أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض قاسم حسن العلي - من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان














المزيد.....

من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 17:27
المحور: قضايا ثقافية
    


لا يُكتب التاريخ مرة واحدة، ولا على نحو نهائي. فالرواية التاريخية ليست سوى وجهة نظر من يملك سلطة الكتابة، أو بالأحرى سلطة فرض روايته بوصفها "الرسميّة". من هنا، ظلّ التاريخ الرسمي طوال قرون يعكس سردية الغالب، ويطمس، في المقابل، سرديات المغلوب، لا لغيابها، بل لأنها لا تتوافق مع منطق الهيمنة الذي يُملي ما يُكتب وما يُنسى.

الطرف الأضعف، إذن، لا يختفي من المشهد، بل يتوارى خلف ستار الصمت القسري، وتبقى روايته متداولة في الهامش، في الحكايات الشفاهية، في القصائد المهملة، في الذاكرة الجمعية التي تقاوم النسيان بوسائلها البدائية، إلى أن تأتي لحظة إعادة التوازن: إمّا بتغيّر في موازين القوى، أو بتآكل الرواية الرسمية نفسها.

لقد بدأت المدارس التاريخية الحديثة—لا سيما ما بعد البنيوية، والمدارس ما بعد الاستعمارية—تنتبه إلى ضرورة استعادة صوت المهمّش، والبحث في الطُرُز الخافتة للسرد التاريخي، عبر نبش الوثائق المنسية، والقصص التي تمّ إسكاتها قسرًا. هذه المدارس لا تعترف بـ"نقاء" الوثيقة الرسمية، بل تقرأها بوصفها نتاجًا لسلطة تحاول إنتاج الماضي كما ترغب أن يُفهم.

ولعل المثال الأوضح على ذلك هو التاريخ العربي قبل الإسلام، إذ إن معظم المصادر التي كُتب بها هذا التاريخ جاءت بعد ظهور الإسلام، وبأدواته الفكرية والدينية. العرب، في الغالب، لم يدوّنوا تاريخهم قبل الإسلام، لا لغياب الماضي، بل لغياب أدوات تدوينه وهيمنة النظرة اللاهوتية على كل محاولة لتأريخ ما قبل الوحي. ومن هنا، اعتمد المؤرخون المسلمون الأوائل—كالطبري وابن كثير—في استهلالاتهم على نصوص دينية سابقة، لا سيما التوراة، وعلى مرويات إسرائيليات رواها أحبار دخلوا الإسلام أو تعاملوا مع المسلمين. وهكذا تشكّل الوعي التاريخي الأول بوصفه امتدادًا لتصور لاهوتي مشترك، لا لتقصٍّ نقدي مستقلّ.

لكن المعضلة الأعمق ليست في أدوات التدوين فحسب، بل في آلية الانتقاء والإقصاء؛ فالرواية الشفاهية كانت المصدر الأهم، لكنها لم تكن محايدة، بل خضعت، كما الوثائق، لمنطق السلطة. فالمؤرخ لم يكن جامعا لروايات الناس أجمعين، بل ناقلًا لما يخدم الرؤية الغالبة، ولهذا اختفى "الآخر" من كتب التاريخ إلا بوصفه خصمًا أو زنديقًا أو متمردًا، كما حدث مع سكان الأطراف، والحركات المعارضة، والتيارات الخارجة عن المركز.

وفي مقابل هذا، سعت بعض التيارات الحديثة، خصوصًا في المدرسة الأنغلوساكسونية الاستشراقية، إلى إعادة النظر في الحدث الإسلامي نفسه، ليس بهدف التشكيك فقط، بل بغرض تفكيك البنية السردية التي بُني عليها. هؤلاء حاولوا تتبّع أصول الرواية الإسلامية عبر المقارنة بين الشفاهيات والمصادر الخارجية، والوثائق الأركيولوجية، والمخطوطات المنسية. وقد أظهر هذا المنهج أن الحدث الإسلامي، كما نعرفه، لا يمكن فهمه إلا بوصفه سردية تطورت مع الزمن، وشُكّلت من خلال خطاب السلطة الدينية والسياسية على السواء.

غير أن المفارقة تبقى في أن ما يُسمّى "الحدث التاريخي" لا يوجد خارج السرد. فالتاريخ ليس ما حدث، بل ما نرويه عمّا حدث. والسرد، كما نعلم من منظّريه، ليس محايدًا أبدًا، بل مُحمّلٌ بالانحياز، بالرغبة في السيطرة، بالميل إلى محو الآخر.

وعليه، فإن مهمة المؤرخ في زمننا لم تعد فقط تقصّي الماضي، بل مساءلة الرواية السائدة، وتفكيك بنيتها، والبحث في ما تمّ إقصاؤه عمدًا، واستعادة ما سُرق من أفواه الذين لم يُسمح لهم بالحديث. فالتاريخ الحق ليس هو ما كُتب، بل ما لم يُكتب بعد.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا ...
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم
- شذرة 14 الدين والأخلاق
- حسين منه وهو من حسين
- شذرة 13 الارادة الانسانية
- شذرة 12 العقيدة والانسان
- غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
- ليس شعرا بل واقعة حدثت
- شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف
- شذرة 11 الدين والحرب
- شذرة 9 نظرة إلى التراث


المزيد.....




- -أخرج من هنا-.. شاهد مشادة حادة بين ترامب وصحفي سأله عن الطا ...
- نتنياهو يتحدث عن -احتمالية- مقتل محمد السنوار في قطاع غزة
- رئيس الوزراء الإسرائيلي: سنمرر قانونا في الكنيست يعتبر قطر - ...
- مختبر أمريكي يحصل على طاقة قياسية في الاندماج النووي الحراري ...
- إدانة أوروبية واسعة بعد إطلاق الجيش الإسرائيلي النار على وفد ...
- سلطنة عمان: الجولة الخامسة من المفاوضات الإيرانية الأمريكية ...
- ترامب: النزاع الأوكراني لا يعنينا لكننا مستعدون لحله
- تونس.. البرلمان يمنع عقود التشغيل عبر -المناولة-
- إلى أين تتجه سوريا بعد رفع عقوبات الغرب؟
- عامل غير متوقع يضعف مناعة الرئتين


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض قاسم حسن العلي - من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان