أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - رافاييل: الجمال والانسجام














المزيد.....

رافاييل: الجمال والانسجام


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 16:11
المحور: الادب والفن
    


حين نتحدث عن النهضة الفنية الإيطالية، تتصدر ثلاثة أسماء المشهد كأيقونات تشكيلية وفكرية: ليوناردو دافنشي، مايكل أنجلو، ورافاييل. وإذا كان الأول يمثل عبقرية الاستبصار العلمي والفني، والثاني تجسيدًا لمأساة الجسد والعاطفة، فإن رافاييل (1483 – 1520) يشكل الوجه الثالث للعملة: الانسجام، الاعتدال، والجمال بوصفه مبدأ كونيًا.
كان مؤسسًا لنسق جمالي حاول أن يصالح بين العقل والروح، بين قداسة اللاهوت ونزعة الإنسان نحو الحرية، وبين جماليات الكلاسيك القديم وقلق النهضة الحديثة، مقدمًا نموذجًا للفن كفلسفة مرئية.

ولد رافاييل في أوربينو، إحدى المراكز الثقافية الإيطالية المزدهرة في أواخر القرن الخامس عشر، ونشأ في بيئة مثالية للفنان الشامل. كانت قصور أوربينو عامرة بالمخطوطات الفلسفية، والرسومات الكلاسيكية القديمة، وكان البلاط محاطًا بمثقفين وفلاسفة، ما جعل الفن متشابكًا مع المعرفة الإنسانية. هذا التكوين التاريخي جعله وريثًا للحس الإنساني الجديد الذي بشرت به النهضة، حيث أصبح الإنسان مركز الكون لا مجرد تابع لله.

في المقابل، كانت روما عاصمة البابوية وقلب السلطة الروحية والسياسية في أوروبا، تعيش مرحلة إعادة بناء هيبتها الجمالية بعد أزمات الانشقاق والإصلاح. هنا لعب رافاييل دورًا محوريًا: فقدمت لوحاته، ولا سيما الجدرانيات في غرف الفاتيكان، إعادة تأسيس بصرية لهيبة الكنيسة، تجمع بين التأمل العقلي والروحانية المطلقة.

بينما غرق مايكل أنجلو في مأساة الجسد والصراع الميتافيزيقي، وذهب ليوناردو في فضول علمي متشعب، قدّم رافاييل معادلة جديدة للجمال: انسجام داخلي، توازن بين الشكل والمضمون، بين الرؤية والبناء، بين الفرد والجماعة.
تتجلى هذه الفلسفة في لوحة المدرسة الأثينية، حيث جمع فلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو وسقراط في فضاء متناغم، وكأن الفلسفة واللاهوت والموسيقى والرياضيات كلها أجزاء من سيمفونية واحدة. ليست دقة التمثيل التاريخي هي الأهم، أنما تجسيد العقل الكوني الذي يرى في المعرفة أداة لإعادة ترتيب الكون بصريًا وروحيًا.

أرسى رافاييل أسلوبًا جديدًا في تصوير القديسين والعذراء والمسيح، مختلفًا عن النزعة القوطية الغيبية السابقة. العذراء في لوحاته، مثل مادونا سيستينا، تظهر ككائن إنساني مشبع بالنعومة والرقة، يحمل ملامح واقعية لكنها مضمخة بالقداسة. بهذا الأسلوب، ساهم في تحويل المقدس إلى تجربة جمالية معاشة، حيث يصبح الحضور الإنساني داخل اللوحة جزءًا من الشعور بالقداسة.

كان رافاييل سيد التناظر والتوازن. في تكويناته، توزع الكتل البشرية ضمن الفضاء بانسيابية تجعل العين تسافر بسلاسة من نقطة إلى أخرى. استخدامه للألوان يتسم بالنعومة والحيوية، بعيدًا عن العنف الدرامي لمايكل أنجلو، ومختلفًا عن التردد التجريبي لليوناردو. ضرباته الفرشاة دقيقة، خطوطه واضحة، لكنه قادر على خلق إحساس بالعمق والحركة ضمن الانسجام الكلي.
مع ذلك، يرى بعض النقاد أن هذا التفوق الجمالي كان حدًا في ذاته. فلوحاته، برغم كمالها الشكلي، قد تفتقر أحيانًا إلى الاضطراب الوجودي، فالانسجام عنده أقرب إلى أيديولوجيا الاعتدال منه إلى استكشاف القلق البشري، كما نراه في أعمال مايكل أنجلو.

لا يمكن فصل فن رافاييل عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة المنتشرة في عصره، والتي اعتبرت الجمال انعكاسًا للحقيقة المطلقة، والفن وسيلة للوصول إلى التجلي الروحي. المدرسة الأثينية إعلان بصري عن المصالحة بين المسيحية والفكر الكلاسيكي، بين الكنيسة والعقل الفلسفي، بين المقدس والعقلاني، مؤسسًا لغة بصرية جديدة للفكر والثقافة.

رغم وفاته المبكرة عن عمر 37 عامًا، ترك رافاييل إرثًا مدويًا. أصبح مرجعًا للكلاسيكية الأوروبية، ورمزًا للجمال المتوازن الذي سعت إليه مدارس الباروك والكلاسيكية الجديدة. اسمه مرتبط بفكرة الكمال الفني: الجمال نظام أخلاقي وفلسفي يحاول تنظيم الفوضى البشرية في هيئة انسجام بصري.

رافاييل فيلسوف الجمال، شاعر الانسجام، وهاجس الكمال الذي يحاول، ولو لفترة قصيرة، أن يلمّ شتات العالم في صورة واحدة. وفي لوحاته نجد الحلم النهضوي الأوروبي: الإنسان ككائن مدرك، الجمال كقانون كوني، والفن كوسيلة لترتيب العالم وإضفاء معنى عليه.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
- الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
- حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س ...
- الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
- في نقد الإيديولوجية النسوية
- الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / ر ...
- الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
- نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي ...
- مجرد ذكرى يمحمد
- هد وانا اهد
- يمحمد
- منقذي من الظلال
- في ذكرى الغزو ...رواية جديدة لا يعرفها احد
- في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو
- التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
- دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى
- الدنيا رطب عالي
- الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي ...
- الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري ...
- الشرق شرق والغرب غرب-: تحليل لخطاب الثنائية في ضوء النقد ما ...


المزيد.....




- -أعرف مدى دناءة دونالد ترامب-.. جيفري إبستين في رسالة عن قضي ...
- قمر كوردستان
- الشارقة... عاصمة الكتاب وروح اللغة
- الفنان المغترب سعدي يونس : مثلت مع مائدة نزهت، وقدمت مسرحية ...
- لبنان.. تقليد الفنان صلاح تيزاني -أبو سليم- وسام الاستحقاق
- فيلم -ذا رَننغ مان-.. نبوءة ستيفن كينغ تتحوّل إلى واقع سينما ...
- -العطر والدولة- لكمال القصير يبحث في تناقضات وتحولات الوعي ا ...
- مؤسسة منتدى أصيلة تفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون ...
- فيلم ”نسور الجمهورية” في مهرجان ستوكهولم السينمائي
- هل انتهى عصر الألعاب حقًا؟.. الشاشات هي العدو في الإعلان الت ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - رافاييل: الجمال والانسجام