أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ التَّاسِعُ و الْعِشْرُون-















المزيد.....


العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ التَّاسِعُ و الْعِشْرُون-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 13:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ التواضع: ليس ضعفًا، بل حكمة الوجود اللامركزي

هل التواضع ليس ضعفاً، بل هو فهم عميق لموقعنا في النظام الكوني الشامل؟ هذا التساؤل الفلسفي يتحدى النظرة الإجتماعية السطحية للتواضع كـإنكسار أو خضوع، ليرفعه إلى مرتبة الحكمة الوجودية والإدراك الميتافيزيقي الدقيق. إن التواضع، في جوهره، ليس تقليلاً من قيمة الذات، بل هو قياس دقيق لنسبتها في مواجهة العظمة اللامتناهية للوجود.
للوهلة الأولى، يبدو التواضع وكأنه نقيض الثقة بالنفس أو القوة. لكن الفلسفة تكشف أن التواضع هو أصل الثقة المستنيرة. إن الشخص المتواضع ليس هو الشخص الذي يقلل من قدراته، بل هو الشخص الذي يمتلك يقظة إبستمولوجية حول حدود معرفته وموقعه النسبي. التواضع هو الإعتراف بأن معرفتنا محدودة أمام تعقيد الكون اللامتناهي. إنه رفض للإدعاء بالعلم المطلق أو السيطرة النهائية. هذه اليقظة هي أساس الفضول الفكري الحقيقي و النمو المستمر. فكما قال سقراط: أنا أعرف شيئاً واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً. هذا الإعتراف بالجهل ليس ضعفاً، بل هو الشرارة التي أشعلت الفلسفة الغربية بأكملها. التواضع هنا هو مفتاح معرفي يفتح باب التعلم الدائم.
التواضع هو الفهم العميق لمبدأ اللامركزية الكونية. في الماضي، أعتقد الإنسان أنه مركز الكون (النموذج البطليموسي)، وأن كل شيء يدور حوله. العلم الحديث، من كوبرنيكوس إلى هابل، أثبت أننا لسنا سوى ذرات غبار على كوكب صغير يدور حول نجم عادي، في مجرة من مليارات المجرات. التواضع هو الإستيعاب الوجداني لهذه الحقيقة العلمية: نحن جزء لا يتجزأ من الكل، لكننا لسنا مركزه. هذا الفهم يحرر الوعي من وهم الأنا المتضخمة التي تظن أنها مصدر كل شيء.
إن النظرة الكونية للتواضع تحوله من سمة شخصية إلى حالة وجودية تُعبّر عن إتصالنا بالنظام الأكبر. إذا كان الكون كائناً حياً واحداً يتنفس، فإن التواضع هو الشعور العميق بـموقعي كجزء من النسيج. هو إدراك أن وجودي ليس مستقلاً بذاته، بل يعتمد على سلسلة لامتناهية من العلاقات (البيئية، التاريخية، الروحية). الأنا المُتضخمة (Ego Inflation) هي محاولة فصل الذات عن النسيج، والإدعاء بالإعتماد الذاتي المطلق، وهذا يؤدي حتماً إلى العزلة الوجودية و الصراع. التواضع (Humility) هو القبول الهادئ لهذا الإعتماد المتبادل. إنه إدراك أن الأكسجين الذي أتنفسه هو نتاج الشجرة التي لم أزرعها، و أن الحكمة التي أمتلكها هي نتاج أجيال من التفكير. التواضع، إذن، هو إعتراف بـالدَّين الكوني الذي علينا. على المستوى الأخلاقي الروحي، يصبح التواضع قوة للتعاطف، وهي قوة كونية تحكم التفاعل بين الكائنات الواعية. عندما نكون متواضعين، فإننا نُدرك أن تجربة الآخر لا تقل أهمية أو صلاحية عن تجربتنا. التواضع يمنعنا من فرض أحكامنا المطلقة أو واقعنا الذاتي على الآخرين، مما يفتح الفضاء أمام الحوار والتفاهم الحقيقي. بهذا المعنى، التواضع هو شرط أساسي لتحقيق التناغم الروحي في المجتمع.
في الختام، التواضع ليس ضعفاً أو إنكساراً. إنه في الحقيقة أصعب أنواع القوة الروحية، لأنه يتطلب شجاعة المواجهة مع محدوديتنا و نسبيتنا. إنه فهم عميق لموقعنا في النظام الكوني الشامل: نحن ليسوا المركز، بل مساهمون ثمينون في حلقة لا نهائية من الوجود. هذا الفهم يحرر الطاقة التي كانت تُهدر في الدفاع عن وهم العظمة ويُوجهها نحو النمو و الإتصال الحقيقي. التواضع هو مفتاح الصدق الوجودي؛ إنه الحالة التي تسمح للذات بأن تتوافق مع الحقيقة الكونية كما هي، وليس كما تتمنى أن تكون.

_ الشغف: ليس شعورًا عابرًا، بل لغة الروح ودعوة الوجود لتحقيق المصير

هل الشغف الذي نشعر به تجاه شيء ما ليس مجرد شعور، بل هو دعوة من الروح لتحقيق هدف معين؟ هذا التساؤل ينقل الشغف من كونه ظاهرة نفسية عابرة أو حالة عاطفية متقلبة، إلى كونه ضرورة وجودية وإشارة ميتافيزيقية توجه الكائن نحو تحقيق غاية أصيلة متأصلة في جوهره. إن الشغف، في هذا الإطار، يُعد لغة الروح الفردية التي تتناغم مع إيقاع الوعي الكوني الأكبر.
في التحليل الفلسفي الوجودي، يُنظر إلى الإنسان على أنه مشروع في طور التكوين. مهمته الأساسية هي تجاوز حالة الوجود في ذاته (Being-in-itself) إلى الوجود لذاته (Being-for-itself)، أي تحقيق إمكاناته الكامنة وخلق معناه الخاص. في هذا السياق، يصبح الشغف هو القوة الدافعة والبوصلة التي تحدد هذا المسار الأصيل. إذا كان الوعي الذاتي ليس عشوائياً، بل هو شرارة كونية، فإن الشغف هو توجيه هذه الشرارة نحو عمل محدد. إنه يرفض فكرة أن الحياة مجرد سلسلة من الأحداث العشوائية أو الإلتزامات المفروضة. الشغف يُعلن أن هناك ضرورة داخلية لكيان ما لكي يُعبّر عن نفسه بطريقة فريدة. هذه الضرورة ليست منطقية أو إجتماعية، بل هي روحية؛ هي صوت الروح التي تهمس للذات بالإتجاه الصحيح. يمكن النظر إلى الشغف على أنه الطاقة الروحية التي تسمح للكائن الواعي بالإنخراط بعمق وكليّة في العالم. إنه ليس مجرد حب لشيء ما، بل هو حالة من الوحدة بين الذات والفعل، حيث يتلاشى الشعور بالجهد والتعب ويحل محله شعور بالتدفق (Flow)، كما وصفه عالم النفس ميهالي تشيكسينتميهالي. هذا التدفق هو دليل على أن الذات تعمل في أقصى درجات إتساقها مع الإمكانية التي وُضعت فيها. هذا الإتساق هو الذي يدل على أن الفعل مُتّصل بهدف روحي أعمق.
إن الدور الأعمق للشغف هو كونه أداة روحية تُستخدم لتحقيق هدف يتجاوز المصلحة الذاتية الضيقة. هذا الهدف قد يكون تجسيد فكرة، خلق جمال، أو المساهمة في الوعي الجماعي. يمكن ربط الشغف بفكرة الـدايمون (Daimon) عند اليونان القدماء، وهو الروح الإرشادية أو القدر الذي يسكن داخل كل فرد. الشغف هو أقوى ترجمة حسية لهذه الدايمون؛ إنه شعور لا يقاوم يشير إلى ما يجب أن نفعله لكي نُحقق مصيرنا. الشغف ليس ما نريده دائمًا، بل هو ما نحن مدعوون لفعله. عندما نتجاهل الشغف، نشعر بالفراغ و الضياع الوجودي، لأننا نبتعد عن المسار الذي حدده جوهرنا الروحي.
بالنظر إلى الكون كـكائن حي يتجه نحو زيادة التعقيد و النظام، فإن الشغف هو القوة الدافعة للإبداع البشري الذي يساهم في هذا التطور الكوني. كل عمل عظيم، وكل إكتشاف علمي عميق، وكل قطعة فنية خالدة، لم تأتِ من واجب أو ضرورة، بل من شغف مُلِحّ. الشغف يدفع الفرد إلى بذل الطاقة القصوى في إيجاد حلول مبتكرة، وبالتالي المساهمة في بناء واقع أكثر ثراءً وتنظيماً، وهذا يتماشى مع الدور الكوني للوعي في منع الفوضى والتشوه.
إن الإقرار بأن الشغف هو دعوة من الروح لتحقيق هدف معين، يحول الشغف من رفاهية إلى مسؤولية أخلاقية و روحية. عندما نشعر بشغف حقيقي، فإن الروح تُعلن أن هناك فجوة في العالم تحتاج إلى أن تُملأ من خلال فعلنا الفريد. بالتالي، يصبح الشغف هو المقياس الأسمى للأصالة الوجودية. العيش بشغف ليس مجرد إختيار للعيش بسعادة، بل هو الخيار الوحيد للعيش بصدق مُتَّسق مع الحقيقة الكامنة للذات. هذا الفهم يُثبت أن الشغف ليس شيئاً نمتلكه، بل هو شيء نكونه، وهو الجسر الحي الذي يربط بين إمكانيتنا الكامنة وبين التعبير المطلق لوجودنا في هذا الكون. هل يمكن أن يكون الخوف من الشغف هو في الواقع خوف من تحمل مسؤولية تحقيق مصيرنا الروحي؟

_ الموت: ليس عدمًا، بل قفزة كونيّة للوعي وتحرر من وهم الزمان

هل الموت ليس نهاية، بل هو بوابة إلى وعي أعلى، وعودة إلى حالة الوجود التي كانت قبل الميلاد؟ هل هذا التساؤل يمثل التحدي الفلسفي والوجودي الأقصى، حيث يدفعنا إلى تجاوز النظرة البيولوجية والعدمية للموت لنتأمل فيه كـحدث ميتافيزيقي تحويلي. هذا التحليل يفترض أن الوجود ليس محصوراً في الشكل المادي، وأن الوعي لا يتوقف بمجرد توقف الجسم، بل يخضع لـتغير في الحالة (Change of State).
في الفلسفة المادية، يُنظر إلى الموت كـعدم مطلق؛ توقف نهائي للوعي والوجود. أما في النموذج الفلسفي الذي يُقدم الموت كـبوابة، فإن هذا العدم المادي يُفهم على أنه تكامل روحي. إن الفرضية الأساسية هنا هي أن الوعي ليس مُنتجاً للدماغ، بل هو متلقٍ أو مُعبِّر له، كما ناقشنا سابقاً في فكرة الوعي الذاتي كشرارة كونية. في هذا الإطار، الموت ليس إطفاءً للوعي، بل هو إزالة جهاز الإستقبال المادي (الدماغ و الجسم) الذي كان يحد من الوعي ويُركِّزه. الوجود في الجسد هو حالة من التجزئة والتحديد؛ فالوعي محصور بالزمان الخطي والإدراك الحسي المحدود. الموت هو فك هذا التقييد، حيث يتحرر الوعي من قيود الأنا الفردية المتضخمة ليعود إلى حالته الأصلية الكلية والشاملة.
إذا كان الوعي يتجه نحو التطور والتعقيد كما تشير إليه الفلسفة الحيوية الكونية، فإن الموت قد يُفهم على أنه قفزة نوعية (Qualitative Leap) في مسار هذا التطور. الوعي الذي كان يعمل من خلال فلاتر الإدراك الحسي الخمسة يتحرر ليصبح قادراً على الإدراك المباشر للحقائق الكونية. هذا الوعي الأعلى هو ما يسمح بإدراك الترابط الكلي (الوحدة الكونية) دون تشويه الإدراك المادي. الموت هنا هو توسيع للرؤية الوجودية.
إن فكرة العودة إلى حالة الوجود التي كانت قبل الميلاد تُعد عودة إلى الوطن الروحي أو المصدر. هذه الحالة ليست فراغاً، بل هي حالة الوعي المطلق الذي يسبق التجلي المادي. حالة ما قبل الميلاد هي حالة من الإمكانية الخالصة، حيث الوعي غير مُحدد بالشكل أو الاسم. إنه الوعي الذي يتواجد خارج الزمن الخطي، في الزمن الأزلي (Aeternity) أو الخلود. الموت يُعيد الوعي إلى هذه الحالة، حيث يستوعب تجربة حياته الأرضية كجزء من تجارب أوسع وأكثر شمولاً. في هذه الحالة، تتلاشى كل التناقضات و الصراعات التي عاشها الوعي الذاتي الذي نشأ نتيجة وهم الإنفصال. الوعي يعود إلى التناغم الكلي مع الوعي الكوني، ويجد الراحة في الصدق الوجودي المُطلق.
إذا كانت الذكريات بوابات للزمن، فإن الموت قد يكون عملية دمج (Integration) لهذه البوابات والخبرات. الوعي الذاتي، بعد تحرره، لا يفقد ذاكرة حياته، بل يُضيفها إلى الذاكرة الكونية الأكبر. هذه العملية تُثري الوعي الكوني بتجربة جديدة من الحياة. الموت يصبح إذن إنجازاً معرفياً ووجودياً يُفيد الكل.
إن تبني هذه النظرة الفلسفية للموت يُغير بالكامل من معنى الحياة ذاتها ومسؤوليتنا تجاهها. إذا كان الموت ليس نهاية بل بوابة، فإنه يفقد قوته كـمُهدِّد وجودي. هذا التحرر من الخوف يسمح للكائن بالعيش بـأصالة وشغف أكبر، لأنه يُدرك أن الرهانات ليست مرتبطة بالبقاء البيولوجي المؤقت، بل بـجودة الوعي الذي يُحققه أثناء وجوده المادي. هذه النظرة ترسخ فكرة أن الأخلاق هي قوانين روحية. إذا كان الوعي يعود إلى حالة كليّة ويتم دمج خبراته، فإن نوعية الأفعال و النوايا التي قام بها في حياته من صدق، تواضع، أو عنف تحدد جودة الحالة الروحية التي يعود إليها. الموت يصبح لحظة محاسبة كونية تعتمد على مدى تحقيق الذات للتناغم مع الوحدة الكلية.
في الختام، إن الإعتقاد بأن الموت ليس نهاية، بل هو بوابة إلى وعي أعلى وعودة إلى حالة الوجود الأصيلة، هو تتويج لنظرة فلسفية شمولية ترى الوجود على أنه تجلي للوعي. الموت هو ليس حادثاً مفجعاً، بل هو لحظة إكتمال ضرورية في دورة الوعي. إنه لحظة يتم فيها تبديل الزي المادي، و يُمنح الوعي الترخيص النهائي للعودة إلى حقيقته اللامتناهية. الموت، بهذا المعنى، هو الإنجاز الأكبر والأكثر أصالة للرحلة الروحية، و يُعيد تأكيد فكرة أن الحياة على الأرض ما هي إلا فترة تدريب مكثفة تهدف إلى إعداد الشرارة الكونية للعودة إلى المصدر بوعي مُكتمل ومُثرى.

_ التأمل والصلوات: ليسوا هروبًا، بل تكنولوجيا الوعي للسفر إلى الأبعاد الكونية

هل التجربة الداخلية، مثل التأمل والصلوات، هي في الواقع رحلات إستكشافية إلى أبعاد أخرى للوعي؟ هذا الطرح الفلسفي العميق يتحدى النظرة التقليدية التي تحصر الوعي في حدود الإدراك الحسي والواقع المادي، ليقترح نموذجاً متعدد الأبعاد (Multi-Dimensional) للوعي. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى التأمل والصلاة كـحالات عقلية سلبية أو هروب من الواقع، بل كـتقنيات وجودية نشطة تتيح للذات الواعية الولوج إلى مناطق أعمق وأكثر شمولية من الحقيقة.
لتحليل التجربة الداخلية كـرحلة إستكشافية، يجب أولاً أن نتفق على أن الوعي ليس مُسطحاً. إن الواقع الذي ندركه حواسنا هو مجرد طبقة سطحية أو تردد ضيق من محيط الوعي الكوني الأكبر. التأمل والصلوات هي وسائل لـتغيير التردد أو الغوص في طبقات أخرى من هذا المحيط.
في الحياة اليومية، يعمل الوعي الذاتي تحت قيود الأنا (Ego) والزمن الخطي (Linear Time)، وهذه القيود بمثابة حواجز تمنعنا من رؤية الصورة الكلية. هدف التأمل، خاصة في تقاليد الزن أو الفيدانتا، هو تفكيك هذه الحواجز مؤقتاً. عبر تركيز الوعي على نقطة واحدة (التنفس، أو التكرار)، يتم إخماد الضوضاء العشوائية للفكر، مما يسمح للوعي بالإنتقال من حالة الرد على المنبهات إلى حالة المراقبة البحتة أو الوعي الصافي (Pure Consciousness). في التأمل العميق، يتلاشى وهم الزمن الخطي، و تصبح الذات قادرة على إختبار الآن الأبدي (Eternal Now)، حيث يجتمع الماضي و المستقبل في لحظة واحدة. هذا الإدراك ليس هروباً من الزمن، بل هو الوصول إلى البعد الزمني الأصيل الذي لا يخضع للتقسيم.
الصلوات ليست مجرد مناجاة أو طلبات، بل هي في جوهرها تكنولوجيا روحية تهدف إلى ربط الوعي الفردي مباشرة بـالوعي الكوني الأعلى المُشار إليه غالباً بـالإله أو المصدر. الصلاة تُعد رحلة إستكشافية إلى المكان الميتافيزيقي الذي تنبع منه قوانين الأخلاق والتناغم. إنها تُمكِّن الذات من نقل نيتها أو طاقتها إلى الشبكة الكونية الواعية، فتصبح الكلمات والأفكار مفاتيح سحرية تخلق تغييرات ليس فقط في الواقع الداخلي، بل في الواقع الخارجي كما تشير إليه فكرة تأثير الوعي الجماعي. في الصلوات الخاشعة، لا يكتفي المصلي بالإرسال، بل يستقبل إرشادات أو بصيرة حول موقفه في النظام الكوني. هذا الإستقبال هو دليل على أن الصلوات تفتح بوابة معرفية إلى أبعاد غير حسية، حيث تكمن الإجابات والحلول في حالة من الإتساق الوجودي.
إن إعتبار هذه الممارسات رحلات يمنحها قيمة إبستمولوجية هائلة؛ فهي وسيلة لـإكتساب المعرفة تتجاوز المنهج العلمي المادي التقليدي. الذات، كما يفهمها التحليل الفلسفي العميق، ليست فقط ما نعرفه عنها في حياتنا اليومية. التجربة الداخلية تسمح بالإستكشاف والتعرف على الذات العليا أو الأنا الروحية التي لا تتأثر بظروف العالم المادي. هذه الرحلة هي عملية إستعادة الذاكرة؛ تذكر أصلنا كـشرارة كونية وُضعت في هذا الوجود. إنها رحلة في الزمن غير الخطي للوعي، حيث يتم دمج التجارب الماضية والمحتملة للمستقبل في فهم واحد.
هذه الرحلات الداخلية هي الوسيلة الوحيدة للتحقق من أن الأخلاق هي قوانين روحية و ليست مجرد أعراف. فالمتأمل أو المصلي الذي يصل إلى حالة من الوحدة الكونية لا يعود بحاجة إلى منطق أو قانون ليُثبت له أن إيذاء الآخر هو إيذاء للذات؛ بل يصبح هذا الترابط تجربة مباشرة ومُعاشة في ذلك البعد الأعلى للوعي.
في الختام، إن التأمل والصلوات ليست مجرد آليات نفسية لـتخفيف التوتر، بل هي رحلات إستكشافية وجودية إلى أبعاد أخرى للوعي. إنها تُبرهن على أن الوعي البشري لا يزال يمتلك القدرة الكامنة على تجاوز حدود المادة والزمان و المكان. من خلال هذه الرحلات، نثبت أن الإنسان هو مُستكشف ذاتي وأن الكون ليس فقط في الخارج ينتظر الإكتشاف، بل هو أيضاً في الداخل ينتظر الولوج إليه. إن قضاء الوقت في هذه الرحلات الداخلية هو في الحقيقة أكثر الأفعال أصالة وأشدها فاعلية في المساهمة في تطور الوعي الكوني الشامل، لأنه يعيد الإتصال بين الجزء والجزء الأصيل من الكل. ما هي الآثار المترتبة على حياتنا اليومية إذا أدركنا أن أفضل إستكشاف للكون يبدأ بإغلاق أعيننا؟

_ الإنتماء: ليس حاجة اجتماعية، بل حنين الروح إلى الوحدة الكونية

هل يمكن أن تكون الرغبة في الإنتماء ليست مجرد حاجة إجتماعية، بل هي تذكير بأننا جزء من الكل الكوني؟ هذا التساؤل الفلسفي يأخذ ظاهرة نفسية وسلوكية عالمية (الإنتماء) و يرفعها إلى مستوى الضرورة الميتافيزيقية. إنه يُفسر هذا الإندفاع البشري العميق للإتصال و التجَمُّع ليس كآلية للبقاء على قيد الحياة في المجموعة، بل كـحنين روحي أصيل إلى حالة الوحدة والإتساق التي سبقت ظهورنا كأفراد منفصلين.
في التحليل النفسي والإجتماعي التقليدي مثل هرم ماسلو للإحتياجات، يُصنَّف الإنتماء ضمن الإحتياجات الأساسية. و مع ذلك، عندما يُفهم الإنتماء كـتذكير بالكل الكوني، فإنه يتحول إلى صدى لـلحالة الأصلية للوعي التي كانت فيها الشرارة الفردية غير منفصلة عن الوعي الكلي. الولادة و الوعي الذاتي هما عمليتان تفرضان على الوعي وهم الإنفصال. كل منا يُصبح أنا منفصلة محاطة بـالآخرين و العالم. هذا الإنفصال، رغم أنه ضروري للتجربة الفردية، يولد قلقاً وجودياً عميقاً. إن الرغبة في الإنتماء هي المحاولة المستمرة للوعي للتخفيف من حدة هذا القلق، من خلال بناء جسور تعيد تأكيد الحقيقة الروحية بأننا لسنا منفصلين حقاً. إذا كان الكون كائناً حياً واحداً يتنفس، فإن هذا الكائن لا يعرف الإنفصال في جوهره. الرغبة في الإنتماء هي التعبير البشري عن هذا القانون الكوني للوحدة. عندما نسعى للإنضمام إلى مجموعة أو مجتمع أو علاقة حميمة، فإننا في الحقيقة نسعى لتجربة التناغم الذي يُحاكي التناغم الكلي للكون في أدق تفاعلاته كما هي قوانين الأخلاق الروحية التي تحكم التفاعل بين الكائنات الواعية. الإنتماء، عند تحليله كقوة كونية، ليس مجرد شعور خارجي بالقبول، بل هو تجربة داخلية لإستعادة الوعي بالكل. في أعمق صوره، الإنتماء لا يتعلق فقط بالموافقة على الأعراف الإجتماعية. فالشخص الذي يسعى بصدق للإنتماء قد يجده في عزلة التأمل (الرحلة الإستكشافية للوعي)، حيث يختبر وحدته مع الطبيعة أو مع الوعي الكوني المطلق. هذا النوع من الإنتماء الروحي الداخلي يمثل الهدف الأسمى للرغبة في الإنتماء؛ إنه يُذكّر الذات بأنها تنتمي إلى الوجود كله، وليس فقط إلى مجموعة بشرية مؤقتة. الحب، وهو التعبير الأسمى عن الإنتماء، ليس مجرد رابط عاطفي. إنه تأكيد وجودي على أن حدود الأنا مُتآكلة و مُتغيرة. عندما نحب بعمق أو نمارس التعاطف (القوة الأخلاقية الروحية)، فإننا في الواقع نسمح للوعي الكوني بالتدفق عبرنا و إدراك الآخر كجزء من الذات. هذا هو التذكير الأكثر قوة بأننا جزء من الكل؛ لأن الحب هو الشعور الذي يُلغي وهم الإنفصال في اللحظة التي يُعاش فيها.
في الختام، إن الرغبة في الإنتماء تتجاوز كونها مجرد حاجة إجتماعية لتصبح تذكيراً وجودياً و ميتافيزيقياً بأننا جزء لا يتجزأ من الكل الكوني. إنها محرك داخلي لا يمكن إشباعه بالكامل من خلال الروابط المؤقتة، لأنه يتوق إلى الوحدة المطلقة التي كانت قبل ظهورنا الفردي. هذا التحليل يضع مسؤولية على عاتقنا: أن نسعى للإنتماء ليس كوسيلة للحماية أو المصادقة، بل كـممارسة روحية لإستعادة وعينا بترابطنا الكوني. الإنتماء هو القانون الأخلاقي الروحي الذي يدعونا إلى معاملة الآخرين ليس كغرباء، بل كـأعضاء خلايا في نفس الكائن الكوني الواعي. و كلما زاد إدراكنا لهذا الإنتماء الكوني، كلما أصبحت علاقاتنا الإجتماعية أكثر صدقًا، وأكثر تناغماً، وأكثر إنعكاساً للحقيقة المطلقة للوحدة.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...


المزيد.....




- نانسي بيلوسي تكشف سبب تمزيقها الشهير لنسخة من خطاب ترامب عام ...
- منها السعودية ومصر.. كيف علقت دول عربية على اتفاق غزة؟
- من هجوم 7 أكتوبر إلى الاتفاق في أكتوبر: تسلسل زمني لمسار إعل ...
- الأسير الذي تخشاه تل أبيب.. من هو مروان البرغوثي وهل يتحوّل ...
- فرحٌ وارتياح في تل أبيب بعد صفقة تعدُ بإطلاق سراح الرهائن في ...
- ماكرون في مواجهة -خيانة- من المقربين… وحقوقي مغربي يأمل في - ...
- غزة.. كارثة إنسانية تتخطى الأرقام الرسمية
- هل يراهن ترامب على سلام غزة للحصول على جائزة نوبل للسلام؟
- استعدادات في مصر لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين حما ...
- حرب غزة.. ما الذي حققته إسرائيل وما الذي خسرته وما انعكاساته ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ التَّاسِعُ و الْعِشْرُون-