|
التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 22:13
المحور:
قضايا ثقافية
يُعدّ التاريخ بمثابة الذاكرة الجماعية للأمم، وهو السجل الذي تُبنَى عليه الهوية وتُستمد منه الشرعية. بيد أن هذا السجل، لا سيما في السياق الإسلامي، لم يكن أبدًا مرآة صافية تعكس الأحداث بموضوعية مطلقة. وانما ساحة صراع دائمة، تتشكل فيها الروايات وتُعاد صياغتها لتخدم مصالح السلطة والقوى المهيمنة. إن فهم آليات التزوير في التاريخ الإسلامي ضرورة ملحة لاستعادة وعي تاريخي نقدي، يُمكّن من فك الارتباط بين "الحقيقة" و"السلطة".
● التاريخ كأداة للسلطة وإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية
إن عملية تدوين التاريخ الإسلامي لم تنشأ في فراغ محايد، أو كعملية بريئة لنقل الوقائع. فبمجرد أن تنتقل الأحداث الحية والمتحركة من واقعها إلى صفحات مدونة، فإنها تخضع حتمًا لعملية صياغة المؤرخين وتأويلهم. هذا التحول يعني أن التاريخ ذاته يصبح جزءًا لا يتجزأ من معترك صراعات القوى والهيمنة. كان التدوين التاريخي عملية انتقائية تضمنت الاختيار والترتيب والتفسير، وهي كلها عمليات كانت دائمًا خاضعة لمعايير السلطة الحاكمة أو القوى النافذة التي تمتلك القدرة على إنتاج خطاب المعرفة والتحكم فيه. لقد سعت السلطة، سواء كانت سياسية أم دينية، بشكل دائم إلى إيجاد أدوات تُرسّخ شرعيتها وتبرر وجودها. في هذا السياق، غدا التاريخ الإسلامي محل إعادة تشكيل مستمرة، لم تخلُ من التزوير والتلاعب المتعمد. هذا التزوير بالاضافة الى الأخطاء العابرة الناجمة عن ضعف في النقل أو التوثيق، كان استراتيجية منهجية محكمة. غالبًا ما يتم تخطيط هذه الاستراتيجية وإدارتها من قِبل أفراد أو جماعات، سواء بوعي تام بمقاصدها أو حتى بشكل غير واعٍ. ولكن في كل الأحوال، فإن هذه العملية تعكس دومًا مصالح وأهدافًا محددة تسعى إلى تحقيقها. تجاوزت هذه العملية مجرد حجب الحقائق أو تحريفها. لقد وصلت إلى بناء سرديات بديلة كاملة، تخدم أغراضًا سياسية ومذهبية واضحة. يتم في هذه السرديات إبراز مجموعة معينة من الشخصيات والأحداث في ضوء إيجابي مبالغ فيه، وغالبًا ما يكون على النقيض من محاولة إلغاء أو تشويه كل صوت أو ذاكرة مخالفة. يُمكن وصف هذا بـ "قتل السيرة" أو "محو الآخر" عبر التاريخ. بمعنى انه فعل إقصاء عميق يتجاوز الجانب المادي، ليصل إلى طمس الهوية الجماعية والذاكرة، وإعادة رسم ملامح الجماعة وفق رؤية أحادية الجانب ومصلحية. لذلك، لا يمكن النظر إلى التاريخ الإسلامي إلا كـ منتج ثقافي وسياسي يعكس بوضوح صراعات المجتمع، وانقسامات السلطة، وآليات الهيمنة على الخطاب. إنه ليس "حقيقة موضوعية" قائمة بذاتها. ومن هنا تبرز الأهمية القصوى لـ قراءة التاريخ بعيون نقدية متفحصة، قادرة على تفكيك آليات التشكيل، وطرح الأسئلة الجوهرية: من يكتب التاريخ؟ ولماذا يكتبه بهذه الطريقة؟ وكيف يتم ذلك؟ هذه الأسئلة يجب أن تُطرح قبل أن نأخذ أي رواية تاريخية كحقيقة مطلقة أو سجل نهائي غير قابل للتشكيك.
● الدولة والذاكرة: صناعة الماضي في حضرة السلطة
على مر تاريخ الدولة الإسلامية، كان الماضي مجالًا متنازعًا عليه بشدة، وساحة حيوية للصراع على الشرعية والسلطة. لقد لعبت المؤسسات الحاكمة، لا سيما في مرحلتي الدولة الأموية والعباسية، دورًا محوريًا في إعادة صياغة التاريخ وتوجيهه بما يخدم أهدافها السياسية ويعزز قبضتها على السلطة. مع تأسيس الدولة الأموية، دخلت الرواية التاريخية مسارًا جديدًا. بدأ مشروع رسمي وممنهج لإعادة كتابة الأحداث الكبرى التي شهدتها فترة الخلافة الاولى والتي انتهت بسقوطها لصالح الأمويين. هذه المرويات حملت تحويرًا واضحًا في طبيعة العرض، خصوصًا فيما يتعلق بالفتن التي شهدها التاريخ الإسلامي المبكر. على سبيل المثال، تم تصنيف معركة كربلاء، التي شهدت استشهاد الإمام الحسين بن علي، على أنها "فتنة" أو "تمرد على السلطة". بذلك، تم تحويل الصورة من ثورة ضد ظلم الحكم إلى فعل "خيانة" يبرر القمع والعنف. هذا التفسير السياسي للتاريخ شكّل حجر الأساس في الخطاب الأموي، الذي أضفى على حكمهم طابع الشرعية السياسية والدينية، على الرغم من الجذور المتنازع عليها لسلطتهم. وبمجرد وصول العباسيين إلى السلطة، على خلفية تحالفات مع الخراسانيين والمناطق الشرقية، تبنت السلطة الجديدة مشروعًا مختلفًا، لكنه لم يكن أقل تأثيرًا في تشكيل الذاكرة التاريخية. فعلى الرغم من شعاراتهم الثورية المعلنة والانتقام من الأمويين، استمر العباسيون في ممارسة انتقاء سرديات تاريخية تُناسب مصالحهم السياسية. تم إحياء مرويات الخراسانيين الذين لعبوا دورًا محوريًا في إسقاط الأمويين، مع تهميش أو تحييد الأصوات المعارضة أو المناوئة، وخصوصًا تلك التي كانت خارج ما يمكن تسميته بـ "صفقة التاريخ الرسمية". هذه "الصفقة" التاريخية كانت أشبه بعقد غير مكتوب، يحدد من له الحق في السرد، ومن يُقصى أو يُهمّش، ومن تُكتب سيرته كمثل أعلى يُحتذى به، ومن يُشوّه اسمه أو يُلغى. وبذلك، لم يكن التاريخ الإسلامي في تلك المراحل سوى انعكاس مباشر للصراع على السلطة، حيث تُصنع الروايات، وتُعاد صياغة الأحداث لتبرير الانتصارات السياسية، وتبرير التهميش أو الإقصاء، بل وحتى التشويه الممنهج لجماعات وفئات بأكملها. في المحصلة، تكشف هذه المراحل من التاريخ الإسلامي كيف أن السلطة تتحكم في الحاضر وتمتد لتُعيد صياغة الماضي وتاريخه، كي تثبت وجودها، وتبني شرعيتها عبر صناعة ذاكرة جماعية تتناسب مع مصالحها، مستغلة في ذلك أدوات التاريخ والتأويل السياسي للوقائع.
● الإسرائيليات والأسطرة: استعارة الغريب لتثبيت القريب وصناعة الأسطورة
في سياق صناعة التاريخ الإسلامي وتشكيله، لعبت ما يُعرف بـ "الإسرائيليات" دورًا بارزًا في عملية التحوير والتزوير. هذه المجموعة من المرويات، التي استُوردت من التراث اليهودي والمسيحي، دخلت إلى التراث الإسلامي عبر رواة يهود ومسلمين تأثروا بالموروثات الدينية والثقافية المحيطة بهم. في البدء كانت هذه المرويات مجرد إضافات جانبية أو روايات ثانوية ثم شكلت لبنة أساسية في بناء السرد الديني والتاريخي الذي ساهم في تحويل الحقائق التاريخية إلى أساطير متداخلة، تلبس النصوص الدينية حلة من الغرائبيات والتفسيرات الخارقة. مثلت الإسرائيليات ظاهرة أوسع في التاريخ الديني عمومًا، حيث تستعير الأديان الجديدة سرديات وأشكالًا من الديانات السابقة لتثبيت مشروعها العقائدي وتوسيع قاعدة شرعيتها الثقافية. في حالة الإسلام، دخلت هذه المرويات عبر التفاعل الثقافي المكثف مع المجتمعات اليهودية والمسيحية، لا سيما في المشرق العربي، مما خلق مزيجًا معقدًا من الروايات والأساطير التي أثرت بشكل عميق على تفسير النص القرآني والحديث. أسهمت هذه الإسرائيليات في بناء صورة أسطورية للأنبياء، وتحوّلت إلى سرديات تشوبها الغرائبيات، مثل القصص التي تتجاوز المعقول في الأحداث والمعجزات، وتصف حياة الأنبياء بطريقة تضخم من أدوارهم فوق طاقة الواقع التاريخي البشري. هذا الأسلوب من الأسطرة لم يكن مجرّد تحريف سردي فحسب وأنما شكّل بالاضافة الى ذلك آلية فعالة لحجب الأبعاد الواقعية التاريخية، وتحويل الدين إلى أداة تحمل طابع القدرية المطلقة. فكل حدث سياسي أو اجتماعي يصبح مرتبطًا بمخطط إلهي مسبق، ما يجعل النقد التاريخي مستحيلاً، ويضع السلطة الحاكمة في موقع التنفيذ لما هو مُقدر إلهيًا، وبالتالي يصبح من غير الممكن مساءلتها. وبالتالي، أصبحت هذه المرويات الأسطورية أدوات بيد السلطة لصياغة ذاكرة جماعية تسهل فرض هيمنتها، وتبرر سياساتها باعتبارها امتدادًا لإرادة إلهية، وليست قرارات بشرية قابلة للنقد أو النقاش فقط. ومن هنا، يظهر التداخل الخطر بين التزوير التاريخي والديني، حيث تختلط الروايات السياسية والدينية لتنتج خطابًا موحدًا يكرّس السلطة ويمنع المعارضة. في هذا الإطار، لا بد من قراءة نقدية متأنية لهذا التراث الإسرائيلي داخل التاريخ الإسلامي. وتفكيك الآليات التي سمحت لهذه المرويات بأن تدخل وتحرف الخطاب الديني والتاريخي، والكشف عن الدور السياسي والثقافي الذي لعبته في تثبيت سلطة حاكمة على حساب الذاكرة التاريخية الصادقة.
● تزييف السيرة وإعادة إنتاج الصحابة: السلطة تكتب من جديد وجوه التاريخ
يُعدّ تزييف السيرة النبوية وسِيَر الصحابة أحد أبرز صور التزوير في التاريخ الإسلامي وأكثرها خطورة. عملية إعادة كتابة التاريخ لم تقتصر على الأحداث الكبرى فحسب لكنها شملت أيضًا إعادة تشكيل شخصيات الفاعلين الأساسيين. فالصحابة، الذين شكلوا نواة الجماعة الإسلامية الأولى، لم يكونوا في نظر المؤرخين الرسميين مجرد أفراد عاديين، بل كانوا أدوات حيوية لبناء شرعية سياسية ومذهبية متجددة، تتوافق مع الأيديولوجيات السائدة في عصور التدوين. في هذا الإطار، تم تلميع بعض الشخصيات الصحابية وتصويرهم كأيقونات لا تشوبها شائبة، ومثُلٍ يُحتذى به في الولاء والطاعة المطلقة للسلطة. بينما جرى تشويه أو تهميش آخرين، غالبًا لأسباب تتعلق بتقوية جهة سياسية أو مذهبية على حساب أخرى. هذه التعديلات لم تكن محايدة أبدًا، حيث انها اتسمت بتحيز واضح لخدمة السلطة القائمة، سواء في العصر الأموي أو العباسي، وحتى في المذاهب الإسلامية المختلفة التي حاولت تأسيس رواياتها الخاصة عن الصحابة وفقًا لمصالحها وتفسيراتها. تُعدّ "الصحبة" بحد ذاتها مدخلًا حاسمًا لبناء سلطة شرعية؛ فكل من يُدرج ضمن دائرة الصحابة المكرمين يُمنح نصيبًا كبيرًا من القداسة والاحترام السياسي والديني. ومن ثم، أصبح للانتماء إلى هذه الدائرة قيمة سياسية بالغة. ولذا، كانت السيرة مليئة بعمليات إقصاء ممنهجة لصورة بعض الصحابة الذين ينتمون إلى تيارات أو جماعات معارضة وتم وصفهم في بعض الروايات بأنهم "الفتّانون"، الذين تسببوا في الفتن والصراعات، مما يبرر قمعهم وتهميشهم. لعل أبرز التجليات في هذا الصدد كانت إعادة سرد أحداث الصراعات الكبرى التي شهدها التاريخ الإسلامي المبكر، مثل حروب الردة التي تلت وفاة النبي، ومعركتي الجمل وصفين، وصولًا إلى مأساة كربلاء. في هذه الأحداث، اختفى الأصل التاريخي أو طُمس تحت طبقات متداخلة من المرويات المتأخرة، التي حرصت على تعديل الحقائق بما يتلاءم مع المصالح السياسية والمذهبية التي ظهرت فيما بعد وأرادت أن تفرض رؤيتها. كانت الرواية التاريخية ساحة صراع تأريخي-سياسي تُشكل فيها الذاكرة الجماعية بحسب من يمتلك قوة إعادة الكتابة. ليتم بذلك إنتاج "سيرة مزيفة" تعيد إنتاج السلطة نفسها وتحميها من النقد أو التشكيك، مما يؤدي إلى استمرار الهيمنة. أثر إعادة إنتاج سيرة مزيفة على الخطاب الديني والسياسي هذه التلاعبات اثرت في سيرة الصحابة على التاريخ السياسي وامتد تأثيرها ليشمل بناء الخطاب الديني نفسه. وأصبحت المواقف من الصحابة هي التي تفرق بين المذاهب الإسلامية الأساسية: السنة والشيعة. فكل مذهب بنى خطابًا يقدّس بعض الصحابة وينتقد آخرين، ما رسّخ الانقسامات السياسية والدينية عبر العصور، وجعلها جزءًا لا يتجزأ من النسيج العقائدي. كذلك، ساهمت هذه السيرة المزيفة في تعطيل أي نقاش نقدي أو إعادة تقييم تاريخية. فقد أُقنعت الجماعة بضرورة التسليم المطلق بالسردية الرسمية، باعتبارها وحيدة الصواب ومصدر الشرعية الوحيد. وهذا بدوره يعزز سلطة الحاكم أو المؤسسة الدينية التي تحتكر تفسير النصوص وتحدد من هو "الصحيح" في التاريخ ومن هو "الضال"، مما يخلق بيئة من الجمود الفكري وعدم التسامح.
● المؤرخ ككاهن: بين رواية الحقيقة وصناعة الذاكرة السياسية
عندما نغوص في قراءة مؤلفات كبار المؤرخين المسلمين الأوائل مثل الطبري والمسعودي، نجد أنفسنا أمام ظاهرة مركبة تجمع بين التوثيق والرواية، وبين الحياد الظاهري والتأويل السياسي الخفي. فالطبري، على سبيل المثال، عاش وعمل في ظل السلطة العباسية التي فرضت أجواء محددة على إنتاج المعرفة التاريخية، وأثرت بشكل مباشر على كيفية صياغته للأحداث وتسلسلها. إنه، كما يشير الكثير من الباحثين، اعتمد مبدأ "أروي ولا أتحمّل مسؤولية". أي أنه نقل المرويات كما وصلت إليه دون تدقيق نقدي معمّق أو تحكيم صارم بين الروايات المتضاربة. هذا المنهج أتاح له التناقل بين روايات متضاربة أحيانًا، وترك للقارئ مهمة اختيار ما يراه صوابًا. هذه المقاربة، على الرغم مما فيها من صدق ظاهري أو محاولة للابتعاد عن التفسير الشخصي، فتحت الباب على مصراعيه أمام بقاء روايات مزيفة أو محرفة، وشوهت صورة بعض الأحداث والشخصيات، خصوصًا في سياق الصراعات السياسية والمذهبية العنيفة التي عاشها عصره. أما المسعودي، الذي عُرف بنزعته الموسوعية واهتمامه بجمع كم هائل من المعلومات من مصادر متعددة، فلم يكن بعيدًا عن التأثر بمصالح السياسة السائدة. فقد انحاز كثيرًا إلى جهات أو رؤى محددة، وعكس في كتاباته التوازنات والتحالفات السياسية لعصره، مما قلل بشكل ملحوظ من موضوعية مواقفه كمؤرخ مفترض أن يكون محايدًا. في هذا السياق، يمكن القول إن المؤرخ الإسلامي الكلاسيكي لم يكن مجرد ناقل محايد أو شاهد عيان سلبي. كان أشبه بـ "كاهن" ينطق باسم "الحقيقة" المعتمدة، والتي هي في جوهرها مرآة للسلطة القائمة ورؤيتها. فالمؤرخ يصوغ ذاكرة جماعية مقولبة، تُرسّخ نظام القيم والمصالح السياسية للدولة أو الفئة التي تدعمه، ويُغفل أو يهمّش بشكل منهجي أصوات التاريخ المخالفة أو المزعجة. هذا التقاطع الحتمي بين السلطة والمعرفة، كما بيّنه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في دراساته الرائدة، يجعل من التاريخ الإسلامي إنتاجًا معرفيًا لا يمكن فصله عن أيديولوجيات السلطة. ويكون أداة من أدواتها الفاعلة في السيطرة على المجتمع وتشكيل وعيه الجماعي، مما يضمن استمرارية الهيمنة. لذلك، لا بد من تناول نصوص هؤلاء المؤرخين بـ نظرة نقدية ناقدة، تفكك دوافع التحيزات الكامنة، وتُعيد قراءة التاريخ بعيدًا عن الروايات الرسمية التي غالبًا ما تصب في مصلحة القائمين على السلطة، وتعمل على تبرير وجودهم وشرعيتهم.
● التزوير كأداة أيديولوجية: من الفتنة التاريخية إلى خطاب "الصحوة" المعاصرة
لم يقتصر التزوير والتلاعب بالتاريخ الإسلامي على العصور القديمة أو الوسيطة فحسب، فقد استمر حتى اللحظات المعاصرة كـ أداة أيديولوجية فعالة تُوظف ببراعة في خدمة مشاريع سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة. فالتاريخ الإسلامي، بما يحمله من رموز وذكريات مؤثرة، أصبح مادة حية يُعاد تشكيلها باستمرار لتلبية حاجات الحركات الإسلامية الحديثة، التي تسعى إلى بناء سرديات مثالية تخدم رؤيتها وأجندتها السياسية. في هذا السياق، تُعاد قراءة التاريخ الإسلامي بمنظور انتقائي مُتقن، حيث يتم التركيز على تصوير "العصر الذهبي" أو "عصر الصحابة والسلف الصالح" كفترة خالية من الخطأ، نقيّة من الفتن والصراعات الداخلية، وعلامة على وحدة إسلامية مطلقة لا تقبل التشكيك. هذه الصورة المثالية، على الرغم من كونها غير واقعية تاريخيًا ولا تستند إلى أدلة دامغة، تُستخدم كمرجع أخلاقي وسياسي قاطع لتوجيه نقد حاد للواقع المعاصر، واتهامه بالخروج عن القيم الأصلية والهدى الإسلامي الصحيح. بموازاة ذلك، تُشيع هذه الحركات حالة من شيطنة كلّ من يعبر أو يفكر خارج هذا الإطار الأيديولوجي الضيق. بحيث تتحول أي محاولة للاختلاف أو النقد إلى فعل "بدعة" أو "انحراف عن الجادة"، مما يحد من حرية الفكر ويقمع التنوع والاختلاف المشروع داخل المجتمع الإسلامي، ويفرض نمطًا واحدًا للتفكير. وعبر هذا التوظيف المكثف للتاريخ المُزور أو المعاد تأويله، يُبرر مشروع سياسي قادم يُزعم أنه استعادة "الصحوة" أو "النص الأصلي"، وهي مشاريع غالبًا ما تحمل أبعادًا قومية، طائفية، أو حتى عنصرية خفية، تجعل من التاريخ الإسلامي مسرحًا لصراعات حادة على الهوية والسلطة، بدلاً من كونه مصدرًا للإلهام والتعلم. إن هذه الظاهرة تكشف كيف أن التاريخ الإسلامي هو ساحة للصراع الأيديولوجي المستمر، حيث يتداخل الدين والسياسة والثقافة ليُنتج سرديات جديدة تُستخدم كأدوات للهيمنة وإعادة إنتاج السلطة في الزمن المعاصر، بطرق أكثر تعقيدًا وتأثيرًا.
● "الإخوان المسلمون" وإعادة إنتاج تاريخ السلف الصالح في الخطاب السياسي المعاصر نموذجًا:
تُعد جماعة الإخوان المسلمون من أبرز الحركات الإسلامية المعاصرة التي وظفت التاريخ الإسلامي بشكل منهجي كأداة أيديولوجية لتثبيت مشروعها السياسي والدعوي. اعتمدت الجماعة على بناء سردية تاريخية تُعيد إنتاج مفهوم "السلف الصالح" بصورة مثالية، يُراد منها إحياء نموذج الإسلام الأول كمرجعية أخلاقية وسياسية لا بد من العودة إليها، وكأنها العصر الذهبي الذي يجب استعادته حرفيًا. في خطاب الإخوان، يُصوَّر السلف الصالح كجماعة متجانسة متحدة في العقيدة والعمل، مثالية في التزامها بالقيم الإسلامية، ومتجانسة في الولاء والطاعة، بلا خلافات أو انقسامات حقيقية. هذا التصوير يهدف إلى خلق حالة من الوحدة المطلقة والالتزام الديني والسياسي بين أتباع الجماعة، مع استبعاد كل مَن يعارض هذا النموذج أو يحاول تقديم قراءات مختلفة للتاريخ الإسلامي، حتى لو كانت تلك القراءات مستندة إلى مصادر تاريخية موثوقة. هذا الاستخدام الانتقائي للتاريخ لا يخلو من إعادة تفسير أو إلغاء للأحداث التي تُظهر الانقسامات أو الصراعات التي وقعت بين الصحابة أو في العصور الإسلامية اللاحقة، مثل معارك الجمل وصفين أو مأساة كربلاء، حيث يتم تصويرها على أنها "انحرافات مؤقتة" لا ينبغي أن تؤثر على وحدة العقيدة والعمل، بل غالبًا ما تُفسر على أنها قضايا اجتهادية لا تمس جوهر الإسلام. عبر هذا التوظيف التاريخي، تُبرر الجماعة رؤيتها السياسية وتحركاتها الدعوية على أنها استعادة لسنة السلف الصالح، وهو خطاب يُستخدم لمهاجمة الخصوم السياسيين وتبرير مقاومة الأنظمة القائمة، وصوغ خطاب "صحوة" دينية وسياسية تستهدف العودة إلى ما يُعتقد أنه أصل الإسلام النقي، بعيدًا عن ما يُوصف بـ "الانحرافات والفتن" التي أبعدت الأمة عن مسارها الصحيح. أثر إعادة إنتاج مفهوم "السلف الصالح" في الخطاب السياسي الحديث إن إعادة إنتاج هذا المفهوم بهذه الطريقة يعمل على تكريس رؤى أيديولوجية ضيقة، تُعزز منطق الطاعة المطلقة والرفض التام لأي اختلاف أو نقد، سواء كان نقداً تاريخياً أو فقهياً أو سياسياً. كما تُغلق الأبواب أمام الاجتهاد والتجديد الضروريين لمواكبة التغيرات، مما يؤدي إلى انغلاق الفكر الديني وتثبيت الصراعات الداخلية، لا سيما بين التيارات الإسلامية المختلفة التي تتبارى في تقديم رؤيتها لـ"السلف الصالح". في الوقت ذاته، فإن استخدام التاريخ بهذه الطريقة يُسهل تصعيد الصراعات الطائفية والسياسية، حيث يُحوّل التاريخ إلى ساحة صراع رمزي تُستخدم فيها مرويات الماضي لتبرير مواقف الحاضر، فتُشيطن فئات أو جماعات كاملة، ويُصاغ خطاب سياسي-ديني موجه للإقصاء والهيمنة، وليس للتعايش والتعددية.
● مقاومة التزوير بالشك والتفكيك – طريق استعادة الذاكرة التاريخية الحقيقية
في مواجهة تراكمات التزوير والتلاعب المستمر الذي أصاب التاريخ الإسلامي، لا يكفي الاعتماد على الروايات التقليدية أو التصديق السطحي لما يُقدّم على أنه "حقائق تاريخية". لكن يجب تبني موقف نقدي جذري وشكّاك، يرفض الاستسلام للسرديات الرسمية التي غالبًا ما تخدم مصالح السلطة وتغلف الواقع بأكاذيب مقنّعة، وتهدف إلى السيطرة على الوعي الجمعي. هذا الموقف النقدي يتطلب : أولاً مساءلة صارمة لكل مصدر تاريخي، بغض النظر عن مكانته أو قداسته المزعومة. لا بد من التحقق من الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي أُنتج فيها هذا المصدر، ومن الجهات التي كانت تستفيد من ترويجه ونشره، ومن الطرق التي تمّ بها إعادة صياغة الرواية التاريخية لتخدم أيديولوجيات معيّنة أو لتبرير أوضاع قائمة. ثانيًا، يجب تفكيك بنية هذه الرواية، عبر الكشف عن التناقضات الداخلية فيها، والتشويهات المتعمدة، وإعادة قراءة الأحداث من زوايا مختلفة ومتعددة، بما يكشف عن الصراعات الخفية والتوترات التي كانت كامنة خلف الحجاب الرسمي الموحد. إن هذه العملية هي عملية تفكيك معرفي وسياسي معًا، تهدف إلى فضح التواطؤ القديم والمتجدد بين النصوص التاريخية والسلطة، وتبيان كيف أن التاريخ هو أداة قوية للهيمنة والتفويض السياسي للأوضاع القائمة. وأخيرًا، إن استعادة الحقيقة التاريخية لا تعني العودة إلى "أصل" نقي أو زمن مثالي لا تشوبه شائبة، ولا البحث عن تاريخ بلا شوائب أو أخطاء. وانما تعني، في جوهرها، فهم كيف ومتى ولماذا كُتب التاريخ بهذه الطريقة المحددة، وكيف تم استثمار هذه الكتابة في مشروع "محو الآخر" – هذا المشروع الذي سعى دومًا إلى إلغاء المختلف، وطمس هويته، وشيطنته، لتثبيت سلطة أحادية ورؤية واحدة عن الماضي لا تحتمل النقد أو الاختلاف أو التعددية. في ظل هذه الرؤية، يصبح النقد والتفكيك أدوات لا غنى عنها لكل من يرغب في استعادة ذاكرة تاريخية حرة ونقية، تحرر العقل من أسر الخطاب الرسمي السائد، وتمكّن من بناء مستقبل معرفي وإنساني أكثر تنوعًا وصدقًا، يقوم على الوعي لا على الوهم.
● الشك والتفكيك كأدوات للتحرر من الهيمنة المعرفية
تتلاقى فكرة مقاومة التزوير في التاريخ مع المشروع الفلسفي العميق لـ جاك دريدا، الذي أسس نظرية التفكيك. هذه النظرية تقوم على التشكيك المنهجي في المفاهيم الجامدة، وفك البنى النصية التي تُكرس سلطة معانٍ وحيدة على حساب تعدد القراءات والتفسيرات. دريدا يعلّمنا أن النص ليس كيانًا مغلقًا ووحيد المعنى، بل هو فضاء للصراعات المعرفية والسياسية، حيث تتصارع التفسيرات المختلفة، ومن خلال هذا الصراع يُكشف عن آليات القوة التي تتحكم في إنتاج المعنى وفرضه. إلى جانب دريدا، يساهم ميشيل فوكو بمنهجه التحليلي الذي يُبرز كيف أن السلطة والمعرفة لا ينفصلان أبدًا. يرى فوكو أن السلطة تمارس سيطرتها عبر إنشاء "أنظمة الحقيقة" التي تفرض نفسها كمعايير للمعرفة المقبولة، وتحدد ما هو صحيح وما هو غير صحيح. فوكو يرى أن التاريخ، كما يُكتب، هو في جوهره أداة للهيمنة السياسية والاجتماعية، وأن تفكيك هذه الأنظمة المعرفية يكشف عن الخطابات المضادة التي تتحدى السلطة وتعمل على تقويضها. كما يمكن الإشارة إلى إدوارد سعيد ونقده الحاد لـ "الاستشراق"، حيث كشف كيف يُستخدم الخطاب الثقافي والمعرفي كأداة استعمارية تستهدف "محو الآخر"، أو صياغة صورة نمطية مغلوطة ومتحيزة عن الشعوب والثقافات غير الغربية بهدف السيطرة عليها. وهذا يتقاطع بشكل كبير مع فكرة "محو الآخر" في التاريخ الإسلامي التي تناولناها، حيث يتم تهميش أو تشويه روايات وفئات معينة لتحقيق هيمنة أيديولوجية وسياسية. هذه المناهج النقدية والفلسفية تقدم إطارًا قويًا لمواجهة التزوير التاريخي، وتؤكد على ضرورة التفكير النقدي المستمر لتحرير الذاكرة من قيود السلطة، والسعي نحو فهم أكثر عمقًا وتعقيدًا للتاريخ.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى
-
الدنيا رطب عالي
-
الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي
...
-
الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري
...
-
الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما
...
-
النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي
-
تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
-
من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
-
زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا
...
-
موت إلهٍ من بابل
-
مجرد ذكرى
-
محو الآخر هوامش غير مكتملة
-
المركزية البغدادية وهامش المحافظات
-
شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
-
شقشقة عراقية 3
-
شقشقة عراقية ( 2)
-
شقشقة عراقية
-
ظهيرة سوق البصرة القديم
-
شذرة 15 الدين والتحريم
-
شذرة 14 الدين والأخلاق
المزيد.....
-
مصادر لـCNN: وزيرة العدل الأمريكية أبلغت ترامب بوجود اسمه في
...
-
محكمة العدل الدولية تفتح الباب لتعويضات الدول المتضررة من ال
...
-
إسرائيل: الكنيست يقر مقترحا لضم الضفة الغربية ورفض أي خطة لإ
...
-
البرازيل تقترب من الانضمام لدعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل
...
-
أوزي أوزبورن: الحياة الصاخبة لـ -أمير الظلام- في عالم الروك
...
-
الولايات المتحدة توافق على بيع أوكرانيا أسلحة بقيمة 322 مليو
...
-
غويانا تراهن على التنوع البيولوجي وتحتضن قمة تحالفه العالمي
...
-
روسيا تعرض هدنة قصيرة وأوكرانيا تقترح لقاء بين زيلينسكي وبوت
...
-
الشراكتان الدفاعية والتجارية.. ملفات عديدة على طاولة البحث
...
-
عاجل | الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية فلسطينييْن قرب بلدة الخضر
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|