|
الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي يقرأ عن الرواية أكثر مما يقرأها
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 20:16
المحور:
الادب والفن
في خضمّ الضجيج الثقافي الذي يرافق صناعة الكتاب وترويجه، قلّما يُطرح سؤال جوهري يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه بالغ الإرباك في جوهره: هل هناك كتب لا تستحق أن تُقرأ؟ فبينما تتكدّس القوائم السنوية التي تحمل عناوين "أفضل مئة كتاب يجب أن تقرأها قبل أن تموت"، وتُطلق المهرجانات الأدبية توصياتها الموسمية بأعمال "لا غنى عنها"، يتعذّر أحيانًا على القارئ أن يجد موطئ قدمٍ لذائقته، وسط عاصفة من الإملاءات الثقافية التي تُخفي خلفها شبكة من التواطؤ بين النقد، والسوق، والتقديس المؤسسي.
ثمّة تعامل ساذج، وربما مريب، مع فكرة "الكتاب العظيم" أو "الكاتب الكبير"، كما لو أن قيمة العمل تنبع من اسم مؤلّفه، أو من ختم الموافقة الذي تمنحه مؤسسات ثقافية كبرى، أو نقاد يُنظر إليهم باعتبارهم قضاة الذائقة الكونية. وكأن توقيع اسم معروف على الغلاف كافٍ لمنح النص حصانة من السؤال، ومن النقد، بل ومن القارئ نفسه، الذي يُفترض أن يُدهش، لا أن يسائل. هكذا تُقلب المعادلة: بدل أن يكون الكتاب موضوع قراءة حرة ومسؤولة، يتحوّل إلى كائن مقدّس يفرض حضوره بغطرسة، ويُفرض على القارئ كواجب ذوقي لا فكاك منه.
لكن الحقيقة، بكل بساطتها المربكة، أن هناك كتبًا ينبغي تجنّبها. لا فقط لأنها رديئة من حيث الحرفة أو المضمون، بل لأنها مشبعة بخداع الرمزية الثقافية، مغموسة في هالة زائفة من المجد تُروّج لها أذرع نقدية مسكونة بهوس تبنّي ما تقرّه المؤسسة الغربية دون تمحيص، ومصابة بإدمان مَرَضي على إعادة إنتاج المقولات ذاتها، بمنطق القطيع لا الاجتهاد.
تحت هذه الأغطية المزيّفة، تسللت روايات وكتّاب إلى رفوف المجد الأدبي، لا لأنهم صنعوا أدبًا مؤثرًا أو مبتكرًا، بل لأنهم انتظموا داخل منظومة التبجيل العالمي التي تُعيد إنتاج نفسها عبر الترجمة، والنقد، والتدريس الأكاديمي، دون فسحة كافية للاختبار الفردي أو المساءلة الحرة.
في هذا السياق، تبرز رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست بوصفها حالة مثالية للتأمل في هذه العلاقة المعقدة بين النص، والقارئ، والسلطة النقدية. فهي رواية تُمثّل بالنسبة لكثيرين مرجعًا لا يُمسّ، وعملًا من أعمال "الحداثة السردية الكبرى"، لكنّها في الوقت ذاته تُثير ــ عند قرّاء آخرين ــ شعورًا بالملل، والانفصال، بل والإحباط من الإلحاح النقدي الذي يفرضها باعتبارها معيارًا ذوقيًا يُقاس به ما سواه. وبين هؤلاء وأولئك، يضيع صوت القارئ الفرد، الذي قد لا يجد في هذا العمل الجليل ما يحرّك وجدانه أو يستفزّ فكره.
فهل القراءة فعل حرّ؟ أم أنها ممارسة مقيّدة بمعايير مسبقة تُفرض من خارج الذات؟ وهل يحق لنا أن نرفض قراءة عمل ما، حتى لو اصطفّت خلفه جحافل النقّاد والقراء والجوائز؟ ثم: من يملك سلطة القول بأن هذا النص عظيم، وأن ذاك لا يستحق الالتفات؟
ربما تكون الإجابة الأولى في هذه المقالة أن قيمة العمل لا تتحدد بمرجعيته المؤسسية أو نقديته، بل بأثره في القارئ المستقل. من هنا، يصبح من المشروع أن نعيد فتح النقاش حول ما يسمى بـ"الكتب الضرورية"، بل ونقلبه: لنسأل عن "الكتب التي لا ينبغي أن نُضيّع أعمارنا في قراءتها"، أو التي تُفرض علينا باسم الذوق الراقي، وهي في جوهرها تمارين لغوية معقدة موجهة لنخبة ضيقة ومغتربة.
أن نقرأ بروست ليس بحد ذاته فضيلة، وأن نرفضه لا يعني بالضرورة جهلاً أو قصورًا. بل ربما كان الرفض فعل تحرّر من سطوة الذوق المؤسسي، واستعادة للكرامة القرائية التي تُهدَر في زمن تتزايد فيه سلطة "النص المكرّس"، على حساب المتعة، والفهم، والانخراط الحي في القراءة.
---
نقاد يكررون ما لم يقرأوه في قلب المشهد الثقافي العربي المعاصر، تتكرّس ظاهرة يمكن وصفها دون مواربة بأنها امتثال نقدي معولم. وهي ليست جديدة بالمعنى التاريخي، لكنها اكتسبت خلال العقود الأخيرة طابعًا أكثر عنفًا وهيمنة، مع ازدياد مركزية الغرب بوصفه سلطة معيارية تحدد ما ينبغي الإعجاب به، وما يجب إدراجه في لائحة "الروائع". ولعل أكثر أشكال هذا الامتثال شيوعًا هو ما نراه عند قطاع كبير من النقاد والكتّاب، الذين ما إن يُعلن عن اسم كاتب غربي بوصفه "رمزًا حداثيًا" أو "أيقونة سردية"، حتى تبدأ موجة تلقف جماعي للمقولات التي تحيط به، دون فحص جدّي أو إعادة تموضع نقدي.
فإذا ما وُصف ميلان كونديرا بأنه "فيلسوف الرواية"، أو اعتُبر مارسيل بروست أحد أعمدة التحديث السردي، أو نُصّب جيمس جويس طليعة في هندسة اللغة الروائية، تجد فورًا طبقةً من النقاد العرب تعيد تدوير هذه الأحكام، بنفس اللغة، بل أحيانًا بنفس الاقتباسات، وكأنّ الاقتباس نقد، وكأنّ الإعجاب فهم.
إن ما يحدث هنا ليس مجرد ترجمة لآراء غربية، بل هو إعادة إنتاج للنقد الغربي بوصفه وحيًا، لا بوصفه اجتهادًا. النقد يتحول إلى مرآة مشروخة تعكس صورة الآخر، لا إلى عملية تأويل تُبنى على تماس شخصي مع النص، وتجربة حقيقية في قراءته. وكأن الناقد لا يقرأ العمل، بل يقرأ الإجماع حوله. وكأن الحقيقة الأدبية لا تُكتشف، بل تُسلّم جاهزة، بكلمات لامعة مستعارة من فوكو أو بارت أو ديليوز.
وما يزيد المشهد قتامة أن كثيرًا من هؤلاء الذين يُنصّبون أنفسهم حرّاسًا للذوق السائد، لم يقرأوا هذه الأعمال أصلًا، بل اكتفوا بقراءتها "عبر وسيط" ــ أي عبر ما كُتب عنها، لا عبر احتكاك مباشر مع بنيتها ولغتها وتوتراتها الداخلية. هذا ما يجعل من الفعل النقدي في كثير من الأحيان فعلاً انتحالياً: نقدٌ دون قراءة، وثناءٌ دون مساءلة، وتعظيمٌ دون تجربة.
هذه ليست مجرد مشكلة أخلاقية أو مهنية، بل هي بنيوية. فالنقد العربي، في كثير من تجلياته الراهنة، يعاني من تبعية مزدوجة: تبعية للذوق المركزي (الغربي غالبًا)، وتبعية للشبكات المحلية التي تعيد إنتاج هذا الذوق بلغة محلية هجينة، فتخنق أي إمكان لقراءة "من الداخل"، أو اجتهاد فردي خارج القطيع.
إنه مشهد يذكّرنا بما سماه إدوارد سعيد "سلطة التمثيل"، ولكن هذه المرة داخل حقل الأدب نفسه: حيث لا يُسمح بمساءلة النصوص المركزية إلا بقدر ما يُسمح لك أن تبقى ضمن المعسكر المصفّق لها، وتحت المظلة الآمنة لما يُفترض أنه "ذوق رفيع".
إن السؤال هنا لا يتعلق فقط بمدى "عظمة" بروست أو كونديرا أو جويس، بل بمدى حرية القارئ والناقد في رفض هذا التعظيم، أو في إعادة موضعته، أو حتى في القول ببساطة: لم يعنِ لي هذا النص شيئًا. فهل يُسمح للنقد العربي أن يُعلن ذلك دون أن يُتهم بالجهل أو التخلف أو الشعبوية؟ أم أن اللعبة قد حُسمت سلفًا، وصار من حقّ النقاد فقط أن يردّدوا، لا أن يختلفوا؟
---
روايات لا تُقرأ للمتعة ليس الهدف من كل رواية أن تُمتع قارئها. ففكرة "المتعة" بوصفها جوهر التجربة السردية هي مقولة ساذجة، إن لم نقل مخادعة، حين تُعمّم دون وعي بنوع النص وأفقه الفني والمعرفي. ففي عالم الرواية، ثمة أعمال كُتبت لا لترفّق بالقارئ، بل لتُربكه، لتدفعه إلى الحافة، بل أحيانًا لتقصيه، لتقول له ضمنيًا: أنت لست المقصود هنا.
هذا النوع من الروايات ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"الرواية التجريبية الحدّية" التي ترى في السرد مساحة للتمرين الأسلوبي، ومختبرًا لغويًا بنيويًا أكثر مما تراه وسيلةً للتواصل أو المشاركة. روايات مثل يوليسيس لجيمس جويس، والصخب والعنف لويليام فوكنر، والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، لا تُقرأ بوصفها سردًا بالمعنى التقليدي، بل بوصفها "أنساقًا مغلقة"، تتطلب مفاتيح معرفية ولغوية لفتحها، وكأنها نصوص مكتوبة بلغة داخلية لا تفتح قلبها إلا لمن يمتلك شفراتها المسبقة.
إن هذه الأعمال لا توجّه خطابها إلى القارئ العادي، بل إلى قارئ مثالي تفترضه مسبقًا، قارئ هو في الغالب ناقد أو مثقف محترف أو قارئ متفرغ يمتلك الوقت والصبر والأدوات لتفكيك بنيات اللغة، والتعامل مع الانقطاعات الزمنية، والتقنيات السردية اللاخطية، والإحالات الرمزية والثقافية المركبة. ومن هنا، لا تُقرأ هذه الروايات إلا في سياقات خاصة: في الجامعة، في الورش النقدية، في برامج الدراسات العليا. إن قراءتها فعل دراسي أكثر منه فعل حميمي.
لكن هذا لا ينسحب على الأدب الغربي وحده. ففي العالم العربي، لدينا كتابات تنتمي إلى هذا النمط الذي لا يُخاطب قارئًا بقدر ما يُرهقه. ولعل خير مثال على ذلك هو السرديات القصصية لمحمد خضير في العراق، والتي تمثل حالة سردية متعالية لا تُعطي نفسها بسهولة، بل تشترط على قارئها مجهودًا تأويليًا معقّدًا، ومعرفة مسبقة بجماليات المكان واللغة والسرد. فالنص عند خضير ليس مساحة للفضفضة أو الحكي، بل كولاج لغوي زمني، يُبنى على المفارقة والتجريد وكثافة الإحالات.
هنا، لا يعود القارئ شريكًا طبيعيًا، بل يصبح كائنًا مختبريًا، تُختبر به قدرة النص على الخداع، والإخفاء، والاختزال، كما تُختبر فيه قدرته هو على التسلّق داخل طبقات المعنى المتراكبة. وهذا يُفضي إلى سؤال جوهري: هل كل رواية يجب أن تكون مقروءة؟ أم أن بعض الروايات كُتبت أساسًا لتكون نوعًا من المعمار التأملي المغلق، يكتمل بذاته، ولا يحتاج إلى قارئ بالمعنى التقليدي؟
في هذه الحالات، تتحول الرواية من أداة تواصل إلى نص ذاتي التوجّه، تُكتب لتعلن عن نفسها، لا عن العالم، ويصبح القارئ شاهدًا على تجربة خاصة لا تخصه، بل تتعالى عليه.
إن هذا النمط من الروايات ــ سواء كانت غربية كأعمال بروست وجويس، أو عربية كأعمال محمد خضير ــ يكشف عن تحوّل في وظيفة الرواية: من الحكاية إلى اللغة، من الحضور العاطفي إلى الغياب البنيوي، من الأثر إلى الشكل. وهنا، يصبح "الملل" ليس عرضًا طارئًا على القارئ، بل إحساسًا بنيويًا ينتج عن التباعد المتعمد بين النص ومن يقرأه.
في النهاية، لا بد من الاعتراف بأن بعض الروايات لا تُقرأ لمتعتها، بل تُدرس كأمثلة على التجاوز اللغوي أو على تطور البنية السردية. وهذا لا ينقص من قيمتها الفنية، لكنه يعيد ترتيب أولويات القراءة، ويمنح القارئ الحق في أن يتساءل: هل هذه الرواية كُتبت لي؟ وإذا لم تُكتب لي، فهل عليّ أن أحمّل نفسي عناء الدخول في سردابها المغلق، فقط لأن نقاد الغرب قالوا إنها عظيمة؟
---
عن بروست و"الزمن المفقود" حين قدّم مارسيل بروست الجزء الأول من البحث عن الزمن المفقود إلى لجنة النشر في دار "غاليمار" الباريسية مطلع القرن العشرين، واجه عمله رفضًا قاطعًا من أحد أبرز أقطاب الذائقة آنذاك: الكاتب والناقد أندريه جيد. لم يرَ جيد في النص أكثر من "مجموعة من الخواطر المرتبكة"، عمل بلا حبكة، بلا هيكل، بلا نسيج روائي حقيقي. بل إن حكمه حمل في طياته شيئًا من السخرية الضمنية، كما لو أن ما بين يديه مجرد هذيان برجوازي طويل النفس، لا يستحق الطباعة.
لكن المفارقة الصادمة جاءت لاحقًا: بعد أن نالت الرواية شهرتها وانتزعت موقعها في الخارطة الأدبية الأوروبية، غيّر جيد رأيه كليًا، وأعاد تمجيد العمل ذاته الذي رذله بالأمس، وكأنه كان ينطوي منذ البداية على عبقرية سرية لم تُدرك إلا متأخرًا. هذه الحكاية ليست مجرد "خطأ تقدير نقدي"؛ بل هي شهادة على هشاشة المؤسسة النقدية الفرنسية في لحظاتها الحاسمة، وعلى قدرة السوق ــ لا النص ــ في أحيان كثيرة على إعادة تعريف القيمة. إنها حادثة تكشف أن البصيرة النقدية ليست معصومة، وأن ما نسمّيه "قيمة أدبية" يمكن أن يكون نتاجًا لظروف اجتماعية، وتغيرات مزاجية، وانزلاقات زمنية، أكثر منه حصيلة لوعي فني خالص.
لقد أصبحت رواية البحث عن الزمن المفقود ــ في سباعيتها المترامية ــ من أطول الأعمال في تاريخ الأدب، وأحد أبرز أمثلة "الرواية النهرية" التي تشتبك مع الزمن والذاكرة واللغة في آنٍ معًا. لكنّ هذا الطول نفسه أثار الكثير من التساؤلات: هل تستحق الرواية كل هذا الامتداد؟ وهل كانت الكتابة الضرورية هي التي فرضت هذا الحجم، أم أن النرجسية السردية لبروست هي التي دفعت نحو هذا الإسراف؟
أحد القراء كتب بعد أن أمضى أكثر من ثلاثة أشهر في قراءة الرواية إنه لم يشعر بانتصار، بل بنوع من الفراغ التأملي: لم تكن الجائزة هي إنهاء الرواية، بل الأسئلة التي علّقتها في ذهنه دون إجابة. وهنا يظهر سؤال جوهري: هل نقرأ الأدب كي نكمل الكتب، ونُفاخر بإنجازاتنا القرائية؟ أم نقرؤه لأنه ينفذ إلينا، يُربك وعينا، ويعيد تكويننا من الداخل؟
إذا كانت الرواية تحتاج إلى جهد أسطوري لإنهائها، ولا تترك أثرًا وجدانيًا مباشرًا، فما الذي يبرر قراءتها؟ هل نقرأ لأن الآخرين قرأوا؟ لأنها أصبحت "طريقًا ملكيًا" إلى النخبة الثقافية؟ أم لأننا صدّقنا، بطريقة ما، أن التحدي وحده دليل على القيمة؟
في ضوء هذا التناقض، يصبح بروست نفسه علامة على إشكالية أكبر: متى يتحول النص من تعبير أدبي إلى اختبار نخبة؟ ومتى تتحول الذائقة إلى نظام سلطوي يُقصي كل من لا يستطيع الصمود أمام رموز الحداثة القاسية؟
من حق أي قارئ أن يتساءل: إذا كان الناشر الأول للرواية قد رفضها، ولم ير فيها قيمة، فلماذا نُجبر اليوم على قراءتها باعتبارها لحظة كمال سردي؟ أليست هذه مفارقة كاشفة عن أن ما نعدّه "كلاسيكيات" أحيانًا ليس إلا ما صمد تجاريًا أو نال رضا نخبة محددة، ثم فُرض على الأجيال التالية بوصفه إرثًا لا يُمس؟
---
من أغرب المفارقات التي يمكن أن يعيشها قارئ مهتم بالأدب، أن يجد نفسه يقرأ ــ بنهمٍ وشغفٍ ــ كتبًا نقدية معمّقة عن رواية لم يقرأها أصلًا، أو لم يستطع إكمالها. وهذا ما حدث لي مع سباعية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود. إذ قرأتُ بشغف كتاب ميشائيل مار "بروست: فرعون الزمن الضائع"، الذي قدّم صورة تحليلية دقيقة عن بنية الزمن والذاكرة في العمل، كما قرأتُ كتاب جيرمين غرييه "مارسيل بروست والتخلّص من الزمن" في ترجمته العربية الرفيعة التي أنجزها نجيب المانع، لكنّي ــ رغم تلك القراءات النقدية الجادة ــ لم أتمكن من إنهاء الرواية نفسها.
هذا الانفصال بين النصّ ومروياته النقدية، يطرح سؤالًا مقلقًا عن طبيعة التلقي المعاصر: لماذا أصبح من الأسهل علينا أن نقرأ ما يُكتب عن الرواية بدل أن نواجه الرواية نفسها؟ ولماذا نكتفي بشروح مبسطة، واختصارات تحليلية، وخرائط مفاهيمية، بدل أن نغامر بأنفسنا في مواجهة النصّ الخام، المراوغ، والمتطلّب؟
الجواب، على الأرجح، لا يكمن في الكسل، ولا في الجهل، بل في بنية القراءة المعاصرة نفسها، التي باتت تحب الوسيط أكثر مما تحب الأصل. فالمقالات والكتب النقدية تقدم لنا النص بعد أن جرى تهذيبه، تقطيعه، تبسيطه، و"ترويضه" ذهنيًا. لا يعود النص هنا ذلك الكيان المعقد الزئبقي، بل يصبح نسقًا قابلاً للفهم، للدخول والخروج منه، للتبويب والفهرسة. النقد يمنحنا شعورًا زائفًا بالفهم، لأنه يختصر علينا معاناة التيه، ويوفّر لنا "خريطة ذهنية" تسير بنا بأمان عبر غابات الرواية، لكنه في المقابل، يسرق منا تجربة الضياع التي هي جوهر القراءة الحقيقية.
لقد أدركت لاحقًا أنني لست وحدي في هذا. فعددٌ غير قليل من النقاد والمثقفين ــ حتى المرموقين منهم ــ لم يقرؤوا النصوص التي يكتبون عنها، أو قرؤوها بعيون نقدية مسبقة، موجهة برغبة في قول شيء عنها، لا برغبة في أن تصدمهم أو تفاجئهم. إنهم يقرأون النص بعد أن يُؤنسَن لهم، بعد أن يُعاد صوغه كمقولات قابلة للتكرار. وهكذا تتحوّل العلاقة بين الناقد والنص من علاقة مواجهة إلى علاقة مكاتب مراجعة، حيث لا حاجة لاختبار النص، بقدر ما تكفي مراجعة فهرس أعماله وتلخيص أشهر الاقتباسات.
والأخطر أن هذه الوسائط النقدية لا تسهّل القراءة، بل تحلّ محلها. يتحول بروست ــ مثلًا ــ من كاتب يجب أن يُقرأ، إلى "رمز ثقافي" يُدرَس من بعيد، عبر نصوص تدور حوله، لا فيه. وهكذا، يتحول النصّ إلى نوع من الأصل الغائب، تُحاط به طبقات من الشرح، والتأويل، والإشادة، وكأنه متحف مغلق لا يدخل إليه أحد، لكن الكل يتحدث عنه بإعجاب.
في هذا السياق، يصبح النقد أداة للتمجيد لا للفهم، وسُلطة تحجب لا تكشف. إذ تُبنى الهيبة الأدبية لا على التجربة النصية، بل على الهالة الجماعية التي تُنسج حول الكاتب، حتى يُصبح نقده نقدًا للمقدّس.
لكن القراءة ليست إحالة ثقافية، ولا تكرارًا لأحكام جاهزة، بل هي خطر واختبار ومغامرة ذاتية. ولذلك، فإن فشلنا في إكمال بروست (أو غيره من النصوص المعقّدة)، لا يجب أن يُفسّر كقصور، بل كرفض ضمني لهذا التواطؤ بين النصّ والنخبة التي تحرسه. فربما نحتاج اليوم إلى أقل من تأويل، وأكثر من صمت أمام النص نفسه.
---
هل يمكن تجاهل ميول الكاتب؟ رغم أن مارسيل بروست لم يُعلن صراحة عن ميوله الجنسية، فإن هذه الميول لم تكن مجهولة داخل الأوساط الأدبية الباريسية في أوائل القرن العشرين. كانت معروفة، متداولة، لكن بصيغة "السر المكشوف"، كما يسميه رولان بارت؛ السر الذي يعرفه الجميع ويتواطأون على إبقائه دون تسمية. وربما لهذا السبب، تسللت هذه الهوية إلى نسيج روايته الكبرى البحث عن الزمن المفقود، لا كموضوع مباشر أو اعتراف، بل كظلال كثيفة، وتلميحات مشفّرة، وخيوط سردية تنسج من الداخل عالمًا كاملاً من الرغبات المحظورة.
في قلب هذا التشفير، تقف شخصية البارون دي شارلوس، لا بوصفها مجرد تمثيل لشخصية مثلية، بل بوصفها نافذة فنية على تعقيد الهويات المقموعة في مجتمع برجوازي شديد المحافظة. شارلوس ليس "مثليًا" ببساطة، بل هو مثال حيّ على الطريقة التي يضطر بها الفرد إلى تمثيل ذاته بطريقة مزدوجة: هو نبيل ذو سطوة في العلن، وشخص مهووس بالممارسات المثلية في الخفاء. إنه كائن مفكّك، تحكمه مرايا مزدوجة، يكتب وجوده عبر الإنكار والإخفاء والتجسير بين طبقات اجتماعية متنافرة.
هنا لا يعود السرد وسيلة للحكي، بل يصبح آلية للتمويه، واللغة تتحول إلى ملاذ للهوية، أكثر من كونها وسيلة للتعبير عنها. فبروست، الذي لم يملك حرية التصريح، لجأ إلى التورية، والإيحاء، والترميز، وكأن الكتابة عنده شكل من أشكال الحياة السرية. إن الهوية المثلية لا تظهر كإعلان، بل كأثر شعري، وكاستعارة ثقيلة، تتنقل بين الشخصيات، وتعيد رسم العلاقة بين الهوية والجسد والسلطة.
في هذا السياق، يخصّص رمسيس عوض في كتابه رباعيات الشذوذ والإبداع فصلًا كاملاً لبروست، ويعرض فيه بشكل صريح ما يعتبره سلوكًا جنسيًا فاضحًا، مستندًا إلى شهادات معاصرة، أبرزها ما نُسب إلى أندريه جيد. يشير جيد إلى أن بروست لم يكن يخفي ميوله، بل كان ــ حسب قوله ــ يتباهى بها، ويعتبرها موضوعًا يستحق الظهور، لا الكتمان. ويذكر أنه كان يفاخر بعلاقاته مع رجال شبان من الطبقات العليا والدنيا على السواء، بل وارتاد بيوت الدعارة الخاصة بالذكور، في مفارقة طبقية وجنسية حادّة.
سواء صحّت شهادة جيد أم لم تصحّ، فإنها تكشف عن الحمولة الرمزية العنيفة التي تحيط بالمثلية في ذلك العصر، بوصفها هوية موصومة، وخبرة وجودية مشروطة بالخوف والإخفاء والانتهاك. وفي هذا الإطار، لا يمكن فصل هذه التجربة الشخصية عن الرواية ذاتها. فالعالم السردي لبروست ليس معمارًا جماليا مجردًا، بل أرشيفًا سرديًا للاضطراب الوجودي، حيث تُعاد كتابة الحب، والذاكرة، والهوية، من موقع التوتر، لا من موقع الاستقرار.
إن البحث عن الزمن المفقود، بقدر ما هي عمل روائي، هي أيضًا وثيقة وجودية عن إنسان يعيش بين زمنين: زمن الانتماء الطبقي البرجوازي، وزمن الانتماء الجنسي المقموع. بينهما، يكتب بروست روايته، لا باعتبارها اعترافًا، بل كـ"تمثيل إيحائي" لتجربة لا يمكن قولها، ولكن لا يمكن الصمت عنها أيضًا.
بعبارة أخرى، يكتب بروست من الظل، ولكنه يعيد صياغة الظلّ بلغة النور. فالرغبة، عنده، لا تُلغى، بل تُحوّل إلى استعارة. والجسد لا يُعرض، بل يُضمّن ككناية، وكأن الرواية كلها محاولة لأن تكون مرآة مقلوبة: تُظهر ما تخفي، وتخفي ما تظهر.
لكن الأهم أن هذه الرؤية المثلية ليست مجرد موضوع شخصي، بل هي جزء من مشروع جمالي أوسع، يُعيد التفكير في مفاهيم مثل "الحب"، و"الهوية"، و"الذاكرة"، و"الزمن"، من داخل تجربة الهامش لا المركز، ومن داخل الشرخ لا الاتساق.
يبقى السؤال: هل يمكن، في ظل هذه الخلفية، أن نقرأ بروست قراءة بريئة، دون أن نتورط في شفراته؟ أم أن فهم بروست، يستلزم فهم حياته، بكل ما فيها من توتر جنسي واجتماعي وثقافي؟
---
هل يجب أن أفصل بين النص والكاتب؟ غالبًا ما يُطرح السؤال القديم بصيغته الساذجة: هل يمكن فصل حياة الكاتب عن نصه؟ لكن السؤال الأدق والأكثر إنتاجًا للمعنى هو: كيف يندسّ الكاتب في نصه؟ وكيف يُخفي نفسه حتى وهو يكتب من ذاته؟ إن الفكرة القائلة إن "النص ليس سيرة ذاتية" صارت اليوم بديهية نقدية، لكنّ ما ينبغي التنبه إليه أن النص الأدبي لا يبرأ من الذات، بل يعيد تشكيلها وتوزيعها وتكثيفها ضمن بنية رمزية مركّبة. وبين أن يكون النص مرآة للكاتب أو أن يكون قناعًا له، يتحرك الأدب كله.
ولعلّ المثال الأشهر على هذه العلاقة الملتبسة بين الحياة والكتابة، هو لحظة "المادلين" الشهيرة في رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست. قطعة الحلوى الصغيرة المغموسة في الشاي، التي فجّرت في ذهن الراوي طوفانًا من الذكريات، تُروى كما لو أنها لحظة انخطاف صادق في حضرة الذاكرة، غير أن هذه اللحظة نفسها، في سياق الرواية، ليست بوحًا بريئًا بل بناء روائي محكَم. إن بروست لا يكتب في غمرة الحنين، بل يستثمر الحنين، يُوظّف الأثر الطعمي بوصفه مفتاحًا سرديًا لتفكيك العلاقة بين الزمن والوعي والذاكرة.
والمفارقة أن بروست لم يقل هذا في بداية مسيرته، بل بعد أن كُتب له القبول، وبعد أن أصبح النص قابلاً للتصديق. بكلمات أخرى، هو يكتب عن الطفولة من موقع الكهل، وعن الدهشة من موقع الإدراك المتأخر. لذلك، فإن "المادلين" ليست لحظة تذكّر قدر ما هي خدعة سردية، يعيد بها الكاتب اختراع الذاكرة كفعل فني، لا كاستدعاء عاطفي.
في هذا المعنى، من الخطأ أن يؤخذ قول بروست على محمل التصديق الكامل. فكل ما في الرواية، وإن بدا ذاتيًا أو اعترافيًا، مشكوك فيه. فالأدب ليس دفاتر حياة، بل صناعة سردية عالية الكثافة والتشفير، حيث تُروى الذات من وراء حجاب، وتُقدَّم لا كما هي، بل كما تريد أن تُفهم. إنه خطاب لا يقول الحقيقة، بل يتلاعب باحتمالياتها.
هنا يكمن الخطر القرائي: أن يقع القارئ في فخ البوح الظاهري، وأن يسلّم بوجود علاقة مباشرة بين المؤلف ونصه، متغاضيًا عن طبيعة الأدب كمجال رمزي، يقوم على الانزياح والمراوغة والتعدّد. الأدب، كما يفهمه بول ريكور، ليس تأكيدًا ذاتيًا، بل "خيالًا يوسّع من أفق الذات"، أي أنه يحرّر السيرة من سجن الواقعة، ويحولها إلى شكل.
وفي هذا السياق، يصبح "الكاتب" شخصية خيالية هو الآخر، كما يقول ميشيل فوكو، حيث تُكتب الذات كأنها غريبٌ يراقب نفسه، ويعيد صياغتها عبر اللعب بالضمائر، والانعطافات الزمنية، والأقنعة الحكائية. لا عجب إذن أن السيرة الذاتية في العصر الحديث لم تعد سردًا تسلسليًا للوقائع، بل فنًا للتخييل الذاتي، حيث تتقاطع الحياة مع الأسلوب، ويُعاد إنتاج الهوية عبر تمثيلات لغوية لا تُختزل في الواقع المعيش.
من هنا، فإن بروست لا يقدّم اعترافًا، بل يمارس شكلًا راقيًا من التمويه. لا يُسلّم ذاته للقارئ، بل يزرعها في النص كطيف، كنداء بعيد، كمشهد يتكرر بطرق مختلفة دون أن يَمثُل في هيئة نهائية. وإذا كانت "الكتابة هي ما يبقى حين لا يمكننا قول الحقيقة" كما يقول كافكا، فإن نص بروست هو المثال الكامل لهذا المعنى: نصّ يتحدث عن ذاته، لكنه لا يُفصح، يُلمّح ولا يصرّح، ينثر ذاته كما لو أنها قصة آخر، ويُبقي القارئ معلقًا بين التصديق والتأويل.
---
الملل كمعيار نقدي في عالم تضج فيه قوائم التوصيات، وتتزاحم فيه أسماء "الروائع" على أرفف الجوائز والمراجعات النقدية، يبدو أن أكثر الأسئلة بداهةً صار أيضًا من أقلّها تداولًا: هل هذا النص ممتع؟ هل يحرك فيّ شيئًا؟ هل يجعلني أرغب في أن أواصل القراءة، لا لأنني "يجب" أن أواصل، بل لأنني لا أستطيع التوقف؟
هذه الأسئلة، رغم بساطتها الظاهرة، تُربك الذائقة التي ترسّخت تحت هيمنة "المعيار النخبوي"، حيث صار يُنظر إلى المتعة بوصفها خصيصة ساذجة، أو حتى رجعية. فالقراء الجادّون، كما يُفترض، لا يبحثون عن المتعة، بل عن التعقيد، والطبقات، والإحالات، والاشتباك النصي. أما من يسأل: هل استمتعت؟، فيبدو كمن يسأل سؤالًا غير لائق في حضرة الأدب العظيم.
غير أن المتعة ليست ترفًا، بل اختبار وجودي للقراءة. وهذا ما يلمّح إليه ألبرتو مانغويل حين يقول: الكتب السيئة هي التي تتجمد بين يدي كصفحة بحيرة ميتة. أي أن القراءة، مهما بلغت من جدية، لا تُختبر بكم الاقتباسات أو الحواشي، بل بدرجة الحياة التي تبثّها في القارئ. فالنصّ الذي لا يوقظ فينا شيئًا، لا يضيف لنا شيئًا، حتى لو باركته الأكاديميات.
وبهذا المعنى، يمكن فهم موقف علي حسين حين وضع رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست ضمن "الكتب المملّة"، في كتابه الذكي غير الممل: لماذا نقرأ الكتب المملّة؟ هذا التصنيف، الذي قد يبدو صادمًا للنقّاد، لا يصدر عن كسل أو تحامل، بل عن جرأة القارئ المستقلّ الذي يضع نفسه في مركز التجربة، لا في هامش التقديس. فالقيمة الأدبية، مهما قيل فيها، تبقى في جوهرها علاقة بين القارئ والنص، لا بين النص والتقاليد النقدية. ولذلك، فإن قراءة علي حسين ليست تمرينًا على الرفض، بل على التحرر من سلطة القراءة الرسمية.
هنا نبلغ جوهر المسألة: ليس الملل عيبًا في القارئ، بل أحيانًا يكون الملل استجابة صحّية لنصّ يرفض أن يُقرأ، أو يتعالى على قارئه، أو يصرّ على أن يكون مغلقًا، متخشّبًا، خارج إيقاع الحياة. الملل، بهذا المعنى، هو مقاومة جمالية، لا ضعفًا ذوقيًا. وربما تكون رواية بروست واحدة من هذه النصوص التي تحوّلت مع الزمن إلى أيقونة متحفية، تُقرأ لا لأنها تثير، بل لأنها "يُفترض" أن تُقرأ.
إن ما يحرّك القارئ ليس دائمًا البنية المحكمة، ولا اللغة المتقنة، ولا مرجعيات النص الفلسفية أو الثقافية، بل تلك الحرارة الخفية التي تجعل الصفحة كائنًا نابضًا. فإذا فقد النص هذه الحرارة، وصار يتكلّم كأرشيف مغلق أو نحت لغوي بارد، فإنه لا يثير سوى الصقيع.
والمفارقة أن رواية بروست ــ رغم موضوعها العاطفي والوجودي العميق: الذاكرة، الزمن، الحب ــ تُقدَّم في كثير من القراءات بوصفها تمرينًا معرفيًا لا تجربة إنسانية. تُقرأ لأنها "تحف عقلية"، لا لأنها تنبض. وهذا ما يجعلها، بالنسبة لكثيرين، نصًا لا يُمسّ القلب، بل يجمّد اليد التي تقلب صفحاته.
لذا فإن الدرس الأهم هنا ليس في "رفض بروست" بل في استعادة حق القارئ في قول: هذا النص لا يحرّكني. أن نضع ذائقتنا في مركز القراءة، دون شعور بالذنب أو الدونية، هو بداية التخلّي عن عبودية التصنيفات، والانفتاح على القراءة كفعل ذاتي، واختبار حيّ للمعنى والمتعة معًا.
---
من يقرر ماذا نقرأ؟ في عصر باتت فيه المكتبات تغصُّ بالتوصيات، والشعارات، والكتابات التي تُعلّق على عظماء الأدب كما لو كانوا قديسين لا يُناقشون، يصبح من الضروري استعادة موقف نقدي يتجاوز مجرد التبجيل الأعمى. إن النقد الحقيقي، والحر، لا يبدأ من الانصياع لما يُفرض علينا من قراءة، بل من الحق في الرفض. حقّ أن أقول: هذا النص لا يستحق وقتي، لا يضيف إلى فؤادي ولا عقلي، بل ربما يسرق من حياتي ثوانٍ ثمينة في عالم سريع متغير. فالقراءة ليست تنافسًا على كمية الكتب المكدسة على الرفوف، ولا شهادة حضور في طقوس ثقافية جاهزة مسبقًا، بل هي علاقة حيوية مع النص، تستدعي حضورًا كاملاً للذات، ووعيًا متحررًا من الهيمنة الثقافية، ومن سلطة أذرع نقدية وأكاديمية باتت كثيرًا ما تُقنّع التسلط في لباس المعرفة.
في هذا المشهد، مقاومة "القراءة المفروضة" ليست مجرّد رفض سلبي، بل هي فعل استقلال ذائقة، واستعادة لكرامة القارئ كمبدع في الفعل القرائي، وليس مجرد تابع أو آليّة تنفيذ لأوامر الذوق السائد. هي إعلان أن الثقافة ليست حقلًا مغلقًا تُوزّع فيه الألقاب عنوة، ولا ميادين معارك لا تفوز فيها إلا بالنصوص المسلّحة بسمعة صاخبة. الحرية في القراءة تتطلب إذن التحرر من الاستلاب الذوقي، ومن الوصايا التي تجعل من كل نص مكتوب حكمًا نهائيًا لا يُناقش.
وعليه، فإن قراءتي لبروست، أو لأي كاتب آخر، ليست مسألة ولاء لاسم كبير، ولا مهرجان للاعتراف بنجاح عمل معيّن. أنا لا أقرأ بروست لأنه "مارسيل بروست"، ولا أحتفظ بروايته في مكتبتي لأنها جميلة الطباعة أو لأنها تُدرّس في جامعات مرموقة. بل أقرأ فقط لأن النص يختزل شيئًا فيّ، ويحفّز في داخلي أسئلة، وأحاسيس، ويمنحني لحظة اتصال حقيقية مع الآخر—اللغة، الفكرة، الشعور. أما ما لا يستحقني، لا أستحقه، لأن القراءة، في جوهرها، فعل منافع ذاتية، ولقاء أعمق مع ذاتي عبر نص آخر. هي حوار قائم على التبادل، لا تبرير التراكم أو التكليف.
بهذا المفهوم، تصبح القراءة فعلًا سياسيًا وثقافيًا في آن، ممارَسة حرية، واستعادة لذاتنا أمام عواصف الإعلانات الثقافية واحتفالات القداسة الأدبية. إن هذه الحرية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية لمواجهة الغياب الحقيقي للذات في زمن النمطية والجاهزية.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري
...
-
الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما
...
-
النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي
-
تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
-
من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
-
زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا
...
-
موت إلهٍ من بابل
-
مجرد ذكرى
-
محو الآخر هوامش غير مكتملة
-
المركزية البغدادية وهامش المحافظات
-
شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
-
شقشقة عراقية 3
-
شقشقة عراقية ( 2)
-
شقشقة عراقية
-
ظهيرة سوق البصرة القديم
-
شذرة 15 الدين والتحريم
-
شذرة 14 الدين والأخلاق
-
حسين منه وهو من حسين
-
شذرة 13 الارادة الانسانية
-
شذرة 12 العقيدة والانسان
المزيد.....
-
شاهين تتسلم أوراق اعتماد رئيسة الممثلية الألمانية الجديدة لد
...
-
الموسيقى.. ذراع المقاومة الإريترية وحنجرة الثورة
-
فنانون يتضامنون مع حياة الفهد في أزمتها الصحية برسائل مؤثرة
...
-
طبول الـ-ستيل بان-.. موسيقى برميل الزيت التي أدهشت البريطاني
...
-
بين الذاكرة وما لم يروَ عن الثورة والانقسامات المجتمعية.. أي
...
-
كيف نجح فيلم -فانتاستيك فور- في إعادة عالم -مارفل- إلى سكة ا
...
-
مهرجان تورونتو يتراجع عن استبعاد فيلم إسرائيلي حول هجوم 7 أك
...
-
بين رواندا وكمبوديا وغزة.. 4 أفلام عالمية وثقت المجاعة والحص
...
-
المعمار الصحراوي.. هوية بصرية تروي ذاكرة المغرب العميق
-
خطه بالمعتقل.. أسير فلسطيني محرر يشهر -مصحف الحفاظ- بمعرض إس
...
المزيد.....
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|