رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8482 - 2025 / 10 / 1 - 02:51
المحور:
قضايا ثقافية
يقول فرانسيس بيكون في الأورجانون الجديد : "الألفاظ تَعترض سبيل الفهم فهي تُقيم أوهامًا أكثر من الحقائق وأصنام السوق أشد ضررًا بالفكر من أصنام الطبيعة"
فرانسيس بيكون هنا يفتح واحدة من أعمق القضايا الفلسفية المتعلقة باللغة والفكر والمعرفة: علاقة الألفاظ بالوعي الإنساني، وكيف تتحول اللغة من وسيلة للتفهيم والتفاهم إلى عائق يقيم الحجب بين الإنسان والحقيقة. هذه القضية هي جوهر ما أسماه بيكون بـ "أصنام السوق" (Idola Fori)، التي عدّها من أخطر العوائق أمام تقدم العقل والمعرفة.
● اللغة بين الأداة والعبء
اللغة هي الأداة الأولى التي صنع بها الإنسان عالماً من الرموز والمعاني، ومن خلالها نسج شبكة الفهم المشترك والتواصل. لكن بيكون ينبّه إلى أنّ هذه الأداة ليست بريئة دائمًا؛ فهي كثيرًا ما تصبح عبئًا حينما تتحول الألفاظ إلى جدران فاصلة بين الفكر والحقيقة. فالإنسان يميل إلى أن يتعامل مع الكلمات وكأنها الأشياء نفسها، فيغفل عن أن اللفظ مجرد إشارة لا أكثر. هنا تقع الكارثة: إذ يظن العقل أنه يفكر في الواقع، بينما هو في الحقيقة يدور في فلك ألفاظ فارغة أو مشوشة.
بيكون يميز بين أصنام الطبيعة وأصنام السوق.
أصنام الطبيعة: هي الأوهام التي تنشأ من قصور الحواس أو من ميل العقل إلى التعميم والتسرع.
أصنام السوق: هي الأوهام التي تنشأ من سوء استخدام اللغة، ومن خضوع الفكر لمنطق الألفاظ بدلاً من منطق الأشياء.
الألفاظ إذن قد تكون قوة مولّدة للوهم، تُقيم حجبًا وأسوارًا أمام الحقيقة. على سبيل المثال، حينما يطلق الفيلسوف أو العالم كلمة غامضة أو مطاطة مثل "جوهر" أو "قوة" أو "طبيعة"، فإنها تصبح صنمًا يُعبَد دون أن يُسأل عن حقيقتها أو معناها الدقيق. هكذا تتحول اللغة إلى مصدر للكسل الفكري بدل أن تكون أداة للتحليل والنقد.
وبحسب بيكون فأن أصنام القبيلة تقوم على طبيعة الإنسان ذاتها، وعلى قبيلته أو جنسه البشري، إذ ان القول بأن حواس الإنسان هي مقياس الاشياء هو زعم خاطئ، بل على العكس، فإن جميع الإدراكات، سواء كانت بالحواس أو بالعقل، تتبع مقياس الفرد، لا مقايس الكون، وان الفهم البشري أشبه بمرآة زائفة، تستقبل الصور بشكل غير منتظم، فتشوّه وتلوّن طبيعة الاشياء بمزج طبيعتها الخاصة.
● نقد اللغة: خطوة نحو نقد الوعي
هذا الموقف من بيكون يُعتبر خطوة مبكرة في تاريخ الفلسفة الأوروبية نحو نقد اللغة، وهو نقد سيمتد لاحقًا إلى فلسفة كانط، وهيغل، ثم ليصل إلى فيتغنشتاين وهايدغر. بيكون يلتقي بطريقة ما مع ما سيقوله فيتغنشتاين بعد قرون: "حدود لغتي هي حدود عالمي". فحين تضيق اللغة أو تضل، يضيع معها العالم الذي نستطيع إدراكه.
اللغة إذن تُشكّل الوعي نفسه. فإذا كانت المرآة مشروخة أو معتمة، انعكس الواقع مشوهًا في ذهن الإنسان. وهنا يصبح تحرير الفكر من هيمنة الألفاظ شرطًا ضروريًا لتحرير العقل من الأوهام.
●الفلسفة تحرير من الألفاظ
ما أراده بيكون هو أن يفتح بابًا لعلم جديد، علم يعتمد على التجربة والملاحظة والبرهان لا على الألفاظ الموروثة. أراد أن يقول: لا تُعَوِّلوا على الكلمات، لكن عَوِّلوا على الأشياء. هذا الموقف يحمل في عمقه بعدًا إبستمولوجيًا (معرفيًا) لأن الحقيقة لا تُبنى بالكلمات وحدها، بل تحتاج إلى تجربة مباشرة مع العالم.
ووجوديًا لأن الكلمات إذا لم تُختبر بالواقع تتحول إلى أصنام تُعبد، فتأسر الإنسان في نظام رمزي مغلق.
●الفلسفة المعاصرة وصدًى لكلام بيكون
ما قاله بيكون عن "أصنام السوق" يجد صداه في مدارس فلسفية لاحقة ، ففي التفكيكية عند دريدا، حيث اللغة تؤجل المعنى وتولّد انزياحات لا نهائية ، وفي الظاهراتية عند هوسرل، حيث ينبغي العودة إلى "الأشياء ذاتها"، أي التحرر من طبقات اللغة التي تحجب التجربة المباشرة.
بينما في الفلسفة التحليلية عند فيتغنشتاين المتأخر، حيث الكلمات تُفهم من خلال "ألعاب اللغة"، أي ضمن السياق الاجتماعي، مما يحذّرنا من أخذها ككيانات مطلقة أو كحقائق قائمة بذاتها.
رؤية بيكون تثير سؤالًا وجوديًا: هل يستطيع الإنسان أن يتجاوز اللغة ليصل إلى الحقيقة؟ أم أن كل محاولة لفهم العالم محكومة بالوسيط اللغوي؟ إذا كان العالم يُرى عبر اللغة، فهل يمكننا أن نثق بقدرتها على نقل الحقيقة أم أنها دائمًا تُقيم حجبًا؟ هنا يظهر التوتر الفلسفي .
من جهة، نحتاج اللغة كي نفكر.
ومن جهة أخرى، اللغة تضللنا وتفرض علينا أنماطًا جاهزة من الفهم.
بيكون يختار الموقف النقدي حيث لا خلاص إلا بالتحرر من أسر الألفاظ الخادعة عبر التجريب والعقلانية. أما الفكر المعاصر فيرى أن اللغة هي الشرط الذي يجعل التفكير ممكنًا، ما يجعلنا نعيش دائمًا في مفارقة لا فكاك منها.
النص البيكوني يفضح الوجه المزدوج للغة ، فهي أداة للفهم ووسيلة للتواصل، لكنها أيضًا مصنع للأوهام ومصدر للأصنام. وهذا الوعي المبكر يشكّل خطوة مركزية في تاريخ الفلسفة الحديثة نحو نقد العقل واللغة معًا. وما طرحه بيكون يظل سؤالًا مفتوحًا حتى اليوم: كيف نتحرر من أسر الألفاظ لنقترب أكثر من الحقيقة؟
----------------------------
الألفاظ والفكر: من بيكون إلى الفلسفة العربية الكلاسيكية
●أصنام السوق عند بيكون وفكرة وهم اللغة
كما سبق التحليل، يرى فرانسيس بيكون في الأورجانون الجديد أن الألفاظ كثيرًا ما تتحول إلى أوهام تعيق الفهم، وأن "أصنام السوق" هي أخطر أنواع الحجب العقلي لأنها تنشأ من استخدام اللغة في التواصل الاجتماعي، من خلال التقليد، التعصب اللغوي، والانقياد للألفاظ دون فهم الجوهر.
هذه الرؤية تضع اللغة في موقع مزدوج: أداة للتعبير وأداة للإخفاء؛ فهي قد تُضيع الحقيقة بقدر ما تكشفها. ويبدو هذا الوعي المبكر كخطوة فلسفية نحو ما ستناقشه مدارس لاحقة في أوروبا عن طبيعة اللغة وعلاقتها بالوعي.
● الفكر العربي
نلاحظ أن الجاحظ في البيان والتبيين يركّز على أن اللغة هي منظومة دلالية تنسج الفكر نفسه.لاحظ الجاحظ أن ألفاظ الكلام قد تُعطي إيحاءات مغلوطة أو تصوّرات خاطئة عن الواقع، ما يشبه تمامًا ما سماه بيكون أصنام السوق ، وبيّن كيف أن التشبيه والمجاز والبلاغة يمكن أن تُسهم في تحريف الفهم إذا لم يُدرس المعنى بدقة، إذ تصبح الكلمات قناعًا يحجب الحقيقة.
وابن جني في الخصائص ركّز على اللغة بوصفها قلب الفكر ومرآة العقل حيث
رأى أن كل لفظ يحمل في بنيته ودلالته أثرًا على إدراك الإنسان، وأن إساءة فهم الكلمة قد تُسهم في سوء الحكم على الأشياء.
هذه الفكرة تتقاطع مع بيكون في أن اللغة قد تخلق أوهامًا معرفية إذا ظن الإنسان أن اللفظ هو الشيء نفسه.
هكذا نجد توازناً فلسفياً: الجاحظ وابن جني يقدمان تحليلاً دقيقًا لكيفية تأثير اللغة على الفكر، وبيكون يأتي بعدهم ليضع هذا المفهوم ضمن إطار علمي وتجريبي أوروبي حديث، مركزًا على كيفية تجاوز اللغة للوصول إلى المعرفة الدقيقة.
من جهة اخرى الفارابي تناول العلاقة بين اللغة والفكر في سياق فلسفي معرفي حيث اعتبر أن اللغة هي أداة عقلية لترتيب الأفكار ونقلها، لكنها تصبح عقبة إذا لم تُستخدم وفق القواعد العقلية والمنطقية.
ورأى أن سوء استعمال اللغة يؤدي إلى الخلط بين الماهية والاسم، أي بين الحقيقة والمفهوم، وهو ما يوازي أصنام بيكون.
ابن رشد، في شرحه لأفكار أرسطو، ركّز على ضرورة تجاوز الظاهر اللغوي للوصول إلى الجوهر العقلي وأكد أن بعض الكلمات تحمل معاني عامة يمكن أن تُضلل العقل إذا لم يُؤخذ السياق في الاعتبار.
هذا يذكّرنا بمبدأ بيكون القائل بأن الألفاظ تخلق أوهامًا أكثر من الحقائق، وأن العقل يحتاج إلى أدوات نقدية لمواجهة هذا التضليل.
يبدو إن بيكون والجاحظ وابن جني والفارابي وابن رشد يشتركون في رؤية جوهرية ، فاللغة وسيلة بشرية تحمل أبعادها الثقافية والاجتماعية ،العقل معرض للتضليل إذا اعتقد أن الكلمات هي الأشياء نفسها.
وأن التحرر من أوهام اللغة ممكن من خلال نقد الألفاظ، ومقارنة الأفكار بالخبرة والتجربة، وإعمال العقل في فهم المعنى الحقيقي للأشياء.
●التطبيق المعاصر
في عالم اليوم، يظل درس بيكون والفلاسفة العرب صائبًا فوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تنتج "أصنام سوقية رقمية" حيث الألفاظ تنتشر بسرعة وتخلق وهمًا عن الحقيقة.
الإعلانات، الشعارات السياسية، والتغريدات القصيرة تشبه تمامًا الألفاظ التي تحجب الفهم، كما حذّر بيكون والجاحظ.
من هنا، يصبح الوعي النقدي للغة ضرورة فلسفية وعملية لمواجهة التضليل المعرفي والاجتماعي.
يؤكد هذا الربط التاريخي والفلسفي أن العلاقة بين اللغة والفكر كانت محور اهتمام مستمر ،في الفكر العربي الكلاسيكي، من الجاحظ إلى ابن رشد، تم تحليل كيفية تأثير اللغة على الفكر ومعرفة الحقيقة.
بيكون جاء ليؤسس إطارًا تجريبيًا حديثًا يربط بين اللغة والعقل والمعرفة، مركزًا على التخلص من أوهام الألفاظ.
الفكرة الجوهرية المتصلة بالفكر المعاصر هي أن اللغة حقل صراع معرفي مستمر: بين ما تكشفه الحقيقة وما تخفيه الألفاظ. والوعي بهذا الصراع هو شرط أساسي لأي محاولة لفهم العالم بعمق فلسفي.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟