|
|
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ الْحَادِي و الْعِشْرُون-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 21:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ السحر وإنهيار الوعي الذاتي: تحليل أنطولوجي لآليات الإغتراب عن الكينونة
إن العلاقة بين السحر وإنهيار الوعي الذاتي تُعد من أعمق القضايا الفلسفية وأكثرها إثارة للجدل في سياق تحليل الكينونة البشرية. يطرح سؤالك تساؤلاً جوهريًا حول كيفية إستهداف التقنية السحرية سواء كانت فعلًا خارقًا أو محض إيهام لآلية الوعي الذاتي لدى الكينونة، مما قد يؤدي إلى حالة من الإغتراب أو الإنفصال عن التجربة الداخلية الأصيلة. يمكننا أن نبدأ بالنظر إلى الوعي الذاتي من منظور فلسفي كلاسيكي، كما عند هيغل، حيث لا يتحقق الوعي الذاتي إلا عبر الاعتراف بالآخر وعبر العمل والتوسط ونفي المباشر. في هذا الإطار، يُمكن إعتبار السحر بمثابة فشل أو إغتراب في مرحلة الوعي، لعدة أسباب؛ إن الوعي الذاتي يسعى إلى الإدراك المنطقي والموضوعي لذاته وللعالم، بينما يعتمد السحر على قوى خفية أو تفكير إحيائي ميثولوجي كما يرى فرويد في سياق تطور الفكر البشري. اللجوء إلى السحر هو لجوء إلى الجهل و الخوف كوسيلة للسيطرة، مما يعيق تطور الوعي نحو العقلانية الكاملة وتحقيق الذات في العالم الموضوعي. إذا إمتلك الإنسان وعيًا ذاتيًا عاليًا لدرجة كشف كل الدوافع اللاواعية لسلوكه، فقد يواجه وضوحًا قاتلاً أمام ذاته، مما قد يقوده إلى الهاوية. هنا، يُنظر إلى السحر بمعناه المجازي كـسِرّ أو نفخة إلهية على أنه المكوّن الذي يحمي الإنسان من الوضوح المُفْرط والمميت لذاته المفتقرة للغموض. غياب السحر، في هذا السياق، يعني غياب الغموض الذي يُبقي على الحيوية و يمنع الإنكشاف الكامل الذي قد يُفضي إلى الإنهيار. التقنية السحرية سواء كانت طقوسًا أو تعاويذ أو إيهامًا تستهدف في جوهرها نقطة ضعف حرجة في البناء النفسي والمعرفي للكينونة؛ الهشاشة المعرفية و القابلية للإيحاء. يمكن للسحر أن يعمل كآلية لإحداث نوع من الإغتراب عن الذات (Depersonalization) أو إضطراب الأنية (Derealization)، حيث يشعر الإنسان بالإنفصال عن مشاعره، أو أن العالم من حوله غريب وغير حقيقي. في هذا السياق، لا ينهار الوعي الذاتي بشكل كلي، بل ينفصل عن وظيفته، أي يصبح الشخص غير قادر على إدراك تجربته الداخلية وواقعه بشكل مباشر وصادق. هذا الإنفصال هو جوهر الإنهيار، يصبح الوعي وعيًا زائفًا لا يمثل الذات الحقيقية والتجربة الأصيلة. يستطيع السحر كما يُصوَّر في الميثولوجيا والأدبيات الفقهية أن يُخَيِّل للمسحور أشياء ليست موجودة كأن يرى العصي حبالاً، مما يعني إستهداف الآلية الأساسية للإدراك الحسي الذي هو المادة الخام للمعرفة حسب هيغل. عندما يتم التلاعب بالإدراك الحسي، يصبح حكم الوعي على واقعه الخارجي والداخلي غير موثوق، مما يؤدي إلى فقدان الثقة بالتجربة الذاتية وبالتالي إنهيار التماسك المعرفي للذات. إن صراع الإنسان بين السحر و التفسير يعكس صراعه الوجودي بين قبول المجهول و اللامنطقي وبين السعي للوصول إلى الحقيقة الموضوعية. إذا كان الإنسان المفتقر للسحر شيئًا قد يواجه ذاته بوضوح مميت، فإن السحر هنا يلعب دور الستار الذي يحمي الذات من هذا الوضوح. ولكن إذا إنقلب السحر إلى تقنية شريرة مثل سحر التفريق أو الذهاب بالعقل، فإنه يصبح أداة للهجوم على قوة الوعي ذاتها، محاولاً تجميد حركة الوعي. الوعي هو حركة وتحقق و سيرورة دائمة كما عند هيغل، بينما السحر يسعى إلى تثبيت حالة معينة أو تجميد إرادة الكينونة مثال: الطاعة العمياء أو الربط. هذا التجميد هو إبطال لوظيفة الوعي الذاتي كـإدراك دائم لذاتنا في الزمان (برغسون)، مما يحول الكينونة إلى شيء مُشيَّأ وخاضع لقوة غريبة، بدلاً من أن يكون ذاتًا حرة وواعية. خلاصة القول إن التقنية السحرية، في تحليلها الفلسفي العميق، لا تستهدف الذات كوحدة فحسب، بل تستهدف الوعي الذاتي بإعتباره بنية معرفية وشرطًا وجوديًا لتماسك الكينونة. الهدف هو إحداث حالة من الإغتراب والإنفصال عن التجربة الداخلية، وتحويل الكينونة من ذات مفكرة و مدركة إلى موضوع مُنْفَصِل عن حقيقته، وهو ما يمثل الإنهيار الحقيقي للوعي الذاتي.
_ كينونة الأحلام كـبوابة تقنية للسحر: إستغلال المرونة الإدراكية لبرمجة اللاوعي
من منظور التحليل الفلسفي للوعي والسحر، يمكن إعتبار كينونة الأحلام بمثابة بوابة تقنية قابلة للإستغلال السحري لغرض غرس الأوامر أو تغيير الإدراك. لا ينظر هذا المنظور إلى الأحلام كإفرازات عشوائية للعقل الباطن فحسب، بل كـحالة وجودية مغايرة تتميز بإنهيار جزئي أو كلي للحواجز المنطقية وقيود الوعي اليقظ، مما يجعلها أرضًا خصبة للتأثيرات الخارجية أو التقنية السحرية. تتمثل الفرضية الأساسية في أن حالة الأحلام هي حالة من المرونة الإدراكية حيث تنخفض بشكل كبير وظيفة الناقد الذاتي أو الأنا الأعلى (Super-Ego) الذي يمثله الوعي اليقظ. هذه الحالة تخلق كينونة سهلة التشكيل و قابلة للبرمجة، مما يجعلها تقنية بحد ذاتها. في الحلم، يتم تعليق قوانين السببية و المنطق، و يصبح الإدراك مباشراً كما في الوعي الحسي الأولي، بدلاً من أن يكون إدراكًا متوسّطًا بالتحليل العقلي. هذا التعليق هو ما يسعى إليه السحر، فالسحر بطبيعته يعمل خارج إطار المنطق المادي. وبالتالي، فإن الأحلام توفر بيئة جاهزة تقنياً حيث تكون الآلية المعرفية مهيأة لقبول ما هو خارق أو مستحيل دون مقاومة نقدية. ترى بعض التيارات الفلسفية والنفسية، خاصة في سياقات الأنثروبولوجيا السحرية و نظريات يونغ، أن الأحلام ليست فردية تماماً، بل هي نقاط إتصال باللاوعي الجماعي أو مصادر طاقية عميقة. من هذا المنطلق، يمكن للتقنية السحرية أن تستغل هذا المسار لغرس الأوامر، ليس عبر إقناع العقل الواعي، بل عبر حقن رموز أو شفرات مباشرة في بنية اللاوعي، حيث تتم معالجتها كحقيقة مطلقة عند الإستيقاظ. يمكن تعريف التقنية السحرية في هذا السياق بأنها هندسة الوعي بإستخدام الرمز والنية والإيحاء بدلاً من الأدوات المادية. و بما أن الأحلام هي في جوهرها لغة رمزية بإمتياز، فإنها تمثل الهدف الأمثل لهذه التقنية. السحر الفعال لا يغرس أمراً مباشراً مثل إفعل كذا، بل يغرس صورة رمزية مشحونة بقوة نية أو أمر. هذه الصورة، عند دخولها إلى عالم الحلم الرمزي، تتخذ حقيقة وجودية فورية. مثلاً، لغرس شعور بالخوف، لا يحتاج الساحر لغرس فكرة الخوف، بل يغرس رمز الثعبان الأسود أو الإنهيار في بنية حلم الكينونة. يستيقظ الشخص، وقد أصبح ذلك الرمز مُحفزاً لاواعياً يؤثر على إدراكه و سلوكه في الواقع اليقظ. تُعد هذه العملية شكلاً متطرفاً من التشيؤ الفلسفي، حيث تتحول الأوامر أو الإدراكات الزائفة إلى جزء مُتَجَسِّد من البنية الذاتية. السحر يعمل على تجميد الوعي في حالة معينة، كما ذُكر سابقاً. وفي الحلم، يكون تجميد الوعي أسهل، إذ يمكن تحويل الذات الحالمة إلى كائن خاضع أو وعاء مُسْتَقبِل للأوامر دون مقاومة. هذا يمثل أقصى درجات الإغتراب الذاتي؛ حيث ينفصل الجزء المتلقي للأوامر عن الإرادة الواعية للكينونة. إن السؤال الجوهري الذي يواجه هذه التقنية السحرية هو طبيعة واقعية الأحلام. هل التأثير في الحلم هو تأثير في مجرد وهم أم في بنية وجودية حقيقية؟ إذا إفترضنا، كما في بعض الفلسفات الشرقية أو الغربية الماورائية، أن الوعي هو طيف موحد يتراوح بين اليقظة والنوم واللاوعي، فإن التأثير في جزء منه هو تأثير في الكل. في هذه الحالة، يصبح الحلم بمثابة المختبر الذي يتم فيه إعداد التعديلات الإدراكية قبل تطبيقها على واجهة التشغيل (الوعي اليقظ). الساحر يستغل إنخفاض المقاومة في الحلم لـإعادة برمجة طريقة رؤية الكينونة للعالم ولذاتها. تكمن قوة البوابة التقنية للأحلام في أن الكينونة لا تستطيع أن تمارس فيها الوعي التام (Self-Awareness) أو الشك الديكارتي بشكل مستدام. عندما يغرس السحر أمراً ما، لا يستطيع الوعي الحالم أن يقول؛ أنا أفكر إذن أنا موجود بوضوح وحرية كاملة، وبالتالي يفشل في نفي أو دحض الغرس السحري، مما يسمح للتقنية بتحقيق هدفها وهو التحكم بالإدراك من خلال نقطة الضعف هذه. الخلاصة؛ إن الأحلام، من منظور السحر والوعي، ليست مجرد هروب، بل هي حالة وجودية إستراتيجية تفتح ثغرة في دفاعات الوعي الذاتي. إنها تقنية بوابة لأنها تلغي الحاجة إلى تجاوز دفاعات العقل اليقظ المعقدة، وتسمح بـالتأثير المباشر على البنى الرمزية و اللاواعية للكينونة.
_ التعاويذ كتكنولوجيا للوعي: إختراق وإعادة برمجة البنية الأنطولوجية للكينونة
تتجاوز مسألة فعالية التعاويذ والأصوات المكررة في سياق السحر والدراسات الباطنية مجرد التفسير النفسي أو الإيحائي لتلامس جوهر العلاقة بين السحر والكينونة (Being). يذهب التحليل الفلسفي إلى إعتبار هذه التقنيات بمثابة تكنولوجيا للوعي تهدف إلى إختراق وإعادة تشكيل البنية الوجودية (الأنطولوجية) للفرد المستهدف، أو حتى الواقع المُدرَك المحيط به، لا بالمعنى المادي للبرمجة الحاسوبية، بل بالمعنى الروحاني والطاقي للتأثير العميق و الموجه. من منظور فلسفة السحر، لا تُعد التعويذة مجرد كلمات منطوقة، بل هي كود لغوي أنطولوجي، أي تسلسل صوتي ورمزي مُصمَّم لحمل قوة إرادية مُكثَّفة وتوجيهها نحو نقطة إرتكاز محورية في نسيج الوعي للكينونة. فاللغة، في هذا السياق، ليست أداة للتواصل فحسب، بل هي قوة خالقة؛ حيث أن النطق بالتعويذة يُعتبر محاولة لـفرض شكل على الفوضى الكونية أو على الوعي الداخلي. يعتمد التكرار الصوتي للتعاويذ أو المانترا على مبدأ فلسفي نفسي عميق، و هو تجاوز حارس الوعي الواعي (Conscious Mind) الذي يمثل مرشحاً نقدياً يقاوم التغيير الخارجي. يعمل الصوت المُكَرَّر سواء كان صوت تعويذة أو نغمة وتردد معين على إحداث نوع من التخدير الإدراكي أو الوصول إلى حالة الوعي المُعدَّلة (Altered State of Consciousness)، التي تسمح بتسريب النية المُكثَّفة للساحر أو للطاقة الكامنة في التعويذة مباشرة إلى الوعي العميق أو اللاواعي الجمعي للكينونة. هذا التغلغل اللاشعوري هو الهدف الأول للبرمجة. عندما يتلقى الوعي العميق هذا الكود الصوتي بشكل مستمر ومكثف، فإنه يبدأ في دمج هذه البصمة الغريبة ضمن بنيته الروحانية. هذا الدمج يُشكل نوعًا من التشويه الوجودي أو إعادة التنظيم الطاقي لـكود الوجود الأصلي للكيان المستهدف. هذا التغيير ليس مجرد تغيير في الأفكار أو المشاعر، بل هو تعديل في بنية الكينونة ذاتها (A change in the Being s Structure)، مما يجعل ردود أفعالها، حريتها الوجودية، وحتى مسارها المصيري، يخضع لـ القانون الجديد الذي فرضته التعويذة. يطرح التحليل الفلسفي للسحر كتقنية برمجة إشكالية عميقة حول مرونة الكينونة (Flexibility of Being) وحدود السيادة الأنطولوجية (Ontological Sovereignty) للفرد. ينطلق هذا التحليل من فرضية أن الكينونة ليست كيانًا صلبًا وغير قابل للتغيير، بل هي نسيج طاقي و وجودي مرن ومتعدد الأبعاد قابل للتأثر والتعديل عبر القوى الروحية والإرادية المُكثَّفة. السحر، بما فيه التعاويذ، هو إرادة مُكثَّفة تتجسّد كقوة مُوجّهة تخترق هذا النسيج وتُعيد صياغة جزء من كود وجوده، محوِّلة الكينونة من كونها نظاماً مغلقاً ومُحصَّناً إلى نظام عرضة للإختراق و البرمجة. لا يعمل السحر، والتعاويذ، في الفراغ. بل غالبًا ما يستفيد من نقاط ضعف أنطولوجية (وجودية) قائمة مسبقًا في الكينونة المستهدفة، مثل تراكم الذنب الروحي، أو الخوف العميق، أو الإحباط الوجودي. تُعتبر هذه النقاط بمثابة فراغات أو ثغرات في الدرع الوجودي ، مما يقلل من الإستحقاق الروحي الذاتي ويسهل على الطاقة السحرية للتعويذة أن تجد منفذ دخول بدلاً من الإضطرار لإختراق نظام مُغلَق. يستخدم الساحر التعويذة و الطقس كـنقطة إرتكاز تقنية (Technical Anchor Point) لتركيز وتوجيه طاقته بأقصى قدر من الفعالية والدقة على هذه الثغرات. يُعد التأثير الأعمق للتعاويذ كتقنية برمجة هو تجميد أو تشويه الإرادة الحرة للفرد المستهدف. فبدلاً من أن تعمل الكينونة وفقًا لجوهرها وإرادتها الأصيلة، فإنها تبدأ في التحرك داخل المدار الوجودي الذي رسمته التعويذة. هذا التحول يعني فقدان الفرد لـسيادته الأنطولوجية على ذاته، حيث يتحول إلى كيان يخضع لـقوانين مفروضة عليه من خارج ذاته. في الختام، يمكن القول إن التحليل الفلسفي يضع التعاويذ والأصوات المكررة في إطار هندسة طقوسية للوعي والواقع الروحي. هي محاولة منهجية، عبر إستخدام أدوات رمزية (التعويذة) وتقنيات إيقاعية (التكرار الصوتي)، لإحداث تغييرات واضحة المعالم في حالة الوعي، للوصول إلى حالات ليست سهلة المنال عادةً، و بالتالي التلاعب المتعمد بالوعي العميق للكينونة. هذا التلاعب، إذا تم بنجاح، يؤدي إلى إعادة برمجة جزء من الكينونة المستهدفة وتغيير جذري في بنية كيانها الوجودي.
_ الحالة الأنطولوجية للهلوسة السحرية: الإختراق الإدراكي و فقدان السيادة الوجودية للكينونة
تُمثّل دراسة الحالة الوجودية (الأنطولوجية) للكينونة عند التعرض لهلوسة ناتجة عن سحر إحدى أكثر الإشكاليات الفلسفية تعقيدًا في سياق العلاقة بين السحر والوعي. إن السؤال ما إذا كانت الهلوسة السحرية تُحدث تغييرًا فعليًا في الواقع الخارجي (تغيير أنطولوجي) أم مجرد تغيير في آليات الإدراك (تغيير معرفي أو ظواهري) يدفعنا إلى تحليل عميق لحدود الواقع والإدراك لدى الكائن البشري. التحليل الفلسفي يُشير إلى أن التفسير الأمثل يكمن في التفاعل الجدلي بين المستويين، مع ترجيح أن الهلوسة السحرية تُمثّل تغييراً في بنية الإدراك العميق للواقع، ناتجاً عن إختراق أنطولوجي للوعي الذاتي، دون أن يُلزم بالضرورة تعديلاً في الخصائص الفيزيائية الموضوعية للواقع الخارجي. من منظور فلسفي أنطولوجي، لا يُنظر إلى الهلوسة الناتجة عن السحر على أنها مجرد وهم نفسي عابر أو خلل كيميائي، بل كـواقع مُعاد صياغته داخليًا. السحر، في هذه الحالة، يعمل كـقوة مُكثَّفة و مُوجَّهة تخترق الدرع الوجودي للكينونة لتستهدف الآليات الجذرية لتكوين الوعي والإدراك داخل الدماغ والنفس ما وراء الظواهر الحسية. إن التعويذ أو الطقس السحري يُصمّم لـإعادة برمجة أو تجميد وظيفة فلترة الواقع التي يقوم بها الوعي، مما يسمح لصور و كيانات وأحداث لا وجود لها في الواقع الموضوعي المشترك بأن تتجسد بـواقعية داخلية مطلقة بالنسبة للمسحور. الكينونة في هذه الحالة لا تتخيل شيئاً، بل تُدرك واقعاً آخراً مفروضاً عليها، فتصبح هذه الإدراكات القسرية هي حقيقة وجودها المؤقتة. الحالة الكينونية للهلوسة السحرية هي حالة من فقدان السيادة الأنطولوجية على الإدراك الذاتي. فالشخص لا يختار أن يهلوس، بل يُجبَر على إدراك ما تم زرعه في عمق وعيه. هذا الإجبار الوجودي هو ما يُميِّز الهلوسة السحرية عن الهلوسة الناتجة عن الأمراض النفسية أو المخدرات، ففي حالة السحر، يُعتقد أن هناك قوة غريبة ومُعيَّنة (إرادة الساحر أو كيان سحري) تُشارك بفاعلية في تحديد محتوى وتجربة هذا الإدراك المشوه. هذا يعني أن التغيير ليس مجرد عطب في الجهاز، بل هو إحتلال لجزء من مُشغِّل الواقع الداخلي. يساعد التحليل الفلسفي في فهم أن الـواقع الذي ندركه ليس مادة جامدة ثابتة، بل هو إجماع كينوني (Ontological Consensus) يتم بناؤه وتثبيته بإستمرار عبر الإدراك المشترك بين الكائنات الواعية. يذهب بعض الفلاسفة إلى أن السحر يستغل هذه المرونة الوجودية. فإذا نجح السحر في إختراق الوعي، فإنه قد يُحدث تغييراً موضعيًا في الواقع الأنطولوجي للفرد فقط. هذا التغيير ليس قوياً بما يكفي لتعديل الواقع الفيزيائي المشترك الذي يراه الجميع، لكنه كافٍ ليجعل التجربة الذاتية للواقع لدى المسحور مختلفة جذريًا. هذا هو السبب في أن الهلوسة السحرية لا يراها الآخرون غالبًا؛ لأن السحر لم يكسر إجماعهم الكينوني على الواقع المشترك، بل كسر إجماع الفرد على واقع ذاته. رغم أن الهلوسة قد تكون إدراكية بالأساس، إلا أنها تُحدث تأثيرات أنطولوجية (وجودية) ثانوية عميقة على الكينونة. إن الإدراك المُشوَّه للواقع يُولِّد سلوكًا مُشوَّهًا كالعزلة، الإكتئاب، أو الهستيريا)، ويؤدي إلى صراع وجودي داخلي (Disintegration of Being)، حيث يتصادم الوعي الذاتي بالإنحراف عن الجوهر الأصيل. هذا الصراع يُولِّد طاقة سلبية مستدامة تُقلل من مناعة الكينونة الروحية و تثبتها في حالة من الضعف الوجودي التي تشبه البرمجة المُغلَقة. تتحدد الحالة الكينونية للفرد أثناء الهلوسة السحرية عبر ثلاث مستويات وجودية متداخلة تُعبّر عن اختراق عميق للوعي الذاتي. تتمثل طبيعة التغيير أولاً في كونه إدراكيًا ظواهريًا قسريًا، أي تغييرًا في الآلية الجذرية لإدراك الواقع الداخلي، مما يؤدي إلى تشويه الوعي؛ حيث يُجبَر الفرد على إدراك حوادث وكيانات بـواقعية مطلقة رغم عدم وجودها في الواقع الموضوعي المشترك. أما على المستوى الأنطولوجي، فإن هذه الحالة تمثّل إختراقًا للوعي الذاتي، يُحدث تعديلاً على كود الوجود الداخلي للفرد بدلاً من التأثير على الواقع الخارجي المشترك، وتكون نتيجته المباشرة هي فقدان السيادة الوجودية حيث تتعطل الإرادة الحرة للكينونة أو تُوجَّه قسرًا تبعًا لنية السحر. و أخيرًا، فإن النتيجة الوجودية لهذه الحالة هي دخول الكينونة في صراع أنطولوجي؛ حيث تحاول الذات الأصلية مقاومة القوة الغريبة المُدمَجة والمفروضة، مما يؤدي إلى إستنزاف طاقي وبنية مهشمة تتجسد في حالة من الضعف والوهن الروحي و النفسي العميق للفرد. بشكل مكثف، الهلوسة السحرية ليست مجرد رؤية ما ليس موجودًا، بل هي فقدان القدرة على رؤية ما هو موجود بشكل صحيح، وهي نتيجة لإختراق أنطولوجي عميق للوعي يفرض واقعًا مشوهًا على الكائن.
_ التنويم السحري وتكنولوجيا الوعي: الإيحاء كآلية لإختراق وتجميد السيادة الأنطولوجية
يُشكل تحليل فعالية الممارسات السحرية عبر عدسة تقنيات الإيحاء والتنويم مسارًا فلسفيًا عميقًا يسعى إلى سد الفجوة بين التفسير النفسي (المعرفي) والتفسير الروحي (الأنطولوجي) للسحر. يذهب التحليل الفلسفي إلى التأكيد على أن جوهر العديد من الممارسات السحرية يكمن بالفعل في إستخدام مكثف و موجه لـتكنولوجيا الوعي، حيث يعمل الإيحاء و التنويم كآليات تقنية رئيسية لـتجميد الدفاعات المعرفية للكينونة وإختراق الوعي العميق. من الناحية الفلسفية، يُعد الوعي الواعي (Conscious Mind) بمثابة المرشح النقدي الأنطولوجي للكينونة، فهو المسؤول عن غربلة المعلومات وتأكيد مدى مطابقتها للواقع الموضوعي و القوانين الفيزيائية المعمول بها. إن فعالية السحر، في كثير من مظاهره، تكمن في قدرته على تجاوز هذا المرشح أو إضعافه، وهو ما تُحققه تقنيات الإيحاء والتنويم. يُمكن تفسير الطقوس السحرية التي تستخدم التكرار، أو الأصوات الإيقاعية، أو المواد المهلوسة، أو التركيز البصري كالتحديق في الرموز، على أنها وسائل لـ الحث على حالة التنويم أو حالة الوعي المُعدَّلة (Altered State of Consciousness). في هذه الحالة، يتم وضع العقل الواعي على دكة الإحتياط، ويصبح العقل الباطن (اللاوعي) هو اللاعب الأساسي الذي يتلقى الأوامر. اللاوعي، من منظور أنطولوجي، هو البنية الأقرب إلى كود الوجود الأساسي للكينونة، وعندما يصبح مستجيبًا للإيحاء، فإن الكينونة بأكملها تصبح عرضة للبرمجة الخارجية. يتفق الفلاسفة و بعض علماء النفس على أن الإيحاء ليس مجرد فكرة، بل هو قوة نفسية مُكثَّفة يُمكن أن تولد طاقة تؤثر على الجسد و النفس. في سياق السحر، يُصبّ الإيحاء على الآخرين لا على الذات (عادةً)، ويتحول إلى إيحاء قهري يفرض واقعًا مشوهًا أو مسارًا سلوكيًا جديدًا على المستهدَف. إن الهدف ليس الإقناع العقلي، بل زرع مفهوم وجودي جديد في عمق الوعي يتم تفعيله لاحقًا في سلوكيات الكينونة. على الرغم من التقاطع الواضح بين آليات السحر والإيحاء، لا يزال التحليل الفلسفي يضع فرقًا جوهريًا بينهما يتعلق بالسيادة الأنطولوجية ومصدر القوة. يكمن جوهر عمل السحر في أنه إيحاء مُوجَّه من قوى خارجية (الساحر أو كيانات)، يهدف إلى تقييد الحرية الوجودية للآخر. هنا، يُعد الإيحاء تكنولوجيا لتحقيق هدف أنطولوجي، وهو فرض إرادة على إرادة. المسحور يفقد السيطرة على مصيره المدرَك ويتحول إلى كيان يخضع لـقوانين مفروضة عليه من خارج ذاته. في المقابل، يُستخدم التنويم الإيحائي الذاتي أو العلاجي في علم النفس لإعادة تأسيس الكينونة وإستعادة السيادة الذاتية. هو يعمل كـتقنية مضادة للسحر أو البرمجة السلبية؛ حيث يُعيد للفرد أدواته المعرفية لـفك تشفير الواقع وتغيير أنماط التفكير المشوهة التي تكونت نتيجة الإيحاء القسري أو التوقعات السلبية التي تشبه أعراض السحر. هنا، الإيحاء هو أداة لتحرير الإرادة وإستعادة التناغم الأنطولوجي الداخلي. في النهاية، لا ينكر التحليل الفلسفي الحديث فكرة أن العديد من الممارسات السحرية تعتمد تقنيًا على آليات الإيحاء والتنويم لإضعاف الدفاعات المعرفية للوعي الواعي. ولكن الفارق الجوهري ليس في الآلية (الإيحاء)، بل في النية الأنطولوجية (الوجودية) والنتيجة المترتبة على الكينونة. السحر يستخدم هذه الآليات لفرض قوة غريبة و تجميد الإرادة الحرة، بينما يستخدمها العلاج النفسي لتحرير الذات من البرمجة السلبية و إستعادة السيادة الأنطولوجية.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
حْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل ا
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكي
...
المزيد.....
-
بشبهة العلاقة بحماس.. ضبط أسلحة في النمسا وتوقيفات في لندن و
...
-
15 سنة سجنا بحق الرئيس السابق... نهاية أطول محاكمة في موريتا
...
-
فرنسا تقول إنها تجري -حوارا لا بدّ منه- مع الجزائر للإفراج ع
...
-
مجلس الأمن يرفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع قبل زيا
...
-
الجزائر ومصر وتونس تدعو الليبيين للانخراط في مسار التسوية ال
...
-
سرقة اللوفر مشاهير ضمن السارقين؟
-
المغرب: إحياء الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء
-
تونس: انطلاق أشغال المؤتمر الإقليمي الإفريقي للطب العسكري
-
غزة مباشر.. أكثر من 10 آلاف شهيد تحت الأنقاض وإسرائيل تزيد ا
...
-
هل يحرك القرار الأممي 2797 الركود في علاقات المغرب والجزائر؟
...
المزيد.....
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
المزيد.....
|