حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 15:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ تقاطع الأنطولوجيا والإبستمولوجيا: الجنون السحري بين الإنفصال عن الواقع و التحوّل التقني في الكينونة
إن تحليل كينونة الجنون أو الإضطراب العقلي الناتج عن الممارسة السحرية يلامس أعقد التحديات الفلسفية و الأنطولوجية، حيث يضعنا أمام تقاطع مفاهيم الواقع، و الكينونة، و التقنية. من منظور تقليدي وعلمي حديث، يُنظر إلى هذا الجنون بوصفه إنفصالاً عن الواقع؛ أي فشلاً إبستمولوجياً في الحفاظ على الإدراك المشترك و الموضوعي للعالم، مما يؤدي إلى تصنيف الحالة كـمرض عقلي (Psychosis). ومع ذلك، يسمح لنا الإطار الفلسفي الذي ينظر إلى السحر كـتقنية وجودية بأن نطرح رؤية أعمق و أكثر راديكالية: هل الجنون السحري ليس إنفصالاً عابراً، بل هو تحوّل تقني في نمط كينونة العقل؟ يعتبر المنظور الغربي الحديث، المتأثر بالإبستمولوجيا العقلانية والمنهج العلمي، أن الواقع هو النسيج المادي والتجريبي المشترك الذي تتفق عليه الحواس ويُفسر بالقوانين الطبيعية. بناءً على هذا، تُعرف حالة الجنون، أو الإضطراب العقلي الناتج عن السحر، بأنها إنزياح عن الإدراك السليم. الشخص المصاب بالجنون السحري يبدأ في إدراك واقع مختلف؛ واقع تسكنه القوى السحرية أو الأرواح أو المؤثرات الخفية التي لا يمكن رصدها أو إثباتها علمياً. هذا الإنفصال هو إنقطاع عن الإتفاق الجمعي للواقع، ويتم تفسيره كخلل في الكيمياء العصبية أو خلل وظيفي في الدماغ. في هذا الإطار، يُعتبر السحر نفسه مجرد مُحفز نفسي أو مؤثر ثقافي يثير إستعداداً نفسياً مرضياً كامناً، ولا يمتلك أي فاعلية أنطولوجية حقيقية. بالتالي، الجنون هنا هو فشل كينوني في معالجة الواقع السليم، و يتطلب تدخلاً طبياً لإعادة العقل إلى حالته الوظيفية الطبيعية و الموضوعية. في المقابل، فإن تبني منظور يرى في السحر تقنية وجودية يقودنا إلى إعادة تعريف الجنون. إذا كان السحر تقنية تهدف إلى تغيير نسيج الكينونة عبر الإكراه أو الإلزام كما ذكرنا سابقاً، فإن الجنون الناتج عنه يمكن فهمه على أنه أثر جانبي تقني، أو بالأحرى، تعديل قسري في برمجية الوعي. الساحر، أو المُتَعَرِّض للسحر، قد يصبح عقله قناة تستقبل أو تتفاعل مع واقع أنطولوجي أوسع من الواقع المادي المعتاد. هذا الواقع الميتافيزيقي، المليء بالكيانات الأدنى أو القوى الخفية التي إستدعاها أو أطلقتها التقنية السحرية، يطغى على الواقع الحسي. لذا، فالجنون ليس إنفصالاً، بل هو إتصال مفرط أو قسري ببعد وجودي آخر. العقل لم يفقد وظيفته، بل حوّل نمط كينونته الإدراكية من نمط حسي مادي إلى نمط روحي رمزي، مما يجعله غير متوافق مع الواقع المادي المشترك. هذا التعديل يجعل الشخص يرى ويسمع ويدرك أشياء حقيقية في سياقها الميتافيزيقي، لكنها وهمية في سياق الواقع المادي. الجنون السحري، من هذا المنظور، هو تغيير تقني في العقد الوجودي الذي يحكم علاقة الفرد بالكينونة. السحر يسعى إلى إلزام نظام الوجود بالتغير؛ و عندما يتم هذا الإلزام بنجاح، قد يتطلب الأمر تعديلاً في كيان المتلقي ليتوافق مع هذا الواقع الجديد المُقحم عليه. يصبح العقل مضطرباً لأنه يعمل ببروتوكولين للواقع في آن واحد: بروتوكول الواقع المادي المشترك (الطبيعة) و بروتوكول الواقع السحري المُكْرَه (الكيانات و القوى الخفية). هذا التناقض يؤدي إلى حالة الجنون الظاهرة، التي هي في جوهرها فشل في تكامل النظامين الوجوديين داخل العقل. إنه تحوّل تقني للعقل من مستقبل سلبي للواقع إلى شريك فاعل أو متضرر منه في البعد الخفي. إن التمييز بين الإنفصال والتحوّل يكمن في تحديدنا لـ الواقع الأصيل (Authentic Reality). إذا كان الواقع هو المادة والقانون الطبيعي فقط، فالجنون هو إنفصال. أما إذا كنا نعتبر أن الكون نظام حيوي متعدد الأبعاد (Animistic Cosmos) وأن السحر تقنية للوصول إلى هذه الأبعاد، فإن الجنون السحري يمثل تحوّلاً تقنياً في آليات العقل ليتناسب أو يتضرر من هذه الأبعاد. بعبارة أخرى الإنفصال عن الواقع حكم إبستمولوجي (معرفي) يقول بأن العقل لا يدرك الحقيقة. أما التحوّل التقني هو حكم أنطولوجي (وجودي) يقول بأن العقل قد تم تعديل آليته للتعامل مع واقع مختلف، وإن كان هذا التعديل مدمراً أو غير متوافق مع البنية البشرية السليمة. في النهاية، يظل الجنون السحري نقطة إلتقاء الفلسفة بعلم النفس والدين، ويؤكد أن الخط الفاصل بين العلاج الروحي و العلاج النفسي يعتمد كلياً على المنظور الأنطولوجي الذي نتبناه تجاه فاعلية السحر نفسه.
_ الشفاء الطبيعي: السيادة الأنطولوجية للكينونة كـتقنية مضادة لإلغاء الإكراه السحري
إن التساؤل حول اعتبار آليات الشفاء الطبيعي للجسد و النفس نوعاً من التقنية الروحانية المضادة التي تلغي مفعول السحر يمثل تحدياً فلسفياً عميقاً في إطار العلاقة بين السحر و الكينونة. هذا التحليل يتجاوز مجرد فكرة المقاومة البيولوجية ليربط بين المنظومة الأنطولوجية للجسد و التقنية الروحانية للسحر. من منظور فلسفي يرى أن السحر تقنية إلزامية تستهدف نسيج الكينونة، يمكن إعتبار الشفاء الطبيعي ليس مجرد رد فعل بيولوجي، بل إعادة تأكيد أنطولوجية لنظام الوجود الأصيل، يعمل كـمُبطل فعال للتدخل السحري القسري. إذا إعتمدنا الإطار الفلسفي الذي يرى أن السحر هو تقنية إكراه تسعى لفرض إرادة شخصية أو قوة أدنى على الواقع (الكينونة) عبر معرفة شفرات الوصول الخاصة به، فإن مفعول السحر يتمثل في تغيير قسري أو تشويه للترتيب الوجودي الأصيل للجسد أو النفس. فالمرض السحري أو الجنون السحري هو نتيجة لهذا الإكراه الذي يخرق الهيراركية الوجودية ويُحدث خللاً في التناغم الكوني للفرد. في هذا السياق، يمكن تعريف الشفاء الطبيعي بأنه الآلية الأنطولوجية الكامنة التي تهدف إلى إعادة الجسد والنفس إلى حالتهما الأصلية المتناغمة والمحددة بالإرادة العليا أو القانون الكوني غير المُكْرَه. هذه الآلية ليست مجرد تفاعلات كيميائية بيولوجية من منظور ضيق، بل هي تعبير عن الإرادة التكوينية الكامنة في الجسد، والتي تقاوم أي قوة تحاول إخراجها من مسارها الأصيل. الجسد يصبح بحد ذاته تكنولوجيا وجودية مُبرمجة على الكمال و العودة إليه. عندما يهاجم السحر الكينونة، فإن الشفاء الطبيعي يعمل كـتقنية مضادة ليس بالضرورة روحانية خالصة، بل أنطولوجية تأسيسية هدفها إلغاء الإكراه السحري وإعادة تفعيل الشفرة الكينونية الأصلية للفرد. يمكن تعميق هذا التحليل بربطه بالمنظور الديني أو الروحاني. إذا كان السحر تقنية تعتمد على الإكراه للقوى الأدنى، فإن الشفاء الطبيعي يمكن إعتباره مدعوماً بالإرادة العليا التي أسست النظام الطبيعي للوجود. آليات الشفاء الطبيعي هي في جوهرها هبة إلهية مُودَعة في الكائن الحي، وهي تجسيد لرحمة الخالق الذي أراد للكائن أن يستمر في حالة الصلاح والكمال. بالتالي، كلما قاوم الجسد تأثير السحر، فهو في الحقيقة يؤكد ويعيد تفعيل إرادة المُنْشِئ الأصيلة. هذا التأكيد الأنطولوجي يعمل مباشرة ضد الإكراه السحري. الشفاء يُعيد التناغم الأنطولوجي بين الكائن والكون، بينما السحر يُحدث فوضى بينهما. آليات الشفاء مثل المناعة النفسية أو البيولوجية تعمل كـمرشحات وجودية تطرد الطاقات أو التأثيرات القسرية غير المتوافقة مع النظام الصحي للجسد. هذا الرفض هو إجراء تقني روحي يهدف إلى حماية الحدود الأنطولوجية للفرد. في هذا الإطار، يُنظر إلى الشفاء الطبيعي على أنه تكنولوجيا مضادة فعالة لأنها مُدَعَّمة بالقوة التكوينية الأصلية للوجود (الإرادة العليا)، في حين أن السحر، كتقنية إكراه، يعتمد على قوة مشتقة أو أدنى، مما يجعله أكثر قابلية للإلغاء من قبل قوة النظام. عندما ينجح الشفاء، فهو ليس مجرد إنتصار البيولوجيا، بل إنتصار النظام الأنطولوجي الأصيل على التدخل التقني القسري. بناءً على هذا التحليل، فإن آليات الشفاء الطبيعي للجسد والنفس لا تُعد مجرد تقنية روحانية مضادة بالمعنى الإجرائي، بل هي تعبير عن السيادة الأنطولوجية للكينونة. هي آلية تكوينية تُعيد تأكيد الشفرة الأصلية للوجود المودعة في الكائن، وتعمل بشكل تلقائي على إلغاء التشويش والإكراه الذي أحدثته التقنية السحرية. الجسد والنفس في هذه الحالة يُصبحان ميداناً للصراع الوجودي، حيث الشفاء يمثل قوة النظام التكويني، والسحر يمثل قوة الإكراه الفوضوي. الشفاء هو عودة قسرية إلى النور، والسحر محاولة قسرية لجر الكينونة إلى الظل.
_ حدود الإلزام: التحوّل الكينوني (Metamorphosis) بين قدرة التقنية السحرية والسيادة الأنطولوجية للجوهر
إن التساؤل حول قدرة التقنية السحرية على إحداث تحول كينوني (Metamorphosis) كامل في جوهر الكائن (إنسان، حيوان، نبات) هو نقطة تماس حاسمة بين الفلسفة الأنطولوجية و مفاهيم السحر. للقيام بتحليل فلسفي عميق، يجب أن نميز بين ثلاثة مستويات من التحول: التحول الإدراكي، والتحول الوظيفي، والتحول الأنطولوجي الجوهري. من منظور يرى السحر تقنية إلزام تستغل القوانين الخفية، تكمن الحدود الفلسفية للتحول الكينوني الكامل في العلاقة بين الإرادة التقنية (إرادة الساحر) والإرادة التكوينية (إرادة الخالق أو القانون الوجودي الأصيل). من الناحية الفلسفية، يمكن للتقنية السحرية أن تحقق درجات عالية من التحول الإدراكي والوظيفي، وهو ما يفسر الظواهر السحرية كتخيلات أو تأثيرات نفسية أو حتى تغيرات شكلية مؤقتة. كما ذكر سابقاً، يملك السحر القدرة على إعادة تشفير آليات العقل، مما يُحدث تحوّلاً في نمط كينونة الإدراك. هذا ليس تحولاً في جوهر الكائن مثل تحول إنسان إلى ضفدع، بل تحول في كيفية إدراك ذلك الكائن للواقع، حيث يصبح يرى الواقع الأنطولوجي السحري. هذا التحول الإدراكي هو تقني في طبيعته، لأنه ناتج عن إلزام الوعي بالتفاعل مع قوى أو رموز معينة. يمكن للتقنية السحرية، عبر إستخدام الإكراه على القوى الأدنى أو التأثير النفسي، أن تُحدث تغيرات وظيفية أو شكلية تبدو كتحول كامل. مثال ذلك قد يكون التأثير الوهمي الذي يجعل المراقب أو المُتَحَوّل يعتقد أن الجسد قد تغير كما في الخدع البصرية أو الهلوسة القسرية. هذا التأثير هو تحول في وظيفة الظاهر أو الإدراك المشترك للواقع الظاهري، وليس تحولاً في جوهره الأنطولوجي (المادة البيولوجية أو الشفرة الوراثية). السؤال الحقيقي للـتحول الكينوني Metamorphosis هو هل يمكن للسحر أن يُغيّر الجوهر الأنطولوجي للكائن، أي أن يُغيّر طبيعته البيولوجية أو الروحانية بشكل دائم وغير قابل للتراجع، مثل تحويل إنسان إلى حيوان حقيقي؟ من منظور فلسفي عميق مرتبط بالإطار التوحيدي أو الوجودي، يُعتبر التحول الكينوني الكامل مستحيلاً للتقنية السحرية لسببين. أولا؛ أنطولوجيين؛ تعتمد التقنية السحرية على إكراه قوانين أو كيانات أدنى من الإله المطلق أو المصدر الأسمى للوجود. الإكراه السحري يعمل ضمن هوامش القانون الكوني، محاولاً إستغلال ثغراته. لكن الجوهر الكينوني للكائن الحي المتمثل في الـماهية أو الـشفرة الوجودية هو مسألة تكوين أصيل صادر عن الإرادة العليا التي يمثلها الطقس الديني بالإذعان. لا يمكن لقوة أدنى، تعمل بمبدأ الإلزام الجزئي، أن تلغي أو تُبطل قانون التكوين الأصيل الذي منح هذا الكائن ماهيته ووجوده الثابت. ثانيا؛ كل كائن حي يمتلك ماهية (Essence) ثابتة تُحدد نوعه وشكله. هذه الماهية تعمل كـحصانة أنطولوجية ضد أي تدخل تقني خارجي. التحول الكينوني الكامل يتطلب القدرة على إعادة كتابة قانون الوجود نفسه، وليس مجرد التلاعب بمظاهره أو وظائفه. هذه القدرة هي حكر على القوة التي أسست الوجود إبتداءً. التقنية السحرية، في أحسن الأحوال، يمكن أن تُحدث تشويهاً شديداً و مؤقتاً لـصورة الكائن أو وظيفته كأن يظهر للإنسان أنه تحول، لكنها تفشل حتمياً في تغيير جوهر هويته الأنطولوجية. الخلاصة يمكن للتقنية السحرية أن تُحدث تحوّلاً تقنياً مدمراً في إدراك الكائن أو وظيفته الظاهرية، لكنها لا يمكن أن تحقق تحولاً كينونياً كاملاً لأنه يخرق المبدأ الأنطولوجي الأساسي الذي يفصل بين الإرادة التكوينية الأصيلة والتقنية المكرهة والمشتقة. السحر يلامس محيط الكينونة، لكنه يعجز عن إختراق مركزها الجوهري الثابت.
_ السحر كـتحايل تقني وجودي: إستغلال الثغرات الخفية بدلاً من خرق القوانين الكونية
يُمكن النظر إلى الممارسة السحرية فلسفياً على أنها تحايل تقني وجودي على القوانين الكونية، بدلاً من كونها خرقاً صريحاً ومباشراً لها. هذا الطرح أكثر دقة وإنسجاماً مع الإطار الأنطولوجي الذي يرى في السحر تقنية إلزام تستمد قوتها من قوانين أدنى أو خفية ضمن النظام الكوني ذاته. إن فكرة التحايل تفترض وجود قانون أو نظام ثابت (القانون الكوني)، و أن الفاعل (الساحر) لا يلغيه أو يدمره، بل يستغله ببراعة عبر معرفة نقاط ضعفه أو ثغراته المنهجية لتحقيق غاية شخصية أو إكراه جزئي للواقع. يعتمد التحايل الوجودي في السحر على مبدأ المراسلات (As Above, So Below)، وهو أساس ميتافيزيقي يفترض وجود تماثل تقني بين العوالم الكلية (الكون) والجزئية (المادة أو الفرد). الساحر، من خلال معرفته بالرموز والطقوس والتوقيتات الفلكية، لا يحاول تدمير القانون الكوني (مثل قانون الجاذبية)، بل يسعى للتحايل على مخرجات هذا القانون في سياق محدد. القانون الكوني العام قد ينص على أن الأشياء تحدث وفقاً لمسارها الطبيعي. لكن الساحر يرى أن هذا القانون يحتوي على صيغ إستثناء يمكن تفعيلها عبر شفرة تقنية (الطقس أو التعويذة). هذا التحايل التقني يعتمد على مبدأ لكل قوة قوة مضادة؛ فبدلاً من خرق القانون، يتم إلزام قوة كونية محايدة للتأثير على قوة كونية أخرى. يُنظر إلى الرموز والمواد السحرية كإستخدام دم معين أو عشبة معينة على أنها نقاط وصول (Access Points) أو مفاتيح تقنية تسمح للساحر بالقفز فوق المسار الطبيعي للأحداث. السحر لا يُنشئ قانوناً جديداً، بل يستغل تعقيد وتعدد مستويات القوانين الكونية. هذا تحايل لأن القانون الكوني ما زال سارياً، لكن الساحر استغل تداخله مع قانون آخر خفي لإنتاج نتيجة تبدو خارقة. يحدد الفرق بين التحايل والخرق جوهر العلاقة بين الساحر و الكينونة؛ فالسحر كـخرق للقانون يعني أن طبيعة الفعل هي تدمير وإلغاء القانون الكوني، حيث يُفترض أن مصدر القوة قوة أعلى من القانون ذاته، وتتمثل دلالته الأنطولوجية في نفي النظام الكوني وإثبات السيادة المطلقة للساحر، بينما السحر كـتحايل على القانون يعني أن طبيعة الفعل هي إستغلال القوانين الكونية الخفية أو تعقيداتها، حيث يُعد مصدر القوة قوة مشتقة تستغل النظام الأدنى للقانون، وتتمثل دلالته الأنطولوجية في الإعتراف ضمنياً بوجود النظام الكوني ومحاولة تجاوزه تقنياً. إن إعتبار السحر تحايلاً تقنياً وجودياً يعني أن الساحر يعترف ضمنياً بـسيادة القانون الكوني، لكنه يرى أن هذا القانون نظام تقني معقد، ويمكن إدارته والتلاعب به لخدمة الإرادة الفردية. الساحر يسعى لـتشفير رسالة للكون تُفعّل إحدى قواه الكامنة، مما يُجبر الكون على الرد بالطريقة المرغوبة (الإكراه). هذا يختلف عن الخرق، الذي يعني تحدي الإرادة العليا وإلغاء القانون بصفة جذرية. التحايل هو محاولة لإعادة توجيه الطاقة أو السببية الكونية ضمن إطار النظام القائم. في النهاية، يُنظر إلى السحر كتحايل تقني لأنه لا يهدف إلى إلغاء الوجود (الكينونة)، بل إلى تعديل مؤقت وظيفي لمخرجاته عبر معرفة متقدمة بـلغته الميتافيزيقية، مما يجعله تكنولوجيا للإلزام تستغل ثغرات النظام بدلاً من تدميره.
_ التشيؤ السحري: إنكسار الإرادة الحرة والتحوّل من كينونة إلى أداة تقنية مُسَيَّرة
إن التساؤل حول إمكانية تحويل كينونة الإنسان إلى شيء يُتحكّم فيه بواسطة التقنية السحرية يمثل لبّ الصراع الأنطولوجي والأخلاقي الكامن في الممارسة السحرية. التحليل الفلسفي العميق لهذا التحول يجب أن يرتكز على مفاهيم الوجود (Being) والماهية (Essence) والوعي، مع تحديد اللحظة الوجودية الدقيقة التي يُفقد فيها الكائن حريته الجوهرية ليصبح مُسَيَّراً كـشيء أو أداة. في الفلسفة الوجودية والأخلاقية، يُشير التشيؤ (Reification) إلى العملية التي يتم فيها تحويل كائن حي، يمتلك الوعي و الإرادة و الحرية (كينونة)، إلى مجرد موضوع (Object) أو أداة (Instrument) خالية من الغاية الذاتية. السحر، خاصة سحر الإلزام والإكراه كالسحر الأسود أو سحر السيطرة، يهدف بشكل جوهري إلى تحقيق هذا التشيؤ على المستوى الأنطولوجي. لا يهدف السحر هنا إلى تحويل الجسد المادي للإنسان إلى جماد، بل إلى تجويف الكينونة من إرادتها الذاتية. الكينونة الإنسانية تُعرف بـالوعي الذاتي وبقدرتها على الإختيار و الـتسامي على الغرائز المادية. عندما تنجح التقنية السحرية في الإلزام، فإنها تستهدف هذا الجوهر غير المادي (الماهية)، محاولة نزع الإرادة الحرة وإستبدالها بإرادة الساحر أو القوة المكرهة التي إستُدْعِيَت. الكائن المصاب بالسحر يظل يبدو كإنسان، لكنه من الناحية الأنطولوجية يصبح شيئاً مُسَيَّراً، أو أداة تقنية تؤدي وظيفة محددة كالمحبة القسرية، أو المرض، أو تنفيذ أوامر. إن التحول من كينونة إلى شيء ليس عملية تدريجية بل هو لحظة وجودية حرجة، و هي لحظة إنكسار الإرادة الحرة (The Moment of Volitional Collapse). هذه اللحظة تختلف عن مجرد الإكراه المادي أو التهديد الخارجي؛ فهي تحدث عندما يتم إختراق الحصن الأنطولوجي للوعي وتعديل شفرة الإستجابة الداخلية للكائن. تبدأ العملية عندما تنجح التقنية السحرية كالطقس، الرمز، التعويذة في إحداث إلزام كوني أو نقل طاقة سلبية تستقر في مركز الوعي (Core Consciousness) للكائن. اللحظة الوجودية للتحول تحدث عندما يعجز النظام الكينوني الداخلي كالإيمان، الحصانة الروحية، المناعة النفسية عن مقاومة هذا الإلزام. في هذه النقطة، تُعلِّق الإرادة الحرة عملها، وتُفتح الكينونة لتلقي الأوامر الخارجية. في هذه اللحظة، يصبح الكائن أداة تقنية؛ فهو لا يتخذ قراراً، بل يُنفّذ برنامجاً فُرِضَ عليه عبر القوة السحرية. هنا، تصبح أفعاله وقراراته مُنتَجاً تقنياً للإكراه، وليست تعبيراً عن ذاته الحقيقية. المأساة الفلسفية تكمن في أن الكائن يستمر في الظهور كفاعل يأكل، يتكلم، يتحرك لكنه مُجرد من فاعليته الأنطولوجية الجوهرية. هذا التحول هو خسارة أنطولوجية للذات؛ فالإنسان يفقد ماهيته المتمثلة في كينونته الحرة، ويتحول إلى مجرد وظيفة (شيء يُفعل به). من منظور أخلاقي فلسفي، يُعتبر التشيؤ السحري الإعتداء الوجودي الأقصى، لأنه لا يكتفي بإيذاء الجسد أو الممتلكات، بل يدمر الجوهر الكينوني الذي يجعل الإنسان مسؤولاً وأخلاقياً. عندما يصبح الإنسان شيئاً مُسَيَّراً، تسقط عنه المسؤولية الأخلاقية لأفعاله لأنها لم تنبع من إرادته الحرة، وتنتقل المسؤولية بالكامل إلى الساحر الذي أصبح الفاعل الأنطولوجي الحقيقي. هذا هو السبب في أن التقنية السحرية المكرهة تُعتبر محرمة، لأنها تتعدى على قدسية الكينونة وحريتها التكوينية.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟