رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 20:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
النص الذي ينقله ابن سينا عن قراءته لكتاب أرسطو "ما بعد الطبيعة" يمثل شهادة صادقة على تجربة التعلم الفلسفي، ويكشف الكثير عن طبيعة المعرفة، وصعوبة الفهم، وأهمية الوساطة التفسيرية في الثقافة العلمية والفلسفية الإسلامية المبكرة. يمكن تفكيك النص وتحليله في عدة مستويات: معرفية، فلسفية، ونفسية، إضافة إلى البُعد الأخلاقي الذي يطغى على نهاية التجربة.
يقول الفيلسوف العظيم الرئيس ابن سينا، كما ينقل عبد الرحمن بدوي في موسوعة الفلسفة : "قرأت كتاب ما بعد الطبيعة لارسطو فما كنت أفهم ما فيه والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا أعلم ما المقصود به وأيست من نفسي وقلت هذا لا سبيل إلى فهمه وإذا أنا في يوم من الأيام قد حضرت الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه علي فرددته رد متبرم به معتقد أن لا فائدة في هذا العلم فقال لي اشتر مني هذا فإنه رخيص فاشتريته بثلاثة دراهم فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فرجعت إلى بيتي وقرأته فانفتح علي به في ذلك الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد كان لي على ظهر قلب وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكرا لله تعالى".
بداية من ذلك المشهد البسيط تتضح أمامنا مشكلةٍ معرفية أقدم من أي نظام تعليمي وهي الفرق بين تراكُم الكلمات وبين ولادة الفهم. هذا الفصل القصير يستدعي سلسلة من التأملات الفلسفية والمعرفية التي تمس جوهر كيفية تكوين العلم والوعي.
الحفظ يقتضي استبقاء صور لفظية في الذاكرة، وهو نشاط يمكن أن يتم آليًا بمستوى من التكرار والالتصاق اللفظي. أما الفهم فهو التمكن من العلاقات البنيوية بين المفردات، إدراك السياق، وإظهار بنيات المعنى الكامنة. لذلك قد يظل النص حيًا حين يُستعاد معروضةً بالعقل، وميتًا حين يُستعاد منفصلًا عن انساقه الدلالية؛ الفرق هنا بين صورة جامدة ونسيج ديناميكي من الدلالات.
ابن سينا لم يفشل لأن عقله أعسر؛ لكن لأن النص الفلسفي - خاصة أرسطو - هو دعوة إلى قراءةٍ نقدية وتفكيكٍ بنيوي. الفهم فعل تأويلي ؛قراءة تسمح بتداخل التساؤل مع المعطى، وتستدعي إعادة تشكيل مفاهيمٍ سابقة، وفي كثير من الأحيان إعادة تهيئة شبكة المفاهيم نفسها. بهذا المعنى يصبح الفهم عملاً إنتاجيًّا لا استهلاكيًّا.
ما يكمل تجربة ابن سينا هو تدخل وسيطٍ فكري — كما في حالة الفارابي الذي يقدّم إطارًا مفاهيميًا يملأ الفراغات ويفك رموز الإشارة. حيث نرى أهمية الشرح الموجه والتقليد الحي للتراث المعرفي: كقناة تحول النصوص إلى أدوات تفكير. الفرق بين القراءة الفردانية والقراءة المرفوقة بتراثٍ تفسيري يكون كالفرق بين الانعزال وبين الحوار الذي يصنع معنىً جديدًا.
الفصل بين "الفهم العميق" و"التذكر الحرفي" يتقاطع مع ملاحظات معاصرة في معرفيات مثل التمييز بين المعرفة التصريحية (declarative) والمعرفة الإجرائية (procedural)، وبين ما نسميه "المعرفة الصامتة" أو "المعرفة الضمنية" التي لا تُفصح عنها مجرد كلمات. الفهم العميق يقتضي القدرة على استدعاء المبادئ لا مجرد الكلمات، واستعمالها في سياقات جديدة — وهو معيار امتحان للمعرفة وليس مجرد مؤشر على الحفظ.
قراءة النصوص الفلسفية تجربة وجودية ، فالمواجهة مع رموز تشكِّل عالمًا مفاهيميًا يُعيد ترتيب الذات الفكرية. حين تتأثر منظومة القناعات لدى القارئ، يكون الفهم قد تجاوز حدود العقل التقني إلى مجال التحول الشخصي والخلقي. لهذا تقول بعض المدارس الفلسفية إن الفهم الحقيقي يعيد تشكيل كينونة القارئ كما يعيد تشكيل معنى النص.
المنهج التعليمي الفاعل يهيئ آليات للتأويل، للمناقشة الحوارية، ولتطبيق المبادئ في أمثلة متفاوتة. كذلك ينبغي للباحث أو القارئ أن يمارس ما يمكن تسميته بـ"قراءة مشروطة" قراءة تقاطع النص بأسئلة نقدية، تقيس فرضياته، وتختبر مدلولاته في سياقات متغيرة.
موقف ابن سينا أمام أرسطوطاليس هو اختبار لطبيعة المعرفة نفسها. إذ يذكّرنا بأن المعرفة الحقيقية فعلٌ معرفي-تأويلي، يتطلب سياقًا، وسيطًا، وممارسةً تدعمه إلى أن يتحول من كلمةٍ محفوظة إلى بنية فكرية قابلة للحياة والعمل. وهذا على حد سواء تحدٍّ تربوي وفلسفي لكل زمن.
-----------------------
التحوّل الذي يحدث حين يصل ابن سينا إلى شرح الفارابي يمكن فهمه كإعادة بناء كاملة لأفق الفهم. فالمعرفة الفلسفية تتجلى دائمًا في حوارٍ مع سلسلة طويلة من العقول التي مرّت عبره وأعادت قراءته وتشكيله. هنا تبرز الوساطة بوصفها ضرورة معرفية لا ثانوية ، فهي تُنشئ المعنى.
الفارابي كأحد أكبر مهندسي العقل الفلسفي في الحضارة الإسلامية، قدم لابن سينا هندسة الباب المغلق. وأعاد ترتيب مقاصد "ما بعد الطبيعة" ، ووضعها داخل بنية مفهومية متماسكة، مكّنته من تحويل النص الأرسطي من جدارٍ صامت إلى فضاءٍ حواري. هذا النوع من الشرح ينظم العلاقات بين المفاهيم، ويعيد بناء الأفق الميتافيزيقي الذي يتكلم منه النص.
تجربة ابن سينا مع هذا الشرح تؤكد أن الفهم الفلسفي هو نتاج شبكةٍ من الوساطات ؛ شروح، تعليقات، مدارس فكرية، وتقليد تأويلي ممتد. فكما أن النصوص العظمى لا تُكتب في عزلة، لا تُفهم كذلك في عزلة. الوسيط التفسيري يعمل هنا بوصفه جسراً بين طبقات من المعنى: يلتقط إشارات النص الأصلية، ويعيد صياغتها، ويعرضها ضمن نسق يسمح للقارئ بتحديد مواضع الإشكال ومواقع الدلالة.
حيث يصبح الشرح الفلسفي — سواء جاء في صورة كتاب، أو محاضرة، أو نقاش حي — جزءًا من بنية إنتاج المعرفة نفسها، لا مجرد ملحق بها. فالمعنى في الفلسفة يُستَخرج من حركة العقول التي تتفاعل معها عبر الزمن. لذا يمكن القول أن الفارابي يصبح شريكًا لابن سينا لا معلّمًا له فحسب، وشريكًا لأرسطوطاليس لا شارحًا له فقط: إنه يحوّل النص من أثر ماضٍ إلى فاعلٍ حاضر، ومن لغزٍ متعالٍ إلى مادةٍ للفكر الحي.
--------‐‐----
إن الفهم الفلسفي يحتاج إلى زمن، وتجربة، وتراكم هادئ للمعرفة. ولعلّ تجربة ابن سينا مع نصوص أرسطو تُعدّ مثالاً بارزاً على ذلك. فالرجل – على الرغم من نبوغه الذي لا يُجادل فيه أحد – لم يستوعب كتاب ما بعد الطبيعة من خلال القراءة المباشرة، ولا من خلال إعادة النص أمامه مراراً في حدّ ذاته. لقد صار الكتاب محفوظاً لديه “على ظهر قلب”، ومع ذلك ظلّ معنى النص مُغلقاً، لا ينفتح، ولا يكشف مقاصده، حتى التقى بشرح الفارابي. عند تلك اللحظة فقط، انكسرت العتبة التي كانت تحول دون الفهم، واتضحت أمامه أبواب المعنى، فصرّح بأن الفارابي قد “فتح عليَّ أغراض ذلك الكتاب”.
هذه الحكاية الصغيرة تحمل دلالات معرفية عميقة. فهي تكشف أن الفهم قدرة على وضع المعلومة في سياقها المنهجي والذهني؛ أي أن الإدراك الحقيقي يقتضي ربط الجديد بالمخزون السابق، وتنظيم الفكرة داخل شبكة من المفاهيم المترابطة. فالمعرفة تنمو داخل بيئة تأويلية تتكوّن ببطء، وتحتاج إلى “إضاءة” تأتي أحياناً من نص آخر، أو من مجهود شارح، أو من تراكم خبرة شخصية.
الفهم لحظة انفتاح، لا مجرد عملية عقلية جامدة: لحظة يدرك فيها القارئ غايات النص، والخيط الذي يجمع أفكاره، والنية المعرفية التي تحرّك بناءه الداخلي. إنها لحظة لقاء بين التجربة، والقراءة، والتفسير؛ لحظة يصبح فيها النص جزءاً من تاريخ القارئ نفسه، ويغدو المعنى امتداداً لخبرته ونضجه، لا مجرد جملة تُفهم وتُنسى.
هكذا، يتبدّى الفهم الفلسفي بوصفه مساراً متدرجاً، تتشابك فيه الذاكرة مع التأمل، والخبرة مع التفسير، حتى ينفتح الباب أخيراً، في اللحظة التي تنتظم فيها المعرفة في صورة جديدة، وتستقيم معها الغاية الكامنة في النص.
---------------------
حين يخبرنا ابن سينا أنه، بعد أن انفتحت له مقاصد الكتاب، قدّم صدقةً كثيرة في اليوم التالي، فهو يعبّر عن طبقة عميقة في التجربة المعرفية: أن الفهم، في لحظته الحقيقية حدثٌ روحي وأخلاقي يُحدث أثرًا في الداخل كما يُحدث أثرًا في الخارج.
فالفرح الذي يصفه ابن سينا فرحًا بالانكشاف: لحظةُ انحسار الغموض عن معنى مُمتنع. وهذه اللحظة تجعل العقل يحسّ بشيءٍ يشبه "النعمة" بوصفها توافقًا بين جهد الإنسان وسخاء العالم. هنا يظهر الفهم كمناسبةٍ للامتنان، والامتنان كممارسة أخلاقية. الصدقة امتدادٌ معرفيّ—جسرٌ بين الداخل والخارج.
هذا السلوك يفتح بابًا واسعًا في فلسفة المعرفة: العلاقة بين الاستنارة الفكرية والسمو الأخلاقي. فالتاريخ الفلسفي، منذ سقراط وحتى الفلاسفة المسلمين، تعامل مع المعرفة بوصفها قوة تُهذّب النفس وتُعيد ترتيب علاقتها بالآخرين. في الموروث الإسلامي خاصة، لا فصل بين العلم والفضيلة؛ فالمعرفة الحقة هي التي تُثمر سلوكًا، وترفع مستوى الوعي الأخلاقي، وتجعل المرء أكثر قربًا من الصدق والخير.
من هذا المنظور يصبح الفهم الفلسفي انتقالًا من حالة وجودية إلى أخرى. إنّ الفيلسوف، حين يبلغ لحظة صفاء معرفي، يَدين لذاته وللعالم بشيء: مسؤولية، مشاركة، أو فعل خير. فالعمل الأخلاقي هنا هو التجسيد العملي للمعنى. وكأن ابن سينا يقول ضمنيًا: المعرفة التي لا تُترجَم إلى أثرٍ في العالم تظل ناقصة، مهما بلغت دقتها.
أما على المستوى المعرفي النقدي، فإن هذا الموقف يعبّر عن تصور للفهم بوصفه طاقة مُولِّدة، لا منغلقة على ذاتها. الفهم يُختبر عبر تحوّل المزاج الداخلي، وتبدّل العلاقة بالآخر. ولذلك فإن فعل الصدقة هنا يصبح مثالًا رمزيًا: الفهم الحقيقي يفيض. إنه فائض معنى يتحول إلى فائض رحمة.
وعلى المستوى الفلسفي الأشمل، تظهر في هذه اللمسة فكرة "المعرفة بوصفها عبورًا نحو الخير". فلم يكن ابن سينا، وهو يواجه نصًّا ميتافيزيقيًا معقدًا، يفصل بين إدراك الحقائق العليا وبين التزامات الإنسان اليومية. وكأن الفلسفة، في نظره تتحقق عبر اليد والقلب والشارع—عبر العمل.
من هنا يتأكد أن المعرفة ليست رفاهية عقلية ولا لعبة تجريدية. إنها قوة أخلاقية وروحية، تغذّي الذات وتنعكس على المجتمع. والمعنى الذي يصل إليه الإنسان بحقّ، إن لم يتحوّل إلى فعل، يظل ناقصًا—وكأن الفهم نفسه يبحث عن اكتمال لا يتحقق إلا حين يُعاد ضخّه في العالم على هيئة رحمة أو مشاركة أو شكر.
-------------------
النص، في حقيقته العميقة إعلان مبكر عمّا يمكن تسميته أخلاق التعلم أو روح الحكمة. فاعتراف ابن سينا بعجزه المؤقت أمام نص أرسطو ليس ضعفًا، بل ممارسة واعية لما يسميه الفلاسفة المعاصرون "التواضع المعرفي". فالعارف الحقيقي هو من يدرك أن الفهم مسار شاق يحتاج إلى زمن، ووسيط، وتجربة، واستعداد نفسي للهبوط إلى أعماق النص.
في قوله: "ولا أعلم ما المقصود به" تتجلى شجاعة نادرة؛ فالفيلسوف الذي سيصبح لاحقًا أحد أعمدة الفكر الإسلامي لا يخشى أن يعلن عدم الفهم. وهذا الاعتراف هو شرطه الأساسي: فالعقل الذي يظن أنه يفهم كل شيء، لا يتعلم شيئًا. أما العقل الذي يعرّف نفسه من خلال نقصه، فإنه يفتح الطريق لصيرورة معرفية أوسع.
ثم تأتي الرحلة: قراءة متكررة، بحث عن التأويل، محاولة للفهم من خارج النص، ثم ظهور الوسيط — الفارابي. هنا تتجلى قيمة الشروح والتفاسير في تاريخ الفلسفة، إذ ليست الوساطة مجرد نقل للمعنى، بقدر ما هي إعادة ترتيب للبنية الذهنية التي تحكم الفهم ذاته. لقد قدّم الفارابي لابن سينا ما هو أكثر من شرح؛ قدّم له خريطة ذهنية، جعلت النص الأرسطي يتحول من تراكم ألفاظ إلى بنية فكرية متماسكة.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟