أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق















المزيد.....

القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 22:09
المحور: الادب والفن
    


وأنا أبدأ بتصفّح رواية "القنافذ في يومٍ ساخن"للروائي والمترجم العراقي فلاح رحيم وكعادتي لا أقرأ المقدمات أو ما يُسمّى بالعتبات النصيّة التقليدية، تلك التي تشبه ما ورد في مقدّمة رواية موبي ديك لهرمان ملفيل. غير أنّ فلاح رحيم أورد في مقدمته بعض النصوص عن القنفذ، لكنّ ما لفت انتباهي حقًا هو ما جاء عن الشعر وعلاقته بالقنفذ على لسان جاك دريدا.
ينقل فلاح رحيم :" كتب جاك ديريدا مقالاً عنوانه "ما طبيعة الشعر؟ ردّاً على هذا " السؤال الذي طرحته عليه مجلة إيطالية، وجاء في مقاله أن القصيدة تشبه قنفذاً قُذف به في عُرْضِ الطريق، وأن هذا القنفذ بحسب ديريدا يتكوّرُ فى كرة شائكة واخزة مكشوفاً للخطر وخطيراً، متحسّباً للطوارئ وعاجزاً عن التكيف معها (فهو إذ يخنس متوارياً في كرة وهو يحدس خطراً، إنما يزيد من احتمال
تعرضه لحادث على الطريق " .
----------------------------
يجوز لنا أن نفكّر بالطريقة التي يفكر بها دريدا.....
القنفذ، في ظاهره، حيوان صغير يوحي بالبساطة، لكنه في حقيقته يختزن معادلة وجودية بالغة التعقيد: معادلة التوتر بين الانكماش والانكشاف. فعندما يشعر بالخطر، لا يملك القنفذ سوى أن ينطوي على ذاته، أن يلتفّ على نفسه ليصير كرةً شائكة، وكأنّ حياته كلها تعتمد على هذه القدرة الدفاعية الوحيدة. غير أنّ المفارقة المأساوية تكمن في أنّ هذا التكور، الذي يُفترض أن يكون حلاً للحماية قد يتحول إلى فخ قاتل، إذ يظل مطروحاً في عرض الطريق، عاجزاً عن الحركة، قابلاً لأن يسحقه العابرون أو المركبات بلا مقاومة. هنا يظهر القنفذ ككائن يتأرجح في كل لحظة بين الحذر والمغامرة، بين طلب النجاة والانقياد نحو الهلاك، بين الرغبة في الانسحاب إلى الداخل والاضطرار إلى مواجهة الخارج القاسي.
يصبح القنفذ بحسب هذا المعنى استعارة مكثفة لوجود هشّ ومتناقض: حماية تتحول إلى انكشاف، وانكماش يضاعف احتمالات الفناء، وانسحاب لا يلغي ضرورة الدخول القسري في فضاء الخطر.
وهذا بالضبط ما رآه جاك دريدا في القصيدة. فالقصيدة، مثل القنفذ، كائن لغوي يعيش تناقضاً وجودياً دائماً. إنها تنكمش على نفسها، تنغلق في بنيتها الداخلية، تتدثر بمجازاتها، وتتحصن بأشواك الغموض والإبهام التي تحيطها من كل جانب. كأنها تتكوّر داخل لغتها لتحمي سرّها من التفسير السطحي أو الفضح المباشر. لكن هذا الانكماش ذاته يجعلها مطروحة في العراء مثل القنفذ على قارعة الطريق: مكشوفة للقرّاء، للتأويلات المتعسفة، للدهس الذي قد يمارسه خطاب نقدي أو سياسي أو أيديولوجي يريد ترويضها أو محوها.
القصيدة عند دريدا دائماً في خطر مزدوج: خطر أن تُفهم بطريقة قاسية أو سطحية، وخطر أن تُهمل أو تُمحى لأنها منغلقة على ذاتها أكثر مما ينبغي. وهذا ما يجعلها مكشوفة وخطيرة في آن واحد. مكشوفة لأنها مرمية على طريق العالم، وخطيرة لأنها قادرة، من داخل هشاشتها، على إرباك من يواجهها، على قطع المسار المألوف للغة، وعلى أن تُربك من يتجرأ على لمس أشواكها.
إنّها إذن قصيدة قنفذ ، بوجودها المعرّض دوماً للفناء، تذكّرنا بأن الشعر مأزقاً وجودياً، وأنه لا يعيش إلا في هذا التوتر الدائم بين الانطواء على الذات والانكشاف للعالم، بين الخطر كحقيقة والحماية كوهْم.

●الشعر حدث طارئ

القنفذ حين يُقذَف في منتصف الطريق يكون حدثاً طارئاً يفاجئنا في مسارنا الاعتيادي. إنّه يقتحم خطّ السير، يقطع إيقاع الحركة، ويحوّل الطريق المألوف إلى فضاء إشكالي. فهو يثير في السائر مزيجاً من الانفعال: خوف من الاصطدام به، شفقة على هشاشته، أو تردد بين تجاوزه أو إنقاذه. إنّه كائن يفرض على العابر أن يغيّر مساره أو أن يراجع لحظياً روتينه، وكأنّ وجوده إعلان عن أن الطريق – الذي نتصوره ملكاً للسيارات أو البشر – قد صار مشتركاً مع كائن لا مكان له فيه.
يتجاوز القنفذ كونه مجرد "كائن بيولوجي" ليصبح علامة وجودية، لحظة انقطاع في الزمن، واقتحاماً للعادة. وهنا يلتقط دريدا البعد نفسه في جوهر القصيدة: فالقصيدة لا تأتي استكمالاً لخطابنا اليومي، ولا تُكتب لتسير في مجرى اللغة المألوفة، لكنها تتجلى بوصفها "حادثاً لغوياً" يوقف السائر في المجرى الاعتيادي للكلام.
القصيدة لا تُسلِّم نفسها بسهولة ولا تنخرط في وظيفة تواصلية مباشرة. على العكس، إنها تمثل ما يمكن تسميته بـ "المقاطعة الشعرية": إنها توقف الكلام في مساره، تحوّل اللغة من أداة للشرح والتبادل إلى عثرة غير متوقعة، إلى حضور يفرض الإصغاء لا من حيث وضوحه لكن من حيث غموضه المربك. كما أن القنفذ يُدخل الطوارئ على الطريق، فإن القصيدة تُدخل الطوارئ على اللغة.
إنها ليست جزءاً من منطق التواصل الذي يهدف إلى توصيل رسالة بأقل قدر من الالتباس، هي فضاء للالتباس ذاته، لتأجيل المعنى، لتوليد السؤال حيث يُفترض أن يكون الجواب. إنها انقطاع داخل التواصل، طارئ لغوي يذكّرنا بأن اللغة هي مغامرة.
والقصيدة، مثل القنفذ، لا تتكيف مع قواعد الطريق؛ فهي ترفض أن تُروَّض أو تُختزل إلى خطاب نفعي. لا هي مقال تفسيري، ولا تقرير خبري، ولا رسالة عملية. هي شيء آخر، "كائن لغوي" ملقى في وسط المسار، يفرض علينا أن نتوقف، أن نتأمل، وربما أن نتعثر. مثل القنفذ الذي لا يعرف الانسجام مع سرعة السيارات وقسوة الإسفلت، فإن القصيدة لا تعرف الانسجام مع قوانين السوق والخطاب الوظيفي. هي دائماً غريبة، دائماً معترضة، دائماً في موضع تهديد، لكنها في غرابتها هذه تمنح اللغة معناها الأعمق: أن تكون فضاء للدهشة، وللأزمة، وللانكشاف.

● التوتر بين الحماية والخطر

حين ينكمش القنفذ على ذاته، يبدو وكأنه يمارس فعلاً بديهياً للحماية: يغلق جسده في كرة مصفّحة بالأشواك، فيوحي بأن لا شيء قادر على اختراق هذا التحصين. لكن المفارقة المأساوية تكمن في أن هذا الانكماش ذاته – الذي يُفترض أن يكون ملاذاً – يتحول إلى سبب إضافي للخطر. فالقنفذ، وهو مطروح في منتصف الطريق، لا يستطيع أن يهرب أو يناور أو يتكيف مع الصدمات القادمة. إن تحصينه لا ينجيه من العجلات المندفعة نحوه، انما يجعله أكثر عرضة لأن يُسحق دون مقاومة. وهكذا، يتحول الأمان إلى فخ، والحماية إلى انكشاف مضاعف.
هذا التوتر هو ما يجعل القنفذ استعارة حية للقصيدة عند دريدا. فالقصيدة، مثل القنفذ، تنطوي على ذاتها، تنغلق في بنيتها الخاصة، تحيط نفسها بجدار من الغموض، كأنها تبحث في اللغة عن مأوى يحميها من عنف المباشرة أو من تبسيط المعنى. إن الغموض هنا ضرورة دفاعية: القصيدة تخلق مسافة بينها وبين الاستهلاك السريع أو التفسير الجاهز. أشواكها اللغوية هي وسيلتها للبقاء.
لكن هذه الحماية نفسها هي مصدر خطرها. فكلما زادت القصيدة غموضاً وانطواءً، كلما ازدادت احتمالات إقصائها من قبل القارئ العادي أو تجاهلها باعتبارها نصاً "مغلقاً" أو "غامضاً بلا جدوى". إن استراتيجيتها الدفاعية تحوّلها إلى نص هشّ، عرضة لسوء الفهم أو العزلة. فالقصيدة إذ تحمي نفسها من الاختزال، تُعرّض نفسها للتهميش.
من هنا، يعيش الشعر تناقضه العميق: لا يمكن أن يكون قصيدة إلا إذا أحاط نفسه بالغموض، لكنه بهذا الغموض يضع نفسه في مهب خطر آخر: خطر ألا يُقرأ، أو أن يُساء قراءته. إنها علاقة لا تنفك: كل حماية تنطوي على انكشاف، وكل انطواء يولّد شكلاً جديداً من التهديد.
دريدا يلتقط هذا المأزق ليقول إن الشعر لا يمكن أن يوجد إلا في هذه المسافة الدقيقة بين الانسحاب إلى الداخل والانكشاف إلى الخارج. القصيدة ليست آمنة، ولا يمكنها أن تكون كذلك، لأنها كائن لغوي يعيش على حافة الخطر، ولأن قوتها تكمن بالضبط في هذا الانكشاف المزدوج. إنها نص لا ينقذ نفسه من العنف الرمزي أو من "دهس" القراءات العاجلة، لكنه، في هشاشته هذه، يثبت ضرورته.
إن التوتر بين الحماية والخطر هو الشرط البنيوي للشعر: لو تخلّى عن أشواكه لاندمج في خطاب النفعي والمباشر وفقد فرادته، ولو بالغ في التحصن لانعزل وتحوّل إلى لغة بلا أثر. القصيدة – مثل القنفذ – لا تعيش إلا في التوازن المستحيل بين هذين القطبين: أن تحمي نفسها لتبقى، وأن تتعرض للخطر لتكون.

● هشاشة الأثر الذي تتركه القصيدة

في تصور دريدا، النص الأدبي – والشعري خصوصاً – هو أثر (Trace)؛ أي كيان لغوي يظل مفتوحاً على سلسلة من التداعيات والتأويلات التي لا تعرف نهاية. الأثر هنا يُحيل إلى ما يبقى ويتلاشى في آنٍ واحد: ما يتولد عن النص باستمرار ولا يستقر أبداً. ولهذا، فإن القصيدة ليست "رسالة" يمكن فكّ شيفرتها والاطمئنان إلى معناها الأخير، انما هي أثر قلق، هشّ، مهدد دوماً بسوء القراءة أو الانزلاق إلى مسارات لا يسيطر عليها الشاعر ولا يحدّها أي نظام.
في هذا الأفق، تشبه القصيدة القنفذ الملقى في العراء: موجودة، ملموسة، لها شكل يمكن أن يُرى، لكن معناها لا يملك ضمانة تحميه. فهي مطروحة أمام القارئ، قابلة للالتقاط أو للتجاهل، قابلة للتأويل الرحيم أو العنيف. لا توجد سلطة مركزية – لا سلطة المؤلف، ولا سلطة الناقد – تستطيع أن تفرض المعنى النهائي عليها. القصيدة تعيش عُريها الكامل، دون درع يحميها من القسوة التي قد تمارسها القراءة الاختزالية أو التأويل الأيديولوجي.
ولأنها أثر، فهي أيضاً عاجزة عن التكيف. لا يمكن للشعر، بخلاف الخطاب النفعي أو العلمي، أن يخضع لقوانين الانضباط أو الوضوح التواصلي. فالخطاب النفعي يطمح إلى أن يكون أداة، إلى أن يُفهم بأسرع الطرق، إلى أن يؤدي وظيفة محددة؛ بينما الشعر يقاوم هذا المنطق، يصرّ على الغموض، على التعدد، على الانفتاح نحو ما لا يُستوعب بسهولة. القصيدة تريد أن تبقى غير قابلة للتدجين، عصية على الاحتواء، لأن معناها يتولد من حركة الاختلاف (Différance)، أي من تأجيل دائم للمعنى ومن انزياحات لا نهائية في الدلالة.
إن هشاشة الأثر الشعري هي مصدر قوته أيضاً: فهو لا يستقر في معنى واحد، لكنه يُربك، يشتت، يثير توترات القراءة، فيذكّرنا بأن اللغة مسرحاً للصراع بين الحضور والغياب، بين ما يُقال وما يُمحى، بين ما يُفهم وما يتفلت. القصيدة، بوصفها أثراً، لا تحيا إلا في هذا القلق المستمر، في هذا الانفتاح على تعددية التأويلات التي لا نهاية لها.
الشعر عند دريدا يعلّمنا درساً وجودياً: أن الهشاشة هي شرطاً للوجود؛ وأن العراء إمكاناً للقاء؛ وأن الأثر – مثل القنفذ على الطريق – يظل موجوداً رغم احتمالات الدهس، لأنه لا يملك سوى وجوده الملقى، وجوده الذي لا يمكن ترويضه أو مصادرته بالكامل.

● القنفذ والحداثة الشعرية

إذا نظرنا إلى مجاز القنفذ في ضوء الحداثة الشعرية، سنجد أنه توصيفاً دقيقاً لوضع الشعر المعاصر منذ بداياته مع الحركات الطليعية وحتى اليوم. فالقصيدة الحديثة، على خلاف القصيدة الكلاسيكية، رفضت أن تكون استمراراً لمنظومة القواعد الموروثة: لم تعد أسيرة الوزن الخليلي، ولا خاضعة للتوازن البلاغي الصارم، ولا معنية بأن تُقرأ بسهولة على ألسنة الجماهير. لقد اختارت أن تتمرد على قوانين الإيقاع والنظم، وأن تنبذ البلاغة المألوفة، لتعلن حضورها كخطاب جديد يطالب بمكان آخر للغة.
لكن هذا التمرد الذي يمنحها خصوصيتها هو أيضاً مصدر غربتها. فالقارئ العادي، المتعوّد على الألفة الموسيقية للوزن أو على الصورة التقليدية للشعر، يجد نفسه أمام نصّ مختلف، غامض، يقطع التدفق اللغوي ويحدث فيه ارتجاجاً. هنا يتجلى مجاز القنفذ: القصيدة الحديثة، مثل ذلك الحيوان الملقى في الطريق، توقف العابر، تربكه، تجبره على أن يلتفت إلى ما لم يكن يتوقعه. غير أنها، في اللحظة نفسها، معرّضة لأن تُدهس أو تُهمّش لأن حضورها لا يتكيف مع حركة السير الجماعية، أي مع الذائقة العامة التي تبحث عن السهل والواضح والمألوف.
إنها خطرة، لأنها تجرؤ على قطع الطريق المألوف للغة. خطورتها تكمن في قدرتها على خرق النظام السائد، على كسر التوازن بين القول المألوف والفعل التعبيري، على خلق ما يشبه "الطوارئ الجمالية". لكن هذه الخطورة ليست ضمانة للبقاء، انما هي تهديد أيضاً؛ إذ يمكن أن تتحول إلى سبب في تهميشها أو في استبعادها من المشهد الثقافي العام. فالمؤسسات الأدبية والإعلامية والتعليمية غالباً ما تحتضن ما ينسجم مع أفق التلقي العام، لا ما يربكه أو يزعجه.
إن الحداثة الشعرية تجربة وجودية تعيش في توتر دائم بين التمرد والعزلة، بين إعلان الغربة كقيمة، والوقوع ضحية لهذه الغربة ذاتها. والقصيدة الحديثة، مثل القنفذ، لا تعرف الوسط: إما أن تكون عثرة توقظ العابر وتربكه، وإما أن تُسحق تحت عجلات اللامبالاة والذائقة السائدة.
إن مجاز القنفذ عند دريدا يلخّص إذن وضع الشعر الحداثي: نصوص ترفض الانصياع، لكنها في رفضها تدفع ثمن العزلة؛ نصوص تقطع الطريق، لكنها لا تجد دوماً من يتوقف لينظر إليها بجدية، بل كثيراً ما تُترك خلف عجلات العبور السريع. إنها قصائد تقف على الحدّ الفاصل بين القوة والهشاشة، بين القدرة على زلزلة اللغة والوقوع في منفى لغوي لا يستوعبه سوى قلّة من القرّاء.

●الشعر كأخلاق للهشاشة

يمكن قراءة تشبيه دريدا باعتباره موقفاً أخلاقياً من العالم. فالقصيدة، في صميمها، ليست أداةً للحماية، ولا درعاً يتصدى للعنف، بقدر ماهي كائن صغير وضعيف يُلقى في فضاء لا يرحم. مثل القنفذ المنكمش في منتصف الطريق، لا تملك القصيدة ضمانة للبقاء، ولا سلاحاً فعّالاً غير أشواكها الرمزية، التي قد تخيف أو تربك، لكنها لا توقف عجلة العنف التي قد تسحقها في أي لحظة.
تذكّرنا القصيدة بضعف الكائن الإنساني ذاته: بانكشافه الدائم، بعجزه عن ضمان نجاته، بكونه دائماً تحت رحمة قوى أعظم منه – سواء كانت قوى الطبيعة أو التاريخ أو المجتمع. إن الشعر لا يقدّم لنا بطولة زائفة، بل يضعنا أمام هشاشتنا العارية، ويجعلنا نتأملها بلا أوهام.
من هنا، تتحول التجربة الشعرية إلى تمرين على مواجهة العراء. إنها تعلّمنا كيف نصغي إلى الضعف، كيف نمنح الهشاشة حضوراً في لغة طالما سعت إلى التماسك والقوة. فوظيفة الشعر ليست أن يُقنع أو يُحاجج كما يفعل الخطاب الفلسفي أو السياسي، وظيفة الشعر هي أن يتيح لحظة إنصات: لحظة نرى فيها الكائن – نحن أنفسنا – في وضعيته القصوى من الانكشاف.
ولذلك، يمكن القول إن الشعر يقدّم درساً أخلاقياً مختلفاً: أخلاق الهشاشة والشفقة. إننا لا نستطيع "إنقاذ" القصيدة كما لا نستطيع إنقاذ القنفذ من احتمالات الدهس، لكننا نستطيع أن نتوقف أمامها، أن نحدّق في أشواكها، أن نمنحها لحظة إصغاء صادق. وفي هذا الإصغاء يكمن البعد الأخلاقي للشعر: إنه يربينا على أن نمنح انتباهاً لما هو ضعيف، لما هو عابر، لما هو غير قابل للتدجين.
إن مجاز القنفذ عند دريدا، إذن، يعكس طبيعة علاقتنا بالعالم والآخر. فهو يذكّرنا بأننا كائنات مطروحة في فضاء خطر، وأن الضعف شرطاً وجودياً. والقصيدة، من خلال هشاشتها، تُجبرنا على الاعتراف بهذا الشرط، وعلى التدرّب على التعايش معه. إنها تجعل من الهشاشة نفسها قيمة، ومن الانكشاف درساً أخلاقياً لا يمكن تجاوزه.

●الشعر فلسفة في صورة

دعنا نربط هذا المجاز بمفهوم الاختلاف (Différance) عند دريدا. فكما تعلم، الاختلاف ليس مجرد "تباين" أو "تأجيل"، انما هو حركة لا نهائية تجعل المعنى ينزلق دائماً ولا يستقرّ في نقطة محدّدة. القنفذ هنا تجسيد ملموس لهذا المبدأ: كلما حاولنا الإمساك به، ينكمش ويختفي خلف أشواكه، مؤجِّلاً قبضتنا عليه، مذكّراً إيّانا بأن العلاقة بالمعنى علاقة مراوغة ومؤجلة على الدوام.
ومن هنا يظهر البعد المضاد للهوية الثابتة: فالشعر عند دريدا هو مجال لعب دائم بين الإمكانات. القنفذ يقدّم نفسه ككائن هشّ، مهدد، يفرض علينا أن نتعامل مع حضوره الطارئ والمربك. تماماً مثل النص الشعري الذي يقاوم التثبيت، ويُبقي القارئ في حالة يقظة وتأمل لا تنتهي.
إن صورة القنفذ تحرّر الشعر من أسر الجوهرانية، وتضعه في فضاء الاختلاف: فضاء يربك القارئ ويفتح له احتمالات متعددة. إنّها صورة تحمل البعد الأخلاقي والفلسفي في آن، لأنها تدفعنا إلى الإصغاء للهشاشة والانكشاف، لا إلى السعي وراء يقين مطمئن.

---------
إن تشبيه دريدا للقصيدة بالقنفذ يمثل بلاغة مأزق: الشعر كائن يعيش في قلب التناقض، منكمش ومكشوف، محمي ومهدد، عالق بين الانسحاب والظهور. القصيدة مثل القنفذ لا تعرف مكاناً آمناً؛ هي دائماً في الطريق، حيث الخطر والدهس ممكنان، لكنها رغم ذلك – وربما بسبب ذلك – تظل كائناً ضرورياً: لأنها تذكّرنا بأن اللغة هي مغامرة في العراء.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
- التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
- رافاييل: الجمال والانسجام
- وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
- الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
- حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س ...
- الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
- في نقد الإيديولوجية النسوية
- الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / ر ...
- الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
- نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي ...
- مجرد ذكرى يمحمد
- هد وانا اهد
- يمحمد
- منقذي من الظلال
- في ذكرى الغزو ...رواية جديدة لا يعرفها احد
- في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو
- التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
- دمٌ يُضيء الطريق: الطف بوصفه سفر المعنى
- الدنيا رطب عالي


المزيد.....




- القُرْنة… مدينة الأموات وبلد السحر والغموض والخبايا والأسرار ...
- ندوة في اصيلة تسائل علاقة الفن المعاصر بالمؤسسة الفنية
- كلاكيت: معنى أن يوثق المخرج سيرته الذاتية
- استبدال بوستر مهرجان -القاهرة السينمائي-.. ما علاقة قمة شرم ...
- سماع الأطفال الخدج أصوات أمهاتهم يسهم في تعزيز تطور المسارات ...
- -الريشة السوداء- لمحمد فتح الله.. عن فيليس ويتلي القصيدة الت ...
- العراق يستعيد 185 لوحا أثريا من بريطانيا
- ملتقى السرد العربي في الكويت يناقش تحديات القصة القصيرة
- الخلافات تهدد -شمس الزناتي 2-.. سلامة يلوّح بالقضاء وطاقم ال ...
- لماذا قد لا تشاهدون نسخة حية من فيلم -صائدو شياطين الكيبوب- ...


المزيد.....

- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض قاسم حسن العلي - القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق