أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض قاسم حسن العلي - دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى















المزيد.....



دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 22:14
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


-------------------------------
كربلاء ليست حدثًا بل وعيًا

حين نقترب من واقعة كربلاء، لا ينبغي أن نراها كحادثة عسكرية محدودة في نطاقها الزماني والمكاني، بل كصيرورة وعي تتجاوز التاريخ لتسكن في طبقات الوجود الإنساني العميق. معركة الطف نقطة انعطاف حاسمة، لا في المسار السياسي للأمة الإسلامية فحسب، بل في مجمل البنية الأخلاقية التي يقوم عليها الفهم الديني والاجتماعي للحق والعدالة والكرامة.
في العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، لم يُسفك دم الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) لأنه تمرد على سلطة زمنية، بل لأنه رفض أن يتحول الدين إلى أداة طيّعة في يد السلطان، ورفض أن يُختم على انحراف الأمة بختم الصمت. لم يكن الحسين خصمًا سياسيًا يبحث عن استرداد خلافة ضاعت، بل كان ضميرًا حيًا يصرخ في وجه سلطة حولت الإسلام من مشروع أخلاقي-تحرري إلى منظومة تبريرية تحرس العرش بالسيف، وتشرعن الظلم باسم الله.
كربلاء، بهذا المعنى، هي انفجار الوعي في وجه التواطؤ. فالأخطر من يزيد وجيشه، كان المجتمع الذي صمت، أو ساهم، أو تواطأ، أو رضي بالحد الأدنى من العيش ولو على حساب المعنى. لم تكن المواجهة بين الحسين ويزيد فقط، بل بين حقيقة دينية مقاومة ونمط اجتماعي قَبِلَ بالانكسار وسمّى الخضوع حكمة، والمسالمة تقوى.
وهنا، تتجلى عظمة ثورة الحسين: أنها لم تكن انتفاضة "غاضب مهزوم"، بل وقفة "عارف بصير" يُدرك أنه لا يقاتل من أجل الانتصار الآني، بل من أجل أن يبقى سؤال الكرامة حيًا في الضمير الإنساني، ولو على حساب الجسد.
لقد تحوّلت كربلاء إلى مرآة حارقة، تُجبر كل جيل على أن يسأل نفسه: ماذا تفعل حين ترى الباطل؟ هل تنحني، أم تقف؟ هل تصمت، أم تقول "لا"؟ في كربلاء، سقط القناع عن "الطاعة العمياء"، وتفتّحت العين على حجم المفارقة بين جوهر الدين وممارسة الحكم. إذ كيف يمكن أن يُطلب من حفيد النبي أن يبايع من عرف الناس فسقه وجهله؟ وكيف يُفرض الصمت على من يحمل نور الرسالة في دمه ووعيه؟!
ولذلك، كربلاء ليست موقعة، بل هي حالة وعي، لحظة نادرة في التاريخ البشري يتجلى فيها الحق عاريًا، لا مدججًا بالقوة، بل مكللًا بالفكرة، مرسومًا بالدم. إنها ليست تكرارًا لمشهد قديم، بل استدعاء دائم لكل إنسان في كل زمان، أن يقف أمام ذاته ويسأل: هل اخترت السلامة على حساب الحقيقة؟ وهل خنت ضميرك مقابل صمت يُطيل عمرك لكنه يُميتك من الداخل؟
وفي ذلك، يتحول الحسين من شهيد تاريخي إلى ضمير كوني، ومن قائد مظلوم إلى مقياس أخلاقي دائم، يُعيد تعريف مفاهيم مثل النصر والهزيمة، الكرامة والذل، الصمت والكلمة، الجسد والروح.
كربلاء، في جوهرها، هي فعل ممانعة وجودية، تُعيد للمعنى مركزه، وللضمير مكانته، وللإنسان حريته في أن يختار الموت من أجل الحياة. لقد اختار الحسين أن يُذبح، لكنه لم يختر أن يُمسخ. اختار أن يُقتل، لكنه لم يختر أن يُذل. وفي ذلك، علّمنا أن الحياة بلا كرامة موت، وأن الحق بلا تضحية وهم.
وهكذا، تبقى كربلاء، لا كذكرى دامعة، بل كـجمرٍ دائم تحت رماد الوعي، يشتعل كلما حاولت السلطة أن تلبس قناع القداسة، وكلما أُريد للدين أن يُدجّن، وللحق أن يُنسى، وللإنسان أن يصمت باسم العقل أو الخوف أو المصلحة.
-----------------------------------
من الخلافة إلى الملك الجبري: إرهاصات الانحدار

لم يكن الصراع حول السلطة في الإسلام مجرد خلاف سياسي عابر نشأ بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كان الشرارة الأولى لتمزق الوعي الإسلامي بين المثال والواقع. لقد خلفت وفاة الرسول فراغًا هائلًا لم يكن المسلمون مهيئين له تنظيميًا ولا فكريًا، لأن النص كان موجوداً وحاضرا في الاذهان لكنه غاب عن العقول التي ارادت من هذه الفوضى والفلتة ان تكون بديلا عن النص المنظم.
ومنذ تلك اللحظة ، انقسم المسلمون حول ماهية السلطة: هل هي استمرار للوحي بوسائط بشرية كما نص عليه النبي ؟ أم أنها إرادة جماعية تُنتجها الشورى وتضبطها القيم؟ هذا الانقسام لم يكن فقهيًا فحسب، بل تكوّن كجذرٍ صراعي دفين، سينفجر لاحقًا في أكثر من مرحلة، أبرزها صراع السقيفة، ثم حرب الجمل، فصفين، فواقعة كربلاء.
وبعد عهد الخلفاء الراشدين، الذين حاولوا ـ بدرجات متفاوتة ـ الحفاظ على شيء من روح الشورى والعدالة النبوية، بدأ التحول التدريجي نحو "السلطة بوصفها ملكًا" لا "إمامة بوصفها مسؤولية". هذا التحول بلغ ذروته مع قيام الدولة الأموية، التي أسست لنمط حكم عضوض، أي سلطوي واستبدادي، يقوم على القوة والغلبة والوراثة، لا على رضا الأمة أو شرعية الشورى.

● معاوية بن أبي سفيان: من دهاء السياسة إلى كسر المبدأ

كان معاوية أول من أعاد تعريف مفهوم الخلافة بمفهومها السلطوي الدنيوي، حين أعلن نفسه أميرًا بعد فتنة صفين واغتيال الإمام علي (عليه السلام). وقد كان هذا التحول مقبولًا ظاهريًا عند بعض الصحابة بدعوى "الفتنة"، لكن جذر الانحراف الحقيقي تمثل في تحويل الحكم من تكليف إلى تملّك.
ولعل أخطر ما فعله معاوية ـ بعد تثبيت حكمه بأساليب القوة والمراوغة ـ هو فرض ابنه يزيد خليفة من بعده، في سابقة سياسية خطيرة لم تشهدها الأمة من قبل، إذ لم يُستشر الناس، ولم تُعرض البيعة على قاعدة الرضا، ولم تُراعَ الكفاءة أو السيرة أو حتى ظاهر الالتزام الديني. هكذا، دخلت الأمة مرحلة جديدة، سُمّيت لاحقًا بـ"الملك الجبري"، حيث يُفرض الحاكم على الناس، ويُطلب منهم الطاعة الكاملة له بوصفه "ولي أمر"، وإن تجاهر بالفجور، أو عبث بالمقدسات.

● يزيد: السقوط الأخلاقي والسياسي للقيادة

لم يكن يزيد شخصية هامشية أو محل جدل فقط، بل كان تجسيدًا فاضحًا لانحدار الحكم، شخصية غارقة في اللهو والمجون. فقد وُصف في المصادر الإسلامية بأنه مدمن للخمر، مهووس بالصيد، ساخر من الدين، مستهتر بحرمة البيت، وأحيانًا مستهزئ بالنبوة. ومع ذلك، أراد أن يُفرض بالقوة على الأمة، وأن يُطلب من خيارها ـ مثل الإمام الحسين ـ أن يبايعوه دون قيد أو شرط.
وهنا تتضح المأساة الأخلاقية والسياسية في أوجها: فبيعة يزيد لم تكن مجرد اعتراف سياسي بحاكمٍ قائم، بل كانت ختمًا على شرعنة الانحراف، وتبرئة تاريخية لسلطة فقدت كل صلة بجوهر الرسالة النبوية.

● الحسين عند المفترق: إما الطاعة أو الشهادة

في هذا السياق المعقد، وقف الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) أمام مفترق الطرق، وكان يدرك تمامًا أنه لا يواجه مجرد طاغية، بل منعطفًا تاريخيًا قد يُنهي مشروع النبوة كقوة أخلاقية محرِّكة للأمة. لم يكن رفضه لبيعة يزيد موقفًا شخصيًا أو عنادًا قبليًا، بل كان قرارًا وجوديًا، يعيد صوغ مفهوم "الحق" في مواجهة "السلطة".
لقد رأى الحسين أن السكوت يعني المشاركة في الجريمة، وأن البيعة تعني مبايعة القهر، وأن التراجع، حتى لو بدا حكيمًا سياسيًا، يعني خيانة للضمير والرسالة. ومن هنا، جاء قراره بأن يخرج من المدينة، لا طامعًا في سلطة، ولا باحثًا عن قتال، بل حاملًا مشروعًا لإحياء الوعي في أمة نامت على جراحها، وتصالحت مع ذلها.

● من الشورى إلى القهر: انطفاء روح السياسة الإسلامية

إن الانتقال من نظام الشورى إلى نظام الوراثة القريشي يعني شيئًا أكبر من مجرد تبدل آليات الحكم. إنه سقوط للمنظومة القيمية التي بشر بها الإسلام في السياسة، وتحول للعقيدة من محرّك للتحرر إلى مبرر للاستبداد. وما يزيد المأساة أن هذا التحول تم باسم الإسلام، وبشعارات من قبيل "الفتنة أشد من القتل"، أو "طاعة ولي الأمر واجبة"، أو "درء الفتنة أولى من طلب الحق"، وكلها شعارات أعادت إنتاج الصمت والخوف كـ"فضيلة".
ولذلك، كان صوت الحسين في كربلاء هو النفي الأخلاقي الصارخ لهذا الانحراف، وكان دمه وثيقة احتجاج على تدجين الدين وتسليع الطاعة، وتحويل الناس إلى رعايا لا مواطنين، وإلى أجساد مطيعة لا ضمائر حية.
كربلاء لم تكن صراعًا على الخلافة، بل لحظة مواجهة بين روح الرسالة ومؤسسات الانحراف، بين مشروع نبي يُنزل الوحي لتحرير الإنسان، ومشروع دولة تُنزّل السيف لإخضاعه. وبين الحسين ويزيد، كان الخيار إما أن يموت الجسد وتحيا الرسالة، أو أن تحيا السلطة ويموت المعنى.
------------------------
الحسين في كربلاء: الجسد كبيان، والدم كرسالة

حين رفض الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) مبايعة يزيد بن معاوية، لم يكن رفضه نابعًا من طموح سياسي أو تطلع دنيوي، بل من وعي أخلاقي عميق وإحساس نبوي بالمسؤولية تجاه معنى الرسالة. لقد أدرك الحسين أن المسألة لم تكن مجرد خلاف على السلطة، بل كانت لحظة اختبار عميقة: هل يبقى الدين دينًا إذا ما صمت عن الظلم؟ وهل تبقى الأمة حيّة إذا ما استسلمت؟

● الرحيل عن المدينة: الخروج من الصمت إلى الموقف

لم يكن خروجه من المدينة المنورة هروبًا من المواجهة أو بحثًا عن أمان، بل كان خروجًا رمزيًا من حالة الصمت إلى لحظة الموقف الجذري. ترك المدينة ومعها كل احتمالات السلامة، لأنه كان يرى أن البقاء فيها تحت سلطة غير شرعية يُعدّ تواطؤًا ضمنيًا مع الباطل. ثم مضى إلى مكة، ومنها إلى كربلاء، حاملًا معه إرث النبوة، وسيرة علي، ودمع فاطمة، وميراث المحبة والعدل.
كانت حركته أشبه بمسير الأنبياء الثوّار. فلم يكن معه جيش جرار، ولا خطة عسكرية، ولا خطاب تعبويّ يحرّك جموعًا نحو الانتقام. بل كان معه الحق عاريًا، والكرامة نقيّة، والنية خالصة لله والناس والتاريخ.

● كربلاء: اختلال موازين القوة، وثبات ميزان المعنى

في كربلاء، واجه الإمام الحسين جيشًا تعدّى الثلاثين ألفًا من المقاتلين المدجّجين بالسلاح، بينما لم يزد عدد من معه من أهل بيته وأصحابه على السبعين. هذا الاختلال العددي واللوجستي لم يكن هزيمة، بل شهادة حية على عمق الانحراف الذي وصلت إليه الأمة. لقد أراد الحسين أن يُجبر السلطة على أن تكشف وجهها الحقيقي: أن تقتل الحفيد لتثبت أنها ليست استمرارًا للنبوة، بل انحرافًا عنها.

● "هيهات منا الذلة": الجملة التي صارت فلسفة

في خطبته الشهيرة التي ألقاها في كربلاء قال:
"ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة."

ليست هذه الكلمات مجرد تعبير عن إباء أو شجاعة، بل هي بيان فلسفي وأخلاقي عميق. لقد لخص الإمام الحسين بها طبيعة الخيار أمام الإنسان في لحظة الأزمة الوجودية: إما أن يقبل الذل ويعيش بلا مبدأ، أو أن يواجه الموت حفاظًا على كرامته ومعنى وجوده.
إن هذه العبارة تحوّلت، مع الزمن، إلى مفهوم قيمي شامل، يفصل بين الحياة بوصفها بقاءً بيولوجيًا خاوٍ، وبين الحياة بوصفها انتماءً للمبدأ، وتحققًا للإنسانية.

● الدم كخطاب: من الجسد إلى الذاكرة

حين سقط جسد الحسين على رمضاء كربلاء، لم يُهزم. بل تجلّى الجسد كشكل أعلى من المقاومة، وكأن اللحم حين يقطّعه السيف، يتحوّل إلى بيان وجودي لا يُمحى. لقد كتب الإمام بدمه الرسالة التي لم تُكتب بالحبر: أن الدم حين يُسفك في سبيل الحقيقة، لا يجف، بل يتحوّل إلى ضمير.
كربلاء لم تكن معركة عسكرية يُقاس فيها النصر بعدد القتلى، بل كانت مختبرًا روحيًا وأخلاقيًا للإنسان، حيث يُختبر المرء: هل يعيش خائفًا في ظل سلطة جائرة؟ أم يموت واقفًا حاملًا الحقيقة، حتى لو لم يسمعه أحد في لحظته؟

● الوعي الشاهد: الحسين كـ"سؤال دائم"

لقد أصبح الحسين، بعد كربلاء، أكثر من شخص، وأكثر من شهيد. صار سؤالًا يواجه كل عصر: ماذا تفعل حين يُطلب منك أن تصمت؟ حين تُطالب بأن تبارك الباطل؟ حين تُغرى بالسلامة على حساب الكرامة؟
صار دمه نقطة مرجعية أخلاقية تتكرر كلما تعرّض الضمير الإنساني للاختبار. ولذلك لم تُطفأ كربلاء، ولم تهدأ، بل صارت تتجدد مع كل ظلم، وتنبض في كل مقاومة، وتُلهم كل من قرر أن يقول "لا" في زمن "القبول الجماعي".
في كربلاء، لم يكن الحسين يخوض معركة سياسية، بل كان يُجري منازلة كونية بين "الزيف السلطوي" و"الحقيقة العارية". لم يكن يسعى إلى انتصار عسكري، بل إلى ترسيخ معيار جديد للكرامة: أن تكون مستعدًا لفقدان الجسد، ولكن لا تسمح بفقدان الفكرة.
وهكذا تحوّل الجسد المذبوح إلى مرآةٍ للخلود، وتحوّل الدم المسفوك إلى وثيقةٍ للحق، وصار الحسين ضميرًا لا يموت.
-----------------------
كربلاء كتجسيد فلسفي للمسؤولية الأخلاقية

في الفلسفة الأخلاقية، توجد لحظات نادرة يصبح فيها الفعل الفردي معيارًا كونيًا، وتتحوّل فيها التجربة الشخصية إلى لحظة كاشفة لحقيقة الإنسان ومعنى وجوده. واقعة كربلاء، بهذا المعنى، ليست مجرد مواجهة بين طرفين على السلطة، بل هي تجسيد صارخ لمسألة فلسفية جوهرية: كيف ينبغي للإنسان أن يتصرف عندما يتعارض الواجب الأخلاقي مع البقاء المادي؟

● كربلاء ليست موقفًا سياسيًا بل "لحظة ضمير"

الحسين بن علي (عليه السلام) لم يدخل كربلاء بصفته معارضًا سياسيًا لنظام حكم فاسد فحسب ، بل كذلك بصفته شاهدًا على لحظة انهيار الضمير الجماعي، في زمن أصبح فيه الصمتُ مرادفًا للسلامة، والطاعةُ العمياء بديلًا عن البصيرة. لقد تمثّل الإمام الحسين "المسؤولية الأخلاقية" لا بوصفها خيارًا ظرفيًا، بل قدرًا لا يمكن التراجع عنه.
من هنا، تصبح كربلاء مختبرًا فلسفيًا لمفاهيم مثل: الواجب، الحرية، الكرامة، والتضحية. إنها تجسيد درامي حيّ للفكرة الكانطية في الأخلاق: أن الفعل الأخلاقي هو ما يُنجز بدافع من الإيمان بوجوبه، لا بسبب نتائجه.
لم يكن الحسين معنيًا بالنتائج العسكرية لموقفه، بل بالقيمة الأخلاقية الكامنة فيه.

● منطق الغلبة ضد منطق الحقيقة

كان الحسين يدرك أنه في مواجهة منطق سلطوي لا يؤمن بالحق، بل بالقوة. يزيد لم يكن مجرد فردٍ فاسد، بل كان تجسيدًا لنموذج سياسي جديد يقوم على الوراثة، والغلبة، واستعباد الضمير باسم الدين. لقد سقطت الخلافة وتحوّلت إلى ملك جبري، وأصبح الولاء لا يُبنى على الشرعية الأخلاقية أو الكفاءة، بل على الانصياع المطلق.
وفي هذا السياق، كان رفض الحسين لمبايعة يزيد أكثر من تمرّد، لقد كان فضحًا للنموذج، وكشفًا للآلية السلطوية التي تسحق الدين من الداخل وتحوّله إلى جهاز تبريرٍ للباطل.

● التضحية كاختبار للمبدأ

في كربلاء، كانت المفارقة كبيرة: يزيد يملك الجيش، السلطة، السلاح، الإعلام. أما الحسين، فكان يملك الحق وحده، لكن هذا "الحق" لا يُثبت عبر البيان فقط، بل عبر "الجسد الشاهد". وهنا تبرز المسؤولية الأخلاقية في أقصى تجلياتها: أن تقف مع الحقيقة، لا حين تكون سهلة ومحمية، بل حين تكون خطرة، وتستدعي منك أن تدفع وجودك ذاته ثمنًا لها.
الحسين لم يتراجع رغم إدراكه الكامل لما سيحدث. لم ينتظر أن تتوازن القوى، أو أن تتوفر له فرصة "انتصار مضمون". لأنه لم يكن يرى الانتصار في المفهوم السياسي أو العسكري، بل في كونه فضحًا للباطل، واستعادة لمعنى العدل، وتحريرًا للضمير من خوفه.

● "الصوت الأخلاقي" الذي لا يموت

بعد كربلاء، لم تعد "المسؤولية الأخلاقية" فكرة مجردة. بل أصبحت تجسيدًا حيًا في شخص الحسين، الذي صار رمزًا خالدًا لكل من يرفض المساومة على المبادئ. لم يعد الحسين فقط ذكرى تاريخية، بل صار صوتًا يُستدعى كلما سُحق الحق، وساد الصمت، وانهار الإنسان في داخله.
إن أهم ما يميز الحسين، كرمز فلسفي، أنه يُحرج الحاضر دومًا: لأن وجوده لا يُحتفى به بوصفه بطلًا في الماضي، بل بوصفه معيارًا للحكم على ما يجري في كل لحظة من حياتنا. إنه سؤال مستمر: هل نحيا كما ينبغي، أم كما يُملى علينا؟ هل نسكت عن الباطل لأننا نخشى نتائجه، أم نقول "لا"، لأن الصمت جريمة في حق أنفسنا قبل غيرنا؟

● كربلاء كتمرين دائم للضمير

هكذا، تغدو كربلاء تمرينًا أخلاقيًا مستمرًا، وسؤالًا فلسفيًا لا يغيب. في كل موقف يتردد فيه الإنسان بين المبدأ والمصلحة، بين الصمت والكلمة، بين الحياة بالخضوع أو الموت بالكرامة، تحضر كربلاء، لا بوصفها ذكرى، بل بوصفها مرآة يُختبر فيها جوهر الإنسان.
إن الدم الذي سُفك في كربلاء لم يجف، لأنه لم يُهدر. لقد تحوّل إلى معيار أخلاقي، يُواجهنا كلما غفلنا، أو بررنا لأنفسنا القبول بما لا يُقبل.
كربلاء هي التجلي الأكبر للمسؤولية الأخلاقية في التاريخ الإسلامي. الحسين فيها لم يكن ضد شخص أو نظام، بل ضد فكرة: أن يتحوّل الدين إلى سلعة، والحق إلى رأي، والموقف إلى مصلحة. ولهذا، لم يكن انتصاره عسكريًا، بل انتصارًا رمزيًا وأخلاقيًا يفيض على الأزمنة جميعًا.
وهكذا، يبقى الحسين ليس شهيدًا فحسب، بل شاهدًا علينا. شاهدًا على خياراتنا، على صمتنا، على كل لحظة نقايض فيها الضمير بالسلامة.
-------------------
كربلاء في البعد الصوفي: العشق الإلهي ومرآة الوجود

ليست كربلاء، في القراءة الصوفية، معركة بين فريقين على سلطة دنيوية، ولا هي لحظة سياسية تقليدية تُقاس بميزان الربح والخسارة. في نظر المتصوفة، هي مقام روحاني فريد، انكشافٌ للعشق الإلهي في أوضح تجلياته البشرية. ليست مجرد تضحية، بل فناءٌ طوعي في وجه المحبوب، حيث يصبح الجسد قربانًا، والدم حبرًا يُكتب به بيان الحضور الإلهي في التاريخ.

● الحسين: من الشهيد إلى المحبوب المتجلّي

ينظر الصوفية إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بوصفه ليس فقط شهيد قضية عادلة، بل شهيد العشق الإلهي؛ ذلك العشق الذي يجعل الإنسان لا يواجه الموت ببسالة فقط، بل يشتاق إليه لأنه "طريق اللقاء".

المحب، عند الصوفية، لا يبحث عن الجزاء، بل عن الاتحاد؛ عن محو الذات في ذات المحبوب. أما الإمام الحسين، فإنه لم يُذُب في المحبة فحسب، بل صار هو المحبة ذاتها، صار مرآة للعشق المتجسد في أسمى صورة من صور الفناء في الإرادة الإلهية.

● كربلاء كمقام روحي لا كميدان قتال

كربلاء، بحسب هذا الفهم، ليست أرضًا جُبلت بالدم فحسب، بل أصبحت مقامًا روحيًا يُقاس به صدق العشق الإلهي. إنها فردوس الفانين في الله، محراب أولئك الذين رأوا أن معنى الوجود لا يكتمل إلا بالتضحية الكاملة، بالنفي الكلي للأنانية، وبالتحرر من وهم البقاء الزائف.
لقد اختار الحسين أن يكون في كربلاء "السرّ الظاهر" للعشق المطلق. لم يكن يواجه طاغية فقط، بل كان يواجه "نظامًا كونيًا مختلًا" آن له أن يُعاد توازنه، عبر استشهادٍ يُنقّي الزمان والمكان من رجس الغفلة. ولذلك، فإن يوم عاشوراء، عند الصوفية، ليس فقط يومًا للحزن، بل يوم تجلٍ وتجديد لعهد العاشقين.

● من السياسة إلى الجمال: كربلاء كتجلي للوجه الإلهي

في الرؤية العرفانية، كل طغيان هو تشويه لوجه الله في خلقه، وكل مقاومة للطغيان هي محاولة لاستعادة الجمال الإلهي الذي حُجب بالاستبداد والفساد. هكذا، تتحول كربلاء إلى لوحة جمالية إلهية، حيث يتجلّى "جمال الله في خلقه" من خلال دم الحسين. إن سعي الحسين لم يكن سعيًا إلى ملك أو جاه، بل سعيًا إلى إعادة صياغة معنى الجمال في العالم، من خلال تذكيرنا بأن الإنسان حين يضحي من أجل الحرية والحق، يُعيد كتابة وجه الله في مرآة الوجود.

● الحسين والكرامة كوجهين للمعرفة العرفانية

إن مفهوم "الكرامة" في كربلاء، لا يمكن عزله عن بعده الصوفي. فكرامة الحسين ليست فقط صموده، بل قدرته على أن يظل نقيًا في لحظة الانكسار المادي. هنا نصل إلى جوهر "المعرفة الروحية": أن تعرف الله، يعني أن تُكَرِّم الإنسان، لأن الإنسان هو موضع تجلي الحق. ولذلك، فإن استشهاد الحسين هو إعلان صوفي صارخ عن قدسية الإنسان وكرامة روحه، مهما عظُم الظلم أو طغت الوحشية.

● الموت كتجلٍّ، لا كغياب

الموت، في المنظور الصوفي، ليس فناءً بل كشفٌ. كربلاء تُجسّد هذا المعنى بجلاء: فحين يُذبح الحسين، لا تُطفأ رسالته، بل تتجلى أنقى وأبقى. لا ينهزم، بل يصعد إلى مقام الشهادة الكبرى، التي هي ذروة الفناء في المحبوب. ومن هنا، يصبح دمه لغةً صامتة، لكنه أفصح من كل خطبة. يصبح جسده مرآةً لما يمكن أن يكون عليه الإنسان حين يكتمل في محبته لله وخلقه.

● عاشوراء في الوعي الصوفي: تجديد للعهد لا مجرد رثاء

عاشوراء، في التجربة الصوفية، ليست طقسًا للبكاء فحسب، بل مقامٌ للعودة إلى الذات، لاستحضار سؤال العشق في أعمق أعماقه: هل ما زلت قادرًا على أن تفنى من أجل ما تؤمن؟ هل أنت، مثل الحسين، مستعد أن تقول "هيهات منّا الذلة"، ولو دفعت بذلك روحك ثمنًا؟
إن الحسين، في هذا السياق، لا يُبكى عليه لأنه قُتل، بل لأنه أحبَّ حتى النهاية. تُبكى روحه لأنها ذكّرتنا بجمالٍ خسرناه، وبمقامٍ لا نجرؤ على الصعود إليه.
في كربلاء، تماهى الجهاد بالحب، والسياسة بالعرفان، والموت بالولادة. هناك، في تلك البقعة القاحلة، انبثق العشق الإلهي في جسد بشري رفض أن يساوم على الحقيقة. ومنذ ذلك اليوم، أصبح الحسين رمزًا للعاشق الكامل، الذي لم يُهزم لأنه لم يكن يسعى إلى نصر دنيوي، بل إلى أن يصبح مرآة الله في الأرض.
ومن هنا، لا تزال كربلاء تتجدد، لا بوصفها مأساة فقط، بل كـمرآة كونية، من تأمّل فيها عرف الله، ومن عبرها إلى ذاته، أدرك أن العشق لا يكتمل إلا بالفداء.
---------------------------
زينب: من الجرح إلى الرسالة – الذاكرة كفعل مقاومة

لم تكن نهاية كربلاء بسقوط السيوف، بل كانت بدايتها الحقيقية لحظة وقفت السيدة زينب بنت علي، في مجلس الطاغية يزيد، وقالت بصوت يزلزل التاريخ:

"فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللهِ لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا، وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَنَا."

● زينب: من البكاء إلى البيان

لقد كانت زينب صوت الجرح الناطق، لكنها لم تبكِ كمن هزم، بل صرخت كمن بدأ المرحلة الثانية من المعركة. في تقليدٍ أبويٍّ يقصي النساء إلى الهامش، وقفت زينب في مركز التاريخ، لا كشاهدة فقط، بل كمؤرخة للمقدّس، ومفسّرة للدم، وراوية للحقيقة. كانت تعلم أن المعارك الكبرى لا تُحسم بالسيوف وحدها، بل بذاكرةٍ تصون الحقيقة من التشويه، وتمنع استبداد السرد.

● من الحضور الرمزي إلى الدور التاريخي

في لحظة مفصلية، أصبحت زينب الضلع الناطق بثورة الحسين. هي لم تكن "الناجية" من كربلاء، بل الوارثة الشرعية لألمها ورسالتها. فقد أدركت أن الطغاة لا يقتلون بالجسد فقط، بل يقتلون عبر النسيان. ولذلك، وقفت زينب لتعلن أن الذكرى هي المعركة الأهم، والذاكرة هي الجبهة الأخيرة. فالدم الذي أُريق على أرض كربلاء لا تكتمل رسالته إلا إذا وُثق، وروي، وأُعيد سرد معناه في وجه أجيال قد تُفتن بالسكوت.

● المرأة كصوت الحقيقة

دور زينب هنا ليس طارئًا ولا هامشيًا، بل هو فعلٌ تأسيسيٌّ لتاريخ مغاير؛ تاريخ تُكتبه امرأة، لا من عتبة البلاط، بل من حافة المجزرة. لقد قدمت نموذجًا مغايرًا للأنوثة في سياقها الديني والاجتماعي: أنوثة القوة، البيان، والتحدي. في زمنٍ يختزل المرأة في صورة الحزن أو الضعف، ظهرت زينب كفاعلة معرفية وروحية، تصوغ خطابًا مضادًا، وتستعيد سردية المأساة من يد السلطان.

● زينب والوعي الثوري: من الألم إلى المقاومة

الرسالة التي حملتها زينب بعد كربلاء كانت أوضح من كل بيانات الثورة: أن الصمت خيانة، وأن الألم لا يكفي إن لم يتحول إلى مقاومة. لم تقف عند حدود الرثاء، بل نقلت المأساة من مجال العاطفة إلى مجال الفعل. كانت خطبها، في الكوفة وفي دمشق، بمثابة صدمة ضمير للأمة، ونقدًا مباشرًا لشرعية السلطة، وتأسيسًا لوعيٍ مضاد، يستمد شرعيته من الدم، لا من العرش.

● من السلطة إلى الذاكرة: من ينتصر في النهاية؟

يدرك الطغاة دائمًا أن سطوتهم ليست فقط بالسيف، بل باحتكار السرد. وقد كسرته زينب. عندما قال يزيد إن الحسين قُتل وأُبيد، ردّت عليه زينب بأن دمه أصبح لسانًا جديدًا للحق، وأن الذكرى أقوى من السلطة. لم تكن كلماتها فقط ردًا على طاغية، بل كانت بيانًا وجوديًا: أن الحقيقة لا تموت بموت أصحابها، بل تولد في كل من يسمعها ويؤمن بها.
ولذا، يمكن القول إن زينب لم تكن مجرد استمرارية للحسين، بل تأويلًا حيًا له. كانت تمثل النصف الثاني من الكربلاء: إن كان الحسين دمًا على الرمل، فزينب كلمة في الهواء، لا تُكتم. وإن كان هو صمت الشهادة، فهي بلاغ النبوّة في وجه السلطان.

● من عاشوراء إلى التاريخ المفتوح

عاشوراء، كما واصلتها زينب، لم تعد حدثًا محصورًا في زمانه، بل أصبحت بنيةً سردية تتكرر في كل زمان. وكلما علا صوت المستبد، واشتد الظلم، يظهر صوت زينب في اللاوعي الجمعي، يذكّر بأن المعركة لم تنتهِ، وأننا لا نزال في صلب كربلاء، بين خيار السكوت والمقاومة، بين الذل والصوت.
إن السيدة زينب (عليها السلام) لم تكن فقط آخر ما تبقى من القافلة، بل كانت أول ما بدأ من الثورة الثانية. ثورة الكلمة، ثورة الرواية، ثورة الذاكرة. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يُروى تاريخ كربلاء من وجهة السلطة، بل من فم زينب.
لقد أعادت تعريف النصر:
النصر ليس الغلبة العسكرية، بل الخلود في الذاكرة الحرة.
والكلمة، حين تخرج من فم من رأى القتل بعينه، تصبح حجّةً لا تُرد، وسيفًا لا يُكسر.
----------------------------------
كربلاء كرمز كوني: من الثورة إلى الإلهام الإنساني

لم تعد كربلاء محصورة في الذاكرة الإسلامية أو الشيعية فحسب، بل أصبحت نقطة ارتكاز رمزية كبرى في الضمير الإنساني الكوني، حيث تتحول المأساة إلى مصدر إلهام، وتُصبح الشهادة درسًا عابرًا للثقافات والأديان. لقد تجاوزت ملحمة الإمام الحسين (عليه السلام) حدود الزمان والمكان، وخرجت من إطار الجغرافيا العربية والإسلامية لتُلامس جوهر التجربة الإنسانية ذاتها: كيف يواجه الإنسان الظلم؟ ومتى يتحول الصمت إلى خيانة؟ ومتى تصبح الشهادة أعظم من النصر؟

● الحسين: أيقونة الكرامة العالمية

لقد تحول الإمام الحسين إلى رمز أممي للكرامة في وجه القهر، وللحرية في وجه الاستعباد. لم يعد يُقرأ بوصفه شخصية دينية فقط، بل كأنموذج إنساني شامل يلهم الثوار والمصلحين والمفكرين في مختلف أنحاء العالم. ولهذا قال الزعيم الهندي المهاتما غاندي - أن صح نسبة هذا القول له :
"تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر."
غاندي، الذي قاد شعبه للتحرر من الاستعمار البريطاني عبر فلسفة اللاعنف، وجد في كربلاء مرآة روحية لنضاله؛ لأن كربلاء لم تكن نصرًا عسكريًا، بل انتصارًا أخلاقيًا أزليًا. الحسين لم يُرد أن يُهزم خصمه بالسيف، بل أن يفضح ظلمه، ويجعله مكشوفًا أمام التاريخ. وهذه الفكرة كانت جوهر نضال غاندي: أن المظلوم، إذا ثبت على قضيته، يصبح هو المنتصر الحقيقي، ولو سُفك دمه.

● كربلاء والثورات: من طهران إلى بغداد

في إيران قبل الثورة الإسلامية (1979)، تحولت كربلاء إلى وقود شعبي للمواجهة مع النظام البهلوي. استُحضرت صورة الحسين في الخطب، والقصائد، والمواكب، لتقول للشعب إن الطاغية الحاضر هو يزيد جديد، وإن الواجب الأخلاقي يقتضي الثورة، تمامًا كما فعل الحسين. وبهذا، لم تكن كربلاء مجرد طقس ديني، بل خطابًا تحرريًا يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بين المقدس والزمن.
أما في العراق، فكانت كربلاء منذ زمن طويل بوصلة الرفض والاحتجاج. من الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الدكتاتورية، إلى الحركات الاحتجاجية المعاصرة، ظل اسم الحسين يُرفع بوصفه شعارًا للكرامة. وعندما يهتف شابٌ أعزل في ساحة التحرير أو في أي مظاهرة ضد الفساد أو القمع:
"هيهات منّا الذلّة"
فإنه لا يُردد مجرد شعار، بل يُجدد بيعة رمزية لفلسفة كربلاء، ويؤكد أن الحسين لا يزال حيًا في ضمير الأمة، حاضرًا في كل مواجهة مع الجور.

● كربلاء في الخطاب المعاصر: الحسين كمعنى حي

الحسين لم يُقْتَل ليُبكى عليه فقط، بل ليُفهم، ويُحتذى به، ويُستعاد كرمز في كل سياق ظالم. ولذلك، أصبح استحضار كربلاء أحد أشكال إنتاج الوعي المقاوم. في كل مكان يُظلم فيه إنسان، في كل بقعة يُعتقل فيها الرأي، أو يُغتال فيها الحلم، هناك حسين جديد يُذبح، وهناك عاشوراء تتكرر، لا كطقس بل كتمثيل حي للضمير.
وهكذا، يتحول اسم الحسين من شخص إلى قيمة، ومن لحظة إلى رسالة، ومن موقع جغرافي إلى موقف أخلاقي. إنه الحاضر في صرخات المهجّرين، والسجينين، والفقراء الذين يرفضون أن يكونوا عبيدًا في بلاط الطغيان.

● الذاكرة العابرة للثقافات

كربلاء لم تعد "شأنًا شيعيًا"، ولا حتى "إسلاميًا" بالمعنى الحصري. فكتاب ومفكرون وفنانون من مشارب دينية وفلسفية متعددة، تناولوا ثورة الحسين بوصفها تعبيرًا راقيًا عن التضحية النبيلة والتمسك بالحقيقة. في الأدب الهندي، والإيراني، والعراقي، وفي مسرحيات وموسيقى ولوحات، كانت كربلاء مرآة للوجدان، تُعيد طرح السؤال الأبدي: هل تستحق الحقيقة أن نموت من أجلها؟
---------------------------
الحسين كمرآة كونية للضمير الإنساني

كربلاء ليست مجرد حدث مضى في سجل الحوادث، وليست موقعة عسكرية تُدرّس في كتب التاريخ بمعزل عن دلالاتها الأخلاقية والروحية؛ إنها لحظة كونية متكررة، مرآة مفتوحة أمام الوجود الإنساني، يختبر من خلالها البشر موقعهم في معادلة الظلم والعدل، الخوف والشجاعة، التبعية والحرية.
في كل مرة نتأمل كربلاء، لا نقرأ سطورًا مكتوبة على الورق، بل نقرأ وجوهنا. نقرأ وجوهنا كما هي، بلا زينة ولا تبرير: هل كنّا ممن صمتوا عندما تحدث الطغاة؟ هل كنّا ممّن تواطؤوا تحت حجج الواقعية السياسية أو الضرورات الأمنية؟ أم كنا ممن ساروا، ولو وحدهم، إلى حيث الحقّ واضحٌ كالشمس، ولو أن الطريق مكللٌ بالعطش، والموت، والغربة؟
الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن طالب حكم، بل حامل مشروع أخلاقي، مشروع يستدعي الإنسان من سباته، من استقالته الداخلية، من مساوماته اليومية على ما تبقى من الكرامة. حين قال:
"من كان باذلًا مهجته، موطّنًا نفسه على لقاء الله، فليرحل معي."
لم يكن يطلب عددًا، بل كان يبحث عن النوع، عن الإنسان القادر أن يترك الطمأنينة الزائفة في المدينة، ويذهب إلى الحقيقة، ولو في صحراءٍ قاحلة. لقد كانت كربلاء، بهذا المعنى، تمرينًا روحيًا على الصدق: صدق المواجهة، وصدق النية، وصدق الموقف.
الحسين لا يُعاد تمثيله في المواكب فقط، بل يُستدعى كقيمة، كلما وقف الناس أمام مفترق طرق بين الاستسلام والمقاومة، بين قبول الواقع الجائر أو السعي إلى تغييره. ولذلك، فإن كربلاء ليست مناسبة عاطفية وحسب، بل هي معيار أخلاقي: كلما انقسم الناس على أنفسهم، عاد صوت الحسين ليذكّرهم بأن الحياة ليست بطول البقاء، بل بصدق الموقف.
وهكذا، فإن الحسين، بما مثّله من عناد في وجه الاستبداد، وكرامة في مواجهة الانكسار، يصبح مرآة كونية لا تعكس ماضيًا، بل تفضح الحاضر، وتضيء الطريق نحو المستقبل. كربلاء، إذًا، ليست مجرد سؤال: "مع من كنت؟" بل هي نداء دائم: "من ستكون؟".



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدنيا رطب عالي
- الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي ...
- الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري ...
- الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما ...
- النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي
- تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
- من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
- زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا ...
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم
- شذرة 14 الدين والأخلاق
- حسين منه وهو من حسين


المزيد.....




- شركة في دبي تأمل بإطلاق خدمة التاكسي الطائر في عام 2026
- ماذا قدّم أسبوع باريس للأزياء الراقية لعروس شتاء 2026؟
- أوروبا تمنح إيران مهلة: إما التفاوض بشأن برنامجها النووي أو ...
- صفقات بين واشنطن والمنامة بنحو 17 مليار دولار.. عشية لقاء تر ...
- النووي الإيراني ـ الترويكا الأوروبية تهدد طهران بإعادة فرض ا ...
- ميخائيل بوغدانوف مهندس السياسة الروسية في الشرق الأوسط
- لماذا خاطب بزشكيان الإيرانيين المغتربين؟ خبراء يجيبون
- %52 من الإسرائيليين يؤيدون حكما عسكريا في غزة
- هآرتس: تدمير غزة يُنفذ عبر مقاولين إسرائيليين يتقاضون 1500 د ...
- عاجل | وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل مهاجمة قوات النظام الس ...


المزيد.....

- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض قاسم حسن العلي - دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى