أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض قاسم حسن العلي - الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما بعد الكولونيالي















المزيد.....


الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما بعد الكولونيالي


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8351 - 2025 / 5 / 23 - 20:50
المحور: قضايا ثقافية
    


"

1. من براثن الأدب إلى حلبة الأيديولوجيا: تشريح تحولات الدلالة في المقولة الكبلنغية عن "الشرق" و"الغرب"
تتبوأ مقولة "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدًا" مكانة لافتة في مدارات الخطاب الثقافي العالمي، حيث تُستدعى بتواتر لافت للنظر كمسلّمة جاهزة لتأطير النقاشات المعقدة حول التفاعلات بين الحضارات والمنظومات الثقافية المتباينة. وعلى الرغم من اشتقاقها من قصيدة "Ballad of East and West" (1889) للشاعر الإمبراطوري روديارد كبلنغ، فإن هذه العبارة غالبًا ما تُقتلع بعنف من تربتها الشعرية الأصلية لتتحول إلى أداة بلاغية حادة، وظيفتها الأساسية تأكيد ثنائية قطبية صارخة بين مفهومي "الشرق" و"الغرب". يُنظر إلى هذه الثنائية في الغالب كصدع سوسيولوجي ومعرفي وقيمي عميق، يُفترض معه استحالة أي جسر حقيقي للتواصل أو التفاهم المتكافئ.
بيد أن الغوص العميق في ثنايا القصيدة الكاملة يكشف عن مفارقة بنيوية ذات دلالة قصوى. فبينما تستهل القصيدة نفسها بتأكيد هذا الانفصال الظاهري بين العالمين، فإن مسارها السردي اللاحق ينخرط في عملية تقويض تدريجي لهذا التقسيم الثنائي الحاد. يتجلى هذا التحول الدرامي في قلب القصيدة من خلال تصوير لقاء بطولي مؤثر بين شخصيتين تجسدان العالمين المذكورين، حيث تتسامى القيم الإنسانية الكونية كالشجاعة والوفاء والكرامة فوق اعتبارات الهوية الجغرافية والثقافية المفترضة. يشير هذا التطور الشعري بوضوح إلى إمكانية التلاقي والتكافؤ الإنساني، بدلًا من الحتمية القائمة على الاستبعاد المتبادل والانفصال الأبدي. وعليه، فإن الاستخدام الشائع والمبتسر للعبارة يمثل عملية بتر انتقائي للنص، يتجاهل عمدًا هذا التوتر الداخلي الحيوي، ويسعى عوضًا عن ذلك إلى تكثيف دلالة أيديولوجية تخدم أجندة ثقافية محددة. تهدف هذه الأجندة غالبًا إلى ترسيخ ثنائيات اختزالية ومقولبة مثل "نحن/هم"، "الذات/الآخر"، بل وتمتد أحيانًا لإنتاج ترميزات استعلائية تنطوي على تحقير ضمني، كما في ثنائية "الشرق المتخلف/الغرب المتحضر".
تتضاعف الأهمية الإيديولوجية لهذا الاقتطاع السياقي وتتأصل جذورها بعمق عند توظيفه ضمن أطر فكرية تقوم على أساسيات التفوق الحضاري. في هذا السياق، يُعاد تدوير النص الأدبي، الذي نشأ في أوج قوة الإمبراطورية البريطانية، ليصبح بمثابة رمزية لترسيخ تصورات استعمارية حول "الشرق" باعتباره كيانًا أدنى. لا يُختزل "الشرق" هنا إلى مجرد مساحة جغرافية، بل يُنظر إليه كجوهر ثقافي متجانس يُصوَّر على أنه النقيض المطلق لقيم التقدم والعقلانية والحداثة التي يُزعم أنها حصرية بـ "الغرب". وعلى هذا النحو، تتحول العبارة من مجرد شطر شعري إلى رمز مكثف ومُحمَّل دلاليًا، يحمل في طياته تصورًا عن "الآخر" الشرقي ككيان غير قابل للفهم المشترك أو التفاعل المتكافئ، بل كموضوع سلبي يخضع للمراقبة والتنظيم والتدخل "التحديثي" القسري من قبل الذات "الغربية" المتفوقة.
إن هذا النمط من الاستخدام البلاغي للمقولات الأدبية، عبر اقتلاعها من سياقاتها النصية المعقدة وإعادة توظيفها في خدمة إنتاج وإعادة إنتاج رؤى عالمية محددة، يتردد صداه بقوة مع أفكار ميشيل فوكو المؤسسة حول العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة. فعندما تُنتزع عبارة أدبية ذات حمولة دلالية مركبة من نسيجها الأصلي وتُستخدم كإطار مرجعي لتفسير مسارات التاريخ وتشخيص العلاقات بين الشعوب، فإننا لا نتعامل مع مجرد فعل تأويلي بريء، بل مع ممارسة رمزية ذات أبعاد سلطوية. تهدف هذه الممارسة إلى بناء وترسيخ سردية قوية عن اختلاف جوهري وعن حدود ثقافية يُراد لها أن تبقى ثابتة وغير قابلة للاختراق، مما يعيق أي محاولة جادة لتجاوز هذه الثنائيات المصطنعة نحو فهم أكثر دقة وتعقيدًا وتشابكًا للعلاقات الإنسانية والثقافية في عالم متزايد الترابط.

2. نشأة الثنائية الاستعلائية: من تخييلات الاستشراق إلى ترسخ الهيمنة الرمزية
إن الثنائية الاصطناعية التي تقابل بشكل اختزالي بين مفهومي "الشرق" و"الغرب" ليست وليدة لحظة عابرة، بل هي نتاج تراكمي لتاريخ مديد من التمثيلات الخطابية المتداخلة والمعقدة، والتي تبلورت ضمن أنظمة السلطة والمعرفة المتشابكة. ففي سياق الاستشراق الكلاسيكي، الذي قام إدوارد سعيد بتفكيك بنيته المعرفية والسلطوية ببراعة، لم يُبنَ تصور "الشرق" ككيان جغرافي مادي ذي خصوصية واقعية، بل كمقولة ثقافية متخيلة قوامها منطق التمييز الأيديولوجي والتفوق الذاتي. هذه الثنائية، التي تتستر بعباءة الوصف المعرفي المحايد، تنطوي في صميمها على ممارسة رمزية ذات أبعاد سلطوية عميقة، تعمل على إعادة إنتاج هيمنة "الغرب" وتبرير مشاريعه الاستعمارية وامتداداته الأخلاقية المزعومة.
في هذا التصور الاستشراقي، يُختزل "الشرق" إلى مجموعة من الخصائص النمطية الثابتة والجوهرانية، مثل الجمود التاريخي، والنزعة الروحانية الغامضة، والانفعالية المفرطة، والافتقار المزعوم إلى المنهجية العقلانية، والانغماس المرضي في الماضي الأسطوري. في المقابل، يُقدَّم "الغرب" كحقل ديناميكي للحركة والتقدم المستمر، وموطن العقلانية والتنظيم، وكقوة تاريخية فاعلة تقود مسيرة الحداثة العالمية. هذا التقابل الثنائي ليس منفصلًا بأي حال من الأحوال عن السياق الاستعماري الذي نشأ وترعرع فيه، بل هو يشكل جزءًا بنيويًا أساسيًا من بنيته الخطابية. فلتبرير المشروع الكولونيالي التوسعي، كان من الضروري خلق وتعميم صورة لـ "شرق" مُتخيل يحتاج بشكل حتمي إلى "الإنقاذ" و"التحديث" القسري، وذلك وفقًا للنموذج "الغربي" المهيمن الذي يُنصب نفسه معيارًا عالميًا وحيدًا.
تكمن الخطورة الحقيقية لهذه الثنائية في تحول هذا التمثيل الثنائي المجرد إلى بنية رمزية عميقة الجذور، تتسرب بخفاء إلى نسيج الثقافة والمعرفة حتى بعد الأفول الظاهري للاستعمار المباشر. فقد استمر هذا التمثيل كـ "رأسمال رمزي" نافذ، على حد تعبير بيير بورديو، يعمل على إنتاج وإعادة إنتاج نظام قيمي وثقافي غير متكافئ بنيويًا، يجعل من المركزية "الغربية" معيارًا ضمنيًا أو صريحًا لتقييم وتصنيف الثقافات الأخرى.
وإذا كانت الحقبة الاستعمارية الكلاسيكية قد استخدمت هذا التمثيل الثنائي كجزء لا يتجزأ من آليات الغزو والسيطرة المادية المباشرة، فإن أنماط الهيمنة الثقافية والمعرفية اللاحقة، التي تتجسد عبر وسائل الإعلام المتنوعة، والمناهج التعليمية، والسياسات التنموية الدولية، قد أعادت إنتاج هذه الثنائية بأشكال أكثر دقة وتخفيًا. وقد نتج عن ذلك في بعض الأحيان ما يُعرف بظاهرة "الاستشراق الذاتي" المقلقة، حيث يتبنى بعض الفاعلين الثقافيين والمثقفين في المجتمعات الشرقية ذاتها الصور النمطية التي رسمها لهم "الغرب"، ويعيدون إنتاج خطاب التبعية والتقليل من الذات بطرق مختلفة.
يهدف النقد الجينالوجي المتعمق لهذه الثنائية الاستعلائية إلى مساءلة البنية الخطابية المعقدة التي حولت الاختلافات الثقافية الحقيقية والمتنوعة إلى مقولات جوهرانية ثابتة وغير قابلة للتغيير، مع التأكيد الحاسم على التمييز المنهجي بين الاختلاف كمجال خصب للتعددية والتفاعل الإيجابي، والتمايز القائم على أسس هرمية إقصائية. يتطلب ذلك تفكيك هذه الثنائية ليس فقط كمفهوم فكري مجرد، بل كممارسة رمزية مستمرة التأثير بعمق في مختلف المجالات المعرفية، وخطابات التنمية الدولية، وتمثيلات الذات والآخر على حد سواء.

3. تفكيك ثنائية "الشرق/الغرب" من منظور ما بعد الكولونيالية: نحو تجاوز الهيمنة الرمزية
تمثل الدراسات ما بعد الكولونيالية منعطفًا حاسمًا في استيعاب خطاب الثنائية بين "الشرق" و"الغرب"، إذ تتجاوز مجرد الوصف الظاهري لتنخرط بعمق في تفكيك البنى المعرفية والسلطوية العميقة التي أنتجتها وأدامتها. ففي عمله التأسيسي "الاستشراق" (1978)، يفكك إدوارد سعيد الأسس التي بني عليها تصور "الشرق"، مؤكدًا أنه لم يكن أبدًا كيانًا موضوعيًا قائمًا بذاته، بل بالأحرى بناءً معرفيًا نسجته المخيلة الغربية لخدمة أغراض الهيمنة الثقافية والسياسية. يوضح سعيد كيف أعيد إنتاج صورة "الآخر" الشرقي ككائن هامشي، مُنمَّط، ومُختزل إلى مجموعة من الصفات التي تبرر السيطرة الغربية. ويُلخص رؤيته بأن "الاستشراق ليس مجرد حقل أكاديمي لدراسة الشرق، بل هو بنية معرفية سياسية متكاملة أنتجت الشرق كموضوع للخضوع والهيمنة".
وبالمثل، يقدم هومي بابا في كتابه المؤثر "موقع الثقافة" (1994) مفهومًا محوريًا هو "الفضاء الثالث". يتحدى هذا المفهوم الثنائيات التقليدية الصارمة كـ "شرق/غرب"، ويسلط الضوء على الهجنة الثقافية باعتبارها فضاءً ديناميكيًا لتداخل الثقافات وتشكّل هويات سيالة ومتداخلة. يرى بهابها في هذه العملية الهجينة إمكانية جوهرية لمقاومة أشكال الهيمنة الثقافية الراسخة وإعادة بناء الهوية بمرونة وسياقية أكبر، بعيدًا عن التقسيمات الثنائية الجامدة.
في سياق نقدي موازٍ، تُضيء غاياتري سبيفاك، في مقالها البارز "هل يستطيع التابع الكلام؟" (1988)، على مسألة غياب صوت "التابع" (Subaltern) في الخطابات الإمبريالية المهيمنة. هذا الغياب ليس عرضيًا، بل تفرضه آليات الهيمنة اللغوية والمعرفية التي تعمل على حجب وإسكات أصوات الجماعات المهمشة. تجادل سبيفاك بأن الخطاب الإمبريالي، في بنيته العميقة، يحرم هذه الفئات من القدرة على التعبير عن ذواتها بحرية وفاعلية، مما يجعلها دائمًا في موقع "الآخر" المحجوب، الذي يُتحدث عنه ولا يتحدث بذاته.
تتلاقى هذه الرؤى النقدية المؤسسة على قناعة مركزية مفادها أن مفهومي "الشرق" و"الغرب" ليسا حقائق طبيعية أو جغرافية محايدة، بل هما بالأحرى مفاهيم تاريخية متغيرة تخضع لتقنيات السلطة والمعرفة، وقد استُخدِمت بشكل منهجي عبر التاريخ لتبرير علاقات هيمنة غير متكافئة بنيويًا. ونتيجة لذلك، لم يعد الخطاب الثنائي مجرد وصف للواقع، بل تحول إلى ممارسة معرفية وسياسية فاعلة تحكم إنتاج التمثيلات الثقافية وتوزيع مراكز القوة والنفوذ.
في حقل الأدب، يتبدى هذا التداخل والتجاوز للثنائيات بوضوح في أعمال كتاب بارزين مثل أمين معلوف، الذي غالبًا ما تعكس رواياته، مثل "صخرة طانيوس" (1993)، تعقيدات الهوية المختلطة وتبرز "الفضاء الثالث" كواقع ثقافي معاصر يتجاوز الانتماءات الوطنية أو الجغرافية الضيقة. وبالمثل، تظهر في كتابات إدوارد سعيد نفسه محاولات مستمرة لمقاومة الخطاب الاستشراقي المهيمن عبر إعادة سرد التاريخ من منظور أولئك الذين تضرروا بشكل مباشر من الحقبة الاستعمارية وآثارها الممتدة.
وفي السياق العالمي المعاصر، تفرض حركات الهجرة واللجوء المتزايدة والتداخلات الثقافية المتسارعة واقع "الفضاء الثالث" كحقيقة معاشة، حيث يشهد صراعًا مستمرًا وتفاوضًا دائمًا على تشكيل الهويات، مما يدحض بشكل عملي فكرة الانفصال الثابت والجوهري بين "الشرق" و"الغرب".
ختامًا، لا يقتصر الدور الحيوي للنقد ما بعد الكولونيالي على مجرد تفكيك هذه الثنائية الاستعلائية، بل يمتد ليشمل إعادة تصور الفضاءات الثقافية كمناطق ديناميكية للتفاوض والصراع المستمرين، حيث تتوفر إمكانية مقاومة الهيمنة وإعادة بناء مفاهيم الذات والآخر في إطار علاقات أكثر توازنًا ومرونة وعدالة. يفتح هذا المنظور آفاقًا جديدة لفهم التفاعل الثقافي العالمي بعيدًا عن التصنيفات الثابتة والمقولبة، نحو تقدير أعمق للتنوع والتشابك الإنساني.

4. آفاق التلاقي: جدلية الترجمة والهجنة الثقافية في تجاوز ثنائية "الشرق/الغرب"
على الرغم من الحدة البلاغية الظاهرة في مقولة روديارد كبلنغ التي ترسخ فكرة الانفصال الجوهري بين "الشرق" و"الغرب"، فإن الخاتمة الشعرية لقصيدته ذاتها تفتح نافذة على منظور مغاير، يشير ضمنًا إلى إمكانية التلاقي الحقيقي، شريطة أن تقوم العلاقة بين الطرفين على أساس من الندية والاحترام المتبادل، لا على منطق الهيمنة والاستتباع:
> But there is neither East nor West, Border, nor Breed, nor Birth,
> When two strong men stand face to face, though they come from the ends of the earth.
>
لقد أثبتت التجربة الإنسانية الغنية، عبر مسارات الترجمة المعقدة، وأشكال الكتابة العابرة للحدود اللغوية والثقافية، وحركة الهجرة الثقافية الدينامية، الإمكانية الفعلية للتلاقي والتفاعل الخلاق في فضاءات هجينة. في هذه الفضاءات، لا يتم استنساخ الثقافة الغربية بنسخ باهتة من مركزها المفترض، بل يُعاد إنتاجها وتشكيلها بتفاعلها مع سياقات ثقافية أخرى، مما يفضي إلى ظهور أنماط ثقافية جديدة ومبتكرة تتجاوز التقسيمات الثنائية التقليدية.
ويتجلى هذا الواقع المعقد في أعمال طيف واسع من المفكرين والكتاب الذين انخرطوا في حوار نقدي عميق مع "الغرب" من موقع "الذات الأخرى" التي خبرت تبعات الاستعمار وأشكال الهيمنة المختلفة. شخصيات بارزة مثل إدوارد سعيد، الذي فكك أسس الخطاب الاستشراقي، وأمين معلوف، الذي تستكشف رواياته تعقيدات الهويات المتداخلة، والطاهر بن جلون، الذي يقدم رؤى ثاقبة حول التفاعل الثقافي من منظور مغاربي، يمثلون نماذج لهذه الكتابة النقدية العابرة للحدود. هؤلاء المفكرون، وغيرهم، لم يكونوا مجرد متلقين سلبيين للمعرفة الغربية، بل كانوا مشاركين فاعلين في تفكيك مركزيتها المفترضة وإعادة صياغتها من منظورات ثقافية مغايرة، مساهمين بذلك في إثراء المشهد الفكري العالمي وتجاوز الثنائيات الاختزالية.
إن فعل الترجمة ذاته ليس مجرد نقل ميكانيكي للمعاني بين لغتين، بل هو عملية إبداعية معقدة تنطوي على تفاوض ثقافي عميق. يقتضي فهمًا دقيقًا للسياقات الثقافية المختلفة وإعادة صياغة المفاهيم بطريقة تجعلها قابلة للاستيعاب في إطار ثقافي جديد، وهو ما يؤدي حتمًا إلى نوع من الهجنة الثقافية على مستوى النص المترجم والمتلقي. وبالمثل، فإن الكتابة بلغة أجنبية أو الكتابة التي تتناول تجارب ثقافية متعددة تساهم في خلق فضاءات هجينة تتجاوز الانتماءات الثقافية الأحادية.
في هذا السياق، تصبح الهجنة الثقافية ليست مجرد نتيجة ثانوية للتواصل بين الثقافات، بل قوة فاعلة تسهم في تفكيك الثنائيات الجامدة وإبراز التداخل والتعقيد في تشكيل الهويات والانتماءات. إنها تشير إلى ظهور أشكال ثقافية جديدة لا يمكن اختزالها إلى أحد الأصلين ("الشرق" أو "الغرب")، بل تنشأ من التفاعل الخلاق بينهما.
بذلك، يمكن القول إن إمكانية اللقاء الحقيقي لا تكمن في تجاهل الاختلافات الثقافية، بل في الاعتراف بها والانطلاق منها نحو بناء حوار ندّي ومتكافئ، وهو ما تسهله وتثريه عمليات الترجمة والكتابة العابرة للغات وظاهرة الهجرة الثقافية. هذه العمليات تفتح آفاقًا لفهم أكثر دقة وتعقيدًا للعلاقات الإنسانية والثقافية، بعيدًا عن التصنيفات الثابتة والمقولبة التي غالبًا ما حجبت إمكانيات التلاقي والتفاهم المتبادل.

5. من تفكيك الثنائيات إلى إعادة تخيل المشهد الثقافي العالمي: تجاوز خطاب الانفصال
لم تقتصر عبارة "الشرق شرق والغرب غرب" يومًا على مجرد توصيف جغرافي أو حتى حضاري محايد، بل تجسدت كخطاب استعماري متكامل، تبنى رؤية للعالم تتسم بالجمود والانغلاق، وعمل بنيويًا على إدامة الانقسام المصطنع بين الثقافات المختلفة، قاصيًا بذلك إمكانية التواصل الحقيقي أو التفاعل الخلاق بينها. أنتج هذا الخطاب الاستعلائي تصورًا ثنائيًا قاطعًا وصلبًا، يهدف إلى استبعاد "الآخر" وتهميشه، ويحول دون تصور أي أفق للقاء أو التداخل المثمر، بينما يرسخ في المقابل مركزية ثقافية أحادية الجانب تقوم على أساس تفوق مفترض لـ "الغرب" يقابله وضع هامشي لـ "الشرق".
بيد أن التحولات العميقة التي يشهدها عالمنا المعاصر، سواء على الصعيد السياسي والاقتصادي، أو التكنولوجي الرقمي، أو حتى في البنى الثقافية ذاتها، قد كشفت عن تآكل بنيوي لهذا التصور الثنائي الصارم. فقد أدت قوى العولمة المتسارعة، وحركات الهجرة البشرية الواسعة، وتعدد الوسائط الاتصالية، والتصاعد الملحوظ في حركة الترجمة والتبادل المعرفي العابر للحدود، إلى إعادة تشكيل الفضاءات الثقافية بطرق جذرية لم تعد تتفق مع منطق الانفصال والتمايز الجذري الذي روّج له الخطاب الاستعماري. فبدلًا من الحدود الصلبة والمحددة بوضوح، نشهد اليوم تداخلات معقدة ومتزايدة، وتشكلات هجينة تثمر عن أنماط ثقافية جديدة، وأصواتًا متعددة ومتنوعة تنبثق من تقاطعات لغوية وثقافية وجغرافية لم تكن مألوفة من قبل.
في هذا السياق المتغير، تكتسب مفاهيم مثل الترجمة (باعتبارها فعل عبور ثقافي)، والهجنة (كنتاج للتلاقح الثقافي)، والمثاقفة (كعملية تبادل وتأثير متبادل)، والهجرة (كحركة بشرية تحمل معها عوالم ثقافية)، أهمية قصوى ليس فقط كأدوات تحليلية لفهم هذه التحولات، بل أيضًا كممارسات مقاومة فاعلة في مواجهة إرث الثنائيات الاستعلائية. فهي لا تقتصر على تفكيك المفاهيم الثنائية القديمة والمقولبة (مثل شرق/غرب، أصيل/دخيل، مركز/هامش)، بل تساهم بفعالية في إعادة تخيل طبيعة العلاقة بين الثقافات على أسس جديدة أكثر عدلًا وإنصافًا، تقوم على مبادئ التعددية الثقافية، والتفاعل المتكافئ، والندية الحقيقية. هذه العمليات الدينامية لا تسعى إلى محو الفروق الثقافية القائمة، لكنها ترفض بشدة تحويل هذه الفروق إلى مراتب تفاضلية أو أسس للهيمنة والإقصاء، وتقترح بدلًا من ذلك أفقًا رحبًا للاعتراف المتبادل بالآخر المختلف، والتفاعل الخلاق الذي يثري الجميع. في هذا الأفق الجديد، يُعاد إنتاج المعنى من مواقع ثقافية غير مركزية، وبأصوات ووجهات نظر لم تكن تُعتد بها أو تُسمع بشكل كافٍ ضمن السردية المهيمنة للعالم التي أنتجها الخطاب الاستعماري.
المراجع:
* Said, Edward W. Orientalism. Vintage Books, 1978.
* Bhabha, Homi K. The Location of Culture. Routledge, 1994.
* Spivak, Gayatri Chakravorty. “Can the Subaltern Speak?” In C. Nelson & L. Grossberg (Eds.), Marxism and the Interpretation of Culture, University of Illinois Press, 1988.
* Hall, Stuart. “The West and the Rest: Discourse and Power.” In Formations of Modernity, Open University Press, 1992.
* Maalouf, Amin. In the Name of Identity: Violence and the Need to Belong. Arcade Publishing, 2001.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي
- تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
- من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
- زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا ...
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم
- شذرة 14 الدين والأخلاق
- حسين منه وهو من حسين
- شذرة 13 الارادة الانسانية
- شذرة 12 العقيدة والانسان
- غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
- ليس شعرا بل واقعة حدثت


المزيد.....




- القاهرة تعلن إجلاء 71 مصريا من ليبيا
- روسيا تعرض على أسرى الحرب الأوكرانيين الانضمام إلى قواتها -ل ...
- مساعدات تتعرض للنهب وغوتيريش يندد بـ-الفترة الأكثر وحشية- في ...
- هل يجبر ترامب إيران على التخلي عن برنامجها النووي؟
- طلاب إيرانيون يشكلون سلسلة بشرية أمام منشأة -فوردو- النووية ...
- كل التضامن مع معركة الفرع المحلي لجمعية المعطلين حاملي الشها ...
- واشنطن تصدر ترخيصا عاما لتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا
- نابولي ينتزع لقب الدوري الإيطالي للمرة الرابعة في تاريخه
- قاضية توقف قرار إدارة ترامب منع -هارفارد- من قبول الطلاب الأ ...
- مفوضية أممية: اليأس دفع مئات الروهينغا للهلاك في البحر


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض قاسم حسن العلي - الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما بعد الكولونيالي