|
الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / رؤية أولية
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 20:13
المحور:
قضايا ثقافية
تتمثل إحدى أعقد إشكاليات الفكر السياسي الحديث في العراق – وفي المنطقة العربية كلها – في غياب الإيمان العميق بمفهوم "الوطن" بوصفه رابطة نهائية، ومرجعية كبرى تجمع الأفراد على أرض وتاريخ ومصير مشترك. والمفارقة أن الأيديولوجيات الكبرى التي سيطرت على المشهد السياسي والفكري العراقي منذ منتصف القرن العشرين – الماركسية، القومية، والإسلامية – لم تجعل "الوطن" في صميم مشروعها الفكري، بل كانت، بدرجات مختلفة، تتجاوزه أو تحاول محوه لحساب أفكار كونية أو دينية أو قومية أوسع. ---------------------------- ● الإسلام السياسي وفكرة الوطن والأمة
تقوم تصوّرات الإسلام السياسي الحديث على خيالٍ جمعيٍّ توحيدي/كوني يجعل رابطة العقيدة أعلى من كل الروابط الأخرى. في هذا الخيال، تُرى الحدود القُطريّة (الدولة-الأمة بالمعنى الحديث) بوصفها أفقًا أدنى أو ترتيبًا مؤقتًا فرضته الجغرافيا والحقبة الاستعمارية، بينما الأفق الأعلى هو الأمّة. هنا تظهر المفارقة: الدولة الحديثة تقوم على سيادةٍ إقليميّة (وطن/تراب/قانون)، أمّا الإسلام الحركي فيضع السيادة القصوى للحاكميّة (سيادة الشريعة) وولاءً أوّليًا لـرابطة العقيدة. هذا الخلاف ليس تنظيميًا فحسب، لكنه ايضا أنثروبولوجي-سياسي: ما الذي يُعرّف الإنسان سياسيًا؟ أهو مواطن في إقليم، أم مؤمن في أمّة؟ بهذا المعنى، يصبح الوطن "عابرًا" نحو الأمّة: قيمةً وجسرًا لا غايةً ومقامًا.
●الجذور الفكرية في أطروحات سيّد قطب
يتبدّى مشروع سيّد قطب الفكري بوصفه إعادة صياغة راديكالية لجدل طويل في الفكر الإسلامي الحديث بين سؤال الأصالة وسؤال الحداثة، بين شرعية النص المطلق وإكراهات الواقع التاريخي. ويمكن تلمّس بنيته العميقة من خلال ثلاث أفكار مركزية شكّلت، معاً، البنية التحتية لأطروحاته:
1. الجاهلية الجديدة: أعاد قطب توظيف مفهوم "الجاهلية" القرآني، فلم يعد مقصوراً على مرحلة ما قبل الإسلام تاريخياً، لكنه صار توصيفاً نقدياً للمجتمعات الحديثة التي تنحرف عن تحكيم الشريعة، أي تلك التي تستبدل "سيادة الله" بمنظومات قانونية بشرية. بهذا المعنى، تتحول "الجاهلية" من مفهوم تاريخي إلى أداة أيديولوجية-حضارية، يتم عبرها نزع الشرعية عن النظم القائمة وإعادة تصنيف الاجتماع البشري. وهو بذلك ينقل المفهوم من مجاله الوصفي إلى مجاله التحريضي، حيث يصبح إعلاناً بانفصال قاطع بين "مجتمع مؤمن" و"مجتمع جاهلي".
2. الحاكميّة: إذا كانت الجاهلية تُعرِّف العدوّ أو النقيض، فإن الحاكميّة تحدد المرجعية المطلقة للسلطة. فـ"السيادة لله وحده" ليست مجرد شعار لاهوتي، هي رفض فلسفي لمبدأ السيادة الشعبية كما تبلور في الفكر السياسي الغربي. إنها، بهذا المعنى، تقويض جذري لفكرة العقد الاجتماعي والدولة الحديثة القائمة على تشريع بشري وضعي. وبهذا تصبح الحاكميّة محاولة لتأسيس أنطولوجيا سياسية بديلة، تعيد مركزية النص المقدس كمصدر وحيد للشرعية، وتعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والسلطة، بين الحاكم والمحكوم، على قاعدة أن الحكم فعلٌ تعبدي قبل أن يكون تنظيماً إدارياً.
3. العصبة المؤمنة/الطليعة: في مقابل "الجاهلية" الموصوفة و"الحاكميّة" المقررة، يقترح قطب آلية التغيير عبر "العصبة المؤمنة"، أو الطليعة التي تعيد إنتاج تجربة "الأمة الأولى". هذه الطليعة تُعرّف بوصفها جماعة عقائدية تتجاوز الحدود القُطرية، وتُعيد تعريف الانتماء على أساس العقيدة لا الجغرافيا. هي "نواة الأمة"، التي تتولّى مهمة الصدام مع البنية الجاهلية وإقامة النظام البديل. بهذا، يضع قطب تصوّراً لحركة تاريخية لا تسعى إلى الإصلاح الجزئي أنما إلى القطع الكلي مع الحاضر، واستعادة المثال المؤسِّس للمدينة النبوية باعتبارها النموذج المطلق.
إن هذه الأفكار الثلاث، في ترابطها، تؤسس لرؤية شاملة للإنسان والمجتمع والتاريخ. فهي تحمل في داخلها نزعة ثورية راديكالية، تعلن القطيعة مع الحداثة الغربية، وتستحضر في الآن ذاته بنية ميثولوجية مؤسسة تجعل من الماضي نموذجاً أبدياً يجب استعادته. ومن هنا، شكّلت أطروحات قطب نواة فكرية تغذت منها لاحقاً حركات الإسلام السياسي والجهادي على اختلاف تفرعاتها، باعتبارها مشروعاً للانقلاب الشامل على العالم القائم، لا مجرد اجتهاد إصلاحي داخل فضاء الدولة الحديثة.
●منطق العبور من الإخوانية إلى السلفية الجهادية
تتبدّى الشبكات الإخوانية في بنيتها التنظيمية بوصفها كيانًا عابرًا للحدود، فهي لا تتحدد بالانتماء القُطري حيث تعمل وفق منطق "الحركة العالمية". إنَّها تستعيد فكرة "الأمّة" ولكن بوسائل تنظيمية حديثة: هرمية واضحة، بيعة متدرجة، ومركزية قرار يتجاوز الدولة الوطنية، مع خطاب مزدوج يراوح بين الدعوي-الإصلاحي وبين السياسي-البراغماتي. بهذا المعنى، يشكّل الإخوان المسلمون صيغة وسطية بين المجتمع المحلي والفضاء الأممي، حيث الدولة الوطنية تُعاش كإطار مؤقت، بينما تبقى الغاية الأبعد استعادة "الخلافة" باعتبارها رمز الوحدة الكونية. غير أنّ السلفية الجهادية دفعت هذا المنطق إلى نهايته القصوى. فهي لم تكتفِ بتجاوز الدولة الوطنية كإطار سياسي محدود، بل أعلنت القطيعة الجذرية معها ومع مؤسساتها، باعتبارها تعبيرًا مباشرًا عن "الجاهلية" الحديثة. هنا لم تعد الدولة أداة يمكن التعايش معها أو إصلاحها من الداخل كما عند الإخوان، لكنها صارت هدفًا يجب تدميره لصالح كيان بديل يتجسد في "دولة الخلافة" أو "الإمارة". ومن ثم، يتحول الفعل الجهادي إلى آلية تأسيسية، باعتباره شرط الوجود نفسه: السلاح يصبح لغة التأسيس، والدم هو الحبر الذي يُكتب به "العقد الجديد". إنَّ الفرق الجوهري بين الإخوانية والجهادية يكمن في المسافة من الدولة الحديثة: الإخوانية تتعامل معها بوصفها ساحة صراع يمكن اختراقها وإعادة توجيهها، أي اعتبارها وسيطًا مؤقتًا في الطريق إلى "المشروع الإسلامي". أمّا السلفية الجهادية فترى أن مجرد الاعتراف بشرعية الدولة الوطنية خيانة للأصل العقدي، وبالتالي فهي تلغيها كليةً لتعيد إنتاج "الأمة" في صورة كيان فوق-وطني، لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا بالسياسات الدولية.
بهذا، يمكن القول إن الإخوانية تمثل الوجه المؤسسي-المنظم لمفهوم الطليعة كما صاغه سيّد قطب، بينما تمثل السلفية الجهادية التجسيد الراديكالي-المسلح له، أي دفعه إلى نهايته المنطقية التي ترفض التسويات وتستبدل منطق السياسة بمنطق الحرب.
● الفقه السياسي ما قبل الحداثة: تصوّر بلا “وطن”
التراث الفقهي الكلاسيكي لم يعرف "الدولة الوطنية" بوصفها كيانًا سياديًا إقليميًا بالمعنى الوستفالي؛ عرف دار الإسلام/العهد/الحرب، والبيعة/الإمامة، وهياكل سلطانية متعدّدة المراكز. لذا، حين يستلهم الإسلام السياسي هذا التراث، فهو يستدعي لسانيات سياسية ما قبل-وطنية في فضاء دولٍ حديثة. التوتّر البنيوي يولِّد ازدواجًا دائمًا: لغةُ «الأمة/البيعة/الحاكمية» تعمل داخل مؤسسات «الدستور/المواطنة/البرلمان».
● خرائط الولاء الثلاث في الإسلام السياسي
تقوم تصوّرات الإسلام السياسي على إعادة ترسيم أولويات الانتماء، بحيث تُعاد صياغة العلاقات بين الفرد والجماعة، وبين المواطن والدولة، وفق منظومات رمزية مغايرة للمنطق القومي أو المدني الحديث. وإذا كان مفهوم "الولاء" في الدولة الحديثة يتحدد عادةً من خلال رابطة المواطنة وما تقتضيه من مساواة أمام القانون واعتراف بالحدود القُطرية كإطار جامع، فإن الإسلام السياسي يقيم بنيته على خرائط ولاء بديلة، يمكن اختزالها في ثلاثة مستويات متداخلة:
1. ولاء العقيدة فوق ولاء التراب: هنا يُعاد ترتيب الهويات على قاعدة الإيمان. فالمسلم يُعرّف أولاً من خلال عقيدته لا من خلال جغرافيته. "المؤمن أخو المؤمن" أينما وُجد، حتى لو فصَلت بينهما آلاف الكيلومترات، بينما الجار القريب غير المتديّن قد يُعتبر "آخر" لا يشارك المؤمن في الانتماء الحقيقي. هذا المنطق يفتح الباب أمام تفكيك الوطنية الحديثة، إذ يصبح الانتماء العقدي بديلًا عن الانتماء القومي، ويغدو السوري أقرب إلى الماليزي من قربه إلى شريكه في الوطن المختلف عنه في المعتقد.
2. ولاء التنظيم فوق ولاء المؤسّسة: في هذه البنية، تتحول "الجماعة/الحركة" إلى إطار بديل عن الدولة. فبينما تسعى الدولة الحديثة إلى احتكار الشرعية عبر مؤسساتها، يطرح التنظيم نفسه بوصفه حاملًا للشرعية الأعمق: شرعية العقيدة والغاية التاريخية. العضوية في الحركة توفّر للفرد معنى كلّيًا وهوية متجاوزة، بينما تبدو الدولة جهازًا إداريًا مؤقتًا ومتنازع الشرعية. هذا يجعل الانضباط للتنظيم أسمى من الانضباط للقوانين الوطنية، و"السمع والطاعة" للجماعة يتقدّم على الطاعة للدستور أو المؤسسة الرسمية.
3. ولاء الأمّة فوق ولاء الدولة في المستوى الثالث، يجري تجاوز الدولة الوطنية برمتها لصالح "الأمّة" بوصفها الكيان الرمزي الأوسع. الحدود القُطرية تُفهم باعتبارها طارئة وعابرة، ناتجة عن توازنات استعمارية أو تاريخية لا تُلزم المسلم "حقًا". بهذا، يصبح من الطبيعي تبرير الدعم العابر للحدود ـ ماديًا أو جهاديًا أو إعلاميًا ـ تحت شعار "نصرة الأمة". وهو ما يفسر كيف يمكن لشاب من شمال أفريقيا أن يُجنَّد في حرب بالشرق الأوسط، أو لمواطن آسيوي أن يرى نفسه معنيًا بمعركة تقع في أفريقيا، إذ إن رابطة الأمة تذيب الفواصل القومية والسياسية.
إن هذه الخرائط الثلاث، في تداخلها، تُنتج بنية ولاء مضادّة لفكرة الدولة الحديثة كما تبلورت في الغرب منذ القرن السابع عشر. فهي تقوّض فكرة المواطنة المتساوية، وتضع الانتماء الديني والتنظيمي والأممي فوق الانتماء الوطني. وبذلك، تظل الدولة الوطنية في نظر الإسلام السياسي مجرد حالة انتقالية أو حتى خصم يجب تجاوزه، لصالح مشروع أكبر يتجاوز الحدود الجغرافية ويستمد شرعيته من العقيدة لا من القانون الوضعي.
●العراق كحالة كاشفة
منذ منتصف القرن العشرين، دخل الإسلام السياسي العراقي – بتياراته السنية والشيعية – إلى المجال العام تحت سقف دولةٍ حديثة وحدودٍ رسمها تاريخٌ معقّد. على المستوى الشيعي، يتراوح الطيف بين مدرسة النجف الدستورية التي دفعت بفكرة "المواطنة" و"الدولة/العقد" داخل حدود العراق، وبين تياراتٍ حركية عابرة ترى الأمّة/الولاية أوسع من الإقليم، فتمنح الشرعية لرابطٍ أمميٍّ يعلو على الوطني عند اللزوم. على المستوى السني، تتراوح المواقف بين إسلامٍ إصلاحيٍّ حزبي يقبل قواعد اللعبة الوطنية (مع تحفّظات)، وأطيافٍ راديكالية تعيد تعريف العراق بمرجعية الأمّة، لا الوطن. وأثر ذلك في السياسات يكمن في صياغة الهوية الدستورية (دين الدولة/مصادر التشريع/حقوق المكوّنات) ،وفي التعليم والخطاب العام حيث تُقدَّم «الأمة» أحيانًا باعتبارها الإطار القيمي الأعلى، وفي الأمن والسيادة عند ظهور تشكيلاتٍ مسلّحة ذات سرديةٍ أمميةٍ أو دينية تتقدّم على السردية الوطنية.
● مراجعات فلسفية لتشخيص التعارض
بحسب بنديكت أندرسون، الأمة "جماعة متخيَّلة" تُصنع عبر لغةٍ وذاكرة ومؤسسات. الإسلام السياسي يقترح جماعةً متخيّلةً أوسع (الأمّة) تجعل الجماعة الوطنية طبقةً أدنى أو "حيثًا" إداريًا. ولدى كارل شميت، السياسة تُعرَّف بمنطق صديق/عدو. حين يُعاد تحديد العدو والصدّيق عقائديًا، تُصبح حدود الوطن غير مطابقة لحدود الولاء السياسي. الدولة الحديثة تفترض سيادةً بشرية مُفوَّضة عبر العقد، بينما الحاكمية تفترض سيادةً إلهية غير قابلة للتفويض إلا من خلال تأويلٍ شرعيٍّ مخصوص. وأخيرًا، مع فيبر: الدولة الحديثة تحتكر العنف المشروع داخل حدودٍ معروفة؛ أمّا منظوماتُ تعبئةٍ أممية فتخلق ازدواج سيادة داخل الحدود نفسها.
● تأويل "حبّ الوطن" داخل الخطاب الإسلامي
تتخذ مقولة "حبّ الأوطان من الإيمان" مكانة واسعة في المخيال الشعبي، حيث تُستعمل لترسيخ قيمة الانتماء الوطني وجدانيًا، وغالبًا ما تُتداول في الخطب والمواعظ اليومية باعتبارها جزءًا من المنظومة الأخلاقية العامة. غير أنَّ هذا الاستخدام العاطفي لا يجد صدى مؤسِّسًا داخل فاعلية الإسلام السياسي، إذ إنَّ الأخير لا يبلور من خلالها مفهومًا دستوريًا أو سياسيًا للوطن، لكنه يعيد تأويلها ضمن منظومة أوسع من الولاءات التي تتجاوز الجغرافيا والحدود. في هذا السياق، تتقدّم أدبيات الهجرة والنصرة والأخوة ودار الإسلام على مفهوم "الوطن" بالمعنى القُطري أو الترابي. فالوطن في الخطاب الإسلامي الحركي لا يُعرَّف بالأرض والحدود التي ترسمها الدولة الحديثة، وإنما يُعاد تعريفه وفق معايير دينية وقيمية: الوطن هو حيث تُقام الشريعة وتتحقق "سيادة الله"، والوطن هو الجماعة المؤمنة لا المساحة الجغرافية. ومن هنا، يمكن أن يصبح "المكان" مجرد محطة عابرة أو فضاء مشروط بالولاء العقدي. السيرة النبوية تُقدَّم في هذا الخطاب كنموذج تأسيسي: الانتقال من مكة إلى المدينة يُقرأ باعتباره تحوّلًا من رابطة عشائرية-مكانوية (الانتماء إلى أرض القرابة والعشيرة) إلى رابطة عقدية-قيميّة (الانتماء إلى الأمة الجامعة). فالهجرة تتحوّل إلى رمز للانفصال عن المكان المقيَّد وللالتحاق بالمكان المتخيَّل الذي يحقّق معنى الأمة. بهذا، يغدو "حب الوطن" مقبولًا فقط بقدر ما يتماهى مع هذه الرابطة العليا، أي بقدر ما يكون مدخلًا إلى حب "دار الإسلام". وعليه، يمكن القول إن الخطاب الإسلامي لا يلغي "حب الوطن" تمامًا، لكنه يؤطّره في مرتبة أدنى داخل سلّم الولاءات. فالعاطفة الوطنية تظل شعورًا مشروعًا ما لم تتعارض مع الولاء الأعلى: الولاء للعقيدة والجماعة والأمة. فإذا تعارضت، فإن "حب الوطن" يُعاد تأويله لا كقيمة مستقلة لكن كجزء من منظومة قيمية أشمل، حيث يُصبح الوطن مجرد أداة أو مسرح لتحقيق المشروع الإسلامي، لا غاية بحد ذاته.
● مقاربات توفيقية: بين "توطين الأمة" و"أسلمة الوطن"
على الرغم من حدّة التعارض المفهومي بين منطق الدولة الوطنية الحديثة ومنطق الأمّة الإسلامية بوصفها رابطة عابرة للحدود، برزت داخل بعض التيارات الإسلامية المعاصرة مقاربات اجتهادية حاولت صياغة أرضية وسطى تُبقي على المرجعية الإسلامية، وفي الوقت نفسه تعترف بواقع الدولة القُطرية كإطار تنظيمي لا يمكن تجاوزه عمليًا. هذه المقاربات يمكن قراءتها كاستجابة مزدوجة: من جهةٍ لضغط الواقع السياسي الذي يجعل الدولة الوطنية الإطار الوحيد المعترف به دوليًا، ومن جهة أخرى لضرورات الفقه والاجتهاد التي تستلزم إعادة تأويل المفاهيم التراثية. ويمكن تلخيص أبرز هذه الاتجاهات في أربع صيغ:
1. فقه المواطنة/المقاصد هنا يجري تعريف الوطن باعتباره "دار عهدٍ وميثاق"، أي فضاءً يقوم على تعاقد اجتماعي لا يتعارض مع العقيدة. وتُعاد صياغة المواطنة باعتبارها عقدًا مدنيًا ملزِمًا، يضمن الحقوق والواجبات، دون أن يعني بالضرورة تبنّي مرجعية علمانية. هذا المنطق الإصلاحي وجد صداه في تجارب عديدة رفعت شعار "الدولة المدنية ذات المرجعية القيمية"، حيث تُعتبر القيم الإسلامية إطارًا مرجعيًا عامًا، بينما تُترك آليات التشريع والسياسة للممارسة المدنية.
2. الأمّة الأخلاقية لا السياسية في هذا التصور، تُعاد رابطة الأمّة إلى مكانها كهوية رمزية وأفق أخلاقي، لكنها تُفصل عن إدارة الشأن السياسي المباشر. الأمة هنا تتحول إلى رمز ثقافي/روحي يعزز التضامن العابر للحدود، بينما يُفوَّض أمر السيادة الفعلية للدولة الوطنية وقوانينها. هذا التمييز يسمح بالمحافظة على شعور الانتماء للأمة دون تحويلها إلى مشروع سياسي يهدد الكيان القُطري.
3. فصل الوظائف لا فصل الدين يستند هذا الاتجاه إلى إعادة توزيع الأدوار: الدين بوصفه مرجعية قيمية عليا، والدولة جهازًا إداريًا وقانونيًا يتولى الشأن العام. الهدف هنا منع تسييس المقدّس وتحويله إلى أداة هيمنة سياسية. الدين يظل معيارًا أخلاقيًا موجِّهًا، بينما الدستور والقانون يوفّران آليات تنظيم الحياة المشتركة. إنها محاولة لتجاوز الحاكمية القطبية عبر صيغة أكثر توافقية، تُبقي على سلطة النص كقيمة، لا كسيادة ميتافيزيقية مفروضة فوق الدستور.
4. الوطن التعاقدي (الولاء الدستوري) في هذا التصور، يُعاد تعريف الانتماء على قاعدة احترام الدستور والمؤسسات، لا على أساس الهوية الدينية أو المذهبية. معيار المواطنة هنا هو الالتزام بالعقد الدستوري الذي يساوي بين جميع الأفراد، بصرف النظر عن انتماءاتهم العقائدية. في الوقت نفسه، تُبقى "الأمة" أفقًا ثقافيًا أو شعوريًا، لكن دون أن تنازع الدولة الوطنية على سيادتها. بهذا يصبح الوطن إطارًا جامعًا يُبنى على قواعد مدنية، بينما تظل الأمة ذاكرة رمزية وأفقًا حضاريًا.
إن هذه المقاربات التوفيقية تمثل محاولة لإنتاج خطاب "إسلامي مدني" قادر على التكيّف مع الحداثة السياسية دون أن يتخلى كليًا عن المرجعية الإسلامية. فهي تُبقي على الفضاء الديني كمنبع للقيم والمعنى، لكنها تعترف في الوقت نفسه بسلطة الدولة الوطنية كجهاز حديث لا غنى عنه. وبذلك، تسعى إلى التخفيف من حدّة الصدام التاريخي بين "منطق الأمة" و"منطق الوطن"، وتقديم نموذج بديل للتعايش بينهما.
ينظر الإسلام السياسي إلى الوطن بوصفه معبَرًا نحو الأمّة، لا مستقرًا لسيادةٍ جامعة. وحين يُطبَّق هذا المنظور داخل دولةٍ حديثة، ينشأ توتّرٌ بنيوي بين رابطة العقيدة العابرة للحدود ورابطة المواطنة المقيمة في الحدود. الخروج من هذا الاشتباك يتطلّب أحد خيارين واضحين أو تركيبًا منهما: إمّا دسترةُ الوطن بمرجعيةٍ مدنيةٍ تُساوي بين الأفراد وتُقنِّن مكان الدين في الفضاء العام؛ وإمّا تأويلُ الأمّة أخلاقيًا/ثقافيًا لا سياديًا، بحيث لا تنازع الدولة في احتكار القانون والعنف المشروع. بهذا فقط يُصبح الوطن غايةً سياسية لا مجرد جسر، وتُصبح الأمّة أفقًا قيميًا لا جهاز سيادةٍ موازيًا. في العراق، حيث تتراكب الذاكرات الدينية والقومية والمحلّية، يحتاج هذا التحويل إلى سردية وطنية حديثة تُعيد ترتيب الولاءات: من أعلى (الدستور)، لا من خارج الحدود.
---------------------------
الماركسية: الأمميّة فوق الوطنيّة
●الجذر الفلسفي: الإنسان ككائن طبقي لا وطني
الماركسية لا ترى الوطن إطارًا سياديًا نهائيًا، انما لحظة عابرة في مسار التاريخ. الإنسان في نظر ماركس ليس مواطنًا مُعرَّفًا بحدود دولته، لكنه كائن طبقي، ينتمي إلى علاقات الإنتاج لا إلى الحدود الجغرافية. فالمجتمع مقسوم إلى بورجوازية وبروليتاريا، والاصطفاف الأساسي ليس بين العراقي والأجنبي، لكن بين العامل والرأسمالي. هذا ما يجعل الماركسية تحمل منذ نشأتها نزعةً كونية/أممية، تسعى إلى تجاوز الدولة القومية باعتبارها جهازًا برجوازيًا لحماية مصالح الطبقة المالكة.
● الأممية البروليتارية: من البيان الشيوعي إلى الأممية الثالثة
عندما نشر ماركس وإنجلز البيان الشيوعي (1848)، كان النداء الأشهر فيه ــ "يا عمّال العالم اتّحدوا!" ــ إعلانًا لميلاد جماعة سياسية جديدة تتجاوز الدولة القومية. لم يعد العامل الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي يُرى كابن وطنٍ محدّد، أنما كعضو في طبقة عالمية تجمعها مصالح مشتركة في مواجهة الرأسمالية. بهذا الطرح، وُضعت أسس ما يمكن تسميته بـ الأممية البروليتارية، أي اعتبار الطبقة العاملة رابطة الانتماء العليا، بديلة عن القوميات التي نظر إليها ماركس كأطر تاريخية مؤقتة سرعان ما ستتجاوزها ديناميات السوق والصراع الطبقي. مع قيام الأممية الثالثة (الكومنترن) بعد الثورة البلشفية (1919)، اكتسبت هذه الرؤية طابعًا تنظيميًا صارمًا. فالحزب الشيوعي المحلي لم يعد يتحرك وفقًا لاعتبارات سياقه الوطني فقط، بقدر ما أصبح جزءًا من منظومة مركزية تُدار من موسكو. الولاء الحقيقي صار للحركة الأممية ولخطها الاستراتيجي، بينما جرى تهميش الأولويات القُطرية إلا بقدر ما تخدم أهداف الصراع العالمي ضد الرأسمالية والإمبريالية. بهذا تحوّلت العلاقة بين "المحلّي" و"العالمي" إلى علاقة تبعية واضحة، حيث يستمد الحزب شرعيته من انخراطه في المشروع الأممي لا من تمثيله لمجتمعه الوطني. انعكاس ذلك على مفهوم "الوطن" كان جذريًا: لم يعد الوطن قيمة عاطفية أو تاريخية قائمة بذاتها، لكن ساحة للصراع الطبقي. يُقاس معنى الوطن بقدر ما يساهم في المعركة ضد رأس المال العالمي، لا بحدوده أو رمزيته الجغرافية أو الوجدانية. فالعامل الروسي أقرب إلى العامل الإسباني أو الكوبي من قربه إلى مواطنه "البرجوازي". هذه الصياغة جعلت الوطنية التقليدية تبدو، في نظر الخطاب الأممي، مجرد أداة بيد الطبقات المالكة لتضليل العمال وشدّهم إلى ولاءات فرعية تعيق وعيهم الطبقي.
بهذا المعنى، الأممية البروليتارية مثّلت إعادة هندسة للولاءات السياسية: حيث يتقدّم الانتماء الطبقي-العالمي على الانتماء القومي-المحلي، ويُعاد تعريف الوطن من كونه "أرض الآباء" إلى كونه "ميدانًا للثورة". إنها محاولة لإقامة بديل شامل عن الوطنية الحديثة، ولكن بمنطق مادي تاريخي، لا بمنطق ديني أو ميتافيزيقي كما في التجارب الأخرى العابرة للحدود.
●في العراق: هوية شيوعية أم هوية وطنية؟
منذ الأربعينيات والخمسينيات، دخل الفكر الماركسي العراق عبر الطلبة والمثقفين، ليجد له صدى واسعًا في المدن الكبرى وبين النقابات. لكن هذا الفكر حمل معه مفارقة جوهرية ،حيث كان العامل الشيوعي العراقي يرى نفسه أقرب إلى رفيقه في موسكو أو بكين، منه إلى ابن عشيرته أو طائفته في الجنوب أو الشمال. وخطاب الحزب الشيوعي العراقي في تلك العقود كان مشبعًا بلغة "الحركة العمالية العالمية" أكثر من حديثه عن هوية وطنية عراقية. فالأدبيات الرسمية تتحدث عن البروليتاريا العالمية والمعسكر الاشتراكي والنضال ضد الإمبريالية، أكثر مما تتحدث عن العراق كـ"وطن". حيث انخراط الشيوعيين العراقيين في المؤتمرات الأممية، ورفعهم شعارات التضامن مع شعوب فيتنام وكوبا وشيلي، بوصفها جبهاتٍ في معركة واحدة ضد الرأسمالية. ومواقف الحزب الشيوعي التي كثيرًا ما كانت تُفَسَّر كولاءٍ لموسكو، خصوصًا خلال الحرب الباردة، ما جعل خصومه يتهمونه بـ"العمالة للأجنبي" أو "الانفصال عن الواقع العراقي".
● الوطن كجبهة لا كغاية: الماركسية في العراق
في التصوّر الماركسي، الوطن هو ساحة من ساحات النضال الأممي. العراق، في هذا الأفق، يُنظر إليه كـ"مختبر" ينبغي أن تُجرَّب فيه شروط الثورة الاشتراكية: إسقاط النظام الرأسمالي وشبكات الإقطاع، ثم إلحاقه بالمسار العالمي الذي ترسمه حركة التاريخ نحو الاشتراكية. فالوطن هنا وسيلة مرحلية، وظيفته أن يفتح الطريق أمام الثورة، لا أن يتحول إلى بيت مغلق يُختَتم فيه المشروع السياسي. هذا المنطق يُفسّر التوتر العميق في خطاب الحزب الشيوعي العراقي. فمن جهة، قدّم الحزب تضحيات وطنية كبرى: قاد مقاومة ضد الاستعمار البريطاني، شارك بفعالية في ثورة 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، ووقف لاحقًا ضد الاستبداد السياسي والعسكري. لكن، من جهة أخرى، ظلّت هذه البطولات الوطنية محكومة بظلّ الأممية، أي أنها لم تُقدَّم باعتبارها دفاعًا عن "وطن" بوصفه قيمة عليا مستقلة، لكن باعتبارها جزءًا من صراع أشمل يتجاوز حدود العراق. الوطن كان "مسرحًا" للثورة، لا "بيتًا" نهائيًا يُعاش فيه الانتماء ويُستمد منه المعنى.
بهذا، نجد أن التجربة الماركسية العراقية حملت دائمًا ازدواجية في الولاء: ولاء نضالي عملي للوطن في لحظات المواجهة والتحرّر، يقابله ولاء نظري أممي يضع هذا الوطن داخل أفق أوسع لا يسمح له بالاكتمال كقيمة ذاتية. وقد جعل هذا التوتر الحزب يعيش حالة دائمة من الانقسام بين براغماتية السياسة اليومية ومتطلّبات الثورة العالمية، بين العراق كحقيقة ماثلة وبين "الأممية" كيوتوبيا متعالية.
●مراجعة في الاصول الفلسفية:
في قلب التصور الماركسي، تكمن رؤية للدولة تختلف جذريًا عن الرؤى الهيغلية أو القومية. فبينما رأى هيغل في الدولة تجسيدًا لروح الشعب وذروة تطور الحرية، نظر إليها ماركس باعتبارها أداة قمع طبقي، جهازًا أنشأته الطبقات المالكة لضبط التوازنات الاجتماعية وتأبيد السيطرة الاقتصادية. بهذا المعنى، فإن الدولة ــ بما تحمله من هوية وطنية وقانونية ــ ليست إلا تشكيلًا مؤقتًا محكومًا بشروط الصراع الطبقي. من هنا، يتراجع مفهوم "الوطن" في الماركسية الحديثة إلى موقع أداتي؛ فالوطن الذي تُعرِّفه الدولة الوطنية ليس كيانًا متعاليًا أو قيمة في ذاته، أنما غطاء سياسي لهيمنة طبقية. وحين ينجز التاريخ مهمته الكبرى ــ أي انتصار الاشتراكية وتجاوز التناقضات الطبقية ــ تغدو الدولة نفسها فائضة عن الحاجة. غاية المسار التاريخي، كما رسمه ماركس، ليست تثبيت الوطن أو الدولة بل اضمحلالهما التدريجي، بحيث يذوب الإطار السياسي في جماعة بشرية عالمية تتحقق فيها حرية الإنسان الكونية. هذا التصور يجعل الوطن/الدولة في الماركسية مضاعفًا للثانوية: فهو من جهة أداة مرحلية بيد الطبقات، ومن جهة أخرى محكوم بالاضمحلال على المدى البعيد. لذلك، فإن الوطنية قشرة تاريخية ستنقشع مع اكتمال المشروع الأممي.
● ازدواج الولاء ونتائجه العملية
كان البُعد الأممي في تجربة الماركسية العراقية سببًا رئيسيًا في خلق ازدواجية مستمرة في الولاء. فالعضو الماركسي لم يكن ملتزمًا بالوطن فقط، انما كان ملتزمًا بالحركة الشيوعية العالمية، وبالخط الذي تحدده موسكو كمرجع أعلى. هذا التزام مزدوج جعل من مهمّة الماركسي العراقي موازنة دقيقة بين الالتزامات الدولية والمسؤوليات الوطنية، وهو توازن لم يكن ممكنًا أن يُحقَّق دائمًا بسلاسة، خصوصًا في ظل ظروف أزمات سياسية وعسكرية داخلية أو صراعات إقليمية معقدة. النتيجة العملية لهذا الازدواج كانت متعددة الطبقات: 1. اتهامات بالتبعية للأجنبي: كان الحزب الشيوعي العراقي يتعرض بشكل دائم لتهم الولاء لموسكو على حساب مصالح العراق، ما جعل صورته الوطنية محل شك، حتى في أوساط مؤيديه. 2. ضعف القدرة على إنتاج سردية وطنية مستقلة: بالمقارنة مع الحركات القومية التي كانت ترفع شعار "العراق أولًا"، أو الحركات الإسلامية التي وظفت الولاء للأمة لتبرير مواقف محلية، بدا الحزب الشيوعي محكومًا بأفق أممي لا يسمح له بإنتاج خطاب وطني متماسك ومستقل. 3. تمزق في لحظات الأزمات: أثناء الصراعات الكبرى، مثل الحرب الباردة أو المواجهات مع البعثيين، وجد الحزب نفسه محاصرًا بين أولويات الأممية وأولويات البقاء الوطني. فالالتزام بالخط الأممي كان يعني أحيانًا التضحية بالمصالح الوطنية المباشرة، في حين أن الدفاع عن مصالح العراق كان يُفسَّر من قبل القيادة الأممية كانحراف عن المسار العالمي.
هكذا، شكّل ازدواج الولاء نمطًا بنيويًا في الحركة الماركسية العراقية، حيث كان الولاء للأممية معيارًا للشرعية الحركية، في حين ظل الولاء للوطن مسألة براغماتية تكيفية، تتأرجح بين الدفاع عن الناس والحفاظ على التماسك التنظيمي. وهذا التوتر البنيوي ساهم في إنتاج حزب شديد التنظيم والالتزام الدولي، لكنه أضعف في الوقت نفسه قدرته على صياغة مشروع وطني مستقل يمكنه المنافسة على الرمزية السياسية داخل العراق.
● إمكانات التوفيق بين الأممية والوطنية
على الرغم من التوتر البنيوي العميق بين الولاء الأممي والولاء الوطني، حاول بعض الشيوعيين العراقيين صياغة خطاب وطني تقدمي يمكّنهم من الجمع بين الالتزام بالمشروع الأممي والنضال الوطني. في هذا الإطار، ربطوا تحرير العراق من الاستعمار والنفوذ الأجنبي مباشرة بالنضال الاشتراكي العالمي، معتبرين أن السيادة الوطنية الحقيقية لا تتحقق إلا ضمن مسار كوني للتحرر الطبقي. كما عملوا على تأصيل محلي للفكر الماركسي، من خلال ربطه بواقع الفلاحين والعمال العراقيين، لا الاكتفاء بالخطابات المستوردة من موسكو. هذا الأسلوب مكن الحزب من إضفاء بعد محلي على خطاب عالمي، فصارت الماركسية في العراق أكثر من مجرد انعكاس للأفكار الأجنبية؛ حيث أُعيد تأويلها لتصبح أداة فهم الواقع المحلي وصياغة مطالب وطنية محددة. أحد أبرز الأمثلة على هذا التوفيق كانت "جبهة الاتحاد الوطني" (1956)، التي جمعت الشيوعيين مع القوميين والديمقراطيين على أساس مشترك هو الاستقلال الوطني، وليس الولاء الأممي وحده. هذا التحالف أظهر إمكانية تجاوز التناقض الظاهر بين الولاء للأممية والوطنية، من خلال إيجاد أرضية مشتركة تسمح بالعمل السياسي داخل حدود الدولة، مع الحفاظ على الالتزام بالقضايا العالمية. مع ذلك، ظل الخطاب الماركسي في العراق يعكس إشكالية الأممية مقابل الوطنية بشكل واضح: فبينما قدّم الشيوعيون تضحيات وطنية ملموسة، كان تصورهم للوطن دائمًا مشدودًا إلى كونية أوسع. في هذا السياق، يمكن رسم مقارنة بين التصورات الماركسية والإسلامية: الوطن بالنسبة للمسلم السياسي: جسر إلى الأمة، مرحلة وسيطة تُهيئ الانتماء للرابطة العليا. الوطن بالنسبة للماركسي: ساحة إلى الأممية، مختبر للنضال الاجتماعي العالمي. وفي كلتا الحالتين، يبقى الوطن وظيفيًا/مرحليًا، أداة لتحقيق غايات أوسع، لا كيانًا مطلقًا يفرض الولاء بذاته. هذه النظرة تضع الخطاب السياسي في العراق ضمن جدلية دائمة بين الانتماء المحلي والالتزام الكوني، وتكشف عن صعوبة تأسيس مشروع سياسي وطني مستقل داخل الأطر الفكرية العابرة للحدود.
------------------- القوميّة: الوطن بوصفه حلقة في "الأمّة"
●الجذر الفلسفي: من الفرد إلى القبيلة إلى الأمة
الفكر القومي العربي تشكّل في لحظة تاريخية معقّدة من أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لحظة تفكك السلطنة العثمانية وصعود الغرب كقوة استعمارية حديثة. كان "الوطن" عند المفكرين القوميين الأوائل ليس غاية نهائية، لكنه حلقة ضمن كيان أوسع هو "الأمة العربية". فالانتماء الحقيقي ليس إلى جغرافيا محدودة (العراق، سوريا، مصر) أنما إلى اللغة العربية والتراث المشترك والتاريخ الممتد. بالمقارنة مع الماركسية التي عرّفت الإنسان بصفته "طبقة"، والإسلام السياسي الذي عرّفه كـ"مؤمن"، فإن القومية عرّفته كـ"عربي" قبل أي تعريف آخر. وهكذا، تذوب الدولة الوطنية الحديثة في أفق الأمة الكبرى.
من المفارقات أن بعض المنظّرين للقومية العربية كانوا مفكرين مسيحيين مشرقيين ، شبلي شميل (1847–1917): الذي تبنى الداروينية الاجتماعية، ورأى أن العرب أمة واحدة تحتاج إلى نهضة. وجرجي زيدان الذي ركّز على التاريخ العربي والإسلامي باعتباره أساس الهوية الجامعة.
يعد ساطع الحصري (1880–1968) الأب الفعلي للقومية العربية الحديثة، الذي قال عبارته الشهيرة: "كل من يتكلم العربية فهو عربي"، جاعلاً اللغة محور الانتماء لا الدين ولا الطائفة. هؤلاء واجهوا الدولة العثمانية التي كانت ترفع "الرابطة الإسلامية/الخلافة"، فطرحوا بديلاً هو "الرابطة القومية"، أي تحويل الولاء من السلطان/الخليفة إلى الأمة العربية.
●إشكالية الوطن في الفكر القومي
في الفكر القومي العربي، يُعاد تعريف الوطن بطريقة تجعل "الوطن القطري" كالعراق أو سوريا أو مصر جزءًا ناقصًا من كلّ أكبر، وليس ككيان مكتمل قائم بذاته. الدولة القطرية الحديثة تُنظر إليها غالبًا ككيان مؤقت ومصطنع، نتاج اتفاقيات الاستعمار الأوروبي، وعلى رأسها اتفاقية سايكس-بيكو، التي رسمت حدودًا سياسية لا تمت إلى الانتماء الثقافي أو التاريخي بصلة. في مقابل هذا الوطن القطري، تُرفع صورة الوطن الحقيقي: الأمة العربية الجامعة، الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج، كوحدة حضارية وثقافية وسياسية. الوطن هنا ليس مجموعة حدود جغرافية، لكن إطار رمزي للهوية التاريخية، وموقع الانتماء الأساسي الذي يُحدد القيم والمعايير العليا. نتيجة لذلك، يصبح مفهوم الوطن الجزئي مشروطًا ومؤجلًا فإذا تعارض الانتماء القُطري مع الانتماء للأمة، يُلغى الوطن القُطري عمليًا أو يُنقل إلى مرتبة ثانوية. وإذا انسجم مع المشروع القومي الأكبر، يُقرأ الوطن كخطوة مرحلية نحو الوحدة الكبرى، وليس كغاية مستقلة.
بهذه الطريقة، تتضح الطبيعة المتعددة الطبقات للوطن في الفكر القومي: فهو في الوقت نفسه إطار عملي لإدارة الشؤون اليومية (الوطن الجزئي)، وأفق رمزي للهوية التاريخية الكبرى (الأمة العربية). هذا التوتر بين الكلي والجزئي يجعل الولاء الوطني مركّبًا، دائمًا مشروطًا بمرجعية أوسع لا يوازيها أي سلطة قُطرية، ويحوّل الوطن من قيمة عليا قائمة بذاتها إلى وسيلة لتحقيق المشروع القومي الشامل.
● في العراق: القومية فوق الوطنية
كان العراق، بحكم تعدده القومي والطائفي (عرب، أكراد، تركمان، سنة، شيعة، مسيحيون)، أرضًا خطرة ومعقّدة لتطبيق الفكر القومي العربي. مع صعود حزب البعث، أصبح خطاب القومية العربية القوة المهيمنة في تشكيل الهوية السياسية، حيث وُضعت عروبة العراق كهوية عليا تتجاوز الانتماءات المحلية أو القُطرية الأخرى. نتج عن ذلك تداخل وتشابك الولاءات: الانتماء القومي أصبح معيارًا لتقييم ولاء الفرد والدولة، بينما الولاء للهويات المحلية أو الإقليمية أصبح ثانويًا أو مشكوكًا في شرعيته. فالهويات الأخرى، مثل الكردية، وُصفت أحيانًا بأنها متمرّدة على مشروع الوحدة العربية، مما شرّع سياسات قمعية ومركزية باسم "الوطن الكبير". ومن أبرز هذه السياسات: حملات التعريب، رفض الفيدرالية، وفرض السردية القومية في المناهج والتعليم والإعلام. كما تم تصوير العراق كـقلعة متقدمة للأمة العربية في مواجهة الاستعمار والصهيونية، أي ينظر اليه كأداة في مشروع قومي أوسع. الوطن القُطري هنا ليس غاية، بل وسيلة؛ الأيديولوجيا القومية تحدد الحدود الرمزية للسيادة والانتماء، وتجعل كل خطوة محلية مرتبطة بالأفق العربي الكلي. بهذه الطريقة، تحوّل العراق من كيان وطني مستقل إلى مسرح لتطبيق السردية القومية الكبرى، حيث تصبح الوطنية المحلية مرتبطة بمستوى التوافق مع المشروع القومي العام، ما يُنتج صراعات دائمة بين الهويات المحلية والهوية المفروضة من القومية العربية.
● الوطن كخيانة إذا انفصل عن الأمة
أحد أخطر آثار الفكر القومي هو إنتاج نظرة سلبية إلى الوطنية ، أي مشروع يركّز على "الوطن القطري" (العراق، لبنان، مصر) بمعزل عن الأمة، يُوصم بـ"الانعزالية" أو "الخيانة". والزعيم الذي يتحدث عن عراق للعراقيين فقط، كان يُتهم بأنه "إقليمي" ضيّق، في مقابل الزعيم القومي الذي يحلم بوحدة العرب. فجمال عبد الناصر في مصر رفع شعار "الوحدة العربية" فوق "الوطن المصري"، ودخل في وحدة اندماجية سريعة مع سوريا (1958–1961). وفي العراق، البعثيون رفعوا شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، حيث لا وجود لعراق مستقل، بل عراق كجزء من مشروع أكبر.
● مراجعة فلسفية: الأمة كوهم ميتافيزيقي؟
من منظور فلاسفة السياسة الحديثة مثل هوبز، روسو، وهيغل، تُعد الدولة الوطنية الإطار المركزي الذي يضمن العقد الاجتماعي ويمارس السيادة على الإقليم، بحيث يصبح الولاء للمواطنية أساسًا للتنظيم السياسي والاستقرار الاجتماعي. الدولة هنا هي المرجع النهائي للشرعية، والوطنية هي علاقة التزام متبادل بين الفرد والجماعة السياسية. في المقابل، أدت القومية العربية إلى رفع "الأمة" ككيان متخيّل فوق الدولة الوطنية، ما أدى إلى إضعاف الشرعية الداخلية للدولة الحديثة وجعل الولاء ينتقل من المواطنة إلى الهوية الثقافية. المواطن أصبح تابعًا لهوية أكبر وأوسع، مرتبطة بالانتماء العرقي-اللغوي والثقافي للأمة العربية. هذا الاستخدام للـ"أمة" كمفهوم ميتافيزيقي وأيديولوجي أصبح مبررًا للممارسات القمعية داخل الدولة القطرية. فكل من يقف خارج المشروع القومي أو لا يتوافق مع معايير الهوية الثقافية المفروضة يُصوَّر كخطر على "المعركة الكبرى" من أجل الأمة، ما يمنح السلطة المحلية ذريعة لتجاوز المبادئ الديمقراطية أو الحقوق المدنية باسم مشروع كلي أعلى. بهذا المعنى، تخلق القومية العربية ازدواجية شرعية: الدولة الوطنية تبقى في الواقع هي الجهة المكلفة بالحكم والإدارة، بينما المشروع القومي يضع معايير ولاء عليا تتجاوز حدود الدولة، مما يُنتج توترًا مستمرًا بين الولاء للمواطنة والولاء للهوية الثقافية-الأيديولوجية الكبرى. --------------------------------
القوى الاستعمارية: الوطن كهوية ممنوعة
الاستعمار، في جوهره، ليس مجرد احتلال عسكري للأرض بقدر ماهو احتلال للوعي. هو مشروع يقوم على محو فكرة السيادة المحلية، وإضعاف كل ما يمكن أن يصنع من جماعة بشرية "شعبًا ذا ذاكرة وهوية". فالوطن – بوصفه وحدة سياسية/ثقافية متماسكة – هو الخطر الأكبر على المستعمر، لأنه يولّد مقاومة ويؤسس لمطلب الاستقلال. لذلك، يسعى الاستعمار إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يجعله مفتّتًا: قبائل، طوائف، أقليات، عشائر… أي كل ما هو دون "الوطن".
●العراق نموذجًا: سياسة "فرّق تسد"
عند دخول البريطانيين إلى العراق بين 1917 و1920، لم يُنظر إلى البلاد كوطن ناشئ، لكن كمجموعة مكوّنات اجتماعية وسياسية منفصلة ينبغي ضبطها وإدارتها وفق مصالح الاستعمار. هذه الرؤية التفكيكية استندت إلى ثلاثة مستويات أساسية: 1. الطائفة: استُثمر الانقسام السني–الشيعي لإضعاف أي وحدة سياسية وطنية متماسكة. أعيد إنتاج هذه الثنائية داخل بنية الدولة الجديدة، من خلال توزيع المناصب والولاءات وفق خطوط مذهبية. تم إقصاء الشيعة تدريجيًا عن المناصب الإدارية العليا، بينما أعيد إنتاج القيادات العراقية العثمانية السابقة في مناصب السلطة، ما ضمن الولاء للسلطة الاستعمارية وأضعف أية رؤية وطنية جامعة. 2. القبيلة: من خلال "قانون دعاوى العشائر" (1916)، تم تعزيز سلطة الشيوخ المحليين على حساب الدولة الحديثة، منحهم سلطات قضائية واسعة، وجعل العشيرة وحدة قانونية واجتماعية مستقلة. بهذا، تحوّل الولاء الفردي إلى الولاء العشائري، وأصبحت القرارات اليومية مرتبطة بعلاقات قبلية أكثر من ارتباطها بالقانون الوطني أو الدولة. 3. المنطقة: تعامل البريطانيون مع الجنوب والوسط والشمال كمناطق منفصلة ذات خصوصيات مستقلة، بدلًا من دمجها في نسيج وطني واحد. هذا التوزيع الجغرافي-الإداري عزز الانقسامات المحلية، وجعل الولاء للمكان أو للمدينة أو للمنطقة أكثر حضورًا من الولاء للوطن ككل.
نتيجة هذه السياسات، تشكّلت هوية عراقية مُجزّأة: العراقي كان يرى نفسه أولًا كابن طائفة أو عشيرة أو مدينة، قبل أن يكون ابن وطن. بهذا المعنى، أصبحت الدولة الحديثة، منذ ولادتها، محكومة بالبنية التفكيكية نفسها التي أرادها الاستعمار، حيث تُقسّم الولاءات وتُضعف أي شعور بالانتماء الوطني الشامل، وتُحوّل الوطن إلى إطار وظيفي، لا كيان شعوري جامع.
●فلسفة التذويب: من الوطن إلى "الولاءات الصغيرة"
الفكرة المركزية التي تبنّاها الاستعمار البريطاني في العراق كانت واضحة ومتكاملة: لا وطن كبير، أنما ولاءات صغيرة. الهدف لم يكن بناء دولة وطنية جامعة أو تعزيز شعور بالانتماء الوطني، لكن تفتيت الانتماءات الكبرى إلى وحدات أصغر يمكن التحكم بها بسهولة. كلما صغر الانتماء، سواء كان عشيرة، طائفة، أو إقليمًا محددًا، أصبح من السهل على السلطة الخارجية أن تتحكم في الأفراد والمجتمعات، توجيه الولاءات، وضبط الصراعات لصالح المصالح الاستعمارية. هذه الاستراتيجية لم تُنشئ دولة قوية ذات شرعية وطنية حقيقية، بل جهازًا إداريًا هشًّا: قادر على إدارة شؤون الدولة اليومية وتأمين مصالح بريطانيا، لكنه عاجز عن إنتاج هوية وطنية جامعة أو تعزيز شعور بالانتماء المشترك بين العراقيين. بهذا المنطق، أصبح العراق منذ ولادته دولة وظيفية أكثر من كونها وطنًا شعوريًا. البنية السياسية والاجتماعية التي أنشأها البريطانيون فصلت الولاءات عن الفضاء الوطني العام، وحوّلت الانتماء إلى علاقات جزئية محدودة، ما فتح المجال للصراعات الطائفية والقبلية، وجعل الوطن الكبير غائبًا كمرجع شعوري موحد. باختصار، فلسفة التذويب هي استراتيجية تحويل الوطن إلى مجموعة ولاءات صغيرة قابلة للإدارة، وليس إلى كيان قومي مستقل. هذه السياسة لم تكن مجرد تكتيك مؤقت، بقدر ماهي أساس للبنية السياسية العراقية الحديثة، الذي ظل يؤثر على صراعات الولاء والهوية حتى اليوم.
● استعمار ما بعد الاستعمار
حتى بعد انتهاء الاستعمار المباشر، رسميًا في 1932 وفعليًا مع ثورة 1958، ظل الأثر العميق للبنية الاستعمارية قائماً في العراق. الهويات الفرعية — الطائفية، القبلية، الإقليمية — استمرت في العمل كبدائل للوطن، محققة نوعًا من الاستقلال الوظيفي عن الدولة الوطنية، لكنها في الوقت نفسه جعلت الولاء للوطن ضعيفًا ومجزأً. الدولة العراقية الحديثة وُلدت على قاعدة هشّة: لم يُبن وعي جمعي حول "الوطن العراقي" ككيان مستقل وموحد، لكن على أساس توازنات دقيقة بين الطوائف والعشائر والمناطق. هذه التوازنات حافظت على انقسامات جزئية يمكن الاستفادة منها في السياسة الداخلية والخارجية. علاوة على ذلك، واصلت القوى الدولية، بداية ببريطانيا ثم الولايات المتحدة لاحقًا، استثمار هذه الانقسامات كأدوات للتدخل والتأثير على القرار العراقي. فالولاءات الجزئية صارت وسيلة فعالة للسيطرة على الدولة، وإدارة الصراعات الداخلية بما يخدم مصالح القوى الأجنبية، دون الحاجة إلى احتلال مباشر. بعبارة أخرى، العراق بعد الاستعمار المباشر لم يتحرر تمامًا، لكنه دخل مرحلة "الاستعمار ما بعد الاستعمار"، حيث يظل الوطن الهش هدفًا للتأثير الخارجي، والهويات الفرعية تعمل كقنوات للتحكم السياسي والاجتماعي، محافظة على إرث التذرّع بالانقسامات التاريخية لتبرير التدخلات الأجنبية.
● مقارنة فلسفية: الاستعمار كنفي للوطن
إذا نظرنا إلى العراق في سياق الفلسفات السياسية والأيديولوجيات الكبرى، نجد أن فكرة الوطن لم تُترك لتتشكل بحرية، لكنها كانت دائمًا رهينة لخطابات وأجندات خارجية وداخلية: الماركسية: أضعفت الوطن عبر الأممية، حيث أصبح الوطن مجرد ساحة مؤقتة للنضال الطبقي العالمي، لا غاية قائمة بذاتها. الإسلام السياسي: حول الولاء من الدولة إلى الأمة الدينية، فتراجع الوطن إلى دور جسر مرحلي نحو رابطة أوسع، أي أن الوطن أصبح وظيفيًا وليس مقدسًا بذاته. القومية العربية: رفعت الوطن الجزئي إلى مرتبة ثانوية، باعتباره جزءًا ناقصًا من الأمة العربية الكبرى؛ أي أن الوطن لم يعد قيمة مستقلة، بل أداة لتحقيق الوحدة القومية. الاستعمار: هنا تختلف الصورة تمامًا؛ فلم يكتفِ بتأجيل الوطن أو تهميشه، لكنه منع تشكّله أصلًا. يمكن وصف هذا بـ"الإجهاض السياسي": قتل الفكرة قبل أن تولد، من خلال تفتيت الولاءات إلى طائفة وعشيرة وإقليم، وخلق دولة هشّة عاجزة عن إنتاج هوية وطنية جامعة.
هكذا، نجد أن العراق، كما كثير من البلدان العربية، ظل رهينًا لأيديولوجيات كبرى لم تجعل الوطن غاية نهائية، لكن مجرد مرحلة أو أداة: الإسلام السياسي يرى الوطن عائقًا أمام وحدة الأمة. الماركسية تذيب الوطن داخل الأممية. القومية العربية تذيب خصوصيته داخل الأمة العربية. الاستعمار يضعف بنيته لغايات السيطرة.
في النهاية، بقيت فكرة الوطن في العراق مؤجلة ومغيّبة على المستوى الرسمي والفكري، لكنها لم تُمحَ بالكامل، حيث استقرت في الذاكرة الشعبية العميقة. هذه الذاكرة تتشبث بالأرض، بالنهر، باللغة، وبالتاريخ، كوحدة متماسكة من معالم الهوية التي لا يمكن إلغاؤها مهما توالت الأيديولوجيات، مؤكدة أن الوطن الحقيقي ليس مجرد خطاب سياسي أو أيديولوجي، لكنه تجربة وجودية متجذرة في حياة الناس.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
-
نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي
...
-
مجرد ذكرى يمحمد
-
هد وانا اهد
-
يمحمد
-
منقذي من الظلال
-
في ذكرى الغزو ...رواية جديدة لا يعرفها احد
-
في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو
-
التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
-
دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى
-
الدنيا رطب عالي
-
الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي
...
-
الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري
...
-
الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما
...
-
النقد الانطباعي: تأملات في التجربة الجمالية والوعي الذاتي
-
تأثير النقد الغربي في الأدب العربي: من الترجمة إلى التمثّل
-
من يكتب التاريخ؟ في أنماط السرد، ومحو الآخر، ومقاومة النسيان
-
زهرة الخشخاش لخيري شلبي/ حكاية البحث عن الوجود والاغتراب الا
...
-
موت إلهٍ من بابل
-
مجرد ذكرى
المزيد.....
-
-لحظات مرعبة- لطفل يسير على مسار قطار هيرشي بارك الأحادي.. ش
...
-
مئات القتلى في المناطق الشرقية لأفغانستان بعد زلزال بقوة 6 د
...
-
حرب غزة في يومها الـ696: تصعيد في البحر الأحمر وانقسام في ال
...
-
بيان صادر عن اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الشعبية الأردني
...
-
بوتين يبرر الغزو الروسي لأوكرانيا بـ-انقلاب- في كييف وسعي غر
...
-
بوق -الشوفار- آلة دينية وأداة حشد في حروب إسرائيل
-
-تيك توك- توقف ميزة البث المباشر في إندونيسيا عقب تصاعد المظ
...
-
3 خطوات تركية استعدادا لمواجهة محتملة مع إسرائيل
-
نيويورك تايمز تشجب بقوة منع إسرائيل وسائل الإعلام من دخول غز
...
-
17 شهيدا بغزة والاحتلال يقصف مجددا مستشفى شهداء الأقصى
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|