|
|
الفردية والإيديولوجيا: قراءة فلسفية ونفسية في فكر كارل يونغ
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 16:13
المحور:
قضايا ثقافية
تأتي مقولة كارل يونغ: "لا أريد أن يكون أحدهم يونغياً، أو أن يتبعني اتباعًا أعمى، أريد من الناس أن يكونوا أنفسهم قبل كل شيء. أما بالنسبة لـ ‘الإيديولوجيات’، فهي الفيروسات في عصرنا، وهي مسؤولة عن كوارث أكبر من أي طاعون أو وباء في العصور الوسطى. إذا وُجدت في يوم من الأيام أنني قد خلقت إيديولوجية جديدة، فذلك يعني أنني قد فشلت في كل ما حاولت القيام به." في قلب فلسفته النفسية والتحليلية، إذ تتجلى فيها رؤية يونغ للفردية، الحرية، ومسؤولية الوعي. هذه المقولة تحمل تحذيرًا صارمًا ضد أي محاولة لتقييد العقل البشري، سواء عبر اتباع المعلمين الأعمى أو عبر الانصياع للأيديولوجيات. هدف الدراسة هنا هو تحليل المقولة من منظور فلسفي، نفسي، واجتماعي، وربطها بسياقها المعاصر، لتبيان كيفية مواجهة الإنسان الحديث للضغوط الفكرية والرقمية دون أن يفقد استقلاله النفسي والفكري.
●الفردية كشرط أساسي للوعي
يرى كارل يونغ أن مفهوم الفردية (Individuation) هو الركيزة الجوهرية التي يقوم عليها الوعي الذاتي الكامل. فعملية التفرد عنده هي رحلة وجودية نحو إدراك الذات بكل تناقضاتها وأعماقها، بما في ذلك الجوانب المظلمة والمكبوتة من النفس البشرية. إنّها، في جوهرها، مسار للتحرر من الأنماط الجمعية التي تفرضها الثقافة أو الجماعة أو السلطة الفكرية، وصولًا إلى وعيٍ فرديٍّ ناضج قادر على التمييز بين ما هو أصيل في التجربة الإنسانية وما هو مكتسب أو مفروض. من هذا المنطلق، تصبح الفردية عند يونغ شرطًا للوعي، لأنها تمثل عملية تصالح بين الذات وجوانبها اللاواعية، بين النور والظل، وبين الإرادة الداخلية وضغوط الخارج. إنها ليست رفضًا للآخرين بقدر ما هي تحرّر من التبعية الفكرية، ومن الانصياع لأي منظومة معرفية جاهزة تُقمع فيها الأصالة لحساب الامتثال.
●نقد الفكر الأعمى والتبعية المعرفية
ينتقد يونغ ما يسميه بـ"الفكر الأعمى"، أي التفكير الذي يسلم نفسه لسلطة الرموز أو الأشخاص دون مساءلة أو تمحيص. فهو يرفض أن يتحول الإنسان إلى نسخة مكررة من الآخرين، أو تابعًا لأي مدرسة فكرية أو نفسية، بما في ذلك مدرسته هو. ولهذا، عبّر بوضوح عن رفضه لفكرة أن يكون هناك "يونغيون أعمى" — أي من يكرر أفكاره دون أن يمارس التفكير النقدي المستقل. بهذا المعنى، الفردية عند يونغ تتخذ بعدًا إبستمولوجيًا، أي أنها دعوة إلى مقاومة الهيمنة المعرفية والتمسك بحق الذات في التفكير، وإعادة تأويل العالم بما يتسق مع تجربتها الخاصة.
●الفردية والتفكير النقدي
في سياق التفكير النقدي، تتقاطع رؤية يونغ مع الفلسفة التنويرية عند كانط، ولا سيما في شعاره الشهير: "لتكن لديك الشجاعة في استخدام عقلك بنفسك" (Sapere Aude). فكما اعتبر كانط أن التنوير هو خروج الإنسان من حالة الوصاية الفكرية، يرى يونغ أن الوعي الفردي لا يكتمل إلا حين يجرؤ الإنسان على مواجهة تناقضاته، والانفتاح على عمقه النفسي، والبحث عن معنى شخصي للوجود خارج القوالب الجاهزة. إنّ التفكير النقدي هنا هو شرط للحرية الداخلية، ولتحقيق الذات في عالم تتكاثر فيه الأصوات التي تدعو إلى الامتثال والطاعة.
●الإنسان كائن كامل بذاته
ومع ذلك، فإن الفردية لا تعني الانغلاق أو العزلة الأنانية، بقدر ماهي حوار دائم بين الداخل والخارج، بين الغرائز والعقل، وبين الطبيعة والثقافة. الإنسان عند يونغ لا يكتمل إلا حين يدرك هذا التوازن الدينامي بين مكونات ذاته المختلفة، ويعي أن وعيه الفردي يتغذى من الوعي الجمعي ويتجاوزه في الوقت ذاته. هكذا تتجسد الفردية بوصفها حالة من الاكتمال الإنساني، لا تتحقق إلا عبر التفاعل الواعي مع العالم، لا الخضوع له، وعبر الإصغاء للذات دون أن تتحول إلى معبد مغلق، لكن يكون فضاءً مفتوحًا للحوار والاختبار والنضج الروحي والفكري.
● فيروس الإيديولوجيا
يرى كارل يونغ أن الإيديولوجيات تشكّل أحد أخطر الأمراض التي تصيب الوعي الإنساني، إذ تعمل بوصفها فيروسات عقلية واجتماعية تتسلل إلى البنية النفسية للفرد والمجتمع معًا، فتصيب قدرتهما على التفكير المستقل بالشلل. يستخدم يونغ هنا استعارة طبية دقيقة وقوية: كما يتسلل الفيروس البيولوجي إلى الجسد فينهكه من الداخل، تتسلل الإيديولوجيا إلى العقل الجمعي فتخدره بشعور زائف باليقين، وتدمر مناعته النقدية شيئًا فشيئًا، حتى يتحول الإنسان إلى كائن مطواع لا يرى إلا من خلال منظار واحد. هذه الفيروسات الفكرية تستهدف العقل والثقافة، وتعمل على قتل ما يسميه يونغ "الوظيفة المتفردة للوعي"، أي تلك الطاقة التي تجعل الإنسان قادرًا على التساؤل، والمراجعة، وإعادة التفكير في المسلّمات. حين تتغلغل الإيديولوجيا في النفس، فإنها تحجب الفرد عن مواجهة التعقيد الطبيعي للواقع، وتمنحه إحساسًا كاذبًا بالطمأنينة، عبر اختزال العالم في ثنائيات مريحة: خير/شر، نحن/هم، إيمان/كفر، وطنية/خيانة. هكذا تنشئ الإيديولوجيا نظامًا نفسيًا مغلقًا يقاوم أي محاولة للفهم أو الحوار أو التعدد.
●الإيديولوجيا أداة للهيمنة الجماعية
يتجاوز خطر الإيديولوجيا المستوى الفردي إلى المستوى الجمعي، حيث تتحول إلى أداة للهيمنة والسيطرة. فالتاريخ، كما يشير يونغ في تحليلاته للطبيعة البشرية، هو سجل متكرر لصراعات إيديولوجية تتخفى تحت شعارات دينية أو سياسية أو أخلاقية. من الحروب الدينية في العصور الوسطى، إلى الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، ظلت الإيديولوجيا تُنتج العنف باسم الحقيقة، وتبرر الإقصاء باسم العدالة، وتحوّل الإنسان إلى وقود لمشروعها الكلياني. إنها تقتل باسم الإيمان، وتستعبد باسم التحرر. في هذا السياق، يمكن قراءة تحذير يونغ من أن المجتمعات التي تفقد وعيها النقدي تقع فريسة لما يسميه "الظل الجماعي" — أي الجانب المظلم من النفس الجمعية الذي يتجسد في الكراهية والعدوان والتماثل القطيعي.
●الإيديولوجيا الرقمية: الوجه المعاصر للعدوى الفكرية
في العصر الحديث، ومع الثورة الرقمية، تحوّل هذا الفيروس إلى شكل جديد أكثر خفاءً وانتشارًا، فيما يمكن تسميته بـالإيديولوجيا الرقمية. فوسائل التواصل الاجتماعي، بخوارزمياتها الموجّهة، تُنتج أنماطًا جديدة من الهيمنة المعرفية، حيث يتم تشكيل الوعي الجماعي عبر تدفق مستمر من الصور، والشعارات، والرؤى المعلّبة. يغدو الإنسان المعاصر، من حيث لا يدري، نسخة رقمية طيّعة مبرمجة على التفكير ضمن قوالب جاهزة؛ يتبنى أفكارًا ويهاجم أخرى دون وعي حقيقي بمصدرها أو بسياقها. بهذا المعنى، فإن الأصنام القديمة التي كانت تتجسد في المعابد أو الأنظمة العقائدية، تحوّلت اليوم إلى أصنام رقمية تُعبد في فضاءات الإنترنت، حيث يتشكل الانتماء الجمعي حول رموز وصور وشخصيات، تمامًا كما حذّر يونغ من خطورة تحويل الرموز إلى آلهة جديدة تُغلق الأفق الروحي والفكري للإنسان.
في نظر يونغ، لا يكمن الخطر الأكبر في الإيديولوجيا ذاتها، لكن في قابلية الإنسان لتقبّلها دون وعي، وفي حاجته النفسية إلى اليقين والانتماء، اللتين تغذّيان انتشارها. لذلك فإن مقاومة هذه العدوى تتم عبر إحياء الوعي الفردي الحر، الذي يوازن بين العقل والحدس، بين التفكير النقدي والبعد الروحي، ليبقى الإنسان كائنًا مفتوحًا على التعدد، لا رهينة لفكرة واحدة تُصادر إنسانيته باسم الحقيقة. فالإنسان المعاصر يعيش في زمن غير مسبوق من حيث التشابك المعلوماتي والتدفق الرقمي، حيث أصبحت البيئة الرقمية المحيطة به فضاءً نفسيًا واجتماعيًا جديدًا يُعاد فيه تشكيل الوعي، وتُعاد صياغة القيم والمعاني. في هذا الفضاء المتسارع، لم تعد الإيديولوجيا بحاجة إلى مؤسسات ضخمة أو أجهزة دعاية تقليدية كي تفرض هيمنتها؛ فقد أصبحت المنصات الاجتماعية هي المعبد الجديد الذي تُصاغ فيه القناعات وتُوجَّه فيه العقول. في هذا السياق، تصبح الإيديولوجيات الرقمية أشبه بعدوى فكرية تنتشر بسرعة الضوء، تتخفّى في هيئة محتوى ترفيهي أو رأي جماعي أو “ترند”، لكنها في حقيقتها تعمل على توحيد أنماط التفكير وتحويل المستخدمين إلى نسخ فكرية متطابقة، تردد ما يُقال دون وعي أو مساءلة. لقد أوجدت الثورة الرقمية شكلاً جديدًا من التبعية الفكرية، يُمارس عبر الإغواء. فالإنسان اليوم يعيش تحت ضغط مستمر لـ"المواكبة" و"التفاعل"، ما يجعله عرضة لأن يفقد صوته الخاص وسط ضجيج الآراء والبيانات. وبهذا المعنى، يتحقق ما كان يونغ يحذر منه: اختفاء الفرد داخل الجماعة، وذوبان الذات في وعي جمعي مبرمج لا يسمح بالاختلاف أو التأمل. فكل نقرة، وكل إعجاب، وكل مشاركة هي في جوهرها فعل رمزي للانصياع، يعيد إنتاج منظومات فكرية جاهزة تُقدَّم تحت شعارات الحرية والتنوع، بينما هي في الحقيقة تُكرّس خضوعًا جديدًا أكثر خفاءً وفعالية.
في ظل هذا المشهد، تصبح القدرة على التفكير المستقل وممارسة النقد الذاتي مسألة بقاء نفسي وفكري. فالوعي صار ضرورة وجودية في مواجهة فيض المعلومات والآراء المتناقضة التي تُغرق الإنسان المعاصر. إنّ مقاومة التأثير الرقمي تعني امتلاك مناعة فكرية تُمكِّن الفرد من التمييز بين الحقيقة والرأي، المعرفة والدعاية، الأصالة والتقليد. بهذا المعنى، يمكن القول إن معركة الوعي في القرن الحادي والعشرين لم تعد تُخاض ضد الإيديولوجيا التقليدية وحدها، لكن ضد الإيديولوجيا الشبكية التي تتخفّى خلف الشاشات، وتستبدل الحقيقة بالضجيج، والحرية بالانصياع الطوعي.
●الفشل في خلق إيديولوجيا جديدة
يؤكد كارل يونغ أن أي محاولة لابتكار أو تأسيس إيديولوجيا جديدة تمثل في جوهرها فشلًا فلسفيًا وإنسانيًا. فالإيديولوجيا، مهما كانت نواياها إصلاحية أو مثالية، تنطوي على خطر جوهري يتمثل في سعيها إلى فرض نسق موحّد للتفكير، يحدّ من تنوع التجارب الفردية ويخنق حرية الوعي. إنّها، بحسب يونغ، تعبير عن حاجة الإنسان المرضية إلى النظام والثبات، تلك الحاجة التي تجعله يهرب من مواجهة غموض الوجود وتعقيده عبر اللجوء إلى منظومات فكرية جاهزة تمنحه وهم الأمان العقلي. غير أن هذا الأمان يتحقق بثمن باهظ: محو الفرد بوصفه كائنًا حرًّا ومسؤولًا عن ذاته.
ففي كل محاولة لتوحيد الفكر أو فرض اتجاه عقائدي عام، يتم تقويض ما يسميه يونغ بـعملية الفردية (Individuation)، وهي العملية التي تمثل قلب مشروعه النفسي والفلسفي. فالإيديولوجيا تعمل على تسوية الاختلافات ومحو التفرّد لصالح الانتماء إلى منظومة فكرية مغلقة، بينما تتطلب الفردية بالضرورة الانفتاح على تعدد الأصوات والتجارب داخل الذات والمجتمع. وبذلك، فإن الإيديولوجيا، حتى حين تُقدَّم كوسيلة للإصلاح أو النهضة، تتحول إلى نظام من الإكراه الرمزي يُخضع العقل الجمعي لقوالب جاهزة، ويمنع الإنسان من اختبار العالم بعقله الخاص. كل محاولة لتوحيد الرؤية أو فرض “الحقيقة الواحدة” تعني خيانة لجوهر التجربة الإنسانية، التي تتأسس على التناقض، والبحث، واللايقين الخلّاق.
●الفردية والمسؤولية الفكرية
يرى يونغ أن الحرية الحقيقية لا تُقاس برفض الإيديولوجيات القائمة فحسب، لكن أيضًا بالامتناع عن إنتاج إيديولوجيات جديدة. فالمثقف أو المصلح الذي يسعى إلى "تحرير" الناس عبر فكرة جاهزة يقع في التناقض نفسه الذي سعى لتجاوزه، إذ يستبدل سلطة بسلطة، وقيودًا بآخرى. إنّ الفردية المسؤولة، كما يفهمها يونغ هي التزام أخلاقي بعدم فرض الفكر على الآخرين، واحترام حقهم في الاختلاف، وفي صياغة تجاربهم ورؤاهم الخاصة. فالإكراه الفكري، حتى حين يتخذ شكلًا نبيلًا أو مصلحًا، يظل شكلًا من أشكال القمع، لأنه يصادر حق الإنسان في أن يخطئ ويتعلم ويكتشف ذاته.
لهذا يرى يونغ أن مشروع "خلق إيديولوجيا جديدة" ليس سوى تكرار للدائرة القديمة التي تحوّل الفكر إلى عقيدة، والعقل إلى أداة للهيمنة. فكل إيديولوجيا، مهما ادّعت التجدد، تحمل في داخلها بذور الجمود، لأنها تسعى إلى توحيد ما لا يُوحَّد: التجربة البشرية ذاتها. أما الطريق البديل، فيكمن في تحرير الوعي الفردي ليكون قادرًا على المشاركة النقدية في العالم دون أن يُستَلب منه، وعلى التفكير في الحقيقة دون أن يدّعي امتلاكها.
● الرؤية النفسية والفلسفية
يُشكّل فكر كارل يونغ جسرًا متينًا بين التحليل النفسي والفلسفة الوجودية، إذ يتقاطع مع الأخيرة في جوهر ما تطرحه من أسئلة حول الحرية، والمسؤولية، وتحقيق الذات. ففي صميم فلسفة يونغ يقف مفهوم الفردية (Individuation)، وهو العملية التي يسعى فيها الإنسان إلى أن يصبح ذاته الحقيقية، عبر مصالحة أجزائه المتناقضة والاعتراف بعالمه الداخلي العميق، خصوصًا تلك المناطق المظلمة والمكبوتة في اللاوعي. يُشبه هذا المسار إلى حد بعيد ما يطرحه جان بول سارتر في رؤيته الوجودية، حيث الإنسان محكوم بالحرية، أي أنه مدفوع لأن يختار ويصنع وجوده من خلال أفعاله ومسؤوليته الشخصية. وكما أن الحرية عند سارتر عبئًا وجوديًا، كذلك يرى يونغ أن تحقيق الذات لا يتم إلا بمواجهة القلق والاضطراب الناتجين عن وعي الفرد بانفصاله عن القطيع، وبدخوله في حوار دائم مع ذاته العميقة. فالفردية، في الحالتين، هي مغامرة الوعي الحرّ في مواجهة الجبر الاجتماعي والنفسي. في كل من التصورين، يحتل الآخر موقعًا مركزيًا في تحديد حدود الحرية الفردية. عند سارتر، الآخر هو ذلك الكائن الذي "ينظر" إليّ فيحوّلني إلى موضوع، بينما عند يونغ يتجسد الآخر في الرموز الاجتماعية، وفي النماذج الفكرية والنفسية التي تفرضها الجماعة على الفرد، فتحد من قدرته على أن يكون ذاته. إنّ الآخر، في هذا المعنى هو سلطة رمزية شاملة — قد تكون ثقافية، دينية، أو سياسية — تضغط على الوعي الفردي وتدفعه إلى الامتثال. وهنا تتقاطع الرؤية النفسية عند يونغ مع الرؤية الفلسفية عند الوجوديين، إذ يُنظر إلى الإنسان ككائن محاصر بالتقاليد، والمفاهيم، والمعتقدات، ولا يمكنه أن يتحرر إلا عبر وعيه بوجود هذه القيود ومقاومتها من الداخل.
تُظهر المقارنة بين يونغ وسارتر أن الحرية هي مسؤولية داخلية تنبع من الوعي الذاتي. فالفرد عند يونغ لا يكون حرًا إلا حين يتصالح مع لاوعيه، ويعي الظلّ الكامن فيه، ويقبل التعدد والتناقض داخل ذاته. أما عند سارتر، فالحرية تُقاس بقدرة الإنسان على صناعة المعنى عبر اختياراته. في الحالتين، يتحول الإنسان من كائن منفعل إلى كائن فاعل، يصنع وجوده عبر الصراع مع المحددات الخارجية والداخلية على حد سواء.
من هنا يمكن القول إنّ الرؤية النفسية عند يونغ والرؤية الفلسفية عند سارتر تلتقيان في تأكيدهما على أن الإنسان يُعرَّف بما يخلقه في ذاته. فالوعي الفردي هو الساحة التي يُمارَس فيها الصراع بين الحرية والسلطة، بين الوعي واللاوعي، بين الأنا والجماعة. وعبر هذا الصراع وحده يمكن للإنسان أن يكتشف ذاته الحقيقية، ويمنح لحياته معنى يتجاوز الأطر الجاهزة التي يصنعها المجتمع أو التاريخ أو الإيديولوجيا.
●البعد النقدي الاجتماعي والسياسي
يقدّم هذا البعد نقطة التقاء عميقة بين التحليل النفسي عند يونغ والنقد الاجتماعي كما بلوره فوكو وأدورنو. ففوكو، في تفكيكه لبنية السلطة، يكشف أن السيطرة تُمارس عبر آليات دقيقة من المراقبة وإنتاج المعرفة والانضباط. السلطة الحديثة تُعيد تشكيل الوعي ذاته من خلال مؤسسات تبدو محايدة كالعلم، والتعليم، والإعلام. أما أدورنو، فيرى أن الأيديولوجيا والثقافة الجماهيرية تُسهم في تثبيت هذا الخضوع، إذ تُنتج أفرادًا متماثلين في رغباتهم وسلوكهم، مستسلمين لسلطة السوق والعرض والاستهلاك، بحيث تصبح الحرية مجرد وهم في نظام يفرز الطاعة في ثوب من المتعة. في ضوء ذلك، يتقاطع يونغ معهما حين يربط بين العبودية النفسية والهيمنة الاجتماعية. فالإنسان الذي يفشل في مواجهة ظله الداخلي، ويظل أسيرًا للأفكار الجاهزة أو الجماعة، لا يستطيع تحقيق فرديته الأصيلة. إنّ التحرر النفسي عند يونغ هو فعل مقاومة ضد البنى القمعية التي تتخفّى في اللغة والعقل الجمعي والأنظمة الأخلاقية. وهكذا يتخذ مفهوم "التفرّد" بعدًا سياسيًا خفيًا: إنه رفض للذوبان في القطيع، وتمسك بالذات كفعل نقدي في وجه قوى التجانس والهيمنة.
●الفردية والتحرر النفسي
يضع يونغ مفهوم التحرر النفسي في قلب مشروعه الفكري، باعتباره جوهر تحقيق الإنسان لذاته الأصيلة. فالحرية، في تصوره، لا تُمنح من الخارج، ولا تتحقق بمجرد الانفصال عن القيود الاجتماعية أو السياسية، لكنها تنبع من الداخل، من عملية شاقة لمواجهة الذات في أعمق مستوياتها. التحرر، إذن، هو فعل وعي ومجاهدة مستمرة ضد الاستلاب الداخلي الذي يصنعه الخوف، والتقليد، والاعتياد على الامتثال. إنّ الحفاظ على استقلال الفكر والوعي يمثل الشرط الأول لأي حرية حقيقية، لأن الانصهار في الجماعة أو الخضوع لخطاب السلطة يعني فقدان البوصلة الداخلية التي تهدي الإنسان إلى ذاته. يدعو يونغ إلى تحرر داخلي مزدوج: من سطوة الجماعة ومن رقابة النفس المقموعة. فالذات التي لم تواجه ظلّها، أي الجانب المكبوت والمظلم منها، تظل سجينة تناقضاتها وغير قادرة على التفرّد أو الاختيار الحر. ومن هنا تتقاطع رؤية يونغ مع الموقف الوجودي لسارتر، في أن الإنسان يُدان بالحرية، أي أنه مجبر على أن يختار ويتحمل مسؤولية اختياره. غير أن يونغ يضيف بعدًا باطنيًا لهذه الحرية: أن مواجهة اللاوعي هي فعل تحرر روحي يعيد الإنسان إلى مركزه الوجودي الأصيل. فالحرية هي القدرة على الوعي بها وتجاوزها.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أفول أوروبا: بين النقد الجذري لأونفراي والسخرية الاستراتيجية
...
-
القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق
-
حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
-
التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
-
رافاييل: الجمال والانسجام
-
وهم الاختيار في الديمقراطية المعاصرة
-
الإنسان المعاصر بين الواقع والواجهة
-
حين يستحم النص: لعبة ما بعد الحداثة في -حمّام النساء- لندى س
...
-
الموضوعية والذاتية: إشكالية الفكر بين الحياد والانحياز
-
في نقد الإيديولوجية النسوية
-
الوطن بين الاسلام السياسي والماركسية والقومية والاستعمار / ر
...
-
الصداقة في الجامعة والجيش والسجن
-
نساء الخلفاء: وثيقة عن الحريم والسلطة وتحولات النفوذ النسائي
...
-
مجرد ذكرى يمحمد
-
هد وانا اهد
-
يمحمد
-
منقذي من الظلال
-
في ذكرى الغزو ...رواية جديدة لا يعرفها احد
-
في ذكرى غزو الكويت: سردية الدولة بين النشأة والمحو
-
التزوير في التاريخ الإسلامي: سلطة الرواية واغتيال الذاكرة
المزيد.....
-
هل تتكرر التجربة مجددًا؟.. مراسل CNN يُحلل احتمال لقاء ترامب
...
-
مسؤولان إسرائيليان لـCNN: فريق مصري سيساعد في البحث عن جثث ا
...
-
عام من الحداد في تايلاند بعد وفاة -الملكة الأم- سيركيت عن 93
...
-
المغنيسيوم: هل يمكن لـ-المعدن المعجزة- أن يساعدنا على النوم؟
...
-
بايرن يعمق جراح غلادباخ بثلاثية ويواصل الهيمنة على صدارة الب
...
-
هل يمكن أن تغفو خلال دقيقتين؟
-
اللياقة البدنية قد تساعد الجسم في التغلب على الجفاف
-
هآرتس: إسرائيل تحوّلت إلى سلطة خاضعة للوصاية الأميركية
-
صحف عالمية: رفض عربي إسلامي يبدد طموح بلير في إدارة غزة
-
شركة رافعات ألمانية تحوّل سرقة متحف اللوفر إلى حملة دعائية س
...
المزيد.....
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
المزيد.....
|