|  | 
                        
                        
                        
                            
                            
                                
                             
                                
                                    عودة إلى سبينوزا مرة أخرى ورؤيته في علم الأخلاق
                                
                            
                               
                                    
                               
                                
                                
                                   
                                     
 
                                        رياض قاسم حسن العلي
 
     الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 15:31
 المحور:
                                            الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
 
 
 
 
 
                                   
                                        
                                            
                                              يُعدّ كتاب "الأخلاق" (Ethica) للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632–1677) أحد أعمدة الفكر الفلسفي الحديث، ومن أكثر الأعمال الفلسفية عمقًا وتأثيرًا في تاريخ الفلسفة الغربية ، حيث يعيد بناء الأخلاق على أساس ميتافيزيقي صارم، ليجعل منها امتدادًا طبيعيًا لمعرفة قوانين الكون، لا نتيجةً للأوامر الإلهية أو الأعراف الاجتماعية.أراد سبينوزا، في هذا العمل الفذ، أن يضع للإنسان طريقًا للخلاص من العبودية الفكرية والانفعالية، عبر الفهم العقلي للعالم. ومن هنا فإن الأخلاق عنده هندسة للعقل والوجود، ولذلك كتب الكتاب على طريقة الرياضيين، مُقسِّمًا كل فصل إلى تعريفات وبديهيات ومسائل وبراهين، كما في كتاب "العناصر" لإقليدس.
 يقدّم سبينوزا في هذا الكتاب مشروعًا متكاملًا لتحرير الإنسان من أوهامه ،
 من وهم الإرادة الحرة، ومن وهم الشرّ المطلق، ومن وهم الإله الشخصي الذي يتدخّل في العالم.
 فيدعو إلى أخلاق تقوم على الفهم لا على الإيمان، وعلى الضرورة لا على الخرافة.
 يتحوّل كتابه إلى ما يشبه إنجيلًا للعقل الحديث، حيث تتأسس الفضيلة على المعرفة، والحرية على الفهم، والسعادة على التوحّد مع نظام الطبيعة.
 إن هذا الكتاب هو هندسة للخلاص العقلي والروحي للإنسان، عبر معرفة نفسه ومكانه في الكون.
 
 صار كتاب "الأخلاق"  منذ القرن التاسع عشر بؤرةً خفية لتطور الفلسفة الحديثة، ومصدر إلهام للعديد من الفلاسفة الذين رأوا فيه نواة تفكير جديدة في الله، والعقل، والطبيعة، والحرية.
 وبعد خمس عشرة سنة من الجهد المضني في تأليف علم الأخلاق، شرع سبينوزا بطباعته، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة حين شعر بتهديد مجموعة من العلماء ورجال الدين الذين ترصّدوا لأفكاره.
 وفي السنة نفسها بعد وفاته، قام بعض أصدقائه بنشر مؤلفاته، متجنبين ذكر اسم الناشر أو مكان الطبع، مكتفين بالإشارة إلى الحرف الأول من اسمه ولقبه، كعلامة على احترامهم لمكانته وحماية لأعماله من أعين الرقابة الصارمة.
 لقد حظي كتاب علم الأخلاق بعدة ترجمات إلى اللغة العربية، مما يعكس أهميته واستمرارية تأثيره الفكري. من بين هذه الترجمات: ترجمة جلال الدين سعيد عن المنظمة العربية للترجمة، وترجمة فاروق الحميد عن دار تكوين، وكذلك ترجمة محمد الشربيني عن مكتبة المنصور للنشر والتوزيع. كما صدرت ترجمة أحمد العلمي تحت عنوان الأتيقا عن دار أفريقيا الشرق، وترجمة عصام يوسف (لم يتبيّن دار النشر)، إضافةً إلى ترجمة زيد عباس كريم بعنوان الفلسفة الأخلاقية عن دار رؤية، وترجمة مصطفى عبده عن مكتبة مدبولي وترجمة مروة المغربي عن دار صفصافة للنشر ، هذا بحسب علمي، وربما توجد ترجمات أخرى للكتاب أو لفصول منه في بعض الدوريات المتخصصة.
 ---
 
 الباب الأول: الله أو الجوهر – ميتافيزيقا الضرورة والعقل الكوني
 
 يُشكّل الجزء الأول من الأخلاق الركيزة الفلسفية التي يقوم عليها البناء السبِينوزي بأسره. فهو الأساس العقلي الذي من دونه لا يمكن فهم الأخلاق، ولا الحرية، ولا العواطف، ولا حتى الإنسان ذاته. هنا، يعيد سبينوزا تعريف المفاهيم الكبرى — الله، الطبيعة، الجوهر، العلّة — ليقلب بها التصور التقليدي عن الإله والعالم رأسًا على عقب.
 فبينما قام الفكر الديكارتي على الثنائية الجوهرية بين الفكر والمادة، واضعًا الله كضامن خارجي لوحدتهما، يقترح سبينوزا تصورًا وحدويًا جذريًا للوجود، يُعرف في تاريخ الفلسفة بـ مذهب الواحدية الجوهرية (Monism). ووفق هذا المذهب، لا يوجد في الواقع سوى جوهر واحد هو الله أو الطبيعة (Deus sive Natura) — وهي عبارة فلسفية كثيفة المعنى تختصر مشروعه برمّته: إن الله ليس موجودًا منفصلًا عن العالم، انما هو العالم نفسه في ضرورته، في نظامه، في قوانينه، في لا نهائيته.
 
 ●الجوهر الواحد: الوجود من حيث هو قائم بذاته
 
 يعرّف سبينوزا الجوهر (Substantia) بأنه ما يوجد في ذاته ويُتصوّر من ذاته، أي أنه لا يحتاج إلى شيء آخر كي يوجد أو يُفهم. فلا يمكن أن يكون هناك سوى جوهر واحد، لأن تعدّد الجواهر يستلزم وجود حدود تفصلها، وهذا يناقض مفهوم اللاتناهي. إذن، الله وحده هو الجوهر الحق، وهو العلة الأولى لكل ما عداه، على نحوٍ ضروري وعقلي.
 فالله عند سبينوزا علة ضرورية، أي أن الأشياء لا "تُخلق" بإرادته، بل "تتبع" منه كما تتبع النتيجة من المبدأ، أو كما تتبع خصائص المثلث من تعريفه. فوجود العالم هو نتيجة منطقية لجوهرٍ لامتناهٍ يعبّر عن ذاته في صور متعددة.
 ومن هنا ينبثق أحد أهم مفاهيم سبينوزا: أن الخلق تجلٍّ دائم للجوهر الواحد. فالوجود كلّه هو فيض مستمر من الله أو الطبيعة، يتبدّى في عدد لا نهائي من الأطوار (Modi) أو الصفات (Attributes). إن العالم هو وجه الإله الظاهر، أو تموّجه الدائم.
 
 ●الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة: دينامية الوجود
 
 لفهم العلاقة بين الجوهر ومظاهره، يقيم سبينوزا تمييزًا مفاهيميًا دقيقًا بين نوعين من الطبيعة:
 1. الطبيعة الطابعة (Natura Naturans): وهي الله من حيث هو الجوهر الفاعل، العلّة في ذاته، أي المبدأ الدائم الذي منه تنبثق الموجودات وتعود إليه. إنها الطبيعة من حيث هي تنتج وتُبدع وتؤسِّس نظام الأشياء.
 2. الطبيعة المطبوعة (Natura Naturata): وهي العالم من حيث هو نتاج تلك الطبيعة الأولى، أي مجموع الأشياء والأجسام والأفكار والعقول التي تعبّر عن القوانين الكونية نفسها في صور محدودة وزمانية.
 
 بهذا التقابل، يقدّم سبينوزا تصورًا ديناميكيًا للطبيعة: إنها فعالية خالقة لذاتها. الطبيعة هي الله في فعله. أما الأشياء الجزئية — الإنسان، الحيوان، الحجر، الفكر — فهي أطوار عابرة لذلك الفعل الأزلي، مثل تموّجات على سطح بحر لا متناهٍ.
 
 ●الله/الطبيعة: نفي الإله الشخصي وإعادة تأسيس المقدّس
 
 عندما يقول سبينوزا "الله أو الطبيعة"، فهو  يعبّر عن تحوّل جذري في معنى الإله.
 فالله في تصوره ليس ذاتًا واعية تراقب العالم، ولا إرادة متعالية تتحكم في مصائر البشر، هو نظام شامل من القوانين الضرورية التي تنطوي في ذاتها على مبدأ الوجود والعقل. إنه اللامتناهي العقلاني الذي لا يقبل التعسف ولا الفوضى ولا الاستثناء.
 ومن هنا، يرفض سبينوزا فكرة المعجزة رفضًا قاطعًا، لأن المعجزة في نظره تعني انتهاك قوانين الطبيعة، بينما تلك القوانين هي التعبير المباشر عن جوهر الله. فالقول بالمعجزات هو في جوهره إنكار للإله الحقيقي، أي إنكار لعقليته وكماله. الطبيعة، إذن، هي الضرورة نفسها وقد اتخذت شكل الوجود.
 في هذا السياق، تصبح العقلانية عين القداسة: فمعرفة قوانين الطبيعة هي ضرب من معرفة الله ذاته. الفهم العقلي هو فعل روحي، لأن الله عند سبينوزا موضوع معرفة وليس عبادة.
 
 ●ميتافيزيقا الضرورة: من نفي الإرادة إلى تأليه النظام
 
 إذ ينفي سبينوزا عن الله الإرادة، ينفي أيضًا عن الإنسان حرية الاختيار بالمعنى الإرادي. فكما أن الطبيعة تعمل وفق قوانين ضرورية لا خيار فيها، كذلك الإنسان جزء منها يخضع لنظامها العام. غير أن هذا الخضوع هو تجلٍّ للمبدأ الكوني نفسه.
 إن ما يسميه البشر "حرية "ليس سوى وعيهم برغباتهم وجهلهم بالأسباب التي تحددها. أما الحرية الحقيقية فهي معرفة الضرورة، أي أن يدرك الإنسان الأسباب التي تحكمه فيرى نفسه كحلقة من حلقات النظام الكلي.
 ومن هنا، يُعيد سبينوزا تعريف الله كـ نظام للعقل والوجود، لا كإرادة مطلقة. فبدل أن يكون العالم تابعًا لإرادة غامضة، يصبح انعكاسًا لنسق عقلاني أبدي. هذه النقلة من الإرادة إلى الضرورة هي ما يجعل فلسفة سبينوزا تأسيسًا مبكرًا للفكر العلمي الحديث، لكنها في الوقت ذاته ميتافيزيقا للاتصال الكوني، حيث كل شيء يرتبط بكل شيء في شبكة من الأسباب اللامتناهية.
 
 الباب الأول من الأخلاق يقدّم رؤية كونية شمولية تتجاوز الثنائيات القديمة بين الله والعالم، بين الروح والمادة، بين الإنسان والطبيعة. في هذا الأفق، يصبح التفكير في الله هو التفكير في النظام الكوني نفسه، والاتحاد بالله وعي بالعقل الكلي الذي نحيا فيه وبه وليس تجربة صوفية
 أراد سبينوزا أن يُعيد إلى الوجود اتزانه بعد قرون من الصراع بين الدين والعقل،  وهكذا، يصبح الجزء الأول من الأخلاق بيانًا في وحدة الوجود العقلي، أو إن شئنا، توحيدًا بين الإيمان بالضرورة والفهم للعقل الكوني، حيث لا وجود لشيء خارج الله، ولا شيء يمكن أن يوجد أو يُفهم إلا من خلاله.
 
 ---
 
 الباب الثاني: العقل والجسد – الإنسان كجزء من الطبيعة
 
 في هذا الجزء من الأخلاق، ينتقل سبينوزا من التحليل الميتافيزيقي للجوهر إلى دراسة الإنسان من حيث هو كائن مركّب من فكرٍ وجسد، ولكن دون الوقوع في فخّ الثنائية التي أقامها ديكارت بين النفس والمادة. فسبينوزا لا يرى في العقل جوهرًا قائمًا بذاته، ولا في الجسد جوهرًا مستقلًا، لكنه يعتبر كليهما تجلّيين متوازيين لجوهر واحد هو الله أو الطبيعة (Deus sive Natura). هذا الجوهر الواحد يُعبَّر عنه بطريقتين: حين نراه من جهة الامتداد سمّيناه جسدًا، وحين نراه من جهة الفكر سمّيناه عقلًا. وما يحدث في أحد المجالين له نظير دقيق في المجال الآخر، إذ يوجد بينهما تطابق في الترتيب والتوازي؛ فكلّ حالة جسدية لها فكرة تقابلها في الذهن، وكلّ فكرة عقلية لها حالة مادية توافقها في الجسد.
 بهذا المبدأ، يُحدث سبينوزا قطيعة إبستمولوجية حاسمة مع الفلسفة الديكارتية التي جعلت الجسد مجرّد آلة والنفس سيّدة متعالية عليه. فالعقل عند سبينوزا  هو تعبير عن فعله، مثلما أن الجسد هو مظهر أخر للنفس . وهكذا لا يعود الإنسان مركزًا للكون ولا كائنًا استثنائيًا يعلو على الطبيعة، لكنه يصبح حلقة في سلسلة الوجود، خاضعًا للقوانين نفسها التي تحكم الكواكب والرياح والنباتات. الإنسان – بذكائه وعواطفه وأخطائه – جزء من الطبيعة، وليس سوى الطبيعة وقد بلغت وعيها بذاتها.
 إنّ هذا الإدماج الكامل للإنسان في النظام الطبيعي يفضي إلى فهم جديد للأخلاق والحرية. فكلّ ما يحدث في النفس أو الجسد خاضع لقانون العِلّية الشاملة، ولا شيء يحدث صدفة أو خارج الضرورة. حتى الانفعالات والرغبات التي نظنّها حرّة هي في حقيقتها نتائج لعللٍ سابقة نجهلها. ومعرفة هذه العلل هي الخطوة الأولى نحو الحرية، لأن الفعل الحرّ عند سبينوزا لا يعني الاختيار الاعتباطي، أنما الفعل وفق فهم الضرورة. فالإنسان الجاهل يظنّ أنه حرّ لأنه لا يعرف الأسباب التي تدفعه، أما العارف فيدرك أنه لا يخرج عن نظام الطبيعة، ولكنه يشارك فيه عن وعيٍ ورضا.
 هنا تتحوّل الحرية من مفهوم إرادي إلى مفهوم معرفي: أن تكون حرًّا يعني أن تفهم. فالوعي بالعِلّة يحرّر الإنسان من الانفعال الأعمى، ومن أسر العواطف التي تجعله منفعِلًا بغيره. حين يعرف الإنسان علل رغباته، يتحرّر من وهم السيطرة الخارجية ويغدو فاعلًا بالعقل لا منفعِلًا بالشهوة. فينتقل من طور العبودية للانفعالات إلى طور الفعل الواعي، من الجهل إلى الفهم، من الخضوع إلى المشاركة الفعّالة في حركة الوجود.
 إنّ هذه الرؤية، رغم حتميّتها الصارمة تقود إلى نوع من الصفاء الميتافيزيقي. فحين يدرك الإنسان أنه جزء من نظام كوني متناسق، وأن وجوده وفعله جزء من التعبير الإلهي عن ذاته، يصبح قبوله للعالم قبولًا عقليًا لا استسلامًا سلبيًا. المعرفة هنا وسيلة للانسجام مع الضرورة؛ ومن هذا الانسجام تولد أسمى درجات الحرية.
 في ضوء ذلك، يعيد سبينوزا تعريف الإنسان: كائن يفهم ذاته بوصفها لحظة من لحظات الطبيعة، وبهذا الفهم يحقق كماله. فالعقل، في نهاية المطاف، هو الطبيعة تفكر في ذاتها من خلال الإنسان، والإنسان هو الوعي الذي يمنح الطبيعة نغمتها العقلية.
 هكذا تتحوّل الأخلاق عند سبينوزا إلى علمٍ بالطبيعة الإنسانية، لا يقوم على الوعظ أو الزجر، بل على الفهم: أن نعرف كيف تعمل الطبيعة فينا، فنصير أحرارًا بقدر ما نتعرّف على الضرورة التي تُشكّلنا.
 يقول : " كلما ازداد العقل علما ازداد فهما لقواه ولنظام الطبيعة وكلما ازداد فهما لنظام الطبيعة ازداد مقدرة وسهولة على تحرير نفسه من الأشياء التي لا فائدة منها"
 
 ---
 
 البابان الثالث والرابع: من العبودية إلى الفضيلة – علم الانفعالات
 
 في هذين البابين من الأخلاق، يبلغ سبينوزا ذروة التحليل الإنساني حين يحوّل موضوع المشاعر والعواطف — ذلك العالم الغامض الذي طالما ارتبط بالدين والأخلاق الوعظية — إلى موضوع للعلم والفهم. فكما وضع نيوتن قوانين الحركة للأجسام، يسعى سبينوزا إلى وضع قوانين الانفعال للروح، معتبرًا أن الإنسان لا يخرج عن نظام الطبيعة، وأن ما يختبره من حبٍّ أو خوفٍ أو ألمٍ أو لذة، ليس إلا تفاعلات ضرورية، تجري وفق نظام العلّية ذاته الذي يسير به الكون.
 ينطلق سبينوزا من فرضية عميقة مفادها أن الانفعالات أحوال وجودية طبيعية تنشأ من تلاقي قوى الجسد والعقل مع مؤثّرات العالم الخارجي. فحين يتأثر جسدنا بشيء يزيد من قدرته على الفعل، نحسّ بالفرح؛ وحين يتأثر بشيء ينقص منها، نحسّ بالحزن. هذه البساطة في التعريف تخفي وراءها بناءً فلسفيًا متماسكًا: إذ يرى سبينوزا أن كل انفعال له علّة محدّدة، وأن فهم هذه العلّة هو مفتاح التحرّر منه. لا شيء في النفس يحدث "مصادفة"، ولا توجد انفعالات "شريرة" بذاتها؛ فكل شعور، مهما بدا مظلمًا، يمكن أن يُفهم، وبالتالي يُتجاوز، بالعقل.
 يقول " أُسمّي عجز الإنسان عن كبح إنفعالاته والتحكم فيها عبودية، فالإنسان الذي تقهره الانفعالات لا يكون وليّ نفسه بقدر ما يخضع لسلطان القدر، حتى أنه غالباً ما يجد نفسه مُجبراً على القيام بالأسوأ مع أنه يرى الأفضل."
 وهنا يتبدّى جوهر الثورة السبينوزية: نزع الطابع الأخلاقي الموروث عن الانفعالات، وإخضاعها للفهم العلمي. فبدلًا من التقسيم الثنائي التقليدي بين "الخير" و"الشر"، يقدّم سبينوزا معيارًا جديدًا للفعل الأخلاقي قائمًا على القدرة على الوجود والفعل (Potentia Agendi). الخير، في نظره، ما يزيد من طاقتنا الوجودية ويقوّي كياننا. والشرّ ليس  ما يُضعفنا ويجعلنا منفعِلين لا فاعلين بعيدًا عن الأوامر اللاهوتية التقليدية ، فالفعل الإيجابي هو ما ينبع من داخلنا، من طبيعتنا المفهومة والمعقولة، أما الانفعال السلبي فهو ما يأتي من الخارج، حين نُقاد بالقوى التي لا نعيها.
 يقول : "الإنسان الذي تتحكم به العواطف لا يرى إلا جانبًا واحدًا من الموقف."
 في هذا الإطار، يصبح الحبّ مثلًا قوة مزدوجة: يمكن أن يكون أنبل أشكال الفهم إنْ ارتبط بالمعرفة والعقل، كما يمكن أن يتحوّل إلى عبودية إذا تأسّس على الوهم والتعلّق. وكذلك الخوف، والغيرة، والطمع، والحقد — كلها صور من نقص الفهم، أي من الجهل بأسبابها. فحين لا ندرك أن انفعالاتنا مشروطة بعالم الضرورة، نظنّ أنفسنا أحرارًا بينما نحن أسرى دوافع لا نفهمها.
 أما حين نبدأ بتفكيك هذه الانفعالات ومعرفة عللها، فإنها تتحوّل من قوى مقيّدة إلى طاقة عقلية محرّرة. هذه هي الخطوة الأولى في طريق الانتقال من العبودية إلى الفضيلة.
 العبودية، عند سبينوزا، عبودية نفسية: أن تكون أسيرًا لانفعالاتك التي لا تفهمها. والفضيلة تحقّق لجوهر الإنسان بوصفه عقلًا فاعلًا.
 فالإنسان الفاضل لا يكفّ عن الرغبة، لأن الرغبة عند سبينوزا هي جوهر الوجود الإنساني، لكنها رغبة واعية، منسجمة مع طبيعة الكون، لا متناقضة معه. الفضيلة إذًا تحويل الانفعال إلى معرفة، أي إدراك علاقته بنظام الوجود العام.
 إن ما يحرّك الإنسان في نظر سبينوزا هو الكوناتوس (Conatus)، أي السعي الفطري للمحافظة على الوجود وزيادة القدرة على الفعل. وهذا الميل هو أصل كل عاطفة وكل سلوك. فإذا جهلنا طبيعته، أصبح سببًا للاضطراب والاضطرار؛ وإذا وعيناه بالعقل، صار قوة أخلاقية خلاقة. لذلك، فإن الحرية الأخلاقية هي فهم الضرورة والعمل بمقتضاها. فالإنسان الحرّ ليس من يفعل ما يشاء، لكن من يفعل ما يفهم، لأن فهم العلّة هو تحرّر من سيطرتها.
 هنا تتحوّل الأخلاق عند سبينوزا إلى علم للتحرّر الداخلي: علم يدرس كيف يمكن للعقل أن ينظّم الانفعالات عبر المعرفة وليس عبر القمع،  وحين تتحوّل العواطف إلى أفكار واضحة، يفقد الوهم سلطته، وتتحرّر النفس من تقلباتها.
 إنها رحلة الوعي ، من الجهل إلى الفهم، ومن الانفعال إلى الفعل، ومن التبعية إلى السيادة.
 الإنسان، في نهاية هذه الرحلة، يسمو بإنفعاله ولا يلغيه، يفهم جسده ولا ينكره، يتّحد مع الطبيعة ولا يهرب منها. فيصير وجوده مشاركة واعية في النظام الكوني، وتصبح الفضيلة هي وعي الطبيعة بالله، أي بالعقل الكلي الذي يحرّك كل شيء.
 هكذا يصوغ سبينوزا أعمق تحويل في تاريخ الفلسفة الأخلاقية:
 أن تكون فاضلًا يعني أن تفهم الطريعة لا أن تتطهر منها— لأن الفهم هو وحده الطهارة الممكنة للعقل.
 ---
 
 الباب الخامس: السعادة والمعرفة العليا – الحب العقلي لله
 
 في هذا الباب الختامي من الأخلاق، يبلغ سبينوزا أوج نسقه الفلسفي، إذ تتكثّف فيه جميع الخيوط التي نسجها في الأجزاء السابقة حول الجوهر، والعقل، والطبيعة، والانفعالات، لتلتقي عند غايته القصوى: الحبّ العقلي لله (Amor Dei Intellectualis).
 هنا يقدّم الفيلسوف تجربة عقلية روحية يتوحّد فيها الفهم بالفرح، والعقل بالحب، والضرورة بالحرية. إنها لحظة الصفاء القصوى التي يُدرك فيها الإنسان أن وعيه هو استمرار للوعي الإلهي، وأنّ معرفته بالعالم ليست سوى معرفة الله بنفسه من خلال الإنسان.
 لكن هذا الحبّ الذي يتحدّث عنه سبينوزا هو حالة عقلية خالصة، تنبع من أعمق مستويات الفهم وليس حبًّا عاطفيًا أو وجدانيًا كما في التصورات الدينية التقليدية . فالحبّ العقلي لله يقوم على المعرفة الحدسية الكاملة بنظام الطبيعة الإلهية لا على التوسّل أو الخشية أو الرجاء. حين يدرك الإنسان أن وجوده هو أحد تجليات الجوهر الكلي الضرورية، تنحلّ الثنائية بين الخالق والمخلوق، بين الذات والعالم، ويغدو الكلّ تعبيرًا واحدًا عن الوجود المطلق الذي يسري في كل شيء.
 في هذا الإدراك العميق، تزول كل الانفعالات السلبية التي تقيّد الإنسان — الخوف، والغيرة، والحسد، والقلق — لأنها جميعًا وليدة الوهم بالانفصال والجهل بوحدة الوجود. من يفهم أنه جزء من الطبيعة الإلهية لا يخاف الفناء، لأنه يدرك نفسه في الأبدية، لا في الزمن. فهو لا يطلب المكافأة، ولا يخشى العقاب، إذ يعلم أن الخير والشر، كما يفهمهما الناس، درجات من الفهم والجهل وليست حقائق مطلقة.
 هكذا تتحوّل المعرفة عند سبينوزا إلى تجربة روحية عقلية، إلى نوع من الوعي الكوني الذي يرى الأشياء "من حيث هي متصلة بالله". وهذا هو ما يسمّيه المعرفة الحدسية (Scientia Intuitiva)، وهي أعلى مراتب الإدراك، تتجاوز المعرفة التجريبية والعقلية لأنها تدرك الضرورة الكونية عبر رؤية كلية يدرك فيها الإنسان الجزئي بوصفه مظهرًا من مظاهر الكلّ. إنها لحظة تذوب فيها الذات الفردية في نظام الوجود، وتدرك أن كل ما هو موجود هو في الله، وأن الله هو في كل ما هو موجود.
 يقول "إن أعظم خير للعقل هو معرفة الله، وفضيلة العقل العظمى هي معرفة الله"
 ومن هذا الفهم تنبثق السعادة الحقة. فالسعادة عند سبينوزا فرح مصحوب بالفهم وليست انفعالًا مؤقتًا أو شعورًا نفسيًا زائلًا ، فكلّما ازداد الإنسان معرفة بالنظام الكوني، ازداد حبّه لله، لأن الحب العقلي ليس سوى لذّة الفهم حين يدرك العلّة الحقيقية لكل الأشياء. هذه اللذّة هي لذة عقلية خالصة، وهي دائمة لأنها تتعلّق بالضرورة الأبدية لا بالتحوّلات الزمنية. إنّها فرح العقل بنظامه، وفرح الإنسان بتوافقه مع الكلّ.
 ومن هذا المنظور، يصبح الخلود عند سبينوزا بقاء الفكرة لا بقاء الجسد بعد الموت ، فالعقل الإنساني، حين يبلغ ذروة المعرفة، يشترك في الفكر الإلهي نفسه، ويصير جزءًا من الوعي الأبدي الذي لا يُفنى. ما يبقى من الإنسان هو ما فيه من فكرٍ صافٍ، لأن الفكر هو البعد الأبدي فينا، والجهل هو ما يربطنا بالزمن والفناء. لذا، فـ"من يعيش في ضوء الفهم يعيش في الأبد"، كما يقول سبينوزا.
 بهذا المعنى، تتجلّى الحرية القصوى في الانسجام العاقل مع القوانين لا التحرر منها. إنّ الإنسان الذي يعرف الضرورة يتماهى معها ولا يعارضها، لأن معرفته بها هي مشاركة في فعلها. وهنا تتحدّ الأخلاق بالميتافيزيقا، ويتحوّل الفكر الفلسفي إلى حكمة وجودية: أن يكون الحبّ معرفة، والمعرفة حرية، والحرية انسجامًا مع الله.
 في هذه اللحظة، يكتمل البناء السبينوزي:
 العقل الذي بدأ رحلته بفهم الجوهر الواحد، وواصلها بتحليل الجسد والانفعالات، يبلغ الآن ذروة نضجه في الحبّ العقلي لله.
 إنها سعادة العقل الأبدية، التي تتعلّق بالرؤية الواضحة لوحدة الوجود — رؤية تجعل الإنسان لا شيئًا في مقابل الله، أنما فكرةً في فكر الله نفسه.
 وهكذا يختم سبينوزا الأخلاق بما يمكن اعتباره أرقى صياغة فلسفية للحكمة القديمة:
 أن تكون حرًّا يعني أن تفهم،
 وأن تفهم يعني أن تحب،
 وأن تحبّ يعني أن تشترك في الأبدية ذاتها.
 
 #رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
       
 
 ترجم الموضوع 
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other 
languages
 
 
 
الحوار المتمدن مشروع 
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم 
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. 
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في 
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة 
في دعم هذا المشروع.
 
       
 
 
 
 
			
			كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية 
			على الانترنت؟
    
 
 
 
                        
                            | رأيكم مهم للجميع
                                - شارك في الحوار
                                والتعليق على الموضوع للاطلاع وإضافة
                                التعليقات من خلال
                                الموقع نرجو النقر
                                على - تعليقات الحوار
                                المتمدن -
 |  
                            
                            
                            |  |  | 
                        نسخة  قابلة  للطباعة
  | 
                        ارسل هذا الموضوع الى صديق  | 
                        حفظ - ورد   | 
                        حفظ
  |
                    
                        بحث  |  إضافة إلى المفضلة
                    |  للاتصال بالكاتب-ة عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
 
 | - 
                    
                     
                        
                    الفردية والإيديولوجيا: قراءة فلسفية ونفسية في فكر كارل يونغ - 
                    
                     
                        
                    أفول أوروبا: بين النقد الجذري لأونفراي والسخرية الاستراتيجية
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق
 - 
                    
                     
                        
                    حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
 - 
                    
                     
                        
                    التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
 - 
                    
                     
                        
                    رافاييل: الجمال والانسجام
 - 
                    
                     
                        
                    وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
 - 
                    
                     
                        
                    الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
 - 
                    
                     
                        
                    حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
 - 
                    
                     
                        
                    في نقد الإيديولوجية النسوية
 - 
                    
                     
                        
                    الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / ر
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
 - 
                    
                     
                        
                    نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    مجرد ذكرى يمحمد
 - 
                    
                     
                        
                    هد وانا اهد
 - 
                    
                     
                        
                    يمحمد
 - 
                    
                     
                        
                    منقذي من الظلال
 - 
                    
                     
                        
                    في ذكرى الغزو ...رواية جديدة لا يعرفها احد
 - 
                    
                     
                        
                    في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو
 
 
 المزيد.....
 
 
 
 
 - 
                    
                     
                      
                        
                    مصر.. الداخلية تعلن عن التحويلات المرورية خلال حفل افتتاح ال
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    فيديو - بن غفير يتباهى بإهانة أسرى فلسطينيين ويدعو إلى إعدام
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    مهر صغير بحجم كلب -سبانييل- يجذب الأنظار في مركز إنقاذ للحيو
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    السودان ـ تنديد أممي بـ-انتهاكات مروعة وإعدامات ميدانية- بال
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    فطر برائحة الأزهار يجذب البعوض ويقضي عليه بأمان
 - 
                    
                     
                      
                        
                    إسرائيل:الحريديم يحتجون ضد التجنيد الإلزامي
 - 
                    
                     
                      
                        
                    فرنسا تقرر اتخاذ إجراءات -طارئة- قبل نهاية العام لتأمين محيط
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    سكان شمال غزة يعيشون بين الركام وخطر -الخط الأصفر-
 - 
                    
                     
                      
                        
                    -نحن نصلي ونخدم ونموت-.. جنود إسرائيليون غاضبون من الحريديم
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    تركيا تدعو لاجتماع لتثبيت اتفاق غزة وتتهم نتنياهو بتخريبه
 
 
 المزيد.....
 
 - 
                    
                     
                        
                    من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
                     / غازي الصوراني
 - 
                    
                     
                        
                    الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
                        ...
                    
                     / فارس كمال نظمي
 - 
                    
                     
                        
                    الآثار العامة للبطالة
                     / حيدر جواد السهلاني
 - 
                    
                     
                        
                    سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي 
                     / محمود محمد رياض عبدالعال
 - 
                    
                     
                        
                    -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
                        ...
                    
                     / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
 - 
                    
                     
                        
                    المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
                     / حسنين آل دايخ
 - 
                    
                     
                        
                    حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
                     / أحمد التاوتي
 - 
                    
                     
                        
                    قتل الأب عند دوستويفسكي
                     / محمود الصباغ
 - 
                    
                     
                        
                    العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
                        ...
                    
                     / محمد احمد الغريب عبدربه
 - 
                    
                     
                        
                    تداولية المسؤولية الأخلاقية
                     / زهير الخويلدي
 
 
 المزيد.....
 
 |