|
التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 16:26
المحور:
الادب والفن
(1) يمكن لي أن اشبه عقد التسعينات بإنه حفرة في الزمن، هاوية سحيقة انزلقت إليها حياة بأكملها ولم تخرج منها كما دخلت. ثقب أسود ابتلع الضوء، فلم يعد الناس يرون ما حولهم إلا ظلالًا باهتة تتشابه، وليلًا طويلًا لا يعرف الصباح. عقدٌ انطفأت فيه المدن كما تنطفئ المصابيح في بيت قديم نسيه أهله، فغمره الغبار والرطوبة ، حيث كانت البيوت مظلمة، لكن العتمة لم تكن في الجدران وحدها، لكن في الأرواح أيضًا. صار الشارع مرآةً متشققة، ينعكس فيها وجه غريب للعراق: وجوه شاحبة كأنها بلا ملامح، خطوات متعبة لا تعرف إلى أين تذهب، وحديث هامس يدور دائمًا حول سؤال واحد: كيف يُعاش الغد؟ كل شيء كان يتحلل ببطء، ببطء موجع كذبول شجرة لا تجد ماءً. صار الخبز رمزًا للجوع، يُقتنص ببطاقة صغيرة كأنها صك غفران منقوص. اللغة فقدت نضارتها، صارت مثقلةً بالشكوى، جمل قصيرة متقطعة تُقال على استحياء، كأن الكلام نفسه صار ترفًا لا يليق بزمن الجوع. الذاكرة بدأت تتشقق، تنسى ما يجب أن تتذكره وتتشبث بما يجب أن يُنسى، فتورّط جيلًا كاملًا في حمل أعباء لم يكن مستعدًا لها. حتى الأحلام الصغيرة التي كان الأطفال يخبئونها تحت وسائدهم تآكلت: لعبة خشبية تتحول إلى سيارة خيالية، دمية مصنوعة من قماش قديم تتحول إلى صديقة صامتة، والسماء التي كانوا يكتبون فيها أمانيهم بالنجوم صارت بعيدة، مطفأة مثلهم. كان الزمن يتآكل كان ، يشبه الأمس، والأمس يكرر نفسه في الغد. ولم يكن أحد يعرف أين يبدأ هذا النفق، ولا أين ينتهي. كأن الناس جميعًا وُضعوا في ساعة رملية، لكن الرمل كان يتسرب من بين أصابعهم، يسقط في هاوية لا قاع لها. هكذا كانت التسعينات: جدارًا زمنيًا لا يمكن تجاوزه بسهولة، عقدًا يُعاش كما يُعاش المرض الطويل؛ يقضم الجسد قليلًا قليلًا، حتى يترك وراءه روحًا ناحلة، وذاكرةً مليئة بندوب لا تزول. لا أريد أن أعود كثيرًا إلى البدايات، ولا أن أحكي تفاصيلها الصغيرة التي تبدو الآن بعيدة كأنها من زمن آخر. لكن ما زال محفورًا في ذاكرتي ذلك اليوم الذي وجدت نفسي فيه قرب كازينو لبنان، برفقة بضعة شباب من أبناء الحي. كنا مفعمين بالغضب والحماسة، نقف هناك نحاصر علي حسن المجيد، كأننا نقاوم رمزًا كاملًا للسلطة لا مجرد شخص. لم يكن المكان يوحي بالبطولة بقدر ما كان يوحي بالرهبة: أصوات مكتومة، عيون تترقب، وشعور دائم بأن الرصاصة قد تسبق أي خطوة. وبينما كنا في تلك اللحظة المتوترة، باغتتنا رصاصة من بعيد، رصاصة قناص لم نر وجهه أبدًا، لكنها اختارت هدفها بدقة قاسية. سقط صديقي محمد أمامي، لحظة خاطفة تحولت إلى ذاكرة أبدية. لا أستطيع أن أنسى كيف تهاوى جسده، وكيف التصق صوته الأخير بالصمت الثقيل الذي خيّم علينا. كان استشهاده صفعة لم نفهمها تمامًا حينها، وكأنهم أرادوا أن ينتقموا منا جميعًا عبره، أن يجعلوا دم محمد رسالة بأن وجودنا ذاته كان تحديًا يجب أن يُعاقب. منذ ذلك اليوم، صار المكان بالنسبة لي أكثر من جغرافيا. صار شاهدًا على دم صديقي، وعلى هشاشة أجسادنا أمام سلطة لا ترى في الشباب سوى خصم ينبغي إسكاته بالرصاص. هكذا كانت البداية ، فكيف ستكون النهايات. --- (2) كان الجوع سيدًا متوَّجًا، لا يحتاج إلى جنود يرفعون رايته، ولا إلى سجون يُكدّس فيها ضحاياه. يدخل البيوت بلا استئذان، كأنه وريث طبيعي للزمن، يجلس في الصدور كما يجلس دخان الحرب الذي لا يختفي حتى بعد أن تنطفئ المدافع. كان الجوع ضيفًا ثقيلاً يعرف أنه باقٍ، وأن الكراسي جميعها مهيأة لجلوسه. فالحصار كان طقسًا يوميًا يتكرر بدقة كطقوس الصلاة. بطاقة صغيرة من ورق رديء تتحول إلى كتاب مقدس، يتعبد الناس به وهم يتنقلون من دكان إلى آخر، ينتظرون نصيبهم من الطحين والزيت والسكر. الوجوه متعبة، الأكتاف مثقلة، والهمسات بين الواقفين تتحول إلى اعترافات مريرة: عن مرض طفل بلا دواء، عن راتب يتبخر قبل أن يصل، عن رجل فقد وظيفته وكرامته معًا. كان الجوع في العيون والكلمات والأحلام. الطفل لم يعد يحلم بالحلوى، أنما برغيف طازج برائحة خبز حقيقي. والأم لم تعد تفكر في ثياب جديدة لأبنائها، لكن في كيفية ترقيع الثياب القديمة لتبدو كأنها ما زالت صالحة. الأب صار يجلس صامتًا، ينظر إلى سقف البيت وكأنه يقرأ عليه آيات القدر، عاجزًا عن تغيير شيء. حتى الزمن صار يتقن طقوس الجوع. النهار يُستهلك في الطوابير، والليل يُستهلك في الحساب: كم بقي من الرز؟ كم يكفي الزيت؟ كم مرة يمكن تخفيف العدس بالماء ليصبح حساءً؟ والانتظار... ذلك الانتظار الذي لا ينتهي، انتظار الفرج، انتظار الكهرباء، انتظار الحصة التموينية، انتظار الغد الذي لا يأتي أبدًا. الجوع كان سيدًا متوجًا بالفعل، لكن عرشه كان من عظام هشة، وأحلام مسحوقة، وقلوب معلقة بخيط رفيع اسمه الصبر. في أحد الأيام، وكالعادة بعد انقطاع الكهرباء الطويل الذي كان يربك تفاصيل حياتنا اليومية في التسعينيات، قررنا أن ننتهز الفرصة لتنظيف المجمدة. كان الثلج المتراكم فيها طبقة فوق طبقة، حتى بدا كأنه جدار أبيض منسيّ. وبعد جهد في إزالة الجليد الذي التصق بجدرانها، عثرنا في الزاوية على سمكة صغيرة من نوع الزبيدي، وقد نسيها الجميع هناك منذ زمن. الزبيدي – كما يعرف أهل البصرة – لا يُطهى مرقةً، فهو سمك يُقلى ليحافظ على نكهته الفاخرة، لكننا لم نملك رفاهية الاختيار ، فلم كنا نملك الزيت كانت الضرورة أقوى من الذوق، فحوّلنا تلك السمكة اليتيمة إلى قدر من المرق، آمِلين أن تكفي الجميع ولو بالوهم ، وهكذا كانت وجبة مازلت اتذكرها للأن . كان الصباح يبدء على قلقٍ مألوف: كيف سندبر طعام اليوم؟ من أين نأتي بمواد للفطور والغداء والعشاء؟ كنا نؤجل وجبة الغداء عمدًا إلى وقت العصر، حتى نغني أنفسنا عن العشاء، ونسدّ جوع الليل بكأس شاي أو قطعة خبز يابس. ذلك كان نظام الحياة في سنوات الحصار: التكيف مع النقص، وصناعة بدائل واهية تشبه الأمل. هل تتذكرون مرقة العدس الصفراء التي صارت وجبة شبه يومية؟ تلك التي لا يُملأ بها البطن بقدر ما يُسكَت بها صوته. كانت محنة الغداء في التسعينيات امتحانًا صعبًا لا يعي مرارته إلا من عاشها، ممن عرفوا معنى أن تقف أمام المائدة وتدرك أن الطعام مجرد رمز للبقاء، لا للمتعة أو الشبع ، أن وجد. وذات صباح، وبينما كنت أتجول في سوق العشار المزدحم رغم خوائه الحقيقي، التقيت بصديقي ماهر. كان وجهه شاحبًا، يميل إلى الصفرة، كأنه انعكاس مباشر للجوع المزمن. سألته عن حاله، عن سبب هذا الاصفرار الذي بدا كأنه لون العصر كله. ابتسم بمرارة وقال: "أتمنى فقط أن أشبع." لم أجد جوابًا أقدمه له، سوى الحقيقة التي لا مهرب منها: "كلنا كذلك." كانت تلك الجملة تلخص جيلاً بأكمله، عاش على حافة الجوع، وعلى فتات الذاكرة. بعد سقوط النظام، كان صديقي ماهر يعيش حياته ببساطتها المرهقة. لم يكن يمتلك من الدنيا إلا ضعف بصره وصبره. كان يخرج كل صباح متكئًا على يديه، يمد أصابعه ليتحسس الجدران التي تهديه الطريق إلى بيته، خطوة بخطوة، كأن الجدار عصاه البيضاء. وذات مساء، وهو عائد من سوق العشار، كان يحمل بين يديه ما تبقى من أقراص الفلافل التي أعدّتها أخته في البيت، يبيعها ليكسب قوت يومهم. لم يكن في الأمر ما يثير الريبة: شاب ضعيف البصر، كيس فلافل، وعودة متعبة إلى بيت صغير ينتظره فيه أملٌ هزيل. لكن البريطانيين الذين شاهدوه، لم يروا تلك الحقيقة البسيطة. رأوا في يديه الممدودتين نحو الجدار شبهة، وظنوا أنه يزرع عبوة ناسفة. لم يسألوه، لم يقتربوا ليتبينوا، لم يمنحوه فرصة أن يقول كلمة واحدة. الرصاص كان أسرع من أنفاسه. سقط ماهر هناك، في زاوية الطريق، جسده يطفئ أحلامًا صغيرة لم تُمنح فرصة أن تكبر. ضاع دمه كما يضيع البول في النهر، بلا أثر، بلا حساب. لم يسأل عنه أحد، لم يُكتب اسمه في قائمة شهداء، ولم يُرفع له نصب، ولم يُذكر في نشرة الأخبار. بقي خبر موته يتداول بين أصدقائه وأهله كهمس موجوع، كأن الرجل لم يكن سوى ظلّ عبر الشارع ثم اختفى. كانت تلك الحادثة تختصر زمنًا كاملًا: زمن يُقتل فيه الفقير لا لشيء سوى لأن طريقه صادف سوء فهم، ولأن جسده كان أضعف من أن يقنع الرصاص بأنه بريء. حسين بن دخيل أخبرني يومًا بحكاية أثارت في نفسي مزيجًا من الصدمة والسخرية المرة. قال لي إن نائب رئيس الجمهورية قد قذف ولي العهد الكويتي بنفاضة السيجار، لمجرد أن الأخير صرح بأنّه سيجعل سعر المرأة العراقية عشرة دنانير فقط. كان الخبر كافيًا ليجعلني أرتجف من عظمة الإهانة، ومن مدى الغطرسة التي يبرهن عليها السياسيون أحيانًا. ثم تابع حسين قائلاً إن عادل أبو العطور في سوق الجمهورية أخبره عن مأساة أخرى: بعض النساء يبيعن أنفسهن مقابل وجبة غداء، لحظة كسرٍ لا تُحتمل من الفقر والحرمان. في البداية لم أرغب في التحدث عن الموضوع، كنت أخشى حساسيته وشدة الواقع الذي يجرح إذا نطقنا به. لكن الحقيقة ظهرت أمامي بلا حاجة للكلمات. يومها شاهدت زوجة جارنا سمير وهي تضع المكياج الصارخ على وجهها، كأنها تحاول أن تظل امرأة في عالم يسعى لمحو كرامتها. ومع ذلك، كانت تجلب لأولادها الدجاج، وبضعة غرامات من اللحم، كأنها توزّع الحياة على فتات قليل. عندها صدّقت ما قاله عادل، وسقطت كل حواجز الإنكار. ثم رأيت زوجة عادل نفسها، ضاحكة لبائع اللحم، متبادلة معه المزاح وكأنها تستعيد لحظة بشرية صغيرة وسط معركة البقاء اليومية. في تلك اللحظات، لم يعد هناك مجال للشك أو للإنكار، فالحقيقة كانت واضحة أمامي: بعض النساء يبيعن أنفسهن، ليس لشهوة، بل للبقاء، ليس للترف، لكن للفتات. فماذا يتبقى إذن سوى أن نرى الواقع كما هو، مرة، مرّة جدًا؟
--- (3) الزمن في التسعينات كان يلتف حول نفسه كأفعى تأكل ذيلها، يدور ويدور حتى يفقد الناس الإحساس بالجهة والاتجاه. كان العام يشبه العام، واليوم نسخة عن الأمس، والساعة رملية لا يُرى فيها الرمل وهو يتساقط، لأن لحظة السقوط نفسها كانت متكررة بلا نهاية. كأن الزمن توقّف عن كونه نهرًا جاريًا، وتحول إلى مستنقع راكد، ماءه عكر، سطحه ساكن، لكنه يخفي تحته موتًا بطيئًا. الطفولة لم تُعش كطفولة، لكن ككهولة مبكرة. الأطفال حملوا على أكتافهم ما لم يكن لهم أن يحملوه: هموم الخبز، وحسابات الزيت والسكر، ونظرات الآباء الصامتة التي كانت تطلب المعذرة بلا كلام. لذلك كبروا بسرعة، شابت أرواحهم وهم لم يبلغوا العشرين، وصاروا يشبهون رجالًا عجّلت بهم الحياة قبل أوانهم. أما الكهولة فتحوّلت إلى صمت عميق. كبار السن جلسوا على الأرصفة أو في المقاهي الخالية، يراقبون دخان الشاي يتصاعد كأنه الزمن الوحيد الذي ما زال يتحرك ، أتذكر أنني التقيت يومًا بجارنا العائد تواً من الأسر الإيراني. كان جسده نحيلاً إلى حد يثير الذهول، كأنه ظلّ إنسان أكثر منه إنسانًا من لحم ودم. ملامحه غائرة، عيناه غائرتان في محجريهما، وكتفاه منحنية كأنهما يحملان ثقل سنوات الأسر والجوع معًا. لم أتمالك نفسي، فبادرته بالسؤال: "لماذا أنت هزيل هكذا؟" كنت أتصور أن الإجابة ستأتي على شكل وصفٍ لمعاناة السجن أو التعذيب أو المرض، لكن ما سمعته كان أبسط وأقسى من ذلك بكثير. قال بصراحة جارحة، كمن يروي بديهية لا تحتاج إلى شرح: "هي بضعة أرغفة… أوزعها بيني وبين زوجتي وأولادي. فماذا تريدني؟" كلماته سقطت عليّ كالصاعقة. كان صوته استسلام مرّ لحقيقة يومية يعيشها. لحظةً شعرت أن كل صور البطولات التي حاول الإعلام أن يرسمها للأسرى تتلاشى، وأن الواقع كان مجرد خبز يُقسم إلى فتات كي يطيل عمر الجياع يومًا بعد يوم. ذلك الجواب الموجز كان أصدق مرثية لجيل كامل أكلته الحروب والحصار. لم يعد فيهم من يروي حكاية كاملة، فكل الحكايات انقطعت عند جدار واحد: الحصار، الحرب، الانتظار. الصمت كان ملجأهم الأخير، كأن الكلام نفسه صار عبئًا أثقل من أن يُحمل. حتى الضحكة، تلك الهبة البسيطة التي تميّز الإنسان عن الحجر، وُلدت ميتة. كانت ضحكات الناس أشبه باعتذارات مرتبكة للحياة، كأنهم يقولون: نحن نضحك فقط كي لا نصرخ. ضحكة ممزوجة بارتعاش، قصيرة، بلا عمق، مثل ومضة برق في سماءٍ لم تعرف المطر منذ سنوات. هكذا كان الزمن في التسعينات: دورانًا فارغًا، حلقة مفرغة تُنهك الروح وتُشيخ الجسد، حتى صار العمر يُستهلك بلا معنى، والسنوات تُسجَّل في الندوب. وبصراحة، لا أستطيع أن أسترجع بوضوح كيف دخلت إلى الجامعة، ولا حتى كيف عبرت سنواتها حتى تخرجت. كأن تلك المرحلة كانت ضبابًا كثيفًا عبرته بغير وعي، أو نفقًا طويلًا لم أكن أملك فيه خيار التوقف أو الالتفات. كانت الحياة في التسعينيات تسير بنا على عجل، تدفعنا بتيارها الثقيل، حتى صارت أيام الجامعة مجرد محطات باهتة، غايتها أن نمضي لا أكثر. وحين جاء يوم التخرج، كان من المفترض أن يكون يومًا استثنائيًا، يومًا يخلّد بالصور كما فعل زملائي. لكنني وجدت نفسي ربما الوحيد – أو هكذا شعرت – الذي لم يملك صورة جماعية لذلك اليوم. أقول "ربما الوحيد" لأنني أدرك في داخلي أن هناك آخرين مثلي، كثيرين بلا شك، لكنهم صمتوا كما صمتُ أنا، وانسحبوا من المشهد قبل أن تلتقطه عدسة المصور. السبب كان بسيطًا وصادمًا في آن واحد: لم يكن في جيبي ما يكفي من المال لدفع ثمن تلك الصورة. مجرد صورة تذكارية، لكنها بالنسبة لي كانت رفاهية لا أستطيع أن أسمح لنفسي بها. ومنذ ذلك الحين، ظل غياب الصورة علامة صامتة، كأنها تلخص تلك السنوات بأكملها: سنوات بلا وثيقة، بلا ذكرى معلّقة على جدار، بلا ابتسامة مجمّدة في إطار. بقي التخرج حدثًا يروى بالكلمات فقط، من دون دليل مادي، وكأن الذاكرة وحدها هي الشاهد على أنني كنت هناك، ثم مضيت. كنت أقضي بعض الوقت مع بضعة زملاء من الناصرية، أولئك الذين استأجروا شقة صغيرة قرب الكواز. كانت الشقة ملاذًا متواضعًا، لكنها بالنسبة لنا أشبه بمكان خارج الزمن، نلجأ إليه كلما أردنا أن ننسى ضيق الدنيا. هناك كنا نسهر حتى الفجر، نغني بأصوات مبحوحة، نضحك حتى التعب، نشرب ما تيسر لنا، ونستذكر كل ما مرّ بنا من أيام مضت. وكانت المفارقة أن شراء قنينة خمر واحدة كان حدثًا مدهشًا لشباب مفلسين مثلنا. لم يكن الأمر سهلًا، كنا ندبر المبلغ بطرق شتى: أحدنا يقتصد من مصروفه اليومي، آخر يبيع شيئًا صغيرًا من حاجاته، وثالث يستدين ويؤجل السداد إلى أجل غير مسمى. وحين تكتمل الدراهم القليلة، كنا نشعر أننا انتصرنا على الفقر ولو لساعات. والطريف في الأمر أن أولئك الشباب الذين جلسنا معًا على الأرض الإسمنتية للشقة، نتقاسم الخبز الرخيص ونشرب من كأس واحدة، صاروا فيما بعد وجوهًا لامعة في المجتمع. واحد منهم صار قاضيًا، آخر مدعيًا عامًا، وثالثًا مذيعًا شهيرًا يطل من شاشة التلفزيون، ورابعًا شاعرًا تُرفع له القبعات ويُشار إليه بالبنان. أما الأسماء، فأنا أتحاشى ذكرها، ليس فقط حفاظًا على خصوصيتهم، لكن لأن كل واحد منهم صار عالمًا قائمًا بذاته. ومن بيننا أيضًا من صار سياسيًا كبيرًا، لكنه ظل يشبهنا في الجوهر: سياسيًا شريفًا. لم يُتح له الدخول إلى الانتخابات، لا لأنه يفتقر إلى الكفاءة أو الشعبية، لكن لأنه لم ينخرط في التحالفات الحزبية ولم يمد يده إلى نهب العراق كما فعل غيره. تلك الشقة قرب الكواز كانت مختبرًا صغيرًا للحياة: جمع بين الفقر والمرح، بين الحلم والخذلان، بين نكهة الخمر المرّ وأحلامنا الحلوة التي كنا نطلقها في الهواء كأغانٍ لا ندري إن كانت ستجد صدى.
--- (4) السلطة، مثل ظلٍّ أسود، غطّت كل شيء. كانت تتسرب إلى تفاصيل الحياة كما يتسرب الغبار إلى شقوق بيت مهجور. لم يكن للناس مكان يهربون إليه من هذا الظل، لأنه كان ممتدًا من جدار المدرسة حتى فراش النوم، ومن دفتر الدوام حتى نشرة الأخبار التي تتكرر كأغنية بلا لحن. كل شيء ممهور بختم السلطة: الكلمات، الصور، حتى الصمت نفسه كان مراقبًا. وحين ضاقت بها الأرض وبدأت ملامح العجز تتسلل إلى وجوه الناس، استعارت قناعًا جديدًا، قناعًا من الدين. المآذن أخذت تصدح بأصوات مختلفة، تذكّر الناس بالآخرة وهم عالقون في جحيم الدنيا. لكن الأرواح كانت تدرك أن الصدى لا يُطعم جائعًا، ولا يُخفض حرارة طفل محموم، ولا يملأ صحونًا فارغة على موائد يابسة. المقدس صار جزءًا من اليومي، والسياسة تماهت مع الصلاة، فاختلط الحزن بالدعاء، والرجاء بالشعارات، حتى لم يعد الناس يفرّقون بين المسجد والدائرة الحكومية، بين خطبة الجمعة ونشرة الأخبار. لكن النتيجة كانت فراغًا أكبر، فراغًا يبتلع كل محاولة للنجاة. الناس تردّد آيات محفوظة، وتهز رؤوسها أمام خطب محفوظة، وتعود إلى بيوتها لتواجه الحقيقة: جوع لم ينقص، خوف لم يزُل، وأفق مسدود. كانت السلطة تعرف كيف تكسو نفسها بأردية مختلفة، لكنها لم تعرف كيف تمنح الناس حياة، ولهذا ظل الفراغ يكبر، فراغًا لا يُملأ بالوعود، ولا بالدعاء، ولا حتى بالصبر. السلطة كانت ظلًّا، لكنها لم تكن ظلًّا لشجرة، انما ظلًّا لفراغ، والفراغ حين يتمدد لا يترك وراءه سوى مزيد من العتمة. كانت أمي تحذرني دائمًا كلما جلست قرب الراديو أستمع إلى إذاعات المعارضة. كانت تقول بصوت خافت، وكأن الجدران نفسها قد تتجسس علينا: "خفف الصوت يا ولدي، ربما هناك بعثي يتسور الجدار ويسمع." كنت أبتسم أحيانًا من مبالغتها، لكن في داخلي كنت أدرك أن الخوف كان حقيقيًا، وأن مجرد نغمة إذاعة معارضة قد تجرّ علينا كارثة. وذات ليلة، كنت أسهر في بيت صديقي أحمد كاظم سنسول. جلسنا طويلًا، شربنا حتى دوختنا النشوة، وفجأة أخرج أحمد شريط كاسيت قديم ووضعه في المسجّل. انطلقت منه أنغام حزينة، وصوت كريم منصور يردد موالًا مزلزلًا: "يمحمد...". صعقت حينها. شعرت أن الأغنية خرجت من قلب الجرح العراقي نفسه. قلت لأحمد مذهولًا: "ما هذا؟ من أين جئت به؟" لكن السكر غطى على تفاصيل الجواب. مرت سنتان كاملتان قبل أن يكتمل المشهد في ذاكرتي. كنت حينها في بيت صديقي رياض كريم، في جلسة خاصة بحي الضباط. وكان الحاضر الأبرز تلك الليلة الفنان كريم منصور نفسه. جلست قريبًا منه، وتجمعت في رأسي كل الأسئلة التي تركها ذلك الموال عالقًا في داخلي منذ ليلة أحمد سنسول. تجرأت وسألته مباشرة عن "يمحمد". التفت إليّ بنظرة سريعة، وقال ببرود: "يبدو أن صاحبكم قد ثمل." اعتقدت حينها أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن بعد دقائق حمل كريم منصور عوده، وغرق في أوتاره. وفجأة، بدأ يردد بنفسه ذلك الموال ذاته: "يمحمد...". ارتجفت وأنا أسمع صوته، كأن الزمن عاد بي سنتين إلى الوراء. وما لم يكن يدريه، أنني كنت قد رتبت مع صديقي وسميي رياض كريم أن نسجّل تلك اللحظة خلسة. وبالفعل، ما زلت أحتفظ بذلك التسجيل النادر حتى اليوم، لكنني أقسمت ألا يسمعه أحد إلا شاعر تلك القصيدة، صاحب الكلمات التي فجرت هذا الموال. بعد سنوات، كنت في بغداد، أحمل معي بعض الذكريات والكاسيتات القديمة. تحرشت يومها بحسن بريسم، ذلك الفنان الذي كان صوته يصرخ بوجع لا ينتهي، ويقول في أغانيه: "الدنيا من تحارب رجل تنفيه". كنت أحتفظ بكاسيتاته كما يحتفظ المرء بمرآة صغيرة تعكس صدى حياته، وأحيانًا كنت أستمع إليها لأتذكر صرخات الناس ووجعهم الذي يشبه وجعي. في لحظة تهوّر، اتصلت به وأخبرته بأن لدي نصوصًا شعرية تصلح للغناء. لم يكن هذا صحيحًا بالكامل، فقد كنت قد كتبت بضعة نصوص غنائية لمغنٍ ريفي من البصرة، ظهر مرة واحدة في برنامج ريفي يُذاع ظهيرة الجمعة، وكنت أظن حينها أن مجرد كتابة النصوص تمنحني لقب شاعر غنائي، بالرغم من أن هذا المغني غنى موالًا وأغنية ريفية وتجاهل نصوصي تمامًا. ومع كل ذلك، ذهبت إلى مكتب حسن بريسم، مُصمّمًا على أن أقدم نفسي ككاتب نصوص غنائية. استقبلني بابتسامة هادئة ودماثة خلق لافتة، جلس معي، استمع إلى نصوصي، وضحك بخفة، ثم قال بصراحة: "هذه النصوص لا يمكن أن تُغنى." خرجت من مكتبه وأنا أشعر بخيبة طفيفة، لكنني لم أغادر بغداد محبطًا بالكامل. شعرت بسعادة عميقة لأني التقيت بأبو مريم، ذلك الفنان الذي ربطت بين صوته ووجع الكلمات. كانت التجربة بالنسبة لي درسًا حقيقيًا: الشعر والغناء عالمان مختلفان، لكن اللقاء مع صوته، ولو للحظات، جعل كل محاولاتي السابقة تبدو ذات معنى، ولو على مستوى الذاكرة فقط.
--- (5) ومع ذلك، كان ثمة مقاومة خفية، مقاومة تختبئ في الكلمات والأنغام والظلال. قصيدة تُقال في عتمة غرفة ضيقة، يهمس بها شاعر إلى صديق واحد، لكنها تحمل في طياتها ما يكفي لإشعال نار في الصدور. مسرحية مرتجلة على خشبة بالكاد مضاءة، تُضحك المقهورين ساعة واحدة، لكنها ساعة تكفي لينسون فيها ثِقل الواقع الذي يطحنهم كل يوم. وأغنية حزينة، تعبر نافذة صغيرة، تخرج من مذياع قديم بأصوات متقطعة، لكنها تذكّر الناس أنهم ما زالوا أحياء، وأن النبض لم ينقطع بعد. الفن في تلك الحقبة كان شريانًا دقيقًا يتدفق وسط العتمة، يمنع الروح من الاختناق الكامل ، كان كأكسجين نادر يتسرب من ثقب صغير في جدار محكم الإغلاق، لا يكفي للركض ولا للحلم البعيد، لكنه يكفي لالتقاط أنفاس إضافية، تكفي للاستمرار يومًا آخر. حتى أكثر القصائد بساطة كانت تُقرأ وكأنها وثيقة سرية، وأبسط الألحان كانت تُحفظ وكأنها تعويذة ضد الموت. الفن صار ملاذًا، وكأنه آخر أرض لم تطأها أقدام الحصار، وأعمق كهف يلوذ به القلب كي لا يتحول إلى حجر. كانت المقاومة خفية، لكنها حقيقية، تذكّر الناس أن السلطة تستطيع أن تحاصر الجسد، والجوع يستطيع أن ينهش البطن، والزمن يستطيع أن يشيّخ الوجوه، لكن ثمة مكانًا صغيرًا، دقيقًا، لا تصل إليه يد أحد: مكان اسمه الروح. بعد حادثة حصار كازينو لبنان وما جرى لصديقي محمد – حين وجدت رأسه مشطورًا نصفين برصاصة قناص – بقيت أعيش في صمت ثقيل، أحاول أن أجد عزاءً في أي شيء يمكن أن يخفف وطأة الفقد. وفي تلك الفترة، ظهرت أغنية كاظم الساهر "لا تحتج". للمرة الأولى سمعتها من إذاعة للمعارضة، وكان وقعها عليّ أشبه بصرخة مكتومة، اعتقدت أنها موجّهة ضد النظام نفسه. صدّقتها بتلقائية الجائع للمعنى، ورأيت فيها نوعًا من الاحتجاج المغنّى. ذهبت إلى صديقي ضياء وأخبرته بما سمعت، ظنًا مني أنني اكتشفت شيئًا كبيرًا. ابتسم وقال إنه يعرف الأغنية، بل وسمعها من التلفزيون الرسمي. صدمتني الجملة، فكيف تبث المعارضة ما يبثه النظام؟ لكنني تمسكت بفهمي الأول، وواصلت سماع الأغنية بوصفها تعبيرًا عن غضبنا المكبوت. لم أكن وحدي في ذلك، فقد تبنّت إذاعات المعارضة بثها باستمرار، وكأنها صارت رمزًا مشتركًا بيننا. بعدها بوقت قصير، ظهرت أغنية هيثم يوسف :"ياناس ارحموا بحالي"، وتلتها موجة من الأغاني التي بدت وكأنها تُترجم صرخاتنا الجائعة: أغنية باسل العزيز "يمتى الفرج"، وأغنية قاسم السلطان "الماعنده منين يجيب" تلك التي كتب كلماتها طالب السوداني، المشاغب الدائم، المتمرد بالكلمات في زمن لم يكن يسمح بغير المدائح. كانت هذه الأغاني بمثابة متنفسٍ لنا، إذ قالت علنًا ما كنا نهمس به سرًا. وإذا عدت بالذاكرة أبعد قليلًا، فسأجد نفسي في أواخر التسعينات ببغداد. حضرت يومها مسرحية "ملك زمانه"، وكان بطلها حيدر منعثر. ربما نسيت كثيرًا من تفاصيلها، بعد سنوات طويلة، التقيت مصادفةً بالممثل حيدر منعثر ، كانت صورته في ذاكرتي مرتبطة بتلك الخشبة، بصوته الذي ملأ القاعة، وبالجرأة التي أحاطت العرض يومها. لم أتمالك نفسي، فاقتربت منه وطلبت منه أن يعيد عرض المسرحية. أردت أن أستعيد معها زمنًا مضى، أن أرى كيف يمكن للنص أن يتجدد في حاضرٍ مختلف. ابتسم حيدر أولًا، ثم ضحك بصوت عميق يحمل شيئًا من السخرية والمرارة في آن واحد. قال لي بهدوء: "الآن يا صديقي، لم يعد هناك ملك واحد لزمانه… الآن كل واحد صار ملك زمامه." كانت جملة قصيرة، لكنها أبلغ من أي خطاب. فهمت منها أن المسرح لم يعد كما كان، وأن البلاد تغيرت جذريًا: لم نعد أمام سلطة واحدة مطلقة كما في الماضي، لكننا أمام سلطات متكاثرة، كل منها يزعم أنه الملك الشرعي لزمانه. ضحكة حيدر لم تكن خفة دم عابرة، انما مرثية موجزة لوطن تفتت بين ملوك صغار، يتنازعون بقاياه. لكنني لم أنس قصيدة بعنوان "الطحين" – أظن أن كاتبها كريم شغيدل – تلك التي لخّصت جوعنا وحرماننا بكلمة واحدة. ولم أنس كذلك كتاب استذكارات لحسن النواب، وما كتبه عبد الستار ناصر على غلافه الخارجي. كانت تلك النصوص والمسرحيات والكتب شذرات ضوء في عتمة طويلة. ثم هناك ذلك المهرجان الشعري في البصرة، الذي ما زال حاضرًا في ذاكرتي بوضوح. كان عبد الرزاق صالح يقرأ قصيدته عن القياصرة أمام جموع من قادة العبث، متحديًا بجرأة نادرة. الرجل نفسه التقيته بعد سنوات في شارع الكويت. كان يبيع الليف والشخاط بعدما خرج من سجن أمن البصرة، إثر محاولة فاشلة للهروب من العراق. صرخ بي بمرارة: "طز بالبعثيين!". ارتبكت، وهربت منه خوفًا من العيون التي لا ترحم. لكن الأقدار أعادتني إليه. بعد سنوات، حملت له أولى محاولاتي الشعرية، قصيدة بعنوان "شعب يريد الخروج". قرأها بعين الناقد الصارم، ثم التفت إليّ وقال ببرود جارح: "أنت شاعر فاشل، لكن يمكن أن تكون." جملة واحدة علقت بي أكثر من أي مدح، لأنني أدركت أن الشعر ليس مجرد كلمات تُقال، لكنه معركة مع اللغة والزمن والجرأة. كنت في السجن حين وقع صاروخ أمريكي في محلة الفيصلية، حيث أقطن. كان صوت الانفجار يهز البصرة بأكملها، وكأن الأرض نفسها تحتج على ظلم العالم، وكأن السماء تصرخ باسم من فقد حياته في لحظة واحدة. حين خرجت بعد ذلك، وجدت الموقع الذي ضربه الصاروخ قد تحوّل إلى مهرجان شعري، شبيه بما يظنه البعض احتفالًا، لكنه في الحقيقة كان استخفافًا بالموت، وطمسًا لمعنى الحياة المهدورة. كان هناك شاعر بصري معروف، يقف على المنصة، يصدح بالمديح لصدام والسلطة. كلماته تتدفق كالرياح السامة، تزين السلطة بدل أن تُخاطب الألم الذي يعيشه الناس يوميًا. شعرت بغصة شديدة، ووجع أكبر من الدمار الذي خلفه الصاروخ، فهؤلاء يبيعون شعرهم كأنفسهم للسلطة، ويغنون في وجه الموت كما يغنون على المسرح. بعد سنوات طويلة، أخبرتني صديقة فلسطينية شاعرة بأن ذلك الشاعر كان يراسلها ليطلب منها صورة لها وهي في ملابس البحر. ابتسمت باستخفاف وقالت: "لم ألتفت إليه." قلت لها بصراحة: من يبيع نفسه وشعره للبعث، يصبح بلا شرف، بلا ذرة كرامة. لم يعد شعره ملكه، أنما ملك السلطة التي تشترى الكلمات بالذل، والذل بالكلمات. تلك الذكرى لم تكن مجرد موقف شخصي، كانت انعكاسًا لما يحدث حين يختلط الفن بالسلطة، وحين يُضحى بالشرف والكرامة مقابل مكانة مؤقتة في ضوء مزيف.
--- (6) التسعينات كانت تجربة وجودية كاملة، امتحانًا قاسيًا للإنسان أمام قدرٍ لا يرحم. لم تكن سنوات عادية تُعاش وتُنسى، لكنها كانت معملًا لصهر الأرواح، حيث توضع الحياة على النار الهادئة، فتذوب ببطء، وتتشكل من جديد على هيئة جرح. لقد خرج جيل كامل من رحمها، جيل حمل في عينيه صورة مزدوجة يصعب احتمالها: جوع الطفولة الذي نقش على وجوههم قسوة مبكرة، وحنين غامض إلى زمن مظلم لا يريدون أن يتذكروه، لكنهم لا يستطيعون أن ينسوه. ذلك الحنين كان أشبه بعلاقة مع سجن قديم: تكرهه لأنه قيدك، وتحنّ إليه لأنك عشت فيه أطول سنوات عمرك. التسعينات لم تترك الناس كما وجدتهم. حوّلت الطفولة إلى صبر، والشباب إلى قسوة، والكبار إلى صمتٍ مطبق. زرعت في النفوس شكًّا دائمًا بالزمن: هل يتقدم حقًا؟ أم أنه يكتفي بالدوران في حلقات مغلقة، يبدّل الوجوه والأحداث لكنه يكرر المأساة ذاتها؟ وحتى حين انتهى العقد، لم ينتهِ. بقي حاضرًا كظلٍ لا يفارق، يطلّ من تفاصيل صغيرة: من رائحة الخبز الرديء، من انقطاع الكهرباء المفاجئ، من طوابير الانتظار التي ما زالت تتكرر بأشكال جديدة. بقي ندبة على ذاكرة وطن، وجرحًا مفتوحًا في وعي أجيال. التسعينات استقرت في الداخل مثل حجر ثقيل في قاع الروح. تذكّر الناس دائمًا أن الزمن قد يكون حفرة، وقد يكون دائرة، وقد يكون سجنًا طويلًا نخرج منه ونحن نحمل في أعماقنا أثر قضبانه إلى الأبد.
--- (7) ذلك العقد لم يُمحِ العراق من خارطة الأرض، لكنه حاول أن يُمحِي معنى أن يكون للعراق غد. لم يحرق المدن فقط، ولم يسرق الخبز والدواء، لكنه حاول أن يطفئ الشعور بالأمل، أن يحجب الرغبة في الحياة، أن يجعل الناس يعتقدون أن المستقبل مجرد وهم. لكن العراق لم يمت. كان باقٍ في قلب طفلٍ يخبئ لعبة خشبية بين وسادته، في عين شابٍ يكتب شعراً في الظلام، في أمٍ تُخبئ ابتسامة لزوجها رغم جوع البيت، في شاعرٍ يهمس بكلمة تُضيء لمعة صغيرة في العتمة. العقد حاول أن يقطع الوصل بين الحاضر والمستقبل، لكنه لم ينجح. لأن الروح، وإن ضعفت، وإن أصابها اليأس، فإنها تعرف كيف تظل حية، كيف تنتظر، وكيف تبني جسورًا صغيرة من الضوء بين ما تبقى من الأمس وما يمكن أن يكون غدًا. ذلك العقد ترك ندوبًا، وترك ألمًا، وترك صمتًا طويلًا، لكنه لم يستطع أن يُمحِي العراق. لقد حاول فقط أن يقتل الحلم، لكن الحلم لم يمت، لأنه ما زال، رغم كل شيء، يسطع خافتًا في داخله، ينتظر اللحظة التي يُستعاد فيها، ليعود الغد حقيقة، لا مجرد أمل. -------------- ملاحظة : بعض هذه الكتابة وجدته بالصدفة في اوراقي القديمة وقد اعدت كتابته من جديد.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رافاييل: الجمال والانسجام
-
وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
-
الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
-
حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س
...
-
الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
-
في نقد الإيديولوجية النسوية
-
الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / ر
...
-
الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
-
نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي
...
-
مجرد ذكرى يمحمد
-
هد وانا اهد
-
يمحمد
-
منقذي من الظلال
-
في ذكرى الغزو ...رواية جديدة لا يعرفها احد
-
في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو
-
التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
-
دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى
-
الدنيا رطب عالي
-
الكتب التي لا ينبغي قراءتها: عن بروست، الذائقة، والنقد الذي
...
-
الترجمة كجسر للتواصل الثقافي عبر التاريخ: نحو فهم نظري وتاري
...
المزيد.....
-
معرض علي شمس الدين في بيروت.. الأمل يشتبك مع العنف في حوار ن
...
-
من مصر إلى كوت ديفوار.. رحلة شعب أبوري وأساطيرهم المذهلة
-
المؤرخ ناصر الرباط: المقريزي مؤرخ عمراني تفوق على أستاذه ابن
...
-
فنانون وشخصيات عامة يطالبون فرنسا وبلجيكا بتوفير حماية دبلوم
...
-
من عروض ايام بجاية السينمائية.. -بين أو بين-... حين يلتقي ال
...
-
إبراهيم قالن.. أكاديمي وفنان يقود الاستخبارات التركية
-
صناعة النفاق الثقافي في فكر ماركس وروسو
-
بين شبرا والمطار
-
العجيلي... الكاتب الذي جعل من الحياة كتاباً
-
في مهرجان سياسي لنجم سينمائي.. تدافع في الهند يخلف عشرات الض
...
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|