أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - احمد صالح سلوم - القرم إلى الأبد والغاز بالروبل















المزيد.....

القرم إلى الأبد والغاز بالروبل


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 00:25
المحور: كتابات ساخرة
    


استيقظ العالم على صوتٍ لم يتوقّعه أحد: صمت المدافع الذي لم يأتِ من الهزيمة، بل من اكتمال النصر بهدوءٍ يشبه صمت الثلج الروسي حين يغطّي الحقول فلا يُسمع تحتَه إلا نبض الأرض نفسها. لم تسقط موسكو. لم تنفد خزائنها. لم تنكسر إرادتها. بل وقفت، كما وقفت دائمًا، شامخةً كأرز الشمال، تبتسم ابتسامةً عريضةً لمن راهن على سقوطها بعشرين حزمة عقوبات، وبعشرين وعدًا كاذبًا، وبعشرين وهمًا صنعته معامل الدعاية في لندن وواشنطن وبرلين.

كانوا يقولون في البداية إن الأمر لن يستغرق أكثر من أسابيع. قالوا إن موسكو ستغرق في وحل كييف قبل أن يذوب ثلج الشتاء الأول. ثم قالوا: بعد الحزمة الثالثة ستنهار. ثم السابعة. ثم الحادية عشرة. ثم بعد قطع سويفت ستجثو على ركبتيها. ثم بعد ليوبارد الألمانية ستُداس تحت جنازيرها. ثم بعد أبرامز الأمريكية ستُدفن في سهوب دونباس. ثم بعد تفجير نورد ستريم ستموت روسيا برداً وجوعاً. كانوا يكررون الكذبة حتى صدّقوها، وكانوا يبثّونها في كل لغات الأرض حتى ظنّوا أن التكرار يصنع الحقيقة.

لكن الحقيقة، تلك الفتاة الروسية القاسية الجمال، لم تكن بحاجة إلى مكياجٍ غربي. كانت تنام بهدوء في الكرملين، وتستيقظ كل صباح لترى العقوبات تتراكم كأكوام الثلج أمام الباب، فتفتحه ببساطة، وتخرج لتمشي فوقها كأنها بساطٌ أبيض ناعم صنعه الشتاء خصيصاً لتطأه قدماها.

مضت ثلاث سنوات. ثلاث سنواتٍ كاملة والإمبراطوريات الإعلامية الغربية تضخّ الأوهام في عروق العالم كما يضخّ المدمن الهيرويين في ذراعه، يبحث عن نشوةٍ سرعان ما تتلاشى. ثلاث سنوات والروبل الذي تنبّأوا بسقوطه إلى الهاوية يقف اليوم أقوى من معظم عملات أوروبا. ثلاث سنوات والاقتصاد الروسي الذي وعدوا بتدميره ينمو بوتيرة تفوق ألمانيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعة. ثلاث سنوات وخزائن الغاز والنفط التي ظنوا أنها ستنضب قد فتحت أبوابها شرقاً وجنوباً، فصار لروسيا زبائن جدد يدفعون بالروبل واليوان والروبية، ويضحكون على من كان يظن أن العالم كله يبدأ من الأطلسي وينتهي فيه.

وفجأة، في ليلةٍ شتوية من ليالي 2025، انكشفت الأقنعة كلها. تسربت وثيقة من مكتب الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترامب، تحمل عنواناً بسيطاً: "خطة السلام في أوكرانيا – 28 بنداً". لم يكن أحد يتوقع أن يقرأ العالم في تلك الوثيقة ما يشبه وثيقة استسلام كاملة لكييف، بل أكثر من ذلك: تقسيم نفوذٍ جديد بين موسكو وواشنطن، يشبه إلى حدٍ كبير تقاسم يالطا في 1945، لكن هذه المرة بلا حربٍ عالمية، وبلا دباباتٍ في برلين، وبلا قنابل ذرية فوق هيروشيما. مجرد ورقةٍ من 28 بنداً، كتبت بلغةٍ عمليةٍ باردة، تقول ببساطة: لقد انتهى الأمر.

في البند الثالث عشر، تقرّ واشنطن بأن شبه جزيرة القرم "جزء لا يتجزأ من روسيا الاتحادية إلى الأبد". في البند السابع عشر، تتعهد كييف بنزع سلاحها الثقيل كلياً وبأن تصبح دولةً محايدةً غير منضمة لحلف الناتو. في البند العشرين، يُسمح لروسيا بالإبقاء على قواعد عسكرية دائمة في دونباس و خيرسون و زابوريجيا. وفي البند الثامن والعشرين، الأكثر إيلاماً للغرب: يُلغى كل الحزم العقوبات الغربية مقابل التزام روسي بتوريد الغاز والنفط بأسعار تفضيلية لأوروبا لعشرين سنة قادمة.

كانت الوثيقة كأنها صفعةٌ على وجه كل من بشّر بالنصر الأوكراني. كل من جمع التبرعات للجيش الأوكراني في الحفلات الغنائية. كل من رسم العلم الأوكراني على وجوه الأطفال في المدارس الأوروبية. كل من كتب مقالاتٍ طويلة عن "الديمقراطية مقابل الاستبداد" و"النور مقابل الظلام". كل من راهن على أن بوتين لن يصمد عاماً واحداً. كلهم استيقظوا في صباحٍ واحد ليجدوا أن العالم قد تغيّر بين ليلةٍ وضحاها، وأن الرايات الصفراء والزرقاء التي رفعوها بفخرٍ لثلاث سنوات قد أُنزلت بهدوء، وطُويت بعناية، ووُضعت في صندوقٍ خشبيٍ صغير كُتب عليه: "حلمٌ انتهى".

وفي موسكو، لم يحتفلوا كثيراً. لم تُطلق الألعاب النارية. لم تُقم المسيرات. فقط ابتسم الرجل الذي يجلس في الكرملين ابتسامةً خفيفة، كابتسامة لاعب شطرنجٍ يعرف منذ الافتتاحية أنه سيربح، لكنه ترك خصمه يلعب كل جولاته، يضحّي بكل قطعة، يحرق كل جسره، حتى إذا أعلن الكش ملك، لم يكن هناك من يصدّق أن اللعبة كانت محسومة منذ البداية.

اليوم، وبينما تتفاوض واشنطن وموسكو في الخفاء على تفاصيل التقسيم الجديد لأوروبا الشرقية، وبينما تستعد كييف لتوقيع وثيقةٍ ستُنهي حلمها الكبير بدولةٍ قويةٍ موحدةٍ أوروبية، يجلس العالم مذهولاً يراجع شريطه الإعلامي لثلاث سنواتٍ كاملة، يبحث عن لحظةٍ واحدةٍ قال فيها أحدٌ الحقيقة، فيجد أن كل ما سُمع كان كذباً، وكل ما رُسم كان وهماً، وكل ما رُوج له كان مجرد مسرحيةٍ كبرى أُخرجت بإتقان، لكن الجمهور اكتشف في النهاية أن الممثلين كانوا يلعبون على خشبةٍ فارغة، والنصر الحقيقي كان ينتظرهم خارج المسرح، في الثلج الروسي الذي لم يذب أبداً.

هكذا تنتهي الحروب الكبرى أحياناً: ليس بانفجار، بل بهمس. ليس بانتصارٍ صاخب، بل باستسلامٍ صامت. ليس بسقوط مدينة، بل بانهيار أسطورة. وتبقى موسكو، كما كانت دائماً، تقف في الشرق، تبتسم ابتسامةً لا يفهمها إلا من جرب أن يحارب الشتاء الروسي بكلماتٍ فارغةٍ ووعودٍ كاذبة، فيكتشف في النهاية أن الريح وحدها كانت كافية لتطفئ كل شموع الدعاية التي أُضيئت لثلاث سنواتٍ كاملة ظناً منهم أنها ستُضيء طريق النصر.

لكن النور الحقيقي كان دائماً في الشرق. ولم ينطفئ أبداً.

و كوثيقة تاريخية مفيدة للعرض ، في فبراير ١٩٤٥، جلس ثلاثة رجال في قصر ليفاديا المطل على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم، ورسموا خريطة العالم لنصف قرن قادم بأقلام الرصاص على ورقٍ عادي. ستالين يدخّن غليونه، روزفلت يبتسم ابتسامة المريض الذي يعرف أن أيامه معدودة، تشرشل يعبّس وهو يدرك أنه يوقّع على نعي إمبراطوريته. خرجوا من يالطا بتقسيمٍ صارم: أوروبا الشرقية لموسكو، أوروبا الغربية لواشنطن ولندن، والصين مفتوحة للجميع، واليابان للأمريكيين وحدهم. كان الثمن دماء خمسين مليون إنسان، ومدن محترقة، وقنبلتين ذرّيتان، وأساطيل غارقة. كان النصر مكلفًا، لكنه كان نصرًا حقيقيًا.

بعد ثمانين عامًا بالضبط، في نوفمبر ٢٠٢٥، يجلس رجلان فقط، ليس في قصرٍ تاريخي بل في غرفةٍ فندقيةٍ في الرياض أو إسطنبول أو ربما في مكالمة زووم مشفّرة، ويوقّعان على ورقةٍ من ٢٨ بندًا تُعيد تقسيم أوروبا الشرقية من جديد. لا ستالين ولا روزفلت ولا تشرشل، بل بوتين وترامب، أحدهما يرتدي بدلةً سوداء والآخر ربطة عنق حمراء، وكلاهما يبتسم ابتسامة رجل الأعمال الذي أنهى صفقة مربحة قبل موعدها. لا دماء، لا مدن محترقة، لا قنابل ذرية، فقط ثلاث سنوات من الحرب بالوكالة، وخمسمئة ألف قتيل أوكراني معظمهم لم يسمع بهم أحد في واشنطن، وعشرون حزمة عقوبات تحولت إلى نكتة، وخط أنابيب نورد ستريم تحول إلى نصب تذكاري تحت البحر.

في يالطا ١٩٤٥، كان الغرب قد انتصر في الحرب العالمية، فحصل على نصف أوروبا وكل آسيا تقريبًا.
في «يالطا ٢٠٢٥»، لم ينتصر الغرب في أي حرب، بل خسر حربًا لم يجرؤ على خوضها بنفسه، فاضطر إلى تسليم كل ما تبقّى من أوروبا الشرقية، وإلغاء عقوباته، ودفع تعويضات غير مباشرة عبر فواتير الغاز «التفضيلي» لعقدين قادمين.

في يالطا الأولى، كان ستالين يطالب ويأخذ، لأن جيشه كان على بعد ٨٠ كيلومترًا من برلين.
في يالطا الجديدة، بوتين يطالب ويأخذ، لأن جيشه على بعد ٨٠ كيلومترًا من كييف منذ ثلاث سنوات ولم يتحرك أحد لإخراجه.

في يالطا ١٩٤٥، كان تشرشل يبكي سرًا على بولندا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا.
في ٢٠٢٥، لم يبكِ أحد على أوكرانيا علنًا، لأن الجميع كانوا مشغولين بحساب كلفة التدفئة في بروكسل وبرلين.

في يالطا القديمة، خرج الاتحاد السوفييتي بأكبر مكاسب إقليمية في تاريخه منذ عهد كاترين العظيمة.
في يالطا الجديدة، خرجت روسيا بكل ما طالب به بوتين في ديسمبر ٢٠٢١… وأكثر قليلاً، وبدون أن تطلق رصاصةً واحدةً على جنديٍ أمريكي أو ألماني.

الفرق الوحيد، والأكثر سخريةً في التاريخ كله، أن يالطا ١٩٤٥ كلّفت الغرب انتصارًا عسكريًا هائلاً ليقبل بها،
بينما يالطا ٢٠٢٥ كلّفته هزيمةً استراتيجية مدوّية… ليوقّع عليها بنفسه، وبابتسامةٍ عريضة، ويسميها «صفقة القرن».

هكذا يكتب التاريخ فصلاً جديدًا في كتابه الأسود:
المرة الأولى التي يُهزم فيها الغرب في حربٍ لم يقاتلها،
ويوقّع فيها على استسلامه في منتجعٍ خمس نجوم،
ويصف الاستسلام بأنه «إعادة ضبط للنظام العالمي»،
بينما يعود إلى بيته ليدفع فاتورة الغاز… بالروبل.
……..

المادة الساخرة


يالطا ٢٠٢٥: الاستسلام بخصم عشرين حزمة عقوبات


إذا تأملنا ، سياق الدراسات الجيوسياسية المعاصرة، وتحديدًا في فرعها الفرعي المعروف بـ«علم التنبؤ الإعلامي الغربي بالكارثة الروسية»، يمكننا اليوم، وبكل اطمئنان أكاديمي، أن نعلن عن اكتمال مرحلة بحثية دامت ثلاثة أعوام كاملة، أثبتت فيها الفرضية التالية بيقين يقترب من اليقين الرياضي: كلما زاد عدد حزم العقوبات، ازدادت قوة الروبل، وكلما ارتفع صوت الإعلام الأطلسي في التنبؤ بالسقوط الوشيك، اقترب موعد الاستسلام الأوكراني الفعلي.

لقد بدأت الدراسة في فبراير ٢٠٢٢ بفرضيةٍ بسيطةٍ أطلقها نخبة من المحللين في واشنطن وبرلين ولندن مفادها أن العملية العسكرية الروسية تستغرق «أيامًا قليلة فقط»، ثم تطورت الفرضية بأسلوبٍ علميٍ صارم إلى «أسابيع»، ثم «أشهر»، ثم «قبل نهاية العام»، ثم «بعد الحزمة الخامسة بالتأكيد»، ثم «بعد السابعة عشرة لا شك»، وصولًا إلى الاكتشاف النهائي المذهل الذي يُعدّ إنجازًا معرفيًا نادرًا: كلما ازدادت الحزم عددًا، قلّت احتمالية انهيار الاقتصاد الروسي، وكأننا أمام ظاهرة فيزيائية جديدة يمكن تسميتها «فاعلية العقوبات العكسية».

وقد أُجريت تجارب ميدانية مكثفة على عينة واسعة من الدبابات الغربية: ليوبارد ٢ الألمانية التي كان من المفترض أن تُحدث «تأثيرًا نفسيًا مدمرًا» على الجندي الروسي، تبيّن أن تأثيرها النفسي الحقيقي كان على الجندي الأوكراني نفسه الذي اكتشف أن الدبابة تحتاج إلى قطع غيار ألمانية لا تُرسل إلا بعد استيفاء استمارة بيئية من ٤٧ صفحة. أما أبرامز الأمريكية فقد أثبتت نظرية جديدة في علم الميكانيكا تُسمى «نظرية الجنزرة المتحفظة»: كلما اقتربت الدبابة من خط الجبهة، زادت رغبتها في العودة إلى قاعدة الصيانة في بولندا لإجراء فحص دوري لفلتر الوقود.

أما على صعيد الاقتصاد، فقد شهدنا ظاهرة أخرى تستحق جائزة نوبل في الاقتصاد لو كانت الجائزة تُمنح للصدق العلمي: كلما قُطعت أنبوب غاز روسي، ظهر أنبوب آخر في مكان لم يكن موجودًا على الخريطة من قبل. نورد ستريم ١ و٢ ينفجران؟ لا بأس، يظهر فجأة خط «قوة سيبيريا ٢» و«ترك ستريم» وخطوط أخرى يبدو أنها كانت تنتظر لحظة الانفجار تخرج من سباتها الجيولوجي. أوروبا تتجمد؟ لا عليك، الصين والهند يشتريان النفط بكميات تجعل الخزانة الروسية تُصدر صوتًا شبيهًا بآلة عدّ النقود في كازينو لاس فيغاس.

وفي الختام، وبعد ثلاث سنوات من البحث الميداني المكثف، يسرّنا أن نعلن عن النتيجة النهائية التي وصل إليها فريق البحث الدولي المشترك (بقيادة دونالد جيه ترامب شخصيًا): وثيقة من ٢٨ بندًا تحمل عنوانًا متواضعًا «خطة السلام»، وهي في الحقيقة وثيقة استسلام أوكراني شاملة، تتضمن الاعتراف الأبدي بالقرم، ونزع السلاح الثقيل، والحياد الدائم، والقواعد الروسية في أربع مناطق، وإلغاء كل العقوبات، مقابل وعد روسي كريم ببيع الغاز لاوروبا بأسعار «تفضيلية» (أي أغلى قليلًا من السابق لكن أرخص بكثير من الغاز الأمريكي المُسال الذي كان يُباع بثمن روح القارئ الأوروبي).

وهكذا، وبعد كل هذه الجهود العلمية المضنية، يمكننا أن نضع اللمسات الأخيرة على هذه الدراسة التاريخية بعنوانٍ متواضع: «كيف خسر الغرب حربًا لم يخوضها، ودفع فاتورتها، واستلم في النهاية فاتورة إضافية بعنوان إعادة الإعمار». أما الخاتمة الأكاديمية النهائية فهي بيت شعرٍ روسيٌ قديم يُنسب إلى جنديٍ في ستالينغراد: «إذا أردت أن تهزم روسيا، جرب أن تهزم الشتاء أولًا… ثم جرب أن تهزم الربيع، ثم الصيف، ثم الخريف، ثم كرر العملية لثلاثمئة سنة، وربما… ربما… تنجح».

شكرًا لكم، ونرجو قبول هذه الورقة البحثية في مجلة «الوهم الاستراتيجي المعاصر».

في الدراسات المقارنة للهزائم الأمريكية ذات الطابع التراجيكوميدي، يُعدّ الملفان «فيتنام ١٩٥٥١٩٧٥» و«أوكرانيا ٢٠٢٢٢٠٢٥» نموذجين تعليميين رفيعي المستوى يستحقان أن يُدرَّسا معاً في كلية الحرب بجامعة وست بوينت تحت عنوانٍ موحَّد: «كيف تُهزم الولايات المتحدة في حربٍ لا تشارك فيها مباشرة، لكنها تدفع فاتورتها كاملة، ثم تُعلن أنها انتصرت أخلاقياً».

لنبدأ بالمتشابهات الأنيقة:

أولاً: المدة الزمنية.
فيتنام استغرقت عشرين سنة حتى صورة المروحية على سطح السفارة في سايغون.
أوكرانيا استغرقت ثلاث سنوات فقط حتى صورة الوفد الأوكراني يوقّع في فندق ريتز-كارلتون على وثيقةٍ لا يُسمح له حتى بقراءتها بصوتٍ عالٍ. التقدم التكنولوجي واضح: نفس النتيجة بأقل من سُبع الوقت، وهذا ما يُسمى في الأدبيات العسكرية «تسريع دورة الهزيمة».

ثانياً: الشعار الدعائي.
في فيتنام كان الشعار «منع سقوط قطع الدومينو الشيوعية».
في أوكرانيا صار الشعار «منع سقوط قطع الدومينو الروسية».
الفرق الدقيق أن قطع الدومينو في الحالة الثانية سقطت كلها في اتجاه واحد: نحو موسكو، ومعها سقطت أيضاً قطعٌ إضافية لم تكن موجودة على الطاولة أصلاً (مثل احتياطي الذهب الأوكراني، وخمس مقاطعات، وكل أسطول البحر الأسود تقريباً).

ثالثاً: العتاد المرسل.
في فيتنام أرسلت أمريكا ٥٨ ألف جندي إلى الموت، و٨ ملايين طن من القنابل، ومروحياتٍ لا تُحصى.
في أوكرانيا لم ترسل جندياً أمريكياً واحداً (تقدم إنساني واضح)، لكنها أرسلت ٥٨ ألف صاروخ جافلين، و٣١ دبابة أبرامز (التي اختفت بسرعةٍ تجعل المرء يظن أنها كانت من طراز «هاري بوتر»، أي تختفي بمجرد الاقتراب من العدو)، ومئات المليارات من الدولارات التي يُقال إن جزءاً منها عاد إلى جيوب مقاولين أمريكيين في صفقةٍ عبقرية تُسمى «إعادة تدوير الهزيمة».

رابعاً: لحظة الحقيقة التلفزيونية.
في فيتنام كانت الصورة الشهيرة: فيتناميون يتسلقون المروحية الأمريكية هرباً من سايغون.
في أوكرانيا لم نحتج إلى صورة درامية مماثلة؛ اكتفينا بتسريب واتساب من مكتب زيلينسكي يقول فيه لمساعديه حرفياً: «قالوا لي إن ترامب سيتصل، فأغلقتُ هاتفي وفتحتُ زجاجة فودكا روسية، لأنني علمتُ أن الأمر انتهى». هذه هي النسخة الحديثة من سقوط سايغون: لا مروحيات، فقط زجاجة ستوليشنايا.

خامساً: الخطاب الرسمي بعد الهزيمة.
في ١٩٧٥ قال هنري كيسنجر: «لقد حققنا سلاماً مشرفاً».
في ٢٠٢٥ قال جو بايدن (أو من يكتب له): «لقد أنهينا الحرب بطريقةٍ مسؤولة ومنضبطة، وحافظنا على قيم الديمقراطية».
الفرق اللغوي دقيق جداً: من «سلام مشرف» إلى «إنهاء مسؤول»، وهي ترقية بلاغية تُسمى في علم السياسة «تطوير خطاب الاستسلام».

سادساً: التكلفة المالية.
فيتنام كلّفت أمريكا ما يعادل تريليون دولار بأسعار اليوم.
أوكرانيا كلّفت الغرب الجماعي حتى الآن ما يقارب نصف تريليون… ولم تنتهِ الفاتورة بعد، لأن إعادة الإعمار ستُدفع من جيوب الأوروبيين، والغاز للعشرين سنة القادمة سيُدفع بالروبل، والفائدة على الديون الأوكرانية ستذهب إلى بنوك أمريكية. أي أنها هزيمةٌ ذكية: الخصم يربح الأرض، والمنهزم يربح العقود.

وأخيراً، النتيجة الجيوسياسية:
في فيتنام، بعد عشرين سنة وثلاثة ملايين قتيل، توحّدت فيتنام تحت العلم الأحمر وأصبحت اليوم تصنّع هواتف سامسونغ ونايكي الأمريكيين أنفسهم.
في أوكرانيا، بعد ثلاث سنوات ونصف مليون قتيل أو معوَّق، ستُقسَّم أوكرانيا، وستصبح الحدود الجديدة مع روسيا أطول وأقوى، وستصبح أوروبا تعتمد على الغاز الروسي أكثر مما كانت عليه في ٢٠٢١، وسيصبح الجميع سعداء… إلا الأوكرانيين طبعاً، لكن هذا لم يعد يهم أحداً منذ زمن.

خلاصة المقارنة الأكاديمية الساخرة:
فيتنام كانت الهزيمة الكلاسيكية: بطيئة، دموية، مكلفة، ومصوَّرة.
أوكرانيا هي الهزيمة الرقمية: سريعة، بالوكالة، أونلاين، وبدون صورٍ مؤلمة تُعكّر صفو الناخب الأمريكي أثناء شربه لاتيه الصباح.

لذلك يحق لنا أن نهنئ الإدارة الأمريكية على هذا الإنجاز التاريخي: لقد طوّرت فن الهزيمة من مرحلة الأفلام الملونة إلى مرحلة الـ«ستوري» على إنستغرام: نفس النتيجة، لكن بإضاءةٍ أجمل، وفلتراً أكثر إشراقاً، وموسيقى خلفية من زيلينسكي يعزف على البيانو… بأصابع قدميه.



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاغتيالات : كيف تكشف ضربات إسرائيل الأخيرة عجزها الاستراتيج ...
- الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك ( كتيب )..مقارنات بين امين وبري ...
- الجنوب يتحرّر والمركز يتفكّك(كتيب )..مقارنات سمير امين مع بر ...
- «الفراغ العظيم: انهيار النظام الإمبريالي وإمكانية العالم الج ...
- من أوشفيتز إلى غزة: دراسة نقدية أدبية في شهادات بريمو ليفي و ...
- «قمرٌ على سريرٍ وميلٌ في قامة» كتيب حول مداخلة في الشعر العر ...
- -من أوشفيتز إلى غزة: ذاكرة الناجين وصرخة الأحياء- ..بين شهاد ...
- «دمٌ تحت الشمس ودمعٌ تحت القمر» مقارنة بين رواية رجال تحت ال ...
- سوريا الأسد: مقاومة العقل أمام دواعش الريال والدرهم
- رواية : ارض الرماد والأنين ..فصلان
- رواية : شجرةُ لينَ تُضيءُ الكونَ
- الصين: أمل البشرية في اشتراكية عالمية
- العقوبات: مِعول السيادة
- إمبراطوريات إبداعية بلا متاعب
- سلاح الكرامة والسيادة في مواجهة نفق الدولة الفاشلة
- «الجنجويد والدعم السريع: استعمار جديد في السودان»..ملخص كتاب ...
- من تأسيس الكيان الوهابي الى غرف الموك وخلايا التجسس في اليمن
- خرافة الاقتصاد الإسلامي: أسطورة خليجية في خدمة الإمبراطورية ...
- فخ أوكرانيا: دروس التاريخ تتحدث، والناتو يستمع بصمت
- خيانة مقنعة: رفع العقوبات ودورة النهب الاستعماري


المزيد.....




- إيليا أبو ماضي: شاعر التفاؤل وصاحب الطلاسم
- نور الدين بن عياد: تونس تودع فنان الفكاهة والبساطة، من هو؟ و ...
- إيران: العلماء الناقدون غير مرحب بهم ولا مرغوب فيهم
- إجراءات جديدة لتسهيل تصوير الأفلام الأجنبية في مصر
- عرض خاص لفيلم -أطياف ذلك الضوء- عن الشاعر سلطان العويس
- اختفاء أقارب الفنان الغيني المعارض يثير قلق الأمم المتحدة
- اختفاء أقارب الفنان الغيني المعارض يثير قلق الأمم المتحدة
- بهجت رزق: لابد من تسوية بين الثقافة والسياسة لتجنب الصراعات ...
- من -آنا كارينينا- إلى -الجريمة والعقاب-.. الأدب الروسي يفتح ...
- من صدمة الحرب إلى شاشة السينما... بوسنيان سويسريان يرويان قص ...


المزيد.....

- رسائل سياسية على قياس قبقاب ستي خدوج / د. خالد زغريت
- صديقي الذي صار عنزة / د. خالد زغريت
- حرف العين الذي فقأ عيني / د. خالد زغريت
- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - احمد صالح سلوم - القرم إلى الأبد والغاز بالروبل