أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الاجتماعي















المزيد.....


زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الاجتماعي


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 15:24
المحور: الادب والفن
    


يُؤسس خيري شلبي في رواية "زهرة الخشخاش" فضاءً سرديًا يتجاوز حدود الحكي التقليدي ليُصبح حقلًا أنطولوجيًا يستكشف الوجود الاجتماعي في تجلياته الأكثر جذرية. لا يقتصر تميزه على إعادة إنتاج الواقع، بل في قدرته على تفكيك آليات "الاستلاب"التي تُشكل وعي الفرد وعلاقته بالعالم. يُوظف شلبي الحكاية كمختبر سردي دقيق، قادر على تشريح البنى العميقة للسلطة ليس فقط في تجلياتها المادية، بل وفي أبعادها الرمزية والنفسية التي تُعيد إنتاج التبعية والرضوخ بواسطة ادواتها المتمثلة بالعوائل الفاسدة وعلاقات السوق المعقدة والاعلام والقوى الامنية التي تقف بالضد من الجماهير التي لاتظهر الا بكونها خاضعة وقانعة ومنبهرة.
يستخدام الكاتب تقنية "تعدد الرؤى" ،حيث تتداخل الأصوات وتتصارع وجهات النظر، مُجسدة بذلك الطبيعة المُركبة للواقع الاجتماعي المُعاش، ومُفندة أي ادعاء بالوصول إلى حقيقة مُطلقة. هذا التناغم والاختلاف الصوتي يُفعّل لدى القارئ عملية "التفكيك" للبنى السردية والأيديولوجية الضمنية.
فالكاتب لا يقتصر على الراوي فحسب، بل يقحم الرؤية التاريخية والسردية لباقي الشخصيات من خلال الحكي المتواصل دون انقطاع، كأنّ المُقابِلَ لا وجود له إلا كمستمع خفيّ يقف في انتظار دوره ليتكلم في الفصل التالي.
فكل شخصية تحاول أن تقدم رؤيتها الأيديولوجية الخاصة بها، وبعض الشخصيات لا تفصح عن ذلك خوفًا من فقدان امتياز ما، بينما نجد على سبيل المثال "لولية" الشخصية التي تبدو في أول الظهور أضعف شخصية في الرواية، لكنها تدريجيًا تظهر قوة شخصيتها وقدرتها على البوح بكل صراحة دون خوف بحيث تتحول الى بيضة القبان في الرواية.
لا تُعامل شخصيات خيري شلبي كهوامش في المتن السردي، بل تُمنح وجودًا مُستقلًا يُوازي في أهميته الشخصيات المركزية . يُصبح كل فرد في عالمه الروائي تجسيدًا لعلاقة مُحددة بالسلطة، وموقعًا لتجليات الاستلاب بأشكاله المختلفة. يتجنب شلبي بذلك السقوط في تبسيط العلاقات الاجتماعية واختزالها في ثنائيات قطبية، مُقدمًا عوضًا عن ذلك شبكة مُعقدة من التفاعلات التي تُبرز ديناميكية القوة والمقاومة. هذا التوجه يتقاطع مع النقد الاجتماعي الراديكالي الذي يسعى إلى فهم آليات الهيمنة في تفاصيل الحياة اليومية.

الرواية كتجليات للسيرة الشعبية:

يُعلن شلبي عن موقعه النقدي من خلال تأكيده على الجذور الشعبية للرواية، مُعتبرًا إياها مصدرًا لمعرفة مُضادة للخطابات الرسمية:
"الرواية فن شعبي طوال تاريخها، وهي ضد الأرستقراطية رغم كونها ابنة للبورجوازية، لكنها في مصر ابنة شرعية للسيرة الشعبية التي أهّلتنا لِلإنصات ومتابعة الحكاية."

ينطلق شلبي هنا من رؤية ترى في السيرة الشعبية مخزونًا معرفيًا أصيلًا، قادرًا على تفكيك "الهيمنة الإبستمولوجية" التي تفرضها الخطابات النخبوية. يُصبح الإنصات للحكاية الشعبية فعلًا معرفيًا مُقاومًا، يُعيد الاعتبار لأشكال المعرفة المُتجسدة في التجارب الحياتية للعامة.
يُواجه شلبي في نصوصه آليات مُتعددة للسلطة، تتجاوز الإكراه المادي لتشمل "الضبط الاجتماعي" الذي يُمارس عبر المؤسسات والأيديولوجيات، وفقًا لرؤية فوكو. وتُعاد صياغة هذه الآليات في "زهرة الخشخاش" من خلال تمثيل طبقة تُعيد إنتاج امتيازاتها ليس فقط عبر الثروة، بل عبر التحكم في إنتاج المعنى والقيم، مُجسدة بذلك نقدًا عميقًا لآليات "إعادة الإنتاج الأيديولوجي" .

"الشماشرجية" كمفهوم مُركّب: تحليل سوسيولوجي لأنماط التدجين الثقافي

إن مفهوم "الشماشرجية" الذي يُقدمه خيري شلبي يتجاوز كونه مجرد توصيف لطبقة اجتماعية صاعدة أو نمط سلوكي مُستجد؛ بل يُؤسس لرؤية نقدية عميقة لآليات "التدجين الثقافي" ونتائجه على الهوية الفردية والجمعية. هذا المفهوم يُمكن قراءته في ضوء نظريات الاستلاب التي تتجاوز البُعد الاقتصادي لتشمل الأبعاد الثقافية والنفسية. فالشماشرجي هنا ليس فقط شخصًا يسعى للارتقاء الطبقي عبر التقليد، بل هو نموذج للإنسان الذي يُعيد تعريف ذاته وقيمه وفقًا لمعايير خارجية، مُفقدًا بذلك صلته بجذوره الثقافية الأصيلة.
يُمكن ربط هذا المفهوم بنظرية "التبعية الثقافية" ، حيث تُصبح ثقافة ما تابعة لثقافة أخرى مهيمنة، مما يؤدي إلى استيعاب قيم وأنماط استهلاكية وسلوكية لا تتناسب مع السياق المحلي. "الشماشرجية" يُمثلون هنا طليعة هذا الاستيعاب، حيث يُصبح تقليد النماذج الخارجية وسيلة للتمايز الاجتماعي الزائف، ولكنه في العمق يُساهم في إعادة إنتاج التبعية الثقافية وتكريسها.
" الشماشرجية خلقوا في بلدتنا تطلعات طبقية دفعت الناس تلقائيا إلى تقليدهم في تعليم الأولاد في مدارس البندر، وفي لبس الحرير والكشمير، أو على الأقل البوبلين والجبردين ليظهروا بمظهر المحترمين. أصابوا كبار وصغار الملاك والتجارة والحرفيين بمرض الفشخرة الكذابة"
إن التركيز على "استيعاب أنماط استهلاكية وثقافية" يُشير إلى ما يُعرف بـ "فتيشية السلع" ، كما وصفها ماركس في سياق مختلف، ولكن هنا يتم تطبيقها على مستوى أوسع يشمل الأنماط الثقافية. يُصبح التماهي مع هذه الأنماط الخارجية وسيلة للحصول على مكانة اجتماعية، بغض النظر عن مضمونها أو مدى ملاءمتها للواقع المحلي.
"حضور الشماشرجية بات كثيفا في البلدة. أصبحت سياراتهم مصدر بهجة للناس في غدوها ورواحها، يجري وراءها الأطفال، يتشعبطون في مصداتها الخلفية. عيال الشماشرجية النواعم وبناتهم الشيكولاته غيروا منظر البلدة بألوان ثيابهم الزاهية وعطورهم الزاعقة ولعبهم وألعابهم التي يشركوننا فيها بأريحية جعلتنا نحبهم ونصاحبهم ونتسابق في خدمتهم وتلبية طلباتهم"
يُصبح "الشماشرجي" بالتالي تجسيدًا لـ "الإنسان المُستلب" الذي يسعى إلى تحقيق الذات عبر "استنساخ نماذج خارجية"، مما يُفقده "أصالة هويته". هذه "الأصالة" ليست مفهومًا جوهريًا ثابتًا، بل هي نتاج تفاعل مع التاريخ والذاكرة الجمعية والبيئة الثقافية المحلية. عندما يتم استبدال هذه المرجعيات الداخلية بمعايير خارجية، يحدث نوع من الانفصال عن الذات الجماعية، ويُصبح الفرد أسيرًا لرغبة مُستمرة في مُضاهاة الآخر المختلف.
الأكثر دلالة هو تجلي هذا الاستلاب في "اللغة ذاتها"، حيث يُصبح اسم البلدة علامة على هذا "التحول القيمي". فتغيير اسم المكان، الذي يحمل في طياته تاريخًا وذاكرة، ليُصبح مرتبطًا بـ "الشماشرجي"، يُشير إلى مدى تغلغل هذه القيم الجديدة في الوعي الجمعي وتأثيرها على الهوية الجماعية. اللغة هنا ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي خزان للذاكرة والهوية، وتغييرها يُعد مؤشرًا على تحول أعمق في بنية المجتمع وقيمه.
" أصبح اللقب الاسم مصدر فخر للعائلة بل لأهل بلدتنا جميعا، حتى اسم بلدتنا تغير على الألسنة من خارجها إلى بلدة الشماشرجي".
في هذا السياق، يُمكن اعتبار "الشماشرجية" مفهومًا نقديًا يُشبه بعض المفاهيم التي طرحتها نظريات ما بعد الكولونيالية مثل "المُحاكاة" التي وصفها الناقد الهندي "هومي كيه بابا" ، حيث يقوم المُستعمَر بتقليد المُستعمِر، ولكن هذا التقليد غالبًا ما يكون مشوهًا وكاشفًا عن التوتر وعدم التطابق بين النموذجين. "الشماشرجي" هنا يُمكن أن يُنظر إليه كشكل من أشكال المُحاكاة للنماذج الغربية أو النخبوية، ولكنه يكشف في جوهره عن أزمة هوية ورغبة في الانتماء إلى نموذج مُتفوق يُتصور.
في الختام، يُقدم مفهوم "الشماشرجية" رؤية نقدية مُعمقة لآليات التدجين الثقافي والاستلاب، وتأثيرها على الفرد والمجتمع، مُتجاوزًا الوصف السطحي ليُلامس جذور أزمة الهوية في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية.
" صدقني يا خليل أفندي، بعد عمر طويل سترى شجرة الشماشرجية الفاسدة هذه تسيطر على المجتمع المصري بشكل أو بآخر. إنها العائلة المستعدة دائما للتحالف مع الشيطان. اليوم ضربوا جذورهم في كل الحقول، منهم الطبيب والمهندس والمحامي والوزير والكاتب والفقيه والتاجر والمقاول، جميعهم في النهاية شماشرجية. إنهم كالجراثيم التي تكمن في الجسم حين تشتد عليها مقاومته، لكنها لابد أن تعود من جديد بعدما تكتسب مناعة ضد الأدوية. حتى وهم في الكمون لا يسكتون: في الخفاء تحت السطح يهبرون، يسلبون، يهربون، يخربون، يقتلون القتيل ويمشون في جنازته أكثر حزنا عليه وتأثرا برحيله من أهله. مع الأسف سيعودون ولو بأسماء جديدة لأنهم في قعر المجتمع خميرة معتقة تتعيش عليها كائنات كثيرة".

الأسلوب: نحو تفكيك الثنائيات اللغوية وبناء لغة مُقاومة

إن تجاوز خيري شلبي للثنائية الاصطناعية بين العامية والفصحى لا يُقرأ ببساطة كابتكار أسلوبي يسعى إلى خلق جمالية لغوية مُغايرة، بل يُؤسس لفعل نقدي مُضاد للهيمنة اللغوية التي غالبًا ما تُلازم الهيمنة الاجتماعية والثقافية. هذه "اللغة السردية المُهجنة" التي يُقدمها شلبي ليست مجرد مزيج انتقائي لعناصر من كلا المستويين اللغويين، بل هي تركيب عضوي يُعيد تشكيل العلاقة بينهما. فبدلًا من اعتبار العامية مُستوى لغويًا أدنى أو مُقتصرًا على التعبير عن اليومي والمبتذل، والفصحى لغة النخبة والمعرفة الرفيعة، يسعى شلبي إلى تفكيك هذه التراتبية اللغوية المُتوارثة.
يُمكن النظر إلى هذا الأسلوب في ضوء ما يُعرف في الدراسات اللغوية والاجتماعية بـ "تداولية اللغة" ، حيث لا تُدرس اللغة بمعزل عن سياقاتها الاجتماعية والثقافية واستخداماتها العملية. إن دمج العامية في المتن الروائي ليس مجرد "تلوين" للغة السرد، بل هو اعتراف بقوة هذه اللغة في حمل دلالات ثقافية مُحددة، وتعبير عن تجارب ووجهات نظر غالبًا ما تُستبعد من الخطاب الرسمي والأدبي "الرفيع".
من منظور نقدي ما بعد كولونيالي، يُمكن قراءة هذا التجاوز اللغوي كاستراتيجية لـ "استعادة اللغة" من قبضة المركز اللغوي والثقافي. فالعامية هنا ليست مجرد لهجة مُشتقة أو مُشوّهة للفصحى، بل هي نظام لغوي مُستقل بذاته، يحمل تاريخًا وذاكرة جمعية مُختلفة. بدمجها في الرواية، يُعيد شلبي الاعتبار لهذه اللغة المهمشة، ويمنح صوتًا لمن أُسكتوا أو تم تهميش لغتهم.
علاوة على ذلك، يُمكن فهم هذا الأسلوب في إطار مفهوم "اللغة الثالثة" أو "اللغة الهجينة" الذي يظهر في سياقات ثقافية مُتعددة، حيث تتفاعل لغات وثقافات مختلفة لتُنتج أشكالًا تعبيرية جديدة. في حالة شلبي، لا يتعلق الأمر بتفاعل بين لغات مُختلفة بالمعنى الحرفي، بل بتفاعل بين مستويات لغوية مُختلفة داخل نفس اللغة، مما يُنتج طاقة تعبيرية جديدة قادرة على استيعاب تعقيدات الواقع الاجتماعي المصري بتناقضاته وتعدديته.
إن هذا "التداخل العضوي" بين العامية والفصحى لا يُقلل من قيمة أي منهما، بل يُعيد تعريف وظيفتهما داخل النص الروائي. تُصبح الفصحى قادرة على استيعاب حيوية وتلقائية العامية، بينما تكتسب العامية شرعية وقوة تعبيرية في معالجة موضوعات "رفيعة". هذا التفاعل يُنتج لغة سردية أكثر ديمقراطية وشمولية، قادرة على تمثيل طيف أوسع من التجارب والأصوات الاجتماعية.
في نهاية المطاف، يُمكن القول إن أسلوب شلبي اللغوي ليس مجرد أداة فنية، بل هو موقف إيديولوجي واعٍ يسعى إلى تفكيك البنى الهرمية للغة، وإعادة الاعتبار لقوة اللغة الشعبية كأداة فاعلة في التعبير عن الواقع ومقاومته. إنه يُؤسس لبلاغة سردية مُغايرة تتحدى المركزية اللغوية وتُعلي من شأن التعددية الصوتية واللغوية.

زهرة الخشخاش: استعارة مُركّبة لنقد آليات التزييف الأيديولوجي

إن اختيار "زهرة الخشخاش" كعنوان للرواية لا يقتصر على جاذبية الصورة البصرية أو الإيحاء بالجمال السطحي، بل يتضمن طبقات دلالية عميقة تتعلق بآليات "التزييف الأيديولوجي" التي تخترق الوعي الجمعي وتُعيق قدرته على التفكير النقدي. هذه الاستعارة المُركّبة تعمل على مستويين أساسيين: مستوى الجمال الظاهري الخادع، ومستوى التأثير المُخدّر الباطني.
على مستوى "الجمال الظاهري"، تُشير الزهرة إلى المظاهر البراقة والجاذبة التي تُقدمها الأيديولوجيات المهيمنة لتغطية الحقائق الأكثر قسوة أو تعقيدًا في الواقع الاجتماعي. هذا الجمال يعمل كغطاء أو ستار يُخفي وراءه التناقضات والصراعات والقوى التي تُشكل هذا الواقع. يُمكن ربط هذا الجانب بمفهوم "التمويه الأيديولوجي" ، حيث تُستخدم الصور النمطية والخطابات الجذابة لتجميل الوضع القائم وإضفاء الشرعية عليه.
أما على مستوى "الأصل المُخدّر"، فإن الإحالة إلى الخشخاش كمصدر للأفيون تُعمق من دلالة الاستعارة. فالأفيون يُفقد الوعي ويُنتج حالة من النشوة الزائفة والرضا المُصطنع. بالمثل، تعمل الأيديولوجيات المهيمنة على تخدير الوعي النقدي للأفراد، مما يجعلهم أقل قدرة على مساءلة السلطة أو فهم آليات الهيمنة التي تعمل لصالحها. هذا التخدير الأيديولوجي يُكرس حالة من "الرضوخ الطوعي" ، حيث يقبل الأفراد بالوضع القائم دون مقاومة حقيقية، لاعتقادهم الزائف بسلامة أو عدالة هذا الوضع.
في هذا الإطار، يُصبح العنوان "زهرة الخشخاش" بمثابة تشخيص نقدي لحالة المجتمع الذي تُصوره الرواية. إنه مجتمع يبدو ظاهريًا مُتماسكًا أو حتى مُزدهرًا، ولكنه في العمق مُصاب بتخدير أيديولوجي يُعيقه عن رؤية الحقائق البنيوية التي تُعيد إنتاج التفاوت والظلم. هذا التشخيص يتقاطع مع رؤى نقدية متنوعة، من نقد ماركس للأيديولوجيا كـ "وعي زائف"، إلى تحليلات مدرسة فرانكفورت لـ "صناعة الثقافة" ودورها في ترويج الأوهام.

إن النقد الجذري الذي تُقدمه الرواية لكيفية "إنتاج وتداول الأيديولوجيات" يتجلى في كشفها عن الآليات التي يتم من خلالها نشر هذه الأوهام وتثبيتها في الوعي الجمعي. قد تشمل هذه الآليات وسائل الإعلام، والمؤسسات التعليمية، والخطابات السياسية والدينية السائدة. تُظهر الرواية كيف تُستخدم هذه الأدوات لخلق "إجماع مُصطنع" حول رؤية معينة للواقع، وتهميش أو قمع أي أصوات مُعارضة أو مُشككة.
بالتالي، فإن "زهرة الخشخاش" ليست مجرد استعارة جمالية، بل هي أداة تحليلية تُساعد على فهم كيف تعمل الأيديولوجيا على حجب الرؤية النقدية وتكريس التبعية. إنها دعوة ضمنية للقارئ إلى تجاوز السطح الظاهري والبحث عن الجذور الخفية التي تُشكل وعيه وواقعه الاجتماعي.

●البنية السردية: جدلية الهوية والتحول في سياق الحداثة المُفككة

لا يمكن اختزال رحلة بهاء الراوي من ميت الديبة إلى الإسكندرية في مجرد انتقال جغرافي، بل هي هجرة سردية تستكشف جدلية الهوية والتحول في متاهات الحداثة السائلة التي عصفت بمصر في تلك الحقبة.
وهي هجرة معروفة تاريخيًا في كل المجتمعات.
لا يواجه بهاء ببساطة صراعاً بين بساطة الريف وتعقيدات المدينة، بل ينخرط في استبطان عميق لأزمة المعنى وتصدع اليقينيات التي بدأت تلوح في الأفق مع رياح التغيير. يصبح بحثه عن مكان في الإسكندرية، وعن ذاته في خضم هذا التحول، رحلة أوديسية مُعقدة. تتشابك في تجربته ترسبات الماضي الريفي بقيمه المتينة مع سيولة الحاضر المديني المُربكة بتناقضاته وإغراءاته.
لا يقتصر الأمر على استبدال قيم القرية بقيم المدينة، بل يتعداه إلى تفكيك بنيان هويته نفسه. تتصارع في داخله بقايا منظومة القيم التي تشربها في طفولته مع التحديات النسبية والأخلاق المتغيرة التي يواجهها في الإسكندرية. يصبح بهاء ذاتاً تسعى جاهدة لإعادة تجميع شظايا وجودها في عالم يبدو وكأنه يفلت باستمرار من أي تعريف نهائي، حيث تتداخل مؤثرات الحرب والتحولات الاجتماعية والسياسية لتشكل وعياً جديداً يتجاوز ثنائية الريف والمدينة نحو فهم أكثر تعقيداً للذات والعالم.

● الجنس في "زهرة الخشخاش": الجسد بوصفه ساحة صراع طبقي وأخلاقي وهوية مغتصبة

عند خيري شلبي، لا يكون الجنس لحظة تواصل أو لذّة خالصة، بل لحظة انكشاف وجودي، تتجلى فيها التصدعات الداخلية للفرد والمجتمع. في زهرة الخشخاش، يصبح الجسد – وتحديدًا الجسد الأنثوي – مرآة مشروخة تعكس انكسار القيم وتهافت الشعارات، وبنية السيطرة، وانهيار المشروع الثقافي الذي أراد أن يغيّر العالم بالكلمات، فابتلعته لذة العجز والاستسلام.
المرأة في الرواية ليست "مفعولًا به" بالمعنى السردي التقليدي فقط، بل هي أداة كشف للسلوك الذكوري المزدوج، المهزوم أخلاقيًا رغم ادعائه التقدم. فالعلاقات الجنسية لا تتم بين ندّين، بل في ظل اختلالات واضحة:
الصحفي المثقف، الذي يفترض أنه حارس للقيم وناقد للسلطة، ينجرف نحو علاقات عابرة، بلا قدرة على الالتزام، بل يتعامل مع الجسد الأنثوي كمنطقة لراحة مؤقتة من عبء الفشل العام.
السلطة، كما تنعكس في عالم الرواية، تمتلك الجسد وتمنحه وتمنعه، وتجعله وسيلة للصعود أو السقوط. وكأن الجنس، في هذا السياق، ليس انفعالًا إنسانيًا بل عملة سياسية واجتماعية.
الرغبة الجنسية هنا لا تحرّر، بل تفضح. يتقاطع الجنس مع الانكسار الذكوري، لا على صعيد الجسد فحسب، بل على صعيد القيمة والمعنى. الشخصية الرئيسية تبحث في الجنس عن وهم الخلاص، عن دفء يعوّض برودة العالم، لكنها سرعان ما تدرك أن تلك العلاقة جسدية من الخارج، فارغة من الداخل.
وهنا، يذكّرنا شلبي بأن الشبق في مجتمعات القمع ليس نقيضًا للقهر، بل امتداد له. ما يحدث في الفراش ليس مفصولًا عن ما يحدث في الصحيفة، أو في أروقة السلطة، أو في خذلان المثقف لذاته.
من اللافت أن خيري شلبي يستخدم لغة حميمة، موحية، لكنها بعيدة عن الابتذال. يقترب من الجسد دون أن يسقط في فخ الفحش، ويكشف الرغبة دون أن يبتذلها. في هذا التوازن، يكمن فنّه. لكنه، في ذات الوقت، لا يقدّس الجنس، بل يعرضه أحيانًا في أقسى حالاته: كغريزة مبتذلة، وكاحتياج ملحّ، وكفعل خالٍ من الحميمية.
اللغة في هذه المشاهد تكاد تكون تقارير تشريحية للجسد المقموع، والمخترَق، والهارب، أو المتواطئ. ولا نبالغ إذا قلنا إن شلبي، في طريقته هذه، يعيد كتابة الجسد العربي لا بوصفه فضاءً للرغبة، بل بوصفه نصًا من نصوص القهر.
الزمن الذي تدور فيه الرواية – أواخر القرن العشرين، مع انهيار المشروع القومي، وصعود النيوليبرالية، وتفتت الطبقة الوسطى – هو زمن السيولة في كل شيء: القيم، العلاقات، الهويات. والجنس، في هذا المناخ، يصبح فعلًا محايدًا، بلا سياق عاطفي، وأحيانًا بلا اسم. فالناس تلتقي، وتمارس، وتفترق، دون أن تعرف لماذا. وكأن الجنس ذاته فقد بُعده التكويني، وتحول إلى طقس مهزوم في مجتمع مهزوم.
هذا التشييء العام للجسد، يشير ضمنًا إلى فقدان المعنى. فالمتعة ليست هدفًا، بل وسيلة لنسيان الخيبة أو تأجيل مواجهتها.
الجنس في زهرة الخشخاش ليس موضوعًا روائيًا قائمًا بذاته، بل وظيفة سردية وأخلاقية تعكس اختلال البنية المجتمعية والفكرية. هو مساحة يُفصح فيها عن تواطؤ المثقف، وانكسار المرأة، وذلّ الفرد، وعبث المعنى. الجسد، في نص خيري شلبي، وثيقة سياسية بامتياز، تفضح شكل السيطرة الناعمة حين تتخفى تحت قناع اللذة، وتُحوّل الفرد إلى مُستهلِك للعزاء المؤقت.
خيري شلبي لا يكتب الجنس، بل يكتب الخوف منه، والخوف به، لأنه يعرف أن الحكاية الأهم لا تجري بين السرير واللذة، بل بين الجرح والخذلان.
"إن جاءتك متعة خذها في الحال بلا تردد لأنها لن تجيء مرة أخرى!.. عش حياتك، لأنك لن تستطيع إرجاع الأيام بعد مرورها، ولا زرع الوردة بعْد قطفها! ولا العودة إلى بطن أمك!"
في زهرة الخشخاش، لا توجد شخصية مثالية أو نقيّة. الجميع متورط بدرجات متفاوتة: في القمع، في النفاق، في الصمت، في الانهزام. لا يقدم خيري شلبي "أبطالًا" بل "شهودًا"، وكل واحد منهم يحمل ندبة ما. الشخصيات ليست آلات لتحريك السرد، بل مرايا باهتة تعكس وجه مدينة تسقط ببطء دون ضجيج.

●تأمل أخير: الرواية كفعل تحرري يسعى إلى استعادة الوعي
في العمق، تُصبح رواية خيري شلبي فعلًا تحرريًا يسعى إلى استعادة الوعي النقدي لدى القارئ. لا تكتفي بالوصف أو السرد، بل تسعى إلى تفكيك البنى العميقة للاستلاب والكشف عن آليات السلطة الخفية. إنها دعوة إلى مساءلة الواقع وتجاوز الأوهام الأيديولوجية، مُؤسسة على فهم عميق للثقافة الشعبية وقدرتها على إنتاج معرفة مُقاومة.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم
- شذرة 14 الدين والأخلاق
- حسين منه وهو من حسين
- شذرة 13 الارادة الانسانية
- شذرة 12 العقيدة والانسان
- غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
- ليس شعرا بل واقعة حدثت
- شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف
- شذرة 11 الدين والحرب
- شذرة 9 نظرة إلى التراث
- شذرة 7


المزيد.....




- بعد أشهر من قضية -سرقة المجوهرات-.. الإفراج عن المخرج عمر زه ...
- الإمارات.. إطلاق أول نموذج ذكاء اصطناعي باللغة العربية
- 6 من أبرز خطاطي العراق يشاركون في معرض -رحلة الحرف العربي من ...
- هنا أم درمان.. عامان من الإتلاف المتعمد لصوت السودان
- من هنّ النجمات العربيّات الأكثر أناقة في مهرجان كان السينمائ ...
- كان يا ما كان في غزة- ـ فيلم يرصد الحياة وسط الدمار
- لافروف: لا يوجد ما يشير إلى أن أرمينيا تعتمد النموذج الأوكرا ...
- راندا معروفي أمام جمهور -كان-: فلسطين ستنتصر رغم كل الظلم وا ...
- جبريل سيسيه.. من نجومية الملاعب إلى عالم الموسيقى
- بعد أيام من هروب على طريقة الأفلام.. شاهد لحظة القبض على نزي ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الاجتماعي