الوضع في غزة والشرق الأوسط


المزيد.....

- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رياض قاسم حسن العلي - الإنسان على حافة الهاوية: بين ذئابية هوبز وألوهية فويرباخ – صراع يتجاوز الطبيعة إلى المصير