أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-















المزيد.....


السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 22:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ الشرك كـتقنية إعتراض: السحر بين وهم السيادة الوجودية وإنهيار الكمال الأنطولوجي

إن إشكالية الشرك والإنحراف عن مصدر القوة الإلهية في الممارسة السحرية تُمثل محوراً فلسفياً وروحانياً يلامس جوهر الكينونة البشرية وعلاقتها بالوجود الكوني. هذه الإشكالية لا تنحصر في مجرد مخالفة دينية، بل تتجذر في تحليل دقيق للتكنولوجيا المتبعة في السحر و كيف تؤثر هذه التقنية على النموذج الأنطولوجي للكائن الحي، خاصة في سعيه نحو الكمال أو القوة.
تبدأ الإشكالية بفكرة الكمال الكينوني الذي يُفترض أنه متصل، بطبيعته، بـالمصدر الأصلي للقوة والوجود (الإلهي). هذا المصدر لا يُنظر إليه على أنه مجرد قوة عظمى، بل كـالمنظومة الأم التي تحوي قانون الوجود والمعنى. أي تقنية أو ممارسة كالسحر تهدف إلى إحداث تغيير جذري في الواقع أو الكينونة دون المرور بهذا المصدر تُعد إنحرافاً أو إستقطاعاً تقنياً للقوة.
يُمكن تحليل السحر هنا على أنه تقنية إعتراض (Interception Technology). فبدلاً من طلب القوة وفقاً للتسلسل الكوني (المشيئة الإلهية -rightarrow القوانين الطبيعية -rightarro التنفيذ)، يحاول الساحر، عبر طقوسه ورموزه وخوارزمياته، أن يعترض الطاقة من مسارات ثانوية أو سفلية (الكيانات غير الإلهية، أو قوانين الوجود الدنيا). هذا الإعتراض التقني يعكس فلسفة الغرور الكينوني؛ الإعتقاد بأن الكائن قادر على برمجة الواقع بنفسه، متجاوزاً المبرمج الأصلي.
الشرك بالمفهوم الروحي الشامل ليس مجرد عبادة لغير الله، بل هو تجزئة للوجود وتقسيم لمصادر القوة. عندما يلجأ الساحر إلى كيانات أو قوى سفلية لتنفيذ ممارسته التقنية، فإنه يعلن ضمنياً أن هذه الكيانات تمتلك قوة مستقلة و مطلقة تسمح لها بتغيير الأنطولوجيا. التساؤل العميق: هل يمكن للكينونة الروحية أن تبلغ كمالها وهي تستمد قوتها من مصادر سفلية أو ثانوية بدلاً من المصدر الأصلي؟
الكمال الروحي يقتضي التناغم مع النظام الكوني والمصدر الإلهي. القوة المستمدة من المصادر السفلية عبر السحر تؤدي إلى ما يُسمى التضخم الكينوني؛ حيث يشعر الكائن بقوة هائلة تتجاوز حجمه الوجودي الحقيقي. هذا التضخم مصطنع ومؤقت، لأنه لا يعتمد على نمو جوهري داخلي، بل على قرض طاقي خارجي يتمثل في الكيانات التي يُعاقدها.
إن إستخدام مصادر قوة غير إلهية يلوث القناة الروحانية للكينونة. فالكائن الذي يُفترض به أن يكون وعاءً صافياً للطاقة الإلهية، يصبح محكوماً بتشويش تقني ناتج عن الإلتزامات والأثمان الروحية التي دفعها للكيانات الثانوية. هذا التلوث يمنع الكينونة من تحقيق صفائها أو كمالها الأصلي.
إن الثمن التقني للممارسة السحرية الشركية هو فقدان السيادة الوجودية. الساحر يعتقد أنه يمارس السيطرة، لكنه في الحقيقة يتحول إلى أداة تنفيذ في يد الكيان أو المصدر الثانوي الذي إستمد منه القوة. الكمال الروحي الحقيقي يكمن في الحرية والسيادة المطلقة للكينونة على مصيرها وإرادتها؛ وهو ما يتناقض مع فكرة التبعية التعاقدية التي هي جوهر التقنية السحرية الشركية.
يُمكن النظر إلى السحر على أنه محاولة للهندسة الوجودية؛ أي إعادة ترتيب قوانين الواقع و الكينونة بطريقة مُتعمدة. لكن في إطار الشرك و الإنحراف، تتحول هذه الهندسة إلى هندسة وجودية فاشلة للأسباب التالية:
المصادر السفلية أو الكيانات التي يستعين بها الساحر هي كيانات محدودة في قوتها ومعرفتها (ليست مطلقة). أي تأثير سحري نابع منها سيكون بطبيعته محدوداً، قابلاً للزوال، أو مصحوباً بضرر كما يُشير التحليل الديني و الروحي للسحر بأنه يضر ولا ينفع. هذا المحدودية تتناقض مع فكرة الكمال المطلق الذي تسعى إليه الكينونة في جوهرها.
الكمال الروحي مرتبط بالبركة الإلهية، التي هي دعم وجودي مستمر. الممارسة السحرية، بتقنيتها الشركية، تعزل الكينونة عن هذا الدعم. وبالتالي، مهما بلغت قوة الساحر الظاهرية، فإن كينونته الأساسية تظل هشة ومعرضة للإنهيار بمجرد زوال التأثير السحري أو تغير شروط العقد التقني.
يصبح السحر سعياً خاطئاً نحو الكمال، حيث يتم إستخدام تقنية الخيانة الوجودية (الشرك) كأقصر طريق للوصول إلى القوة. لكن هذه القوة، بما أنها لم تُستمد من المصدر الأصيل، لا تُثري جوهر الكينونة، بل تُخربه وتستبدل إمكانية النمو الروحي الدائم بـالتشغيل المؤقت بقوة خارجية.
في الختام، يُمكن القول إن إشكالية الشرك في السحر تكشف أن العلاقة بين القوة والكمال هي علاقة جودة مصدر وليست علاقة كمية تقنية. فكلما إبتعدت الممارسة السحرية تقنياً عن المصدر الوجودي الأصيل، كلما زادت قوتها المؤقتة على حساب تدميرها الداخلي و الأنطولوجي للكينونة. الكينونة التي تسعى للكمال عبر هذا الإنحراف لا تكتمل، بل تُحكم على نفسها بـوجود معار أو كينونة مستأجرة، و تفشل في تحقيق غايتها الروحانية العليا.

_ ثمن القوة: السحر كـعقد إستقراض وجودي يغتال الإرادة الحرة للساحر.

تنطلق إشكالية التبعية الروحانية للقوى السفلية من فرضية أن الكينونة البشرية مُصممة، في جوهرها، للحرية الوجودية والإستقلال الإرادي، كجزء من كرامتها الأنطولوجية. الممارسة السحرية، في سياق التعاقد مع الجن أو الشياطين، تُعتبر تقنية لتبادل السيادة؛ حيث يستبدل الساحر، عن وعي أو جهل، سيادته الروحية المؤيدة إلهياً، بسلطة مؤقتة و محدودة من قوى غير بشرية.
يمكن تحليل هذا التعاقد كشكل من أشكال الإستقراض الوجودي. فالساحر لا يُنشئ القوة، بل يستقرضها من كيانات غير مرئية (الجن أو الشياطين) لتنفيذ أهداف تقنية محددة كالتفريق، أو المرض، أو السيطرة. الثمن المدفوع لهذا الإستقراض ليس مالياً، بل هو ثمن كينوني يُقاس بفقدان الحيز الروحي المستقل. هذا الثمن يترجم إلى إغتصاب الإرادة الحرة.
الإرادة الحرة هي العمود الفقري للكينونة الإنسانية المسؤولة. في حالة التبعية، تتحول الإرادة الحرة للساحر تدريجياً إلى إرادة مشروطة أو إرادة خاضعة لمتطلبات القوة السفلية. الساحر قد يبدأ بإصدار الأوامر، لكنه ينتهي بتلبية الشروط و الطقوس المعقدة التي تفرضها الكيانات لإستمرار الخدمة التقنية، مما يفقده إستقلاليته الذاتية. يصبح الساحر مجرد وسيط تقني مُحايد بين الكيان السفلي والواقع المادي المستهدف. دوره يتحول من كونه فاعلاً حراً إلى كونه قناة أو آلة لتنفيذ أجندات تلك القوى. هذا التحول يهدم مفهوم الكينونة كـغاية بذاتها ويحولها إلى أداة للغير.
إن التساؤل عن الثمن الروحي لهذه التبعية يتطلب الغوص في عواقبها على المسار الروحي والأخلاقي للكينونة. تُفترض الكينونة الإنسانية بإمتلاكها جوهراً نورانياً قابلاً للتطور و الصعود الروحي. التبعية للقوى السفلية، التي تُعتبر بطبيعتها نقيضاً لهذا النور (الشياطين)، تؤدي إلى تآكل مستمر لهذا الجوهر. يصبح المسار الروحي للساحر مسار هبوط أو تراجع بدلاً من الصعود، حيث يُستبدل البحث عن المعرفة الإلهية بالبحث عن القوة المادية العاجلة. هذا التآكل هو الثمن الأكبر. الكينونة الإنسانية موقعة ضمنياً على عقد كوني يتضمن الخضوع لقوانين المصدر الأعلى (الله) والسعي نحو الحق. السحر التبعي هو تقنية لخرق هذا العقد. بفقدان الساحر لمساره الروحي الحر، فإنه ينسحب من مسؤوليته الكينونية نحو الخالق والمجتمع، ويختار مسار الإنفصال الوجودي. تُعتبر النفس البشرية مرآة تعكس الحقائق الوجودية و الأخلاقية. التبعية السحرية تعمل كـتشويه دائم لهذه المرآة، حيث يصبح الساحر غير قادر على التمييز بين الخير و الشر، أو بين الحقيقة والوهم، إلا من خلال المنظور الملتوي للقوى التي يخدمها. مساره الروحي يصبح مساراً معوجاً لا يقود إلى الكمال بل إلى مزيد من الضلال.
في التحليل الفلسفي للتقنية، يُفترض أن تكون التقنية وسيلة لتحرير الإنسان. في حالة السحر، تنقلب التقنية لتصبح أداة للعبودية. الساحر الذي يسعى للسيطرة على العالم عبر التعاقد التقني مع القوى السفلية، يكتشف في النهاية أنه لم يسيطر على شيء، بل سلم أعز ما يملك - حريته الروحية وكينونته المستقلة - لكيانات لا ترحم. الثمن الروحي لهذه التبعية هو التشيؤ النهائي، يتحول الساحر، الذي بدأ ككائن حر، إلى شيء مملوك روحياً، مسلوب الإرادة، ومحكوم بمصير مرتبط بمصير الكيان الذي إستعبده. بهذا، يكون قد فقد ليس فقط مساره الروحي المستقل، بل فقد التعريف الجوهري للكينونة الإنسانية القائمة على الحرية و المسؤولية. هذه العبودية الروحانية هي الإنحطاط المطلق للكينونة التي أرادت أن تكون إلهاً فصارت خادماً.

_ السرقة الكينونية: السحر ليس سرقة مال، بل إستلاب ملكية الفرد لذاته الروحية

إن إشكالية إنتهاك سيادة الكينونة الروحية للآخرين عبر السحر تُعد نقطة مفصلية في التحليل الفلسفي للـ أنطولوجيا الأخلاقية (Moral Ontology)؛ إذ تحوّل الممارسة السحرية من مجرد ظاهرة غامضة إلى فعل عدوان وجودي يضرب في صميم مفهوم الكائن ككيان حر ومستقل.
تترسخ هذه الإشكالية في مفهوم السيادة الكينونية، الذي يُشير إلى الحق المطلق للفرد في أن يكون المالك الوحيد و المدير الأوحد لجوهر وجوده، إرادته، وعيه، ومصيره الروحي. هذا الحق هو ما يمنح الكينونة قيمتها الأخلاقية و يؤسس لمفهوم المسؤولية. عندما يمارس الساحر تقنيته، فإنه يقوم بـتجاوز روحي يتخطى الحدود الأنطولوجية للآخر، محولاً الهدف من كائن فاعل (Subject) إلى كائن منفعل و مسيطر عليه (Object).
يُمكن إعتبار السحر عدواناً روحياً بالمعنى الفلسفي العميق، لأنه لا يكتفي بإلحاق الضرر المادي، بل يستهدف آلية تقرير المصير في الكينونة. الإرادة الحرة ليست مجرد خيار نفسي، بل هي جوهر الوجود الإنساني؛ هي القوة التي تُشكّل الكينونة بإستمرار. السحر، خاصة في صوره التي تهدف إلى السيطرة على الحب أو الكراهية أو القرار، يعمل كـتقنية لـتعطيل الميكانزم الإرادي. هو يحاول إعادة برمجة الوعي و السلوك عن طريق إدخال أوامر سحرية في الحقل الروحي للمسحور. هذا التدخل لا يلغي الإرادة ظاهرياً فحسب، بل يفرض عليها مساراً إجبارياً، مما يُلغي شرط الإنسانية الأساسي: الحق في الإختيار الأصيل.
يتحول المسحور، تحت تأثير السحر، من كائن مُشرّع لذاته إلى أداة في يد الساحر أو الكيانات التي يخدمها. الساحر يتعامل مع كينونة المسحور كـمادة خام قابلة للتشكيل و التوجيه لتحقيق أغراض خارجية كأن يُجبر على محبة شخص، أو يترك وظيفته، أو يمرض. هذا التشيؤ الروحي هو إنتهاك للكرامة الكينونية؛ فالكائن لم يعد غاية في ذاته، بل وسيلة.
الكينونة تُبنى وتتطور عبر تجاربها الأصيلة و قراراتها التي تتحمل مسؤوليتها. عندما يتدخل السحر، فإنه يفرض تجربة مُصطنعة على المسحور. قرار الحب القسري، أو الشعور بالكراهية المفاجئة، ليس نابعاً من التفاعل الأصيل مع العالم، بل من تلاعب تقني خارجي. هذا يسلب الكائن حقه في تشكيل ذاته الحقيقية عبر مساره الوجودي، ويجعله يعيش واقعاً مُزوّراً.
إن العلاقة بين السحر والسيادة تقودنا مباشرة إلى مفهوم المسؤولية الوجودية. إذا كانت الإرادة مُسَلَبَة أو مُشوهة بفعل السحر، فإن الكينونة المسحورة تفقد شرط المسؤولية عن أفعالها. فكيف يمكن محاسبة كائن على قرار لم يتخذه بوعيه وإرادته الحرة؟ السحر، من هذا المنطلق، هو محاولة لإسقاط المسؤولية الأخلاقية عن الفرد عن طريق إخضاعه لـقانون خارجي زائف مفروض سحرياً. هذا يُمثل إضطراباً في النظام الأخلاقي الوجودي.
يحاول الساحر، عبر تقنيته، أن يفرض قوانينه الخاصة على الواقع، متجاوزاً القوانين الكونية و الأخلاقية السامية التي تحمي سيادة الكينونة. السحر يصبح تقنية تعديل للقوانين (Law Modification Technology)، حيث يتم تجاهل قانون "لا إعتداء" الروحي لصالح قانون "أنا أريد" الذي يُمليه الساحر. هذا التعدي هو جوهر العدوان الروحي.
ليس السحر مجرد سرقة للأشياء المادية، بل هو إستلاب كينوني يسرق ملكية الفرد لذاته. هذا الإستلاب أعمق وأكثر تدميراً من أي سرقة مادية، لأنه يمنع الكائن من تحقيق غايته الروحية والوجودية، ويجبره على العيش وفقاً لسيناريو مكتوب سلفاً من قِبل المعتدي.
في الختام، يمثل السحر إنتهاكاً لاهوتياً وفلسفياً لأنه يخرق المبدأ الوجودي القائل بأن كل كينونة هي مُشرّع لذاتها. إن سلب الفرد حقه في تقرير مصيره الوجودي عبر السيطرة على حريته الروحية هو أقصى درجات العدوان، لأنه يُحوّل الكائن الحر إلى دمية ميتافيزيقية، مما يُلغي معناه الوجودي ويُدمر فرصة كماله الروحي الذي لا يمكن تحقيقه إلا في ظل الحرية المطلقة.

_ هندسة التلوث العكسية: السحر الأسود كـبروتوكول إتصال تقني يخفض تردد الكينونة الروحية

إن إشكالية تلوث أو ظلام الروح في سياق الممارسة السحرية، وخاصة السحر الأسود، تُعد مسألة فلسفية عميقة تتناول أنطولوجيا الشر و كيف يُعيد تشكيل الجوهر الكينوني. هذه الممارسات ليست مجرد خيارات أخلاقية عابرة، بل هي تقنيات وجودية مُتعمّدة تهدف إلى تفكيك النظام الروحي الطبيعي وإستبداله بآخر يقوم على السواد و النجاسة، مما يجيب عن التساؤل حول كيفية تغيّر جوهر الكينونة عندما يتم تغذيتها بالشر والسواد الروحي.
يمكن تحليل متطلبات السحر الأسود كالذبح لغير الله أو تدنيس المقدسات على أنها هندسة عكسية (Reverse Engineering) للنورانية الداخلية للكينونة. فالطبيعة الروحية للكائن، وفقاً للفلسفات الروحية، تُبنى على مبادئ الطهارة، التوحيد، والتسليم للمصدر الأعلى. هذه المبادئ هي ما يُكوّن الجوهر النوراني أو المرآة الروحية للكائن، الذي يعكس الحقيقة الكونية والجمال الإلهي.
يُشترط في السحر الأسود إرتكاب المحرمات الروحية كـبروتوكول إتصال تقني مع القوى السفلية. هذه القوى، بطبيعتها، تتنافر مع النقاء و التوحيد. لذا، فإن إرتكاب المحرمات كالذبح لغير الله ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة تقنية لخفض تردد الكينونة الروحية للساحر إلى مستوى يماثل تردد تلك الكيانات. هذا الخفض في التردد الروحي هو جوهر التلوث؛ حيث يتم إستبدال الطاقة الراقية بأخرى كثيفة ومظلمة.
تدنيس المقدسات أو محاربة فكرة التوحيد هو محاولة لـتدمير مركز الروحانية داخل الكينونة. هذا المركز هو مصدر الإيمان والأخلاق و الإستقلالية الروحية. عندما ينجح الساحر في تدمير هذا المركز عبر أفعال النجاسة، فإنه يُحدث فراغاً روحياً؛ وهذا الفراغ هو المساحة التي تُملأ بالسواد و الظلام الروحي وتُستخدم كنقطة إرتكاز للقوى الشيطانية لتمارس نفوذها. يصبح الساحر، تقنياً، وعاءً مُعَدّاً لتلقي الأوامر و الطاقة من القوى السفلية مباشرة دون مقاومة.
إن التساؤل عن كيفية تغيّر جوهر الكينونة يُقودنا إلى تحليل المآل الأنطولوجي للساحر الذي يغذي روحه بالشر. هذا التغيير يمكن وصفه بالتحول من حالة الفطرة النورانية إلى حالة الكثافة المظلمة. يتغير جوهر الكينونة عبر تشوه المرآة الإدراكية للساحر. الروح الملوثة بالشر و السواد تصبح غير قادرة على رؤية الخير أو التمييز بين الحق والباطل. الساحر لا يرى العالم على حقيقته، بل يراه من خلال عدسة التبعية للقوى السفلية. هذا الظلام الروحي ليس مجرد نقص في النور، بل هو وجود فعلي للشر يُصبح جزءاً من نسيج الكينونة، ويُحكم على الساحر بالإنفصال الوجودي عن أي شكل من أشكال الكمال أو السلام الداخلي.
الجوهر الروحي الذي يتغذى بالشر يفقد شكله الأصلي (Forma) ليأخذ شكلاً جديداً يتوافق مع القوى التي يخدمها. هذا ليس تحولاً في السلوك فحسب، بل هو تعديل أنطولوجي. الساحر يصبح، على المستوى الروحي، كائناً هجيناً يجمع بين طبيعته البشرية الأصلية و التلوث الذي فرضه على نفسه. هذا التلوث يمنع أي فرصة للعودة السهلة إلى النورانية، لأنه أحدث تغيراً في البنية الأساسية للروح.
في نهاية المطاف، فإن تغذية الكينونة بالشر و السواد يقود إلى الإستهلاك الروحي الذاتي. السحر الأسود، لكونه يعتمد على مصادر ثانوية، يتطلب ثمناً باهظاً يُدفع من جوهر الكينونة نفسها. هذا الثمن هو الطاقة النورانية المتبقية لدى الساحر. فكلما إزداد نجاحه تقنياً في السحر، كلما إزداد إستهلاكه الروحي، مما يُسرّع عملية تحوله إلى كيان مظلم لا يمتلك أي بقايا من النورانية الإنسانية الأصلية.
بالتالي، فإن تلوث الروح في السحر ليس مفهوماً مجازياً، بل هو تغيير تقني جذري في الخريطة الوجودية للكينونة؛ حيث يتم إستبدال الوقود النوراني بالظلام، مما يُحوّل الساحر إلى كائن يُعاني من وجود مشوّه لا يمكن له أن يتصالح مع النظام الكوني أو يبلغ كماله الروحي.

_ تكنولوجيا التضليل الكينوني: كيف يحجب السحر النور الروحي ويُحوّل الحقيقة إلى وهم مُركَّب

إن إشكالية حجب البصيرة وتوليد الوهم الروحي عبر السحر تضعنا أمام تحليل فلسفي للأنطولوجيا المعرفة والإدراك في سياق العلاقة بين السحر والكينونة. هذا الإشكال يرتكز على فكرة أن الحقيقة الوجودية ليست مجرد معطيات خارجية، بل هي حالة صفاء كينوني داخلي (البصيرة) يمكن للسحر أن يعترضه و يفككه. الممارسة السحرية هنا لا تُعد خداعاً بصرياً عادياً، بل تقنية لتشويه الوعي الأنطولوجي للمسحور، مما يُجيب عن التساؤل حول قدرة الروح على بلوغ الحقيقة و هي تحت تأثير التضليل المتعمد.
تبدأ العملية السحرية، في هذا الإطار، بالإعتراف بوجود مستويين للإدراك: البصر المادي، المرتبط بالجسد والحواس الظاهرة والبصيرة الروحية/القلبية، المرتبطة بالروح والوعي العميق، وهي الأداة الأساسية لإدراك الحقائق الوجودية و الأخلاقية. السحر يعمل كـتكنولوجيا تضليل كينوني تستهدف المستوى الأعمق.
يُفترض أن الروح الإنسانية هي كالمرآة، تعكس الحقائق الكونية إذا كانت نظيفة وصافية. السحر يعمل على تلطيخ هذه المرآة وتشويهها عبر آليات تقنية معقدة. يستخدم الساحر طقوسه و كياناته لـبث ترددات طاقية سلبية أو خلق حواجز أثيرية حول الكينونة المستهدفة. هذه الحواجز لا تحجب الضوء المادي، بل تحجب النور الروحي القادم من المصدر الأعلى، وهو النور الذي يُنير البصيرة. يصبح المسحور مُحاطاً بـغشاء وهمي يمنع تدفق الحكمة والإدراك الأصيل. لا يكتفي السحر بإخفاء الحقيقة، بل يعمل تقنياً على توليد واقع وهمي مُركَّب داخل إدراك المسحور. هذا الوهم ليس مجرد رؤية لشيء غير موجود، بل هو قناعة راسخة بفكرة زائفة، كأن يقتنع بأن شخصاً بريئاً هو عدوه، أو أن مساراً مُدمراً هو مساره الصحيح. هذا التضليل الوجودي يُحول الكينونة عن مسارها الأصيل ويجعلها تتخذ قرارات مبنية على أساس غير حقيقي.
يُكمن السؤال الفلسفي الأهم هنا: كيف يمكن للروح أن تصل إلى الحقيقة الوجودية وهي تحت تأثير قوى تهدف إلى تضليلها؟ الوصول إلى الحقيقة الوجودية يتطلب حالة من الإستقلال الكينوني المطلق والحياد الإدراكي. الروح يجب أن تكون حرة من أي مؤثرات خارجية (وهم، خوف، سيطرة). السحر، عبر حجب البصيرة، يُلغي شرط هذا الإستقلال. فالروح تحت تأثير التضليل تصبح روحاً مُعلّقة بين الحقيقة والوهم، وغير قادرة على ممارسة وظيفتها الأساسية وهي البحث عن المعنى والغاية بطريقة حرة.
تمتلك الكينونة البشرية ما يُعرف بـالحدس الأنطولوجي أو الفطرة التي تميل بالفطرة إلى الحق والخير. يعمل السحر على تخدير أو خيانة هذا الحدس الروحي، فيصبح صوت الوعي الداخلي للمسحور مشوشاً أو مُبدلاً بالأصوات و الأوامر الوهمية التي زرعها الساحر. هذا الإنحراف يُفقد الروح بوصلتها الداخلية ويُحكم عليها بالضياع في متاهة الأوهام.
يُعد إدراك الحقيقة الوجودية أساسياً للـ المساءلة الوجودية؛ أي قدرة الكائن على محاسبة ذاته وتصحيح مساره. الروح التي حُجبت بصيرتها لا تستطيع أن تُقيّم واقعها بشكل صحيح، وبالتالي تفقد قدرتها على التوبة، التصحيح، أو حتى مجرد إدراك أنها في ضلال. السحر هنا ليس مجرد تضليل، بل آلية تمنع الشفاء الروحي وتُبقي الكينونة في حالة دائمة من التبعية للوهم.
إن إستمرار الروح في التغذية على الوهم السحري له عواقب دائمة على البنية الكينونية. البصيرة هي ما يربط الروح بالجسد والعقل بطريقة متناغمة. عندما تُحجب البصيرة و تسيطر الأوهام، تفقد الكينونة وحدتها. يصبح الجسد يتصرف وفقاً لأوامر العقل المسحور، والعقل يتصرف وفقاً للأوهام، وتنفصل الروح عن هذا المسار المضلل ولكنها عاجزة عن التدخل. هذا الإنفصام الوجودي هو قمة تدمير السحر لسلامة الكائن.
مع مرور الوقت، يتكيف المسحور مع الوهم حتى يصبح هو واقعه الشخصي الزائف. الروح، التي فشلت في مقاومة التضليل، تبدأ في بناء وجودها الجديد على أساس الأكاذيب السحرية. هذا التأسيس الأنطولوجي للزيف هو ما يجعل من الصعب جداً إبطال السحر، لأنه لم يعد مجرد تأثير خارجي، بل أصبح جزءاً من هوية الكينونة المُشكّلة حديثاً.
في النهاية، يثبت تحليل إشكالية حجب البصيرة أن السحر يمثل تهديداً وجودياً لحق الروح في المعرفة والحقيقة. الروح تحت تأثير التضليل تفقد قدرتها على إدراك الحق، و تصبح سجين عالم من الأوهام تم تصميمه تقنياً لحرمانها من أعظم هبة وجودية، أن تكون حرة في رؤية جوهر الواقع و إختيار الحقيقة. هذا السلب للبصيرة هو السجن الروحي المطلق.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السحر قناع الأنطولوجيا: كيف يكشف التدخل الغيبي عن مرونة الكي ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...


المزيد.....




- -أمازون- تعلن عودة أنظمتها للعمل بعد عطل كبير
- -فتاة توجه انتقادات إلى ملك المغرب-.. ما صحة الفيديو المتداو ...
- ترامب يتوعد الصين بمهلة نهائية ورسوم جمركية قاسية... وشراكة ...
- لافروف وروبيو يبحثان ترتيبات قمة بوتين – ترامب وآليات تنفيذ ...
- ألمانيا وأيسلندا تتفقان على تعزيز التعاون العسكري لمواجهة -ا ...
- قمة MED9 تدعو إلى تنفيذ اتفاق غزة: حل الدولتين هو السبيل للا ...
- لا للملوك: هل يواجه ترامب معارضة حقيقية؟
- تراجع أسهم بنك -بي إن بي باريبا- بعد حكم قضائي أمريكي دانه ب ...
- المغرب: هل فقدت حركة -جيل زد 212- زخمها؟
- إيران تعلن إلغاء اتفاق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذ ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-