أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض قاسم حسن العلي - في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو















المزيد.....



في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 18:17
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الغزو هو لحظة تتراكم فيها الأخطاء، وتتكثّف فيها الأوهام، وينهار فيها الخط الفاصل بين الغطرسة والغباء. وفي حالة غزو الكويت في الثاني من آب 1990، انكشفت أعمق التناقضات الكامنة في الجغرافيا السياسية العربية، كما برزت هشاشة الدولة العراقية، أمام تاريخها المغتصب وهويتها المربكة. لكن لفهم دلالة هذا الغزو، ينبغي أولًا العودة إلى البدايات؛ إلى نشأة الكويت لا بوصفها كيانًا سياسيًا حديثًا فحسب، لكن كحالة اقتصادية واجتماعية تبلورت عند تخوم الإمبراطوريات والنزاعات.

●من البرج البرتغالي إلى فرضة الخليج: النشأة من خارج التاريخ الرسمي

حين وطأت أقدام البرتغاليين شواطئ الخليج في بدايات القرن السابع عشر، كان مشروعهم في المنطقة مشروع تأسيس لنقاط سيطرة بحرية عسكرية وتجارية ضمن شبكة استعمارية أوسع، امتدت من رأس الرجاء الصالح إلى سواحل الهند والخليج العربي. في عام 1613، بنوا على تل "بهيتة" برجًا للمراقبة في منطقة أطلقوا عليها لاحقًا اسم "القرين"، اسم يعكس رؤية استعمارية تسعى إلى تمييز المواقع جغرافيًا لأغراضها البحرية والتجارية.
لم تكن القرين – آنذاك – أكثر من نقطة على خريطة مصالح البرتغال في الخليج، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى ما يُعرف بـ"الفرضة"، وهي الميناء الصغير الذي ترسو فيه السفن التجارية. هذه الفرضة يمكن النظر إليها كبذرة أولى لما يمكن تسميته بـ"الهوية الاقتصادية للكويت"، التي تشكّلت منذ لحظتها الأولى عبر البحر، لا عبر البر، ومن خلال التجارة، لا من خلال الزراعة أو الفتح السياسي.
في الوقت ذاته، وعلى تخوم هذه النشأة البحرية، كانت قبيلة العوازم القادمة من نجد بعد أن ضاقت بها الأرض، قد بدأت تنتشر على سواحل وربة وبوبيان. لم يدخل العوازم الكويت بوصفهم غزاة، لكن باعتبارهم صيادين وزارعين يبحثون عن رزق، وكانوا أول من أقام "حواضر" على تلك السواحل – وهي تجمعات صغيرة مخصصة لصيد الأسماك وزراعة النخيل. زرعوا الوفرة والعبدلي لاحقًا، وأسّسوا حضورًا ريفيًا-بحريًا متصالحًا مع الطبيعة، يطمح إلى البقاء.
ثم جاءت لحظة التحوّل السياسي، حين مدّت قبيلة بني خالد – وتحديدًا فرع آل حميد – سلطتها على المنطقة، بعد توسعها في شرق الجزيرة العربية. ولم يكن دخولهم الكويت مشروع استيطان، انما مشروع عسكرة. حوّلوا الفرضة إلى ثكنة، وأقاموا حصنًا عسكريًا أطلقوا عليه اسم "الكويت"، تصغيرًا لـ"الكوت"، وهي كلمة من أصل بابلي-عراقي قديم تعني الحصن أو القلعة الصغيرة قرب الماء. بهذا التسمية، بدأت الهوية السياسية للكويت تتشكّل، بوصفها نقطة ارتكاز على هامش سلطات أكبر.
المفارقة التاريخية هنا، أن اسم "الكويت" نفسه لم يكن موجودًا قبل لحظة عسكرة المكان من قبل الخوالد، كما لم تكن للمنطقة أي ذكر يُعتد به في وثائق المراكز العثمانية أو العربية، سوى ما قد يرد في بعض الشعر أو الروايات الشفوية المتناثرة. إنها ولادة من خارج المركز، ولادة على تخوم الإمبراطوريات، في منطقة كانت دومًا مسرحًا للتبادل والعبور لا للثبات والتأسيس. وهذه سمة سترافق الكويت طويلًا: دولة من البحر، تولد كل مرة من الخارج لا من الداخل.

● آل صباح: من مشاغبة القوافل إلى شرعنة الكيان

حين دخل آل صباح إلى الكويت عام 1702، لم يكونوا فاتحين، ولا يمكن وصف دخولهم بأنه تأسيسي بقدر ما كان انتقالًا تكتيكيًا لقبيلة مضطربة تبحث عن ملاذ على أطراف الموانئ الآمنة. كانوا من بقايا العتوب، وهم تحالف قبلي غير مستقر اشتهر بمشاغباته ضد قوافل البر والبحر، متنقلين من الساحل الشرقي للخليج، مرورًا بالبصرة والصبية، حتى وجدوا في الكويت مساحة قابلة للاحتواء السياسي والاجتماعي. كانت الأرض نابضة بحضور بشري واقتصادي، كما يشير الرحالة الدمشقي مرتضى بن علوان في زيارته للكويت عام 1709، واصفًا إياها بأنها "بلد لا بأس بها، تشبه الحسا في عمارتها وأبراجها".
هذا التوصيف يحمل دلالة مزدوجة: فمن جهة، يعكس وجود بنية عمرانية وتجارية لا يمكن تجاهلها، ومن جهة أخرى، يضع الكويت ضمن نطاق التشابه مع مدن الخليج المأهولة لا الصحارى المهجورة. آنذاك، كانت أسر كويتية مثل البورسلي والمصيبيح قد استقرت في حي "جبلة"، كما وصل أحمد معرفي من بندر معشور عام 1708، في تأكيد على تداخل الجغرافيا الإيرانية والعربية في صناعة النسيج السكاني للمنطقة.
في غضون أقل من عقدين، تحديدًا عام 1720، كانت الكويت قد امتلكت ما يقارب 400 سفينة من مختلف الأحجام، وهو رقم مذهل يشير إلى تطوّر النشاط البحري بشكل متسارع، ويدل على اندماجها العميق في شبكة تجارة الخليج – لا كميناء ثانوي، لكن ايضا كلاعب فاعل في اقتصاد اللؤلؤ والسلع القادمة من الهند وشرق أفريقيا.
لكن الطور السياسي الحقيقي بدأ بعد تصدّع سلطة بني خالد في النصف الأول من القرن الثامن عشر، نتيجة الضغط الذي مارسته قوى جديدة في المنطقة، على رأسها آل سعود في نجد. وسط هذا الفراغ، ظهر صباح بن جابر العتبي، الذي تسلّم الحكم رسميًا سنة 1752، مستفيدًا من حلف ثلاثي جمعه بخليفة بن محمد (الجد المؤسس لآل خليفة في البحرين) وجابر بن رحمة الجلهمي، في محاولة لتقاسم النفوذ على الكويت. لكن ما لبث الحلف أن تفكّك سريعًا، وسيطر صباح – القادم الجديد – على مقاليد المشيخة منفردًا.
بهذه اللحظة، تأسست "إمارة الكويت" بوصفها كيانًا سياسيًا تحت حكم العتوب، ليس انطلاقًا من شرعية دينية أو تاريخية، لكن من منطق التوازنات القبلية والمصالح البحرية. لقد كانت السلطة هنا ابنة التحالف والصراع، لا بنت الوراثة الصافية أو الميثاق الجامع، وهذا ما يفسر الطابع البراغماتي لحكم آل صباح لاحقًا، وحرصهم على نسج تحالفات متبدّلة مع القوى الكبرى في الإقليم، كلما لزم الأمر.
إن لحظة تولّي صباح بن جابر تمثل بداية للهوية السياسية للكويت، لكن هذه الهوية لم تكن مصنوعة من إرادة شعبية أو "ميثاق تأسيسي"، لكن من نسيج معقد من الصدفة والفراغ والتفاهمات، على حدود البحر، وفي ظل انهيار المراكز السياسية المجاورة. وهكذا، بدأت الكويت كأمر واقع فرضته ظروف الصراع وضرورات النجاة.

●النواة الأولى: داخل السور

يُشكّل "السور" في التاريخ الكويتي المبكر أكثر من مجرد تحصين دفاعي، هو تجلٍ مادي ورمزي لنشأة الكيان الاجتماعي والسياسي للكويت. داخل هذا السور، كانت المدينة الأولى تتكوّن في حدود جغرافية ضيقة تشتمل على حيين رئيسيين هما "شرق" و"جبلة"، وهما الفضاءان الحضريان اللذان احتضنا معظم السكان الأوائل، واللذين انقسمت فيهما الولاءات والأنساب والتقاليد. شرق كان يميل إلى النشاط البحري والتجاري، بينما غلب على جبلة الطابع القبلي والحرفي.
داخل هذه الرقعة الصغيرة، تشكّلت علاقة مركبة بين السلطة والمجتمع، بُنيت على أساس اتفاق ضمني غير مكتوب بين آل صباح، الذين تبوؤوا منصب الإمارة، وبقايا الخوالد – القوى القبلية والتجارية التي انحسرت سلطتها بعد زوال الدولة الخالدية في الإقليم. كانت هذه التفاهمات توازنات دقيقة بين النفوذ السياسي والديني والاقتصادي، مما أرسى مبادئ "حكم الجماعة" و"الإجماع الأهلي" في بداياته، وهو ما سيُعرف لاحقًا بمفاهيم المشاركة الأهلية المحدودة في السلطة.

●الهجرة الكبرى: دفق سكاني واقتصادي

غير أن هذا الكيان المغلق سرعان ما تلقّى صدمة ديموغرافية وسياسية كبرى حين شهدت البصرة، الجارة الشمالية، اضطرابًا كبيرًا في أعقاب الغزو الفارسي عام 1776. وقد دفعت هذه الأحداث بطبقة معتبرة من التجار والوجهاء والعلماء إلى النزوح جنوبًا، فاتجهوا إلى الكويت التي كانت ما تزال في طور التكوين السياسي والاقتصادي.
لقد لعب هؤلاء المهاجرون دورًا محوريًا في إعادة تشكيل المشهد الكويتي. لم يأتوا فقط بأموالهم وخبراتهم البحرية والتجارية، لكن أيضًا بشبكاتهم الممتدة في الهند وزنجبار وبلاد فارس، وبمعارفهم الإدارية والشرعية. أسهموا في إحياء الاقتصاد البحري، خصوصًا في تجارة اللؤلؤ، ورفعوا من شأن الكويت كميناء نشط في الخليج العربي.
وهكذا، انفتح الفضاء المسوّر على احتمالات اجتماعية جديدة، وبدأت ملامح ما يمكن تسميته بـ"التحول من مستوطنة إلى كيان حضري-تجاري" بالتبلور. توسعت الوظيفة الاقتصادية للمدينة، وتراكمت الثروات، ونمت الحاجة إلى صيغ جديدة من التنظيم السياسي والاجتماعي.

●المنعطف السياسي الحاسم: اغتيال الأخوين وتأسيس الدولة الحديثة

دخلت الكويت أعتاب القرن العشرين وهي محاطة برياح التغيير. الحدث المفصلي جاء في عام 1896، حين أقدم الشيخ مبارك الصباح على اغتيال أخويه، الحاكم الشرعي الشيخ محمد الصباح وأخوه جراح، في خطوة مثيرة للجدل لا تزال موضع تأويلات حتى اليوم. لم يكن هذا الاغتيال مجرد صراع عائلي على السلطة، لكن تحوّل إلى لحظة تأسيسية لما يُعرف بـ"الدولة الكويتية الحديثة".
فور استيلائه على الحكم، اتجه الشيخ مبارك إلى ترسيخ شرعيته عبر التحالف مع القوى الخارجية، فأبرم معاهدة الحماية مع بريطانيا العظمى عام 1899. هذه المعاهدة، وإن حملت طابع الحماية من التهديدات العثمانية والفارسية، فقد مثّلت انفصالًا نهائيًا عن التبعية الإدارية للعاصمة العثمانية إسطنبول، وأسّست لنمط جديد من الحكم مرتبط بالحماية البريطانية، ومقيد في سياساته الخارجية، لكنه مستقل في إدارته الداخلية.

●التحوّل من الكيان الأهلي إلى البنية الدولية

شكلت معاهدة الحماية (1899) لحظة تحوّل نوعي في فهم "السيادة" في الكويت. قبلها، كانت السلطة تقوم على توازن داخلي هش، يعتمد على استرضاء القبائل، والتجار، ورجال الدين، والإمساك بزمام الأمن دون احتكار حقيقي للعنف. بعدها، بدأ الحاكم يميل إلى مركزة السلطة، مستندًا إلى الدعم البريطاني في مواجهة خصومه من داخل العائلة أو من النخبة التجارية.
وفي الوقت ذاته، فرض هذا التوجّه الانفصال السياسي للكويت عن محيطها الطبيعي، خاصة العراق العثماني، وبدأ يتشكل وعي جديد بـ"الكيانية الكويتية" ككيان سياسي منفصل، حتى وإن كان ذلك مشروطًا بقوة استعمارية. وهكذا، باتت الكويت "داخل السور" تحتمي بحصنين: الأول مادي – جدران الطين، والثاني رمزي – مظلة الحماية البريطانية.

●خارج السور: التمدد والتحولات الاجتماعية

لكن التاريخ لا يتوقف عند السور. فمع النصف الأول من القرن العشرين، خصوصًا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بدأ العمران الكويتي يتوسع خارج السور، وظهرت أحياء جديدة مثل المرقاب ودسمان. هذا الامتداد كان إعلانًا عن تحوّل في بنية المجتمع الكويتي. ظهرت طبقات وسطى جديدة، تزايد عدد المقيمين غير الكويتيين، وتغيّرت طبيعة الاقتصاد مع انهيار تجارة اللؤلؤ وصعود الريع النفطي.
خارج السور، بدأت تتكون الدولة بوصفها جهازًا بيروقراطيًا، وعُرفت أولى البذور لمفاهيم "المؤسسة" و"القانون" و"التعليم النظامي"، وظهرت بوادر للمجتمع المدني في صور أولى مثل الأندية الثقافية والصحف والمكتبات.

●بين الحصار والانفتاح

بهذا المعنى، فإن الكيان السياسي والاجتماعي الكويتي تشكل من جدلية الداخل والخارج: داخل السور، حيث تأسست السلطة على الإجماع الأهلي والاقتصاد البحري، وخارج السور، حيث دخلت الكويت في مدار التحديث التدريجي، ثم الاندماج في المنظومة الدولية.
وما بين الحدّين، استمرت أسئلة الدولة والمجتمع والهوية في التفاعل: هل الكويت مجتمع توافقي قبلي أم دولة قانون؟ هل هي مركز تجاري منفتح أم كيان سيادي منغلق؟ تلك الأسئلة التي بدأت منذ بدايات المدينة ما تزال، بشكل أو بآخر، تُطرح إلى اليوم.

●البصرة والفاو: خيوط التاريخ بين البر والبحر في الوعي الكويتي

في سردية التاريخ الكويتي، لا يمكن الحديث عن نشأة الهوية أو التكوين الجغرافي-الاجتماعي دون التوقف عند العلاقة العضوية والمعقّدة مع جنوب العراق، وتحديدًا البصرة والفاو. لقد شكّلت هذه المناطق، بثرائها الاقتصادي، وتنوّعها السكاني، وموقعها الاستراتيجي، فضاءً ممتدًا للكويت بوصفه مجالًا للتداخل الاجتماعي، والرهان السياسي، والانتقال الرمزي بين الدولة والمحيط.
تمثل الفقرة الزراعية في الفاو – أرض النخيل والمياه العذبة – واحدة من أبرز بؤر الارتباط الكويتي بالعراق العثماني. فقد أوقف راشد السعدون، زعيم المنتفق، مساحات شاسعة من أراضي الفاو وآبارها لآل صباح، في سياق تحالفات قَبَلية-سياسية تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر. هذه الأراضي لم تكن مجرّد ملكيات زراعية، لكن شكلت شرايين حياة، حيث اعتمدت الكويت على الفاو لتأمين جزء من غذائها، وخاصة التمور والمياه، ووفرت للعائلات الكويتية وسيلة استثمار آمنة نسبيًا في بيئة زراعية خصبة.
من جهة أخرى، فإن يوسف الإبراهيم – أحد أبرز رجال الدولة والتجارة في الخليج – امتلك أراضي وعقارات واسعة في البصرة والفاو، وأدارها كشبه إقطاعيات حديثة. كان الإبراهيم، الذي لعب أدوارًا متعدّدة في السياسة الكويتية والعثمانية، يُجسّد ملامح الفاعل المزدوج: كويتي الهوى، عثماني التكوين، وبصري الارتباط. وقد منحه هذا التداخل القدرة على التأثير في السياسة الإقليمية، وربط الكويت بشبكة نفوذ أوسع في جنوب العراق.

●البصرة: السوق الخلفي للكويت ومخزن نفوذها الرمزي

كانت البصرة بالنسبة للكويتيين تمثل العمق الاقتصادي والثقافي والمذهبي. ففي سنة الطفحة 1910 – وهي السنة التي ازدهرت فيها تجارة اللؤلؤ إلى أقصى مداها – توجهت رؤوس الأموال الكويتية إلى الاستثمار الكثيف في البصرة، حيث جرى شراء العقارات، وافتتاح المكاتب التجارية، وتأسيس روابط اقتصادية متينة مع التجار المحليين والموانئ الدولية.
تُظهر الوثائق التجارية والوقفية من تلك الفترة وجود كويتي كثيف في أحياء البصرة، من الزبير إلى العشار، وارتباطًا وثيقًا بالأسواق، وحتى بالمدارس والمقامات الدينية. كما استقر عدد من الكويتيين – وخاصة من عائلات التجار – لفترات طويلة في البصرة، ما جعل الهوية الكويتية آنذاك متداخلة مع الهوية البصرية، حدّ التماهي أحيانًا.
لكن هذا الحضور لم يكن دائمًا محل ترحيب. فكلما تصاعد التوتر بين المركز العثماني والكويت، عاد هذا الامتداد ليُشكّل مصدر قلق سياسي وإداري، خاصة مع تنامي النزعة الاستقلالية لدى حكام الكويت.

●مبارك الكبير بين اللعب بالألقاب ورسم السيادة

في هذا السياق المعقّد، برز الشيخ مبارك الصباح، أو "مبارك الكبير"، كأحد أكثر القادة الكويتيين وعيًا بالتحولات الجيوسياسية. رغم انزعاجه المعلن من لقب "القائمقام العثماني" الذي فُرض عليه شكليًا بوصفه ممثلًا للباب العالي في الكويت، إلا أنه لم يتخلّ عن هذا اللقب على الفور. لكن استخدمه بذكاء كأداة تكتيكية لإطالة أمد المهادنة مع السلطنة، وتأجيل المواجهة السياسية المباشرة.
لكن اللحظة الفاصلة جاءت حين قرّر مبارك التخلي عن هذا اللقب رسميًا، ورفع علم الكويت الخاص في خطوة ذات رمزية سيادية وجيوسياسية واضحة. كانت هذه الحركة د بمثابة قطيعة سياسية مع المركز العثماني، وإشارة ضمنية إلى التحول نحو محور التحالف البريطاني – وهو ما تحقق لاحقًا بمعاهدة الحماية في 1899.
لقد عرف مبارك كيف يوظف الفجوات بين القوى الكبرى لصالح بناء كيان مستقل، فاستغل التنافس البريطاني-العثماني لتكريس موقع الكويت ككيان شبه مستقل، له رموزه، وعلمه، ومجاله الاقتصادي الخاص الممتد من رأس الخليج إلى جنوب العراق.

إن البصرة والفاو لم تكونا فقط "مناطق خارج الحدود" بالنسبة للكويت، انما كانتا جزءًا لا يتجزأ من نسيجها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي. لقد حملتا معها ذكريات الاستقرار والنزوح، التجارة والتصادم، التحالفات والانشقاقات. وبهذا المعنى، فإن فهم الوعي السياسي الكويتي لا يكتمل دون استحضار هذه العلاقة العميقة والمتقلّبة، التي تجسّدت في الأرض والماء، في الأسواق والبيوت، وفي اللعب الذكي بموازين القوى بين العثمانيين والبريطانيين.

●الجغرافيا، الحماية، والحدود المرسومة بالعصا: الكويت بين الضرورة والسيادة

لم تكن الكويت، في بدايات تشكّلها السياسي الحديث، تملك أدوات الدولة الحديثة بالمعنى الصارم: لا جيش بالمعنى النظامي، ولا مؤسسات بيروقراطية مكتملة، ولا كثافة سكانية تمنحها هامشًا واسعًا من المناورة. ما كانت تملكه، في المقابل، هو الموقع – ذلك الامتداد الساحلي الضيق والمفتوح على الخليج العربي، وعلى تماس دائم مع القوى الكبرى في الإقليم: العثمانيين، الفرس، والنجديين، ثم البريطانيين.
في هذا السياق الجيوسياسي المتشابك، لم يكن أمام الكويت إلا أن تختار تحالفاتها من موقع الضرورة. ومن هنا وُلدت فكرة الحماية كقدر تاريخي – التحالف مع من يمكنه أن يضمن البقاء، ولو كان ذلك على حساب الاستقلال الكامل. أولًا مع بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر، ثم لاحقًا، مع تغير توازنات القوى العالمية، مع الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين.

●ترسيم الكيان: من "قرية عثمانية" إلى "كيان معترف به دوليًا"

لقد شكّلت معاهدة الحماية البريطانية (1899) بداية الدخول الكويتي إلى النظام الدولي الحديث، ليس فقط كإقليم له إدارة محلية، لكن كـ"وحدة سياسية" تفاوض باسمها قوة كولونيالية عالمية. هذه المعاهدة كانت فعلًا رمزيًا عميقًا، أعاد تعريف العلاقة بين الكويت ومحيطها، وفرض على القوى المجاورة – خاصة الدولة العثمانية – أن تتعامل مع الإمارة كحالة خاصة، خارجة عن السلطة المباشرة، ولو بشكل غير معلن.
لكن تثبيت هذا الوضع الجديد على الأرض تطلّب أكثر من اعتراف بريطاني؛ تطلّب ترسيمًا جغرافيًا دقيقًا للحدود، وهي مهمة شاقة في بيئة قبلية صحراوية لا تعرف الخطوط المستقيمة، ولا تلتزم بالخريطة، انما تتحرك وفق الماء والرعي والتحالفات العابرة.
هنا تدخلت بريطانيا كمُرسم للخرائط أيضًا. كان ذلك واضحًا في:
بروتوكول 1913 بين بريطانيا والدولة العثمانية، الذي اعترف بالكويت كـ"متصرفية مستقلة تحت إشراف عثماني اسمي" فقط. ورغم أن هذا البروتوكول لم يُصدّق بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلا أنه حمل إشارات قانونية مبكرة إلى انفصال الكويت عن الإطار العثماني التقليدي.

مؤتمر العقير 1922، الذي عُقد في ظل الاحتلال البريطاني للعراق، وجمَع عبد العزيز آل سعود، وسير بيرسي كوكس كمندوب عن لندن، لترسيم حدود نجد مع العراق والكويت. في هذا المؤتمر، كانت العصا البريطانية هي التي تُحدّد الأرض، حيث خطّ كوكس الحدود الحاسمة على الرمال باستخدام عصاه، في واحدة من أكثر لحظات الترسيم سوريالية في تاريخ الخليج.

اتفاقية 1932 مع العراق، التي سعت إلى إقرار الحدود بين الكويت والعراق الوليد، لكنها ظلت محل خلاف لاحق، وفتحت الباب لتوترات متواصلة، بلغت ذروتها في اجتياح 1990.

●معاهدة لوزان 1924: ميلاد الكويت القانوني؟

رغم أن الكويت لم تكن طرفًا مباشرًا في معاهدة لوزان (1923-1924)، إلا أن هذه الاتفاقية، التي أنهت رسميًا الحقبة العثمانية في المنطقة، كانت ذات أثر بالغ على وضعها القانوني. فمن خلالها، تخلّت تركيا الكمالية – وريثة السلطنة العثمانية – عن جميع مطالبها في ممتلكات السلطنة السابقة، بما في ذلك الكويت، التي باتت – بحكم القانون الدولي – خارجة عن أي مطالبة عثمانية، ومعترف بها بوصفها كيانًا له وجود مستقل، ولو تحت المظلة البريطانية.
هكذا، ومن خلال تراكب معقد من الاتفاقيات، والوقائع الجغرافية، وموازين القوة، جرى تثبيت الكويت ككيان دولي، ليس بوصفها مجرد "قرية عثمانية"، كما كانت تُوصَف في الوثائق السلطانية المتأخرة، لكن كوحدة سياسية ذات علم، وميناء، وعلاقات خارجية – وإن كانت تحت الرعاية.

●العوازم وشهادة الجغرافيا

في هذا السياق، لعبت العشائر – لا سيما العوازم، الذين كانوا يسكنون جزر وربة وبوبيان – دورًا غير مباشر في تثبيت حدود الكويت البحرية. فقد سعى البريطانيون إلى بناء حججهم القانونية استنادًا إلى "العرف السكاني"، أي من يسكن الأرض فعليًا. وبما أن العوازم كانوا الصيادين والمزارعين التقليديين في تلك الجزر، فقد استُدعيت شهاداتهم لدعم أحقية الكويت في هذه المناطق.
هذه الشهادات، وإن كانت بسيطة في ظاهرها، مثل القول: "نحن نرعى هناك منذ أجيال، ونحمل العلم الكويتي", إلا أنها كانت محورية في بناء سردية السيادة، وهي تذكّرنا بأن الحدود، حين تُرسم في الرمال تحتاج أيضًا إلى أصوات الناس وذاكرتهم.

●بين الجغرافيا والسياسة

لقد رُسمت حدود الكويت في بيئة جغرافية هشة، وفي لحظة سياسية انتقالية، كان فيها "التحالف مع الخارج" هو ما يمنح الداخل وجوده. ومع ذلك، فإن هذه الحدود الهشة، المرسومة أحيانًا على الرمال بالعصا، أثبتت صلابتها السياسية على مرّ الزمن، لأن ما دعمها لم يكن الخط فقط، انما التراكم الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، وذكاء الفاعلين الكويتيين في فهم لعبة القوى.
وهكذا، فإن قصة الحدود الكويتية ليست فقط رواية عن الرمال والخرائط، لكن عن البقاء من خلال السياسة، والتحالف من موقع الضعف، والتحوّل إلى كيان قائم بحكم القانون، لا بحكم القوة وحدها.

●غازي، نوري، وعبد الكريم: أوهام التوسّع وسقوط المشاريع

في قلب التاريخ السياسي العراقي الحديث، ثمة خيط متكرر يربط بين أنظمة وحكّام مختلفين، وهو هوس ضم الكويت. هذا الحلم، الذي لم يكن نتاجًا لحبٍّ دفين لوحدة العرب أو استعادة ما يُزعم أنه "أرض مسلوبة"، بقدر ما كان انعكاسًا لنزعة توسعية مدفوعة بثلاثة اعتبارات: الطمع في الموارد النفطية، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والرغبة في تصدير الأزمات الداخلية نحو الخارج.

مع بدايات الثلاثينيات، كانت الدولة العراقية الحديثة في طور التشكيل، لا تزال تبحث عن هويتها بين الولاء للبلاط الهاشمي، والوصاية البريطانية، وضغوط الشارع القومي المتصاعد. في هذه الأجواء، بدأت تبرز أصوات ترى في الكويت امتدادًا طبيعيًا للعراق، إما بحكم الإرث العثماني المشترك، أو الموقع الجغرافي، أو حتى بدافع "الوصاية الأخوية".
في الكويت، كان المجلس التشريعي الأول عام 1938 تعبيرًا عن قلق داخلي مماثل. فقد انقسم أعضاؤه، الذين ضمّوا نخبة من التجار والمتعلمين، بين تيار يؤيد الوحدة مع العراق على أمل الحصول على دستور وتمثيل نيابي، وآخر يفضّل الاستمرار في الحماية البريطانية، وثالث غريب يقترح جلب حاكم أجنبي – ربما هولندي أو سويسري – لإدارة البلاد بصفة محايدة. هذه المقترحات، رغم غرابتها، تعكس حجم التخبط السياسي والنفسي في تلك المرحلة، وشعور الكويت بأنها محاصرة بين قوى أكبر منها، ومصيرها رهن بتحالفات خارجية.
لكن المجلس لم يصمد طويلًا، إذ تم حلّه بالقوة بعد أقل من عام، في خطوة حاسمة من الأمير أحمد الجابر الصباح لإجهاض أي مشروع يهدّد السيادة أو يخلخل توازنات الداخل. هكذا، خمدت مطالب الوحدة قبل أن تنضج، وسقط حلم "الالتحاق بالعراق" تحت وطأة الواقع السياسي المحلي، والانقسامات الإقليمية، وعدم ثقة الكويتيين بالنوايا العراقية.

في أواخر الثلاثينيات، برز الملك غازي بن فيصل الأول كأحد أكثر الأصوات تحمسًا لضم الكويت. ومع صعوده إلى العرش، بدا ملكًا شابًا يسعى إلى كسب شعبية في مواجهة النفوذ البريطاني المتغلغل في مؤسسات الدولة العراقية. لجأ إلى الإذاعة، فأنشأ محطة راديو بغداد، وجعل منها منصة لخطاب قومي تصعيدي، كانت الكويت إحدى أبرز ملفاته.
في خطاب إذاعي شهير، أعلن غازي أن "الكويت جزء من العراق، ويجب أن تعود إليه"، مستعينًا بلغة استعطافية تارة، ومهددة تارة أخرى. هذا التصعيد أثار ذعر لندن، وأغضب الأمير أحمد الجابر، ورفع منسوب التوتر في الخليج، رغم أن التحركات الفعلية لم تتجاوز حدود الإعلام.
لكن حلم غازي لم يكتمل، إذ سقط عام 1939 في حادث سيارة غامض قرب قصره. ورغم أن الرواية الرسمية قالت إنه حادث عرضي، إلا أن الكثيرين – ومنهم خصومه – رأوا في الحادث تصفية سياسية مرتّبة شارك فيها البريطانيون، وربما نوري السعيد نفسه. ومع موت غازي، انطفأ أول مشروع "وحدوي" عراقي تجاه الكويت، قبل أن يرى النور فعليًا.

في الأربعينيات والخمسينيات، صعد نوري السعيد، رجل بريطانيا المدلّل وعرّاب السياسة العراقية، إلى الواجهة. بعقلية بيروقراطية باردة، آمن نوري بالضم لا عبر الصدام، لكن من خلال النفوذ الطويل النفس. أراد كويتًا تُدمج سياسيًا واقتصاديًا عبر نخب تجارية ومصالح مشتركة، وليس غزوًا مباشرًا يحرج حلفاءه في لندن.
لكن برغم فطنة نوري، فإن مشروعه لم يتجاوز طور التخطيط. حاول تحريك بعض الواجهات التجارية، وإرسال إشارات صامتة لحكام الكويت، واستغلال أي فراغ سياسي هناك. لكن حذَر آل صباح، واستمرار التحالف البريطاني-الكويتي، وعدم توفّر دعم شعبي عراقي فعلي لمشروع الضم، أجهضت كل محاولاته.
ثم جاءت ثورة 14 تموز 1958، وسُحل نوري في شوارع بغداد، في مشهد جسّد النهاية الدامية لحلم النخبة الهاشمية بالتوسع الناعم.

مع صعود عبد الكريم قاسم، بدا أن مشروع الضم سيُبعث من جديد، ولكن هذه المرة بلهجة يسارية شعبوية. ففي عام 1961، وبعد إعلان الكويت استقلالها من بريطانيا، أعلن قاسم – بشكل مفاجئ – أن "الكويت جزء لا يتجزأ من العراق"، في خطاب متلفز فجائي حافل بالشعارات. هدّد بالتدخل العسكري، وبدأ بحشد قواته على الحدود.
لكن رد الفعل الإقليمي والدولي كان سريعًا. بريطانيا أرسلت قواتها إلى الكويت، ودول عربية، حتى تلك التي كانت تعارض الاستعمار، رفضت الموقف العراقي. الجامعة العربية تدخلت، وأُرسلت قوات عربية إلى الكويت لحمايتها من أي عدوان، في أول تدخل جماعي من نوعه في تاريخها.
سقط مشروع قاسم بضغطة دولية، وعزلة داخلية، وسوء تقدير فادح. وسرعان ما اغتيل عام 1963 على يد ضباط البعث، لتنطفئ آخر محاولة عراقية رسمية لضم الكويت، ولو مؤقتًا.

● حين لا تصنع الغطرسة التاريخ

إن تتابع مشاريع الضم العراقية للكويت عبر الملكية والجمهورية يكشف عن استمرارية وهم سياسي، يعتمد على خطابات انفعالية، ومخططات مرتجلة، وتحالفات غير مستقرة. من خطاب الملك غازي العاطفي، إلى حسابات نوري المعقدة، إلى شعبوية قاسم العسكرية، كلها نماذج لمشاريع اتسمت بـالاندفاع والانفصال عن الواقع الإقليمي والدولي.
وفي النهاية، لم يكن الحلم التوسعي كافيًا لصنع التاريخ. فمقتل غازي، وسحل نوري، واغتيال قاسم، لم تؤدِّ إلى تحقيق ما تمنوه، كانت علامات على أن التاريخ يُصنع بالحكمة، والاعتراف بالوقائع، واحترام إرادة الشعوب.

ا●حماقة السقوط في وهم الاستحواذ

في الثاني من أغسطس 1990، اجتاحت الدبابات العراقية حدود الكويت، لتطوي فجرًا صيفيًا صاخبًا في تاريخ الخليج والعالم العربي. لم يكن الغزو لحظة مفاجئة فقط، كان ذروة منحدر طويل من الأوهام السياسية، والانفصال عن الواقع، والقراءة العرجاء للتاريخ والجغرافيا. يومها، ظنّ صدام حسين أن التوقيت قد نضج، وأن الكويت، الدولة الصغيرة، يمكن ابتلاعها بسهولة... لكنه كان يقرأ من كتاب خاطئ.

حين قرّر صدام حسين غزو الكويت، لم يكن يخوض معركة دفاع عن حدود، ولا حتى مواجهة اقتصادية كما زعم لاحقًا، كان يواجه أزمة شرعية داخلية مكتومة بعد حرب إيران الطويلة والمكلفة (1980–1988). خرج العراق من تلك الحرب منهكًا، بديون تفوق 80 مليار دولار، وبجيش متضخم تحول من أداة دفاع إلى عبء سياسي، وباقتصاد شبه مشلول. احتاج صدام إلى نصر سريع يُنسي الداخل مرارة الهزيمة المؤجلة، ويمنحه دور "المنقذ" من جديد.
في خياله السياسي، رأى في الكويت فريسة مثالية: دولة غنية، محاطة بفراغ سياسي نسبي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفي ظل توتر متصاعد مع الولايات المتحدة بشأن الخليج، ودول عربية منشغلة بأزماتها. لكن كل هذه الحسابات كانت سطحية، مليئة بالغرور، متجاهلة لدرس التاريخ القريب.

●القومية كسلاح وهمي

منذ الأيام الأولى للغزو، حاول صدام تسويق اجتياحه للكويت كخطوة "قومية تحررية". أعاد استحضار خطاب الوحدة العربية، ووصف الكويت بأنها "محافظة عراقية"، ملوّحًا بخرائط مزعومة تعود إلى العهد العثماني، مستعينًا بذاكرة تاريخية متقطعة تم انتقاؤها لخدمة الرواية السياسية.
لكن الشعوب لم تقتنع. لم يكن أحد يرى في الغزو "تحريرًا"، انما سطوًا سياسيًا وقحًا على دولة عضو في الجامعة العربية والأمم المتحدة. دول الجوار شعرت بالخطر خوفًا على نفسها. ولأول مرة، وُضع العالم العربي أمام مرآة فاضحة تُظهر هشاشة مؤسساته الجماعية، وعجزه عن منع عدوان من دولة على أخرى داخل خريطته.

●تحالف العالم: لحظة الإجماع الدولي النادرة

"الكويت لم تكن وحدها"، كما قال جورج بوش الأب، في خطاب تاريخي أعلن فيه أن العدوان على الكويت هو تحدٍ للنظام الدولي كله. وبالفعل، جاء الرد غير مسبوق في حجمه وتنوعه. تحالف من 34 دولة، بقيادة الولايات المتحدة، تشكل خلال أشهر، ليطلق "عاصفة الصحراء" في يناير 1991، ويبدأ تحرير الكويت عسكريًا في أقل من 100 ساعة من الهجوم البري.
لكن المعركة لم تكن عسكرية فقط. لقد خسر صدام معركة الرمزية والسيادة والمشروعية. سقطت صورته كزعيم مقاوم، وتهاوت أيديولوجيا البعث أمام الحقيقة البسيطة: لا أحد، مهما بلغ جبروته، يستطيع اغتصاب دولة مستقلة والنجاة بفعلته.

●الانهيار المضاعف: العراق بعد الكويت

الغزو هو بداية لانهيار طويل الأمد للعراق كدولة إقليمية وازنة. فبعد 1991، خضع العراق لعقوبات دولية قاسية دمّرت اقتصاده، وأضعفت مجتمعه، وأعادت بناء نظامه على أسس أمنية أكثر توحشًا. أما صدام، الذي كان يراهن على أن العرب سيساندونه أو يصمتون، فقد وجد نفسه في عزلة خانقة، دفعت به إلى مزيد من السياسات الهوجاء، حتى سقط نهائيًا عام 2003 على يد نفس الدولة التي طردته من الكويت قبل 12 عامًا.

●درس التاريخ: من سقطات القوة إلى أخلاقيات الدولة

أثبت الغزو أن الدبابة ليست حلاً سياسيًا، وأن الكيانات المستقلة لا تُمحى بمراسيم القهر، ولا يمكن ابتلاعها عبر شعارات التوسع القومي. لقد كشف هشاشة المشروع القومي العربي حين يُختطف من قبل العسكر، ويفقد أخلاقيته السياسية لصالح حسابات مغلقة.
لقد خسر العراق، وخسر العرب، وخسر الجميع. لكن الكويت لم تسقط. لا سياسيًا، ولا قانونيًا، ولا اجتماعيًا. الكويت خرجت من المحنة بدولة أعادت التفكير في أمنها الداخلي والخارجي، وأعادت بناء تحالفاتها، وراجعت عقدها الاجتماعي.

●نهاية الطموح المغشوش

كانت مغامرة صدام في الكويت نهاية الطموح المغشوش الذي يربط الأمة بالدبابة، والمستقبل بالإكراه. لقد قاد الغرور رجلًا إلى ارتكاب خطأ استراتيجي مميت، أحرق به جسور العراق إلى محيطه، وترك أثرًا نفسيًا في الخليج لا يزال حيًّا حتى اليوم.

●ما بعد البرقان: من الكوت إلى الدولة الريعية

كان اكتشاف النفط في حقل البرقان عام 1938، ثم تصديره فعليًا في العام 1946، بمثابة التحوّل الجوهري في الكيان الكويتي، لا على مستوى الاقتصاد فقط، لكن في بنية الدولة والمجتمع والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الداخل والخارج، وبين الذات والحدود.
كويت ما قبل البرقان كانت كيانًا صغيرًا يتكوّن حول "الكوت" – الحصن – الذي اتخذته عائلة آل صباح مقرًا للحكم، وكان الناس فيه يتوزعون بين تجار الفرَضة (الميناء)، وغواصي اللؤلؤ، وصيادي الأسماك، وبدو الأطراف الذين يرفدون المدينة بالحراك التجاري والأمني. كانت الدولة – إذا صحّ تسميتها كذلك – هشة لكنها مرنة، قائمة على التحالفات الاجتماعية، وتقاسم المصالح، وتوازنات دقيقة بين القوى التقليدية: الأسرة الحاكمة، التجار، القبائل، ورجال الدين.
لكن النفط، منذ لحظة تفجّره من الأرض، أعاد تشكيل كل شيء.

●من الريع إلى الدولة: التكوين الجديد

دخلت الكويت حقبة الريع الاقتصادي، حيث لم تعد الدولة بحاجة إلى تحصيل الضرائب أو فرض المكوس على الموانئ أو الاعتماد على التجارة الموسمية. أصبح للدولة مصدر دخل ثابت وكبير، ما مهّد لظهور نموذج الدولة الموزّعة للثروة بدل الدولة المنظّمة للاقتصاد.
في ظل هذا التحوّل، تغير العقد الاجتماعي كليًا. لم يعد الحاكم بحاجة إلى رضا التجار أو تحالف القبائل بقدر حاجته إلى إدارة توزيع الفوائض النفطية. ظهرت البيروقراطية، وتمأسس التعليم والخدمات الصحية، وتم بناء البنية التحتية التي ربطت أطراف البلاد. لكن كل ذلك لم يتم بمنأى عن التحالفات الخارجية، خصوصًا مع استمرار موقع الكويت الجغرافي الحرج.

●الحماية بدل التحصين: قلق الجغرافيا لا يزول

رغم مظاهر الثراء والتطور، لم تستطع الكويت أن تتحرر من قلقها الجغرافي. تقع بين ثلاث قوى كبرى: العراق شمالًا، السعودية جنوبًا، وإيران عبر الخليج. وهي، بحجمها المحدود ومواردها الوفيرة، بدت دومًا في أعين الطامحين دولة "قابلة للابتلاع".
ولذلك، تشكّلت الكويت الحديثة في ظل مظلة الحماية لا التحصين. تحالفها مع بريطانيا استُبدل بتحالف أشمل مع الولايات المتحدة. لم يعد الجيش الكويتي وحده ضامنًا للأمن، لكن أصبحت القواعد العسكرية والتحالفات الإقليمية والدولية جزءًا من منظومة البقاء.

●من الطين إلى الزجاج: التحوّل الحضري والسياسي

خرجت الكويت من أسوارها الطينية لتكون مفهومًا. تحوّلت إلى مدينة حديثة، وتشكّلت طبقة وسطى واسعة بفعل التوظيف الحكومي والإنفاق العام، وأُنشئت المؤسسات الديمقراطية مثل مجلس الأمة. لكن هذه المؤسسات ظلّت تعيش توتّرًا دائمًا بين الشرعية الشعبية والوصاية الريعية.
فالريع، وإن ضمن الرفاه، أضعف آليات المحاسبة، وخلق بنية دولة تعتمد على الوفرة بدل الكفاءة، وعلى الاسترضاء بدل الإصلاح البنيوي. كما غذّى النزعات الاستهلاكية، ووسع الفجوة بين الأجيال، وأنتج خطابًا شعبويًا مترددًا بين الحنين إلى الماضي، والخوف من المستقبل.

●نقطة تقاطع: هوية داخل الجغرافيا لا فوقها

لا تزال الكويت حتى اليوم، كما كانت دائمًا، نقطة تقاطع: بين البحر والصحراء، بين القبائل والحضر، بين التجارة التقليدية والاقتصاد الريعي، بين السيادة والاستظلال بالحماية، بين الماضي العريق والتحديات المستقبلية.
الجغرافيا، التي كانت في الماضي مصدر عزلة محمية، أصبحت اليوم مسرحًا دائمًا للتوتر. فكل ما حول الكويت قابل للاشتعال: العراق، الخليج، إيران، الانقسامات المذهبية، والتحولات العالمية في الطاقة. ولذلك، فإن الكيان الكويتي، رغم رسوخه الدستوري والسياسي، يعيش دائمًا في حالة يقظة استراتيجية، أشبه ما تكون بحالة مدينة صغيرة تتنفس وسط غابة من الفيلة.

● البقاء عبر التوازن

من الكوت إلى الدولة الريعية، ومن الفرَضة إلى البورصة، ومن الغوص إلى النفط، ومن الاعتماد على الذات إلى الاستظلال بالحلفاء، قطعت الكويت مسارًا فريدًا، لا يخلو من المفارقات ولا الصدمات. لكنها، في كل محطة، كانت تحترف فن التوازن: بين الجغرافيا والتاريخ، بين الحماية والسيادة، بين الداخل والخارج، وبين الوفرة والهوية.
فهل يكفي هذا التوازن وحده لبناء مستقبل مستدام؟
أم أن زمن ما بعد البرقان يطالب بمراجعة شاملة لعلاقة الدولة بالمجتمع، ولشكل الاقتصاد، ولموقع الكويت في خريطة متغيرة لا تعترف بالمحميات ولا بالموروثات؟

● الكويت بين النشأة والنجاة على حافة التاريخ

لم يكن غزو الكويت عام 1990 مجرد انتهاكٍ جغرافي بسيط أو تعدٍ عابر على رقعة من الأرض. كان، في عمقه، محاولة متجددة لمحو تاريخٍ طويل تشكّل تدريجيًا عبر قرون من التفاعل الدقيق بين النفوذ العثماني، والاستعمار البريطاني، والتحالفات القبلية والتجارية، وبين الضغوط الإقليمية المتبدلة. تاريخ يشبه تلك الهواجر التي تشق الصخور، ببطء لكن بإصرار، حتى تولّد كيانًا حيويًا رغم هشاشته الظاهرة.
إن نشأة الكويت لم تكن لحظة حظ عابرة، كان نتاج عملية تاريخية مركبة من التكيف السياسي، والمرونة الاجتماعية، والوعي الجغرافي. فهي ليست مجرد بقعة على الخريطة، انما كيانٌ صنعته إرادة النجاة، وعبقرية اللعب على الحافة بين قوى إقليمية ودولية متصارعة.
ومع كل التحديات، بقيت الكويت حاضرة، لا كظلٍ أو بقايا متلاشية، لكن كدولة ذات حضور سياسي واقتصادي، توازن بين إرثها التاريخي، وموقعها الجغرافي الحرج، وبين متطلبات عالم سريع التغير. نجحت في صوغ ذاتها وسط أزمات متلاحقة، وفهم أن البقاء لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالحكمة، والدهاء، والقدرة على استيعاب الآخر، حتى وإن كان مصدر تهديد.
هي، في النهاية، كيان صغير بحجم الأرض التي يحتلها، يكتب يوميًا قصته على حافة النار، حيث تتصارع المصالح، وتتقاطع الجغرافيا مع التاريخ، وحيث يصنع الوجود معجزات الواقع.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
- دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى
- الدنيا رطب عالي
- الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي ...
- الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري ...
- الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما ...
- النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي
- تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
- من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
- زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا ...
- موت إلهٍ من بابل
- مجرد ذكرى
- محو الآخر هوامش غير مكتملة
- المركزية البغدادية وهامش المحافظات
- شقشقة عراقية 4 غضب العراقي وحزنه
- شقشقة عراقية 3
- شقشقة عراقية ( 2)
- شقشقة عراقية
- ظهيرة سوق البصرة القديم
- شذرة 15 الدين والتحريم


المزيد.....




- هوس أكياس الكافيين: موضة بين المراهقين تثير قلق بعض الخبراء ...
- ألمانيا تعتبر -التقدم الأولي المحدود- في إيصال المساعدات إلى ...
- أكثر من ألف موظف أوروبي يدعون لتعليق العلاقات مع إسرائيل
- بعد قرار ترامب في وجه روسيا.. تعرف على أسطول غواصات أميركا
- لغز يحيّر المحققين.. رضيعة تنجو من مجزرة عائلية مروعة والقات ...
- حماس ترد على تصريح ويتكوف حول استعدادها لنزع سلاحها
- أكسيوس تجذب الجمهور بأسلوب تحريري فريد
- تقرير بريطاني: إسرائيل تفعل في غزة ما لم تفعله ألمانيا بالحر ...
- بسبب -صوت مصر-.. شيرين عبد الوهاب تلجأ إلى القضاء ردا على تص ...
- إعلام إسرائيلي: العالم يتكتل ضدنا بعد أن اتحد لدعمنا في 7 أك ...


المزيد.....

- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رياض قاسم حسن العلي - في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو