رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 18:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يشير جورج كارلين في عبارته الشهيرة: "التصويت يعطيك وهم الاختيار، كأن يُسمح لك أن تختار بين إصبعين أيهما سيدخل عينك"، إلى مأزق جوهري يواجه الديمقراطية التمثيلية الحديثة. فبينما تقوم الديمقراطية على مبدأ الإرادة الشعبية، تكشف التجربة العملية أن هذه الإرادة غالبًا ما تُختزل إلى خيارات ضيقة ومتحكم بها مسبقًا، بما يجعل العملية برمّتها أقرب إلى إدارة محسوبة للوهم.
يقدّم جوزيف شومبيتر في كتابه الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية (1942) مقاربة صادمة في بساطتها وعمقها معًا: الديمقراطية ليست حكم الشعب كما تروّج لها الأساطير السياسية، أنما هي ببساطة "سوق للنخب"، حيث يتنافس قادة معدودون على أصوات ناخبين يُفترض أنهم أحرار، لكنهم في الواقع مجرّد مستهلكين سياسيين أمام خيارات محدودة.
في هذا النموذج، لا يُمنح المواطن فرصة المشاركة في صياغة القرار أو في ابتكار بدائل خارج حدود اللعبة، لكن يقتصر دوره على اختيار "الأفضل من بين السيئين" أو "الأقل ضررًا". كأنه يتجوّل في سوق مغلق لا يعرض سوى نوعين أو ثلاثة من السلع، مع أن واجهات العرض توحي بوفرة وتنوع.
تبدو هذه الفكرة جلية في الديمقراطيات الغربية المعاصرة، وخاصة في الولايات المتحدة حيث تُختزل السياسة في ثنائية حزبية مكرّسة (الجمهوريون والديمقراطيون). فالأحزاب الصغيرة تُقصى قسرًا بفعل قوانين انتخابية معقّدة، وكلفة الحملات الباهظة، وسيطرة شبكات الإعلام الكبرى على السرديات العامة. بهذا المعنى، تُحافظ المنظومة على استقرارها عبر ضبط "قائمة الخيارات" لا عبر القمع المباشر.
هذه السوق السياسية لا تختلف كثيرًا عن السوق الرأسمالية: المنافسة حقيقية في الشكل، لكنها وهمية في الجوهر. فالبدائل المعروضة جميعها محكومة بمنطق النظام ذاته: الدفاع عن الملكية الخاصة، حماية مصالح الشركات الكبرى، ضمان استمرار المؤسسة العسكرية والأمنية. وحتى عندما يظهر "خيار ثوري" أو "صوت احتجاجي"، فإنه إمّا يُستوعب تدريجيًا داخل المنظومة أو يُشوَّه عبر حملات التشويه والتخويف.
إن ما يلفت النظر في تصور شومبيتر أنه يُجرد الديمقراطية من رومانسيتها، فيكشف آلياتها الاقتصادية-السياسية كآليات سوقية محضة. فالناخب ليس مواطنًا حرًا بقدر ما هو زبون تُستهدف ميوله وتوجّه خياراته، والإعلانات الانتخابية ليست سوى نسخة سياسية من حملات تسويق السلع. في الحالتين، تتحدد قيمة الصوت أو "الشراء" ليس بالحرية المطلقة، لكن بمدى قدرة النخب على إدارة العرض والطلب.
في كتابهما المؤثر صناعة القبول (Manufacturing Consent, 1988)، يقدّم نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان أطروحة مركزية لفهم كيف تعمل الديمقراطيات الليبرالية من الداخل: الإعلام، بدل أن يكون فضاءً حرًا لتداول الأفكار، يتحول إلى جهاز دعائي مُقنَّع، وظيفته إعادة إنتاج مصالح النخب الاقتصادية والسياسية.
تقوم هذه العملية عبر ما أطلقا عليه "نموذج الدعاية" (Propaganda Model)، الذي يوضح كيف تُصفّى الأخبار وتُعاد صياغتها وفق خمس مرشحات أساسية: ملكية وسائل الإعلام، اعتمادها على الإعلانات كمصدر تمويل، حاجتها إلى مصادر رسمية للخبر، آليات الردع الممنهج ضد الأصوات الناقدة، وأخيرًا الأيديولوجيا المهيمنة (مثل "مناهضة الشيوعية" سابقًا أو "مكافحة الإرهاب" لاحقًا).
بهذه الأدوات، يُصاغ "الإجماع" المطلوب كنتيجة هيمنة خطاب محدّد. يدخل المواطن إلى صندوق الاقتراع وهو محمَّل بخيارات صاغتها المنظومة ذاتها؛ يعتقد أنه يختار بحرية، بينما هو يعيد إنتاج الإجابة التي جُهّزت له مسبقًا.
أحد الأمثلة الصارخة على ذلك كان الترويج الإعلامي شبه الموحد لغزو العراق عام 2003. فبينما كانت الحقائق المتاحة تشير إلى هشاشة الأدلة حول "أسلحة الدمار الشامل"، عملت معظم وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى على تضخيم خطاب الحرب، وتجاهلت الأصوات المعارضة أو همّشتها. بدا الرأي العام وكأنه يساند الغزو، بينما كان هذا الموقف نتاجًا لاحتكار رواية واحدة أقصت البدائل، وأغلقت باب النقاش الحر.
إن "صناعة القبول" هنا تكشف عن آلية أكثر خطورة من القمع المباشر: إنها إعادة تشكيل الإدراك ذاته. فبدل أن يُمنع المواطن من التفكير، يُدفع للتفكير ضمن إطار ضيق مُعدّ مسبقًا، بحيث يبدو أي خيار آخر غير واقعي أو غير وطني أو حتى غير أخلاقي.
بهذا المعنى، تصبح الديمقراطية الليبرالية فضاءً لإدارة الرأي العام أكثر من كونها مجالًا لمشاركته الفعلية. هي لعبة لغوية وإعلامية ضخمة، حيث تتحدد حدود الممكن والمستحيل لا في البرلمان أو الصندوق، لكن في غرف التحرير واستوديوهات التلفزيون وصفحات الصحف.
في السياقات العربية، يتجلّى وهم الاختيار بوضوح أكبر من نظيره الغربي، إذ تتقاطع عوامل السلطة التاريخية مع الضغوط الاجتماعية والثقافية لتحد من فعالية الانتخابات. فالانتخابات غالبًا ما تُجرى ضمن أطر محسوبة مسبقًا، حيث تُختار الأحزاب المعارضة "المسموح بها" بعناية لتكون جزءًا من اللعبة السياسية، بينما تُقصى القوى الجذرية أو الشعبية الحقيقية، التي قد تهدد التوازنات القائمة.
مثال حيّ على ذلك مصر بعد 2011، حيث شهدت البلاد موجة من الانتفاضات والثورات التي طالبت بالحرية والتغيير. رغم الانتصار الظاهر للتعددية، سرعان ما جرى تفكيك البنى السياسية الجديدة، وأُعيد إنتاج السلطة المركزية عبر انتخابات محدودة الخيارات، وتقييد عمل الأحزاب والمجتمع المدني، واستمرار أجهزة الأمن كحارس للبنية التقليدية للدولة.
في تونس، رغم أن التجربة الانتخابية بعد الثورة نجحت في إرساء مؤسسات شكلية ديمقراطية، بقيت صناديق الاقتراع عاجزة عن معالجة المشكلات البنيوية العميقة: الفقر، البطالة، التفاوتات الإقليمية، والهيمنة الاقتصادية لدوائر محدودة. فـ"الديمقراطية الإجرائية" هنا لم تمنع الدولة من فرض سلطتها، لكنها أعطت صورة شرعية لمؤسسة ما زالت تعاني من قصور في تلبية مطالب المجتمع المدني.
هذا التباين بين الشكل والمضمون يوضح أن الانتخابات وحدها لا تصنع الديمقراطية الحقيقية. فهي تصبح أداة لإضفاء شرعية على السلطة القائمة، أو لتجميل وجه الاستبداد، أو لتأجيل انفجار شعبي محتمل. هذا الواقع يعيدنا إلى مفهوم كارلين عن "وهم الاختيار": المواطن يشارك في العملية، لكنه غالبًا ما يختار بين بدائل معدّة مسبقًا لا تُحدِث تغييرًا جوهريًا في بنية السلطة أو توزيع الموارد.
إن تحليل ديمقراطيات العالم العربي يبيّن أن التعددية الشكلية والعملية الانتخابية وحدها لا تكفيان لتحقيق الحرية السياسية، لكن يجب أن يقترن ذلك بإنشاء مؤسسات مستقلة، مجتمع مدني فاعل، وضمان حرية التعبير والتجمع، بحيث يصبح المواطن شريكًا حقيقيًا في صياغة البدائل لا مجرد صوت يُلقى في صندوق.
رغم كل النقد الموجه للديمقراطية التمثيلية ووهم الاختيار، لا يمكن اختزال عملية التصويت إلى مجرد خدعة أو ممارسة شكلية. فقيمته الحقيقية تتحدد بالسياق المؤسسي والثقافي الذي يُمارس فيه، وبمدى قدرة المواطنين على المشاركة الفعلية في صناعة البدائل السياسية، لا الاكتفاء بإعادة إنتاج النخب نفسها.
أولًا، يجب أن يقترن التصويت بفضاء عمومي حي، كما يؤكد يورغن هابرماس في نظرية الفضاء العمومي. هذا الفضاء يُمكّن الأفراد من تشكيل الرأي العام عبر نقاش عقلاني حر، بعيدًا عن الإكراه أو السيطرة الإعلامية الأحادية. هنا يصبح الاقتراع ممارسة متصلة بالتفكير النقدي، لا مجرد تعبئة آلية في صناديق الصناديق.
ثانيًا، لا بد من ضمان استقلال القضاء والفصل بين السلطات، بحيث لا تتحول الانتخابات إلى صراع شكلي بين قوى خاضعة لنفس المنظومة. عندما يختفي هذا الشرط، تُستغل الانتخابات لتكريس هيمنة نظام قائم، ويصبح التصويت مجرد طقس شرعي لإضفاء المظهر الديمقراطي، بينما تظل القرارات الجوهرية في يد النخب الحقيقية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.
ثالثًا، يُعد المجتمع المدني الفاعل شرطًا أساسيًا لإعادة توسيع نطاق الديمقراطية. فحين يُسمح للمؤسسات المجتمعية، والمنظمات المستقلة، والجهات الفاعلة الشعبية بتنظيم نفسها وإنتاج بدائل واقعية، فإنها تحول الانتخابات إلى أداة حقيقية للتغيير، لا مجرد إعادة تدوير للنخب التقليدية.
التجربة اللاتينية في العقود الأخيرة تقدّم مثالًا حيًا على هذه الإمكانية. ففي بوليفيا وفنزويلا وتشيلي، استطاعت حركات شعبية منظمة، مدعومة بقوة المجتمع المدني، أن تحقق تغييرًا ملموسًا عبر صناديق الاقتراع. إلا أن هذه التحولات، رغم نجاحاتها، بقيت هشّة أمام مقاومة النخب المسيطرة محليًا ودوليًا، مما يذكّر بأن الديمقراطية الحقيقية تتطلب دعمًا مستمرًا وتوازنات مؤسسية قوية، لا مجرد لحظة انتخابية دورية.
إن الحرية الحقيقية والاختيار الفعلي لا تبدأ عند الصندوق الانتخابي فحسب، أنما حين يُنشأ فضاء سياسي ومؤسسي يُمكن المواطنين من صياغة بدائل لا مجرد الاختيار بين خيارات محددة مسبقًا. وعندها فقط يتجاوز المواطن وهم الاختيار الذي عبّر عنه كارلين، ويصبح فاعلاً في صناعة مستقبله السياسي والاجتماعي.
إن عبارة كارلين الساخرة تختزل أزمة الديمقراطية التمثيلية: المواطن يُخيَّر، لكن بين بدائل محكومة، بحيث يظل النظام قائمًا مهما كانت النتائج. هنا تكمن خطورة "وهم الاختيار"، فهو لا يلغي العملية الديمقراطية انما يفرغها من مضمونها، محولًا إياها إلى طقس شرعي يمنح السلطة صكّ البقاء.
الحل لا يكمن في رفض الديمقراطية كليًا، بل في توسيع مفهومها بحيث يتجاوز لحظة الاقتراع إلى المشاركة المستمرة، وإلى بناء مؤسسات وممارسات تضمن للمواطن حق صياغة البدائل، لا مجرد التصويت عليها.
الحرية الحقيقية تبدأ حين نكسر الثنائية القسرية (الإصبعين) ونفتح المجال لاحتمالات جديدة تصنعها الشعوب بنفسها.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟