أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي















المزيد.....



النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 18:26
المحور: الادب والفن
    


1. انطباع ضد الموضوعية: دفاع عن الذات القارئة:

ليس النقد الانطباعي انحرافًا عاطفيًا أو شطحًا ذاتيًا كما يصوّره خصومه، بل هو مقاومة فكرية دقيقة ضد النزوع العلموي الذي اجتاح النقد الأدبي منذ مطلع القرن العشرين، حين بدأ يُعامل النص بوصفه كيانًا مكتفيًا بذاته، لا يحتاج سوى إلى أدوات تحليلية خارجية لاكتشاف "معناه الحقيقي". في هذا السياق، يصبح الانطباع فعل مقاومة ضد تحويل النص إلى معادلة، والقارئ إلى محلّل بيانات، والقراءة إلى تجربة "موضوعية" خالية من التوتر والتورط واللذة.
ظهر في القرن التاسع عشر تيارٌ فكري وجمالي يقاوم هذا المنظور، يمثله شعراء وكتّاب مثل ألفونس دو لامارتين وهيبوليت تين، اللذان اعتبرا أن حقيقة الفن لا تكمن في بنيته الشكلية أو سياقه التاريخي فقط، بل في أثره الشخصي، في ما يُحدثه من رجع داخلي لا يمكن إخضاعه لمنطق اللغة الخالص. فالفن عند هؤلاء لا يُدرس، بل يُعاش.
ويمثّل مارسيل بروست الذروة المضيئة لهذا الاتجاه. ففي عمله الضخم البحث عن الزمن المفقود، لا يتحدث بروست عن الكتب التي قرأها بصفته باحثًا، بل عن الكتب التي تركت أثرًا في تكوينه العاطفي والفكري، كأن القراءة عنده تجربة "حياتية" تندرج في السيرة الذاتية، لا في تحليل النصوص. وقد ذهب إلى حد القول:
"نحن لا نقرأ عملًا فنيًا بل نعيد خلقه داخلنا."
وهذا القول لا يعني أن القارئ يفرض ذاته على النص، بل أن النص لا يكتمل إلا حين يُعيد القارئ توليفه ضمن عالمه الشخصي. فالفن ليس مادة صلبة يمكن تثبيتها في معادلات نقدية، بل هو اهتزاز في نسيج الوعي، وفي هذا الاهتزاز تحديدًا تتولد القراءة".
يندرج هذا الموقف في تقليد عريق يربط النقد بالأثر، وليس بالبنية. فالنص الأدبي، كما يرى فرانك كارمودي، "ليس آلة تعمل تلقائيًا إذا أدخلنا مفتاح النقد الصحيح، بل كائن حي لا يكشف وجهه إلا لمن يرى نفسه فيه ".
النقد الانطباعي لا يكتفي بوصف الشعور، بل يحاول مساءلته. لماذا ترك هذا النص أثرًا معينًا؟ ما العناصر التي أثارت هذا الانفعال؟ وكيف يمكن تحويل الشعور العابر إلى معرفة جمالية؟ هنا تتداخل الذاتية مع الوعي، والانفعال مع المساءلة، والذوق مع النظرية، لتنتج لحظة نقدية نادرة: لحظة لا تدّعي الموضوعية، لكنها لا تنكر العقل.
في هذا السياق، يتقاطع الموقف الانطباعي مع نظرية التلقي كما بلورها كل من هانس روبرت ياوس وفولفغانغ أيزر، حيث لم يعد المعنى كامناً في النص وحده، بل متولّدًا في منطقة التماس بين النص والقارئ، بين ما هو مكتوب وما هو مُتوقّع".
الخطاب الذي يهاجم النقد الانطباعي بوصفه "شخصانيًا" أو "ذاتيًا" هو غالبًا خطاب يُخفي نزعة سلطوية، ترى أن المعنى يجب أن يُحتكر من قبل المؤسسة: الأكاديمية، أو النقدية، أو الثقافية. بهذا المعنى، فإن الدفاع عن الانطباع هو دفاع عن تعددية القراءات، عن الحق في الذوق، عن القارئ بوصفه كائنًا ذا سيادة.
في الأدب كما في السياسة، لا شيء أخطر من محاولة فرض قراءة واحدة على الجميع. ولذلك، لا يمكن فصل الموقف الانطباعي عن الموقف الديمقراطي في جوهره: فكما لا توجد حقيقة سياسية واحدة، لا يوجد "معنى أدبي نهائي".

2. نحو وعي انطباعي: الذات كوسيط تأويلي

في هذا السياق، لا يكون الناقد الانطباعي مجرد متلقٍ سلبي أو قارئ عابر، بل يتحوّل إلى شريك في إنتاج النص. إذ تنبني العلاقة بين القارئ والنص، في لحظة التلقي الحقيقية، على نوع من التواطؤ المعرفي: فالنص لا يُمنح بكليّته، بل يُستدرج عبر أثره، ويُعاد بناؤه في الذات القارئة بما يشبه التحالف الجمالي بين الاثنين.
إن الناقد الانطباعي لا يُسقط تجربته على النص، كما تُسقط العاطفة على وجه معشوق مجهول أو على سطح لوحة فارغة، بل يختبرها كما يختبر الكيميائي تفاعلات غير مرئية: يُمحّصها، يتعقّب منابعها، ويضعها موضع المساءلة. فالانطباع هنا ليس لحظة شعورية ساذجة، بل موقف تأويلي مركّب، يبدأ من الذات ولا يتوقف عندها. إنه وعي يتحرّك في منطقة معقدة بين الذوق والمعرفة، بين الذات والموضوع، بين الحميمي والعام.
وحين تُعرض هذه التجربة، لا تُعرض بوصفها "رأيًا"، بل بوصفها بنية شعورية ذات نسق داخلي، تنطوي على رؤية للعالم، وموقف من اللغة، وتأمل في أثر الفن. فالنقد الانطباعي لا يستمد شرعيته من تطابقه مع "الواقع النصي"، بل من قدرته على كشف طاقات النص الكامنة، من خلال مرآة الذات المرهفة، حين تكون هذه الذات مهيأة لأن تكون وسيلة إضاءة لا مرآة تشويه.
في هذا المعنى، لا يعود التحليل النقدي حكرًا على الأدوات البنيوية أو التفكيكية أو السيميائية. بل يصبح الانطباع، حين يمرّ عبر وعي نقدي يقظ، شكلاً من أشكال التحليل الفلسفي. فما الذي يمنع أن تكون اللذّة، أو النفور، أو القلق، أو الطرب، أدوات لتحليل النص؟ أليست هذه الانفعالات هي البُنى الأولى لتكوين المعنى داخل الذات القارئة؟ وإذا كان الأدب نفسه لا يُولد إلا من هزّة شعورية، فلماذا يُطلب من نقده أن يكون محايدًا، بلا هزّة؟
التمييز ضروري هنا بين الانطباعية الساذجة التي تسجّل ما يعبر الخاطر بلا مساءلة، والانطباعية الواعية التي تتعامل مع الإحساس كمدخل للمعرفة. فالنقد الانطباعي لا يرفض المنهج، لكنه لا يقدّس المنهج على حساب التجربة. إنه يفضّل أن يكون صادقًا لا صارمًا، مرنًا لا مقولبًا، منفتحًا لا مقفلًا. وهذا ما يجعل منه نمطًا تأويليًا يُعيد للنص حيّويته، ويُعيد للناقد انسانيته.
في عالم يُدفع فيه الناقد نحو التخصص التقني والصرامة الاصطلاحية، يأتي الانطباع كتذكير بجوهر العملية النقدية: أنها حوار بين إنسان ونص، لا اختبار كفاءة أو استعراض أدوات. فالمعرفة النقدية الحقيقية لا تنبع فقط من التمكن الاصطلاحي، بل من حساسية الوعي، ومن قدرة الناقد على الإصغاء إلى ما يقوله النص، وأحيانًا إلى ما لا يقوله.

3-الانطباع وسلطة الذوق: من الحُكم الجمالي إلى الموقف الوجودي

في قلب التجربة الانطباعية يكمن الذوق، لا كأداة تقييم مزاجي، بل كسلطة معرفية كامنة. فالذوق – بحسب تقليد فلسفي يمتد من كانط إلى بارت – ليس تعبيرًا عن تفضيل فردي، بل هو نتيجة ثقافية وتاريخية تتشكّل داخل الذات من تفاعلاتها مع العالم واللغة والمعايير الجمالية السائدة. ومع ذلك، يبقى الذوق شخصيًا بمعناه العميق، لأنه لا يمكن فصله عن البنية الشعورية والرمزية التي تشكّل الفرد، عن ذاكرته، عن خيباته، عن فرحه، عن جسده.
في هذا السياق، تصبح الذائقة أداة تأويلية لا تقل شأنًا عن أي جهاز مفاهيمي. فالانطباع لا يقدّم حكمًا نهائيًا، بل يفتح أفقًا للحوار مع النص، أفقًا تُختبر فيه الذات ويُختبر النص معًا. وهنا يظهر الفرق الجوهري بين الانطباعي والذوقي السطحي: الأول يصوغ موقفًا، والثاني يُسجّل تفضيلًا؛ الأول يُنتج معرفة ذاتية قابلة للجدل، والثاني يكرّس حكماً مغلقًا.
في زمن الحداثة، حين اهتزّت الثوابت، وانسحبت المرجعيات الكبرى، تحوّلت الذات إلى المصدر الأهم للمعنى. لم يعد من المجدي البحث عن حقيقة النص خارج التجربة الفردية. هكذا أصبح الانطباع – في أبرز تجلياته – تجسيدًا للحظة الحداثة ذاتها، حيث تتشابك الهشاشة بالعمق، ويصبح الشعور مقدمة للتفكير، والانفعال نواة لفهم أعمق.
من هنا، فإن الانطباعي ليس ضد الحداثة كما يتوهم البعض، بل هو أحد تمظهراتها الأصيلة. إنه يعيد الاعتبار لما هو فردي، هشّ، متحوّل، بوصفه مدخلًا جماليًا وفلسفيًا لتأويل العمل الفني. ومثلما قاومت الحداثة أشكال السلطة المغلقة في السياسة والدين، فإن الانطباعية تقاوم سلطة التفسير الواحد في النقد.
ليس الانطباع إذن لحظة مراهقة نقدية، بل هو موقف واعٍ من العالم ومن الفن معًا. والناقد الانطباعي، حين يعبّر عن "كيف تلقّى" النص، فهو لا يُقدّم صورة ذاتية خالصة، بل يُعلن عن انخراطه الكلي في التجربة. ذلك أن الذوق ليس مجرد حاسة جمالية، بل هو موقف وجودي من النص: أن تحبّ أو ترفض، أن تتفاعل أو تنفر، أن تشعر بالخطر أو بالدفء، كل ذلك يكشف طبقات المعنى التي لا تنجلي في التحليل البنيوي وحده.

4. مساءلة الشعور: من الانفعال إلى المعرفة

"أشعر أن هذا النص ثقيل ومزعج".
هذه الجملة، في ظاهرها، تبدو أقرب إلى ردّ فعل عابر، إلى نفورٍ غامض أو ضيقٍ عاطفي، لكن الناقد الانطباعي الواعـي لا يتوقّف عند حدود الشعور، بل يتوغّل فيه. لا يقف عند بوابة الانفعال، بل يدخل إليه، يمسكه كمادة أولى خام، ثم يبدأ اشتغاله التحليلي: ما الذي جعل هذا الشعور ممكنًا؟ ما اللغة التي فعّلت هذا الثقل؟ ما الصورة التي أثارت هذا الضيق؟ ما الإيقاع، أو التكرار، أو المسكوت عنه، الذي خلق حالة اللاارتياح؟
لكن الأهم، بل الأخطر، هو الوجه الآخر للسؤال:
ما الذي فيّ أنا، كذات قارئة، جعل هذا الشعور يتكثّف ويظهر بهذا الشكل؟
هنا تتفتّح أفق الذات بوصفها شاشة مزدوجة، تنعكس عليها الكلمات وفيها، لكنها أيضًا تُعيد رسمها وفق تراكمات تاريخها الشخصي والثقافي والنفسي. وهكذا، يتحوّل الانطباع من حكم ذوقي إلى مساءلة معرفية مزدوجة: للنص، وللذات معًا.
وفقًا لهذا التصوّر، لا يكون الشعور مجرّد استجابة غريزية، بل وثيقة مزدوجة: تكشف عن النص بقدر ما تفضح القارئ. إنها لحظة تقاطع بين جهازين تأويليين: ما يتيحه النص من إمكانات، وما تستدعيه الذات من بنيات حسّية وثقافية دفينة. هنا يتقاطع هذا الفهم مع مقولات نظرية التلقي كما طوّرها هانس روبرت ياوس وفولفغانغ إيزر، حيث لم يعد النص مركزًا مغلقًا للمعنى، بل أفق انتظار متحوّل يتشكّل في تجربة القراءة.
القارئ، وفقًا لإيزر، لا يكتفي بملء فراغات النص، بل يُعيد بناءه، يُفعّله، ويحوّله إلى خطاب حيّ. وهذا يعني أن الشعور – لا التحليل الصارم وحده – يصبح وسيلة لفهم البنية العميقة للنص، لكن بشرط أن يُساءَل، أن يُعرّى، أن يتحوّل إلى أداة لا إلى غاية.
في هذا الأفق، يمكن للانطباع أن يرتقي إلى مقام الجهاز التأويلي: ليس فقط لأنه يُعطي رأيًا، بل لأنه يفتح أبوابًا على اللاواعي، على المُكبوت الثقافي، على لحظات التماهي أو الانفصال. عندما يشعر القارئ أن النص "خانقه"، فقد يكون هذا الخنق ناتجًا عن تراكب بين بناء لغوي عنيف وماضٍ شخصي لم يُحلّ بعد. وحين يبتهج، قد لا يكون السرّ في جمال اللغة فقط، بل في استجابة نفسية أعمق لما تمنّاه ولم ينله.
بهذا، يصبح الشعور لحظة تأويل كاملة، مشروطة بالتحليل الذاتي والتفكيك البنيوي معًا. وهذا ما يُعيد تعريف الناقد الانطباعي، لا بوصفه "ذوّاقة" فقط، بل مُحلّلاً شعوريًا، يمسك بالشعور لا كخاتمة، بل كبداية طريق إلى الفهم.
إن مساءلة الشعور هي أيضًا مساءلة الذات، وهي لحظة شجاعة نقدية. إذ لا يمكن للناقد أن يدّعي الحياد وهو يكتب انطباعًا؛ فكل انفعال هو تصريح غير مباشر بما يؤمن به، بما يخشاه، بما يتوق إليه. الشعور – إذا أُخذ على محمل الجد – يفضح الخلفيات الأيديولوجية والموقف من السلطة والمعنى، ويكشف ما يُراد إخفاؤه تحت قناع الموضوعية الزائفة.
من هنا، فالانطباع حين يُساءَل، لا يُفقد خصوصيته، بل يكتسب شرعية نقدية وفكرية. يصبح طريقة في فهم النص، وطريقة في كشف الذات، بل طريقة في قراءة العالم.

5- الانطباع والكتابة: هل يمكن للنقد أن يكون سردًا؟

لماذا لا يُكتب النقد مثل الرواية؟ لماذا لا يسمح الناقد لنفسه أن يتورّط، أن يحكي، أن يكشف كيف وصل إلى انطباعه لا كمجرد خلاصة نهائية، بل كرحلة شخصية فيها التردد، والحيرة، والانفعال، وربما الخطأ؟
في النقد الانطباعي، لا تكون الكتابة مجرد وسيلة لإيصال الحكم، بل هي أداء جمالي في حدّ ذاتها، بل يمكن القول إنها امتداد للعمل الفني، لا شرح له. الناقد لا يشرح العمل بل يعيد خلقه. لا يفسره، بل يرويه بطريقته، يصوغ نصًا موازيًا ينطوي على حقيقته الخاصة، وعلى "أناه" الخاصة. بهذا المعنى، تصبح كتابة النقد فعلًا أدبيًا، ويتحوّل الناقد إلى راوٍ، يقص علينا لا ما حدث في النص فقط، بل كيف حدث له هو شخصيًا أثناء القراءة.
في هذا السياق، تتقاطع الانطباعية مع تجارب كتّاب نقديين من طراز رولان بارت، الذي اعتبر أن "اللذة" و"الهوس" و"التورّط الجسدي" في القراءة ليست حالات طارئة، بل جوهر العملية النقدية. ففي كتابه لذة النص، يتحرر بارت من لغة التفسير الكلياني، ليكتب كمن يتلصص على جسد النص ويصف انفعالاته حياله، لا كناقد عقلاني بل كـ"قارئ عاشق".
وهنا تصبح الذاتية، التي طالما نُظر إليها في النقد كعائق، هي نقطة القوة. لماذا؟ لأن الذاتية – حين تكون واعية ومُحلّلة – تسمح باستحضار طبقات كاملة من السياقات النفسية والجمالية والتاريخية التي يتعذر للنقد الأكاديمي المحض الوصول إليها.
يستعير النقد الانطباعي من السرد مرونته، ومن الشعر إيقاعه، ومن المقالة بوحها، ومن التأمل الفلسفي أسئلته. ولذا فهو لا يخجل من الأسلوب، بل يحتفي به، لأن شكل الكتابة هنا ليس قالبًا خارجيًا بل جزء من الدلالة. كيف يمكن لنقد "جاف" أن يفهم قصيدة مفعمة بالشجن؟ أو لرؤية بنيوية أن تشرح عملًا متشظيًا يكتب من حطام ذاكرة معذّبة؟
ما يقترحه هذا النمط هو أن اللغة النقدية نفسها يجب أن تُحاكم كما يُحاكم النص: هل لغتك كناقد تعبر فعلًا عن أثر العمل فيك؟ أم أنها لغة مستعارة من صرامة أكاديمية لا علاقة لها بتجربتك الحقيقية؟
أن تكتب نقدًا انطباعيًا يعني أن تُخلي مكانًا للذات، أن تُفسح للارتباك، أن تُبقي المسافة مفتوحة بين ما شعرتَ به وما تحاول أن تفهمه. وهذا يتطلب شجاعة مضاعفة: شجاعة أن لا تختبئ خلف أدوات جاهزة، وشجاعة أن تكتب بصوتك لا بصوت المناهج.
ليس هذا دعوة إلى الاستسهال أو التلقائية، بل إلى كتابة نقدية مسؤولة، عميقة، ذات طابع شخصي لكنها مشروطة بالتفكير والتحليل. إنه سرد مضاد للتعالي الأكاديمي، واحتفاء بالذات كأداة قراءة لا تقلّ أهمية عن النظرية.

6. الذات في مرآة النص: القراءة بوصفها فعلًا مزدوجًا

ليس انطباع القارئ مجرّد استبطان شعوري عابر، بل هو نتاج اشتباك مع بنيات خارجية تحرّض الذات على إعادة تشكيل وعيها. حين يقول بروست إننا لا نقرأ الكتب بل نقرأ أنفسنا من خلالها، فهو لا يُلغي النص لصالح الذات، بل يُبرز آلية معقّدة من الانعكاس المتبادل: الذات تُسقط على النص أسئلتها، فيعيد النص ترتيب هذه الأسئلة ضمن بنية غير متوقعة، تخلخل بدورها صورة الذات الأولى.
بهذا المعنى، يصبح النص مرآة إشكالية: لا تعكس ملامحنا ببساطة، بل تكشفها من زوايا لا نملك رؤيتها وحدنا. النص ليس مسطّحًا لذواتنا، بل انكسارًا مركبًا يفرض على القارئ أن يتأمل نفسه لا في ضوء ذاته فقط، بل في ضوء ما يتيحه النص وما يخفيه، ما يقوله وما يُلمّح به.
هنا ينشأ موقع مركّب للناقد: قارئ منجرف مع النص، وذات ناقدة تحلل هذا الانجراف. ليست القراءة استسلامًا، لكنها أيضًا ليست مقاومة متعالية. إنها مشاركة حساسة، حيث يشتبك النص مع شبكة من الذاكرة، والتجربة، واللغة، والهواجس الثقافية، ليشكّل طبقة جديدة من المعنى لا تنتمي للنص وحده ولا للقارئ وحده، بل لما يمكن تسميته بـ**"الوعي التأويلي"**.

هذا ما تشير إليه مقولات ياوس وإيزر في نظرية التلقي، حين يتحدثان عن القارئ كـ"منتج للمعنى". لكن المنتج هنا ليس ذاتًا مطلقة، بل ذات تتشكّل ضمن شروط تلقيها، ضمن أفق انتظار، وسياق ثقافي، ومسافة بين ما تتوقعه وبين ما تصطدم به. فالانطباع ليس لحظة عاطفية فقط، بل تجسيد معرفي لتوتر بين النص والذات.

ثمة سوء فهم شائع يربط بين التعبير الذاتي والنرجسية، وكأن كل كتابة تتضمن "أنا" تعني استغراقًا في التمركز حول الذات. لكن ما يفعله النقد الانطباعي الواعي هو تفكيك "الأنا" لا تمجيدها: الكشف عن تاريخ هذه الذات، تحيزاتها، حساسيتها، أسئلتها المضمَرة، وطريقتها الخاصة في بناء علاقة مع اللغة. فالمسافة بين القارئ والنص لا تُلغى، بل يُعاد التفاوض عليها مع كل قراءة، لتصبح الذات مرصودة ضمن علاقتها بالآخر، لا في انغلاقها عليه.

حين يقول القارئ "أشعر أن النص خانق"، فإن النقد الانطباعي لا يكتفي بتسجيل هذا الانفعال، بل يسائله: ما الذي في النص ولّد هذا الإحساس؟ وما الذي فيّ جعلني أستجيب بهذه الطريقة؟ ما البنية النفسية أو الثقافية أو الجمالية التي تحوّل هذا النص إلى تجربة خانقة؟

هكذا يتحوّل الانطباع إلى أداة معرفية، لا يُستخدم فيها الشعور بوصفه دليلًا نهائيًا، بل كبوابة إلى التحليل. ليس الانطباع بديلًا عن النقد، بل شكل من أشكال تفعيله داخل الجسد والتجربة الشخصية، شرط أن يُصاغ بلغة واعية تساءل نفسها وتُفكك آليات تلقيها.

7. كتابة الانطباع بوصفها خطابًا مزدوجًا: بين أثر النص وبنية التلقي

لا يُعدّ الانطباع مجرد استجابة أولية لسطح النص، بل هو فعل معرفي مزدوج يكشف عن طبيعة القراءة ذاتها بقدر ما يُظهر أثر النص. فالناقد، حين يكتب انطباعه، لا يدوّن فقط ما "أحدثه" النص فيه، بل يفكك أيضًا كيفية حدوث هذا الأثر: ما هي مرجعياته الجمالية؟ ما المسارات النفسية والمعرفية التي فعّلتها القراءة؟ وأي طبقات من وعيه تفاعلت أو اصطدمت مع بنية النص؟

بهذا المعنى، تصبح كتابة الانطباع خطابًا تأويليًا ذاتيًّا، لكنها ليست ذاتية مغلقة أو ساذجة. هي ذاتية واعية تضع الذات القارئة موضع مساءلة، وتكشف في كل عبارة عن موقع هذه الذات داخل شبكة من الذائقة، والوعي، والتاريخ، والتوقعات الجمالية. إنها كتابة لا تكتفي بالقول "أعجبني" أو "نفرت منه"، بل تطرح الأسئلة الأعمق: لماذا أعجبني؟ ما الذي في تكويني الثقافي يجعلني أقبل أو أرفض هذا الشكل الجمالي أو ذاك؟

الانطباع الواعي إذًا لا يطلب "الحياد"، لأنه لا يدّعي امتلاك حقيقة خارجية عن النص، بل يعترف بأن كل قراءة هي في ذاتها تأويل مشروط. لكنه، في الوقت نفسه، لا يسقط في الانفعال المجرد. هنا يظهر الفارق الجوهري بين الانطباع الساذج، الذي يكتفي بردّ الفعل، والانطباع النقدي الواعي، الذي يحوّل الشعور إلى مادة للتفكير، والانفعال إلى مدخل للتفكيك.

في هذا السياق، تبدو عبارة أنور المعداوي: "ليست القراءة فعلًا أدبيًا فقط، إنها سلوك ثقافي، بل ووجودي"، تعبيرًا مكثفًا عن هذا المنظور. فالقراءة ليست تذوقًا شكليًا، بل اختبارًا لهوية القارئ، واشتباكًا مع العالم من خلال اللغة، ومساءلة صامتة — وأحيانًا صاخبة — للذات كما تتكشف في علاقتها بالنصوص، لا بما تقوله فقط، بل بما تُخفيه وتستدعيه وتقاومه أيضًا.

بهذا، تتحول كتابة الانطباع إلى خطاب تأويلي مركّب، لا يعبّر عن ذوق خاص فحسب، بل عن رؤية للعالم، ولموقع الذات داخل التاريخ الثقافي، ولطبيعة التلقي بوصفه تجربة وجودية وجمالية في آن معًا.

8. التجربة بوصفها بؤرة المعنى في النقد الانطباعي

في قلب النقد الانطباعي تكمن التجربة الفردية، تلك اللحظة الحية التي ينبثق فيها المعنى داخل قارئ النص، بعيدًا عن محاولات التفسير الموضوعي أو التثبيت الأكاديمي للمعنى. لا يسعى هذا النوع من النقد إلى تقديم قراءة تُثبت صحة تفسير معيّن للنص أو إلى فرض نموذج محدد للمعنى، بل ينفتح على مشاركة تجربة ذاتية فريدة. هذه التجربة ليست مجرد انفعال عابر، بل هي مشهد معقد من الإدراك، الإحساس، والتفاعل الذهني، الذي يشكل نقطة الانطلاق لفهم العمل الأدبي من منظور مختلف: منظور القارئ الذي يعيش النص ويعيد خلقه في ذاته.

بهذا المعنى، يصبح النقد الانطباعي أقرب إلى فن الاعتراف، حيث يكتب الناقد عن تجربته الشخصية مع النص، على غرار الكتابة الذاتية أو السيرة الثقافية التي تكشف عن تاريخ معرفي وحسي يتشابك مع النصوص. فالناقد هنا ليس مجرد ناقل لمضمون أو مفسر لبنية، بل هو شاهد على تأثير النص في وعيه وحواسه، يروي كيف تحركت دواخله وكيف اهتزت ذاكرته وعاطفته أثناء التفاعل مع النص.

هذا النوع من النقد يركز على السؤال: "ما الذي فعله النص بي؟" بدلاً من السؤال التقليدي: "ما معنى النص؟". وهو تحوّل جوهري في مقاربة النصوص الأدبية، حيث يتبدل محور الاهتمام من النص كمضمون مستقل ثابت إلى النص كحالة تجريبية متجددة، تستدعي في كل قراءة إعادة خلق للمعنى من خلال التفاعل الفردي.

هذا الانزياح لا ينفي قيمة التحليل البنيوي أو النظريات النقدية الأخرى، لكنه يضيف بُعدًا إنسانيًا، إذ يجعل من تجربة القراءة فعلًا ذاتيًا تفتّح للمعنى لا مجرد استقباله. وبالتالي، لا يكون النقد الانطباعي مجرّد تعبير عن ذوق شخصي، بل يصبح مساحة حوار بين النص وقارئه، حيث يتشارك الناقد تجربته مع القراء الآخرين، داعيًا إياهم إلى الدخول في تجربة مماثلة أو مختلفة.

يمكن القول إن تجربة الناقد الانطباعي تمثل بؤرة المعنى الحي، حيث يُنتج النص معناه ليس فقط من خلال محتواه أو بنيته، بل عبر العلاقة الديناميكية بين النص والذات القارئة. وفي هذا الإطار، يتداخل النص مع الوعي الذاتي والتاريخ الثقافي للفرد، ليُنتج معنى متعدد الطبقات، يظل مفتوحًا، قابلًا للنمو والتغير، ولا يخضع لقيود الحتمية التفسيرية.

في النهاية، يحرر النقد الانطباعي المعنى من قيود الموضوعية الجامدة ليعيده إلى وضعه الطبيعي كنتاج لتجربة إنسانية عميقة، ويُعيد النص إلى دائرة الحياة الحية التي تجري فيها القراءة كحوار مستمر بين الذات والنص، وبين التجربة والذاكرة، وبين الحاضر والماضي الثقافي.

9. التوازي بين النقد الانطباعي والشعر: اللغة كفضاء للتجربة الداخلية

يُعد النقد الانطباعي أقرب إلى الشعر منه إلى التحليل التقليدي؛ ذلك لأن كلاهما يشترك في المهمة الأساسية ذاتها: اختبار اللغة كوسيلة لنقل تجربة داخلية عميقة، لا مجرد توصيل معلومات أو تأكيد حقائق موضوعية. ففي الشعر، تُستخدم الكلمات والصور والتراكيب اللغوية لتحفيز إحساس خاص، ولخلق فضاء تعبيري يتخطى حدود المعنى الحرفي ليصل إلى لحظة حضور وجدانية وعاطفية حية. وبالمثل، يسعى النقد الانطباعي إلى التقاط أثر النص الأدبي داخل الذات، وتوثيقه عبر لغة تحمل بُعدًا شعريًا في دقتها وحيويتها وشفافيتها.

الناقد الانطباعي، بدلاً من أن يكون مجرد ناقل أو محلل سردي بارد، يصبح في هذا السياق كاتبًا يكتب عن تجربة حسية ونفسية وفكرية، عن انفعال يمر عبر صلب النص، يترك في النفس أثرًا يشبه "رجع الصدى" أو "الظل" الذي تتركه قصيدة مؤثرة في القارئ. هنا لا يكمن الهدف في تقديم تفسير نهائي أو تحليل منطقي، بل في التعبير عن صدى النص داخل الذات، كيف يتناغم أو يتنافر مع ذائقة الناقد، وكيف يستنهض ذكريات، أو يوقظ مشاعر، أو يفتح آفاق تأمل جديدة.

هذا التوازي يضع النقد الانطباعي في مرتبة قريبة من الشعر، إذ يعمل على مستوى اللغة والشعور والفضاء الداخلي، حيث يكون النقد في بعض الأحيان أشبه بـ"قصيدة نثرية" أو "خطاب ذهني شعري"، يحاول عبر تلاعبه بالكلمات والعبارات أن يثبت لحظة تفاعل محددة، لا أن يُغلق النص في تحليل جامد. فاللغة هنا لا تقوم بوظيفة توضيحية أو تفسيرية تقليدية، بل هي وسيط تجربة وجمالية، تُجسد حالة ذاتية فريدة، تخلخل الرؤية الجامدة وتفتح نافذة على ما وراء المعنى الثابت.

علاوة على ذلك، يُعيد النقد الانطباعي بناء النص على نحوٍ يشبه كيف يعيد الشاعر خلق اللغة والمعنى من جديد، ففي كل قراءة تنتج اللغة معنى مختلفًا متحولًا، يستجيب لحالة القارئ النفسية، والذاكرة الثقافية، واللحظة التاريخية التي تحدث فيها القراءة. وهذا يجعل النقد الانطباعي عملية إبداعية حية تتداخل فيها حدود الكاتب والناقد والقارئ، كما تتداخل فيها تجربة اللغة كحياة روحية، وليس مجرد أداة.

بذلك، يصبح الناقد الانطباعي بمثابة شاعر يترجم حالة وجدانية داخلية، لا ناقلًا صمًا لمنهج أو مفهوم نقدي جامد. إنه ينقل ليس المعنى الموضوعي، بل رجع المعنى أو بقاياه الحسية، ذلك الأثر الذي يتركه النص في نفس القارئ، ويجعل من القراءة حدثًا متجددًا يتحدى ثبات المعاني وصرامتها.

في نهاية المطاف، يعكس هذا التوازي بين النقد الانطباعي والشعر فهمًا نقديًا جماليًا يدعو إلى إعادة النظر في علاقة اللغة بالنص، ويؤكد على أن القراءة النقدية ليست مجرد إعمال للعقل في تفكيك النص، بل هي فعل جمالي يستلهم قوة الشعر في التعبير عن الذات والتجربة، حيث تتشابك الكلمات لتروي قصة انطباع حي متحرك لا يمكن حصره أو اختزاله.

10. حدود النقد الانطباعي: بين الذات والنص وإشكالية الانغلاق

على الرغم من قوة النقد الانطباعي في فتح آفاق جديدة لفهم النصوص الأدبية من منظور تجربة شخصية وجمالية، إلا أن هذا النوع من النقد يواجه تحديات حدودية جوهرية تنبع من طبيعته الذاتية. فالانطباع، بطبيعته الأساسية، هو فعل فردي ينبع من تفاعل القارئ مع النص عبر وعيه العاطفي والمعرفي، وهو ما يجعل منه تجربة حساسة لكنها معرضة للانغلاق والانحصار في الذات.

يمكن أن يتحول الانطباع إلى سلطة جديدة على النص، سلطة تمحو النص نفسه لصالح الذات الناقدة، حيث تصبح القراءة انعكاسًا مغلقًا لمشاعر وأذواق وتراكمات نفسية شخصية، تفقد معها القراءة موضوعيتها ونقديتها. هذا الانغلاق يشكل خطرًا حقيقيًا، إذ يقود إلى صياغة نقد إقصائي، لا يرى في النص سوى ما يطابق إحساس الناقد، متجاهلاً أبعاد النص الأخرى، أو حتى تنوع القراءات الممكنة.

لذلك، لا بد من وجود وعي نقدي عميق، يجعل من الناقد الانطباعي ليس مجرد مستودع للعواطف أو الانفعالات، بل واعيًا بحدود ذاته وخلفياته الثقافية والنفسية. يجب أن يُمارس الناقد حوارًا مستمرًا مع تجربته الذاتية، أن يفرق بين التعبير عن إحساسه الشخصي وبين تقديسه وتحويله إلى مرجعية مطلقة، فالفصل هنا ضروري ليبقى النقد الانطباعي إنتاجًا معرفيًا نقديًا، لا مجرد تعبير انفعالي.

بهذا المعنى، يقترب النقد الانطباعي من مشاريع نقدية أخرى ذات أفق تفكيكي، حيث تصبح القراءة ليست مجرد محاولة لفهم أو تفسير النص، بل أفقًا مفتوحًا للمتعة والتمتع، كما يطرح رولان بارت في كتابه "لذة النص"³. في هذا السياق، تتحول القراءة إلى فعلٍ حرّ يُنتج متعةً لا تقتصر على معرفة النص أو استبطانه، بل تشمل الاستمتاع بفضاءات النص المفتوحة، واللعب معه، وتأويله بطرق متعددة وغير محدودة.

تلك النظرة التفكيكية توسع من نطاق النقد الانطباعي، وتحرره من قيود الذات المغلقة لتصبح القراءة فعلاً إبداعيًا تواصليًا بين النص والقارئ، حيث لا تُمحى حدود الذات لكن يُعاد إنتاجها ضمن شبكة علاقات معرفية وجمالية أوسع.

في النهاية، تكمن قوة النقد الانطباعي في توازنه بين التعبير عن الذات واحترام النص ككيان مستقل، وبين الانفتاح على تعددية القراءات والاحتمالات، بحيث لا يتحول الانطباع إلى "ديكتاتورية شخصية" تمحو النصوص وتقصي الأصوات الأخرى، بل يبقى نقدًا واعيًا وحيويًا، يثري الفهم ويوسع أفق القراءة.

11. من الانطباع إلى النظرية: مساهمة النقد الانطباعي في تأسيس تيارات فكرية جديدة

على الرغم من أن النقد الانطباعي يُفهم أحيانًا على أنه مجرد تعبير شخصي عن التجربة الذاتية للنص، إلا أن هذا النوع من النقد كان له دور حيوي في تأسيس تيارات فكرية ونقدية أحدثت تحولًا جوهريًا في فهمنا للنص الأدبي وعلاقته بالقارئ.

فالانطباع النقدي، من خلال تمسكه بالتجربة الفردية النابضة، ساهم بشكل غير مباشر في ظهور "جماليات التلقي" (Reception Aesthetics)، التي وضعها المفكر الألماني هانس روبرت ياوس (Hans Robert Jauss). ياوس يرى أن المعنى لا يُنتج داخل النص وحده، بل يتشكل عبر علاقة ديناميكية بين النص وقارئه في سياق تاريخي واجتماعي. لذلك، يطرح ياوس مفهوم "أفق التوقعات" الذي يشير إلى أن كل قارئ يحمل توقعات مُسبقة تتغير وتتطور مع التجارب الثقافية، مما يؤثر على تفسيره للنص. هذا الإطار النقدي يحول الانطباع من مجرد رد فعل شخصي إلى فعل معرفي وتاريخي مشترك.

وبالمثل، يُعد فولفغانغ أيزر (Wolfgang Iser) من أبرز منظري "نقد القارئ" (Reader-Response Criticism)، حيث يركز على دور القارئ في إتمام النص عبر التفاعل مع "النقاط الفارغة" أو "الثغرات" التي يتركها النص عمداً. فالنص حسب أيزر لا يُفهم إلا بتدخل القارئ الذي يعيد تشكيله داخل تجربته الذهنية. بذلك، يصبح الانطباع عملًا تفاعليًا، يعبر عن عملية إعادة خلق النص، لا مجرد استهلاك سلبي له.

على صعيد آخر، يُبرز المفكر الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes) في كتابه "لذة النص" (Le Plaisir du Texte) فكرة "النقد الذاتي" الذي يقترب من جوهر النقد الانطباعي الواعي. يرى بارت أن القراءة ليست مجرد بحث عن المعنى، بل هي فعل متعة، حيث يُسمح للنص أن يثير في القارئ حالة من اللذة التي تتجاوز المعرفة الجافة. هذه الرؤية تفرض على الناقد أن يكون واعيًا لتجربته الذاتية، متسائلًا عن حدودها وارتباطها بالنص، لا متعبدًا لها. لذا، يصبح النقد الانطباعي عملًا مزدوجًا: تجريبيًا وشعوريًا، في الوقت ذاته تحليليًا ونظريًا.

وبهذا، فإن النقد الانطباعي، عندما يتحلى بالوعي والموضوعية، لا يظل مجرد تأمل ذاتي في النصوص، بل يتحول إلى جزء أساسي من العملية النقدية التي تُعيد تشكيل النصوص وتجاربنا معها، وتُدخلها في حوار مستمر مع السياقات الثقافية والاجتماعية. هذه العملية تساهم في هدم مركزية النص التقليدية لصالح مركزية التجربة، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم المعنى، وتثري الحقل النقدي بمناهج أكثر تعددية ومرونة.

---
هوامش:

Proust, Marcel. À la recherche du temps perdu, Gallimard, 1913–1927.

Carmody, Frank. The Experience of Reading, Routledge, 1976.

Iser, Wolfgang. The Act of Reading: A Theory of Aesthetic Response, Johns Hopkins University Press, 1978.

ياوس، هانز روبرت. "جمالية التلقي"، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، 2003.

Proust, Marcel. Time Regained, 1927.

Barthes, Roland. The Pleasure of the Text, 1973.

المعداوي، أنور. أوراق نقدية. الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1975.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
- من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
- زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا ...
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم
- شذرة 14 الدين والأخلاق
- حسين منه وهو من حسين
- شذرة 13 الارادة الانسانية
- شذرة 12 العقيدة والانسان
- غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
- ليس شعرا بل واقعة حدثت
- شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف


المزيد.....




- كيف يغير الذكاء الاصطناعي بيئة العمل الصحفي؟
- الوجه المخفي ل -نسور الجمهورية- في فيلم طارق صالح
- -فنان العرب- يتعرض لوعكة صحية ويكشف عن حالته بعد اعتذاره عن ...
- مهرجان كان: الممثل طاهر رحيم يفقد 20 كيلوغراما لأداء دور مدم ...
- شاكيرا تتعرض لموقف محرج على المسرح وتعلق عليه (فيديو + صورة) ...
- دور الرواية الفلسطينية كسلاح في مواجهة الإحتلال
- الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا ا ...
- محمد سمير ندا: القلق هو الصلاة السادسة التي يصليها العرب جما ...
- بالفيديو.. شاكيرا تسقط خلال أداء استعراضي على المسرح
- إقبال غير مسبوق على حفلات الفنانة جنيفر لوبيز في كازاخستان


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي