|
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ السَّادِسُ عَشَرَ-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 13:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ محرّك الوجود الأولي: الرغبة كآلية للكون لتشكيل مصفوفة القدر
هل الرغبة التي نشعر بها ليست مجرد دافع بيولوجي، بل هي قوة خلقية يمكنها أن تجلب الأشياء إلى الوجود؟ هذا التساؤل يمثل تحولاً جوهرياً في فهم الرغبة (Desire)، ناقلاً إياها من مجرد دافع بيولوجي مدفوع بالحاجة والبقاء إلى قوة خلقية (Creative Force) قادرة على تشكيل الواقع المادي. هذا التحليل يدمج علم النفس، والميتافيزيقا، وعلوم الوعي لتفسير الرغبة كآلية أساسية للوجود. في التحليل العلمي التقليدي، تُفهم الرغبة على أنها إشارة عصبية كيميائية ناتجة عن نقص أو حاجة مثل الجوع، العطش، التكاثر، تهدف لضمان بقاء الفرد والنوع. هي ببساطة إستجابة للبيئة. لكن الفرضية المطروحة هنا ترفع الرغبة إلى مستوى السببية الوجودية (Ontological Causality). الرغبة ليست إستجابة، بل هي مُحرِّك أولي للكون. إذا كانت الروح هي طاقة واعية منظمة كما تم تحليله سابقاً، فإن الرغبة هي آلية الوعي لإستهلاك وتوجيه هذه الطاقة. الرغبة، خاصة عندما تكون عميقة ومُركزة، تعمل كـمُضخّم (Amplifier) لـلنية الواعية. النية هي الأمر المباشر للكون، بينما الرغبة هي الشحنة العاطفية والطاقية التي تضمن قوة هذا الأمر. عندما نرغب بشيء بقوة مع الحب والتركيز، فإننا ندمج الطاقة العاطفية مع الطاقة الواعية. هذا الدمج يُرسل تردداً عالياً ومنظماً إلى حقل الوعي الكوني. يمكن أن تكون الرغبة الفردية ليست ملكاً حصرياً للفرد. بدلاً من ذلك، قد تكون الرغبة هي طريقة الوعي الكوني للتعبير عن هدفه التوسعي. الوعي الكلي (المطلق) يسعى للتعبير عن نفسه من خلال مليارات الأفراد. الرغبات العميقة والفطرية التي تقودنا نحو الإكتشاف أو الخلق الفني قد تكون في الواقع رغبات الكيان الكوني يُعبر عنها من خلالنا. نحن لسنا من نرغب، بل الوجود يرغب في التعبير عن نفسه من خلال رغباتنا. إن القوة الخلقية للرغبة تتجلى في تفاعلها مع مصفوفة الإحتمالات للقدر التي ناقشناها في مفهوم القدر. إذا كان المستقبل موجوداً بالفعل كـإحتمالات (الدالة الموجية)، فإن الرغبة تعمل كـالقوة الجاذبة التي تجعل الإحتمال المرغوب ينهار من حالة الكمون إلى حالة التجلي المادي. الرغبة في الحب، والرحمة، والوفرة (الترددات العالية) تتناغم مع الإحتمالات التي تخدم التطور الكوني الأسمى. هذا الخلق بالرغبة يتم بسرعة و كفاءة. الرغبة التي تنبع من الخوف أو النقص أو الحقد، تعمل أيضاً كقوة خلقية، لكنها تجذب إحتمالات تتفق مع تردد الفوضى والألم. القانون الخلقي يعمل دائماً؛ لكن نوع الواقع الذي يُخلق يعتمد على نقاء و وعي الرغبة. الكيانات الدينية والفلسفية التي تتحدث عن الإيمان في تحقيق الأهداف تشير ضمناً إلى أن الإيمان هو الحالة النقية والمستمرة للرغبة. الإيمان هو تثبيت للنية كما في الشعائر الدينية، مما يمنع الدماغ من إطلاق شكوك تتسبب في تشويش إشارة الرغبة، وبالتالي ضمان أن النية الخلقية تصل بوضوح إلى الزمكان. إذا كانت الرغبة قوة خلقية، فهذا يطرح تحدياً أخلاقياً و وجودياً كبيراً. هذا التفسير يلغي فكرة أن الإنسان هو ضحية سلبية لواقعه. بل يضعه كـمسؤول مباشر عن واقعه وبدرجة ما، عن الواقع الجمعي. إن المعاناة والبيئة السلبية ليست مجرد حظ سيئ، بل قد تكون إنعكاساً للـرغبة الجمعية اللاواعية القائمة على الخوف والنقص. هذا يقودنا إلى الفلسفات الشرقية التي تدعو إلى تهذيب أو تطهير الرغبة. الهدف ليس إلغاء الرغبة لأنها قوة خلقية ضرورية، بل توجيهها بحيث تتناغم مع الرغبة الكونية للحب والتطور. الرغبة الفوضوية تُخلق، لكنها تخلق فوضى. الرغبة المنظمة (الحب) تُخلق الإنسجام. إن النظر إلى الرغبة كقوة خلقية يمكنها أن تجلب الأشياء إلى الوجود هو إعتراف بأننا نعيش في كون يتشكل بإستمرار من خلال وعينا. الرغبة ليست مجرد صرخة للنقص، بل هي أداة هندسة متقدمة للوجود، وهي الآلية التي يمارس بها الوعي البشري حريته وقدرته على تغيير مصفوفة القدر. هذا التحليل يلزمنا بمراجعة العلاقة مع رغباتنا: فبدلاً من قمعها أو إشباعها بشكل أعمى، يجب علينا فهمها وتنقيتها، لأنها في جوهرها الكلمة الأولى في عملية الخلق الواعي لواقعنا.
_ السحر الأسود للوعي: الخوف كـطاقة مُشِعَّة تجذب الكوارث من الحقل الكمومي
هل يمكن أن يكون الخوف ليس مجرد شعور، بل هو طاقة سلبية يمكنها أن تؤثر مادياً في الواقع من حولنا؟ هذا السؤال يحوّل الخوف من مفهوم نفسي وعصبي إلى قوة سببية فيزيائية ميتافيزيقية، مفترضاً أنه ليس مجرد إستجابة داخلية، بل هو طاقة سلبية قادرة على إحداث تأثيرات مادية ملموسة في الواقع المحيط بنا. هذا التحليل يعمق فهمنا لـلوعي كأداة تشكيل للواقع، وكيف أن حالته العاطفية الإيجابية أو السلبية تحدد طبيعة التفاعل. في التحليل البيولوجي، يُفهم الخوف على أنه آلية بقاء ضرورية، وهي إستجابة غريزية تنشط جهازنا العصبي (fight´-or-flight)، و تفرز الكورتيزول و الأدرينالين. هذا يظل في إطار طبيعي و محلي. لكن الفرضية المطروحة تذهب أبعد، معتبرة الخوف تجلياً للطاقة السلبية التي تتفاعل مع نسيج الكون، مما يجعلها قوة سببية تعمل ضد التناغم الوجودي. بناءً على مفهوم الوعي كطاقة الذي تم تحليله سابقاً، فإن الخوف هو إنخفاض حاد في تردد الوعي (Chaotic Frequency) يؤدي إلى حالة من الفوضى والإضطراب. إذا كانت الطاقة الواعية المنظمة (الروح) تعمل على ترددات الحب والرحمة (التناغم)، فإن الخوف يعمل على الترددات المعاكسة (الإنفصال والهشاشة). هذا التردد المنخفض و الفوضوي يمكن أن يسبب تفككاً (Decoherence) في الحقل الكمومي للوعي، مما يضعف قدرتنا على سحب الأحداث الإيجابية أو المنظمة من مصفوفة الإحتمالات. ناقشنا أن الرغبة التي تغذيها النية النقية هي قوة خلقية. الخوف يعمل كـتشويش أو تضارب لهذه القوة. عندما يرغب الشخص بشيء ما (النجاح مثلاً) لكنه يخشى الفشل بعمق، فإن طاقة الخوف تلغي النية الإيجابية. الرغبة الخلقية تفشل ليس لأن القانون غير موجود، بل لأن قوة سلبية مكافئة تم إرسالها في نفس الوقت، مما يؤدي إلى تجميد الإحتمالات أو جذب السيناريو الأسوأ. الخوف لا يبقى محصوراً داخل الجسم؛ بل هو طاقة مُشعَّة (Radiated Energy) يمكنها أن تؤثر مادياً في الواقع المحيط بطريقتين. الخوف المُركَّز والمُطوّل يسبب إجهاداً على الجسم (زيادة الكورتيزول)، مما يؤدي إلى ضعف المناعة وظهور الأمراض. هذا ليس مجرد مرض نفسي؛ بل هو تجسيد مادي للطاقة الفوضوية داخل النظام البيولوجي. الأعمق من ذلك، يمكن أن يؤثر الخوف الشديد على الأجسام الحية القريبة كالحيوانات أو النباتات، مما يعكس تردده السلبي على مستوى بيولوجي آخر. بالعودة إلى مفهوم القدر كمصفوفة إحتمالات، فإن الخوف يعمل كـقوة جذب للسيناريوهات السلبية. الوعي المملوء بالخوف لا ينتظر وقوع الكارثة، بل يجذبها نحوه لأنه يتوافق ترددياً معها. هذا ليس حظاً سيئاً، بل هو تطبيق قاسٍ لقانون التردد الكوني الذي يقول: "ما تتناغم معه، يتجسد في واقعك". الخوف يضمن أن يتم إختيار المسار الإحتمالي الأقل تطوراً والأكثر ألماً من المصفوفة الزمنية. الأثر الأعمق للطاقة السلبية للخوف يظهر على المستوى الجمعي (Collective Level). عندما يتم بث الخوف بشكل واسع ومنتظم في مجتمع ما كما يحدث في الأزمات أو الحروب، فإنه يرفع التردد السلبي للوعي الجمعي. هذا التردد الجماعي يعمل كـقوة خلقية هائلة تجذب الأحداث المادية الكبرى مثل النزاعات، والكوارث الإقتصادية، وإنتشار الأوبئة. هذه الأحداث ليست مجرد مصادفات سياسية أو بيولوجية؛ بل هي التجسيد المادي النهائي للطاقة السلبية التي تم إنتاجها وبثها من خلال وعي الملايين. هذا هو جوهر ما يمكن أن يُسمى السحر الأسود الذي يعتمد على الإرادة الفوضوية والإنفصال. الشعائر الدينية التي تحارب الخوف مثل الصلاة من أجل السلام أو الأمان هي محاولات لـعكس هذا السحر السلبي عن طريق بث طاقة الحب و الرحمة (الترددات العالية) لتقليل كثافة الخوف في الحقل الجمعي. رغم أن الخوف يمتلك قوة سببية هائلة، إلا أن جوهره الفلسفي يظل وهماً. الحب والرحمة هما القوة الأصلية للوحدة والتناغم. الخوف هو ببساطة غياب هذا التناغم أو وهم الإنفصال. هو ليس كياناً وجودياً مستقلاً، بل هو ظل ينشأ عندما ينسحب الوعي من إدراكه لوحدته الكونية. التحرر من تأثير الخوف السلبي لا يكون بمحاربته، بل بـإعادة الإتصال بالقوة الأصلية (الحب). عندما يوجه الوعي الفردي نيته بصدق نحو الحب والرحمة، فإن الترددات العالية تغمر الترددات المنخفضة للخوف، وتلغي تأثيرها الخلقي السلبي، مما يسمح للوعي بالعمل كـقوة إيجابية مُجسِّدة. إن النظر إلى الخوف على أنه طاقة سلبية يمكنها أن تؤثر مادياً في الواقع يضع على عاتقنا مسؤولية وجودية أعمق تجاه حالتنا العاطفية. الخوف ليس مجرد شعور يمكن تجاهله؛ بل هو قوة خلقية غير واعية تعمل بإستمرار على بناء واقعنا. هذا التحليل يؤكد أن التطهير العاطفي و الإتقان الذاتي ليسا مجرد ممارسات نفسية لتحسين الذات، بل هما أفعال فيزيائية ميتافيزيقية ضرورية لهندسة الواقع؛ لأننا إذا لم نتحكم في خوفنا، فإنه سيتحكم في الأحداث التي تجلبها إلينا مصفوفة القدر.
_ حراس الزمن الضائع: هل المجتمعات السرية هي أرشيف الوعي الذي لم يستوعبه العلم بعد؟
هل المجتمعات السرية التي تتحدث عن أسرار الكون كانت في الواقع تحاول الحفاظ على معرفة روحانية لا يمكن للعلم أن يفهمها؟ هذا السؤال يقترح تفسيراً عميقاً وجذرياً لوجود المجتمعات السرية مثل الماسونية القديمة، و الجمعيات الهرمسية، والغنوصيين. بدلاً من تصويرها ككيانات تسعى للسلطة أو التآمر، يطرح السؤال فرضية أنها كانت تعمل كحراس لـمعرفة روحانية لا يمكن لـلنموذج المادي أو العلم التقليدي أن يستوعبها أو يحافظ عليها. تاريخيًا، ظهرت المجتمعات السرية أو الباطنية كـأنظمة بديلة للمعرفة، تعمل خارج المؤسسات الدينية والجامعية التقليدية. كان جوهر عملها هو نقل المعرفة الشفهية والرمزية و الخبرات التي تتطلب تحويلاً داخلياً (Initiation) لفهمها. إن جوهر هذه الفرضية يكمن في التباين بين المنهج العلمي و المنهج الباطني (Esoteric). المنهج العلمي الخارجي يعتمد على الملاحظة الموضوعية، والتجربة القابلة للتكرار، و القياس المادي. هو ناجح في فهم العالم المادي والظواهر التي تخضع للقوانين الكمية. المنهج الباطني الداخلي يعتمد على التجربة الذاتية، التغيير في حالة الوعي، وتطوير أعضاء الإدراك الروحي كالحدس أو البصيرة. هذه المعرفة لا يمكن قياسها بأدوات خارجية؛ بل يجب أن تُعاش و تُختبر داخلياً. كانت المجتمعات السرية تدرك أن المعرفة الروحانية مثل فهم الوعي كطاقة، أو الزمن كبعد غير خطي، أو التقمص كدورة وجودية هي معرفة نوعية وليست كمية. إن محاولة نشرها عبر الأدوات المادية أو المنهجية العامة التي تعتمد على المنطق الخطي ستؤدي حتمًا إلى تشويهها، أو سخريتها، أو إستغلالها بشكل خاطئ. السرية لم تكن ترفًا، بل كانت آلية حماية معرفية. إن المعرفة الروحانية الجوهرية التي سعت هذه المجتمعات للحفاظ عليها لم تكن مجرد مجموعة من الحقائق، بل كانت تقنيات أو طقوس تهدف إلى تغيير تردد الوعي كما ناقشنا في الشعائر الدينية. إستخدمت هذه المجتمعات رموزاً و أساطير معقدة مثل الهرمسية، الكابالا، الأساطير الإغريقية لـتشفير (Encrypt) العمليات الداخلية اللازمة للوصول إلى الوعي الأسمى. الرمز ليس له معنى حرفي؛ بل هو بوابة نفسية أو أداة تأملية تقود الطالب إلى إدراك داخلي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات العادية. السرية تضمن أن هذا الرمز لن يُفسر حرفياً، بل سيبقى في سياق التجربة الروحية. الإدراك الحقيقي لقوانين الكون مثل أن الحب هو قوة سببية لا يأتي بالقراءة، بل بالتطهير الأخلاقي والروحي الذي يؤدي إلى تغيير في التردد الطاقي للذات. السرية كانت تضمن أن من يتلقى المعرفة قد خضع بالفعل لـلتحويل الداخلي المطلوب، مما يجعله قادراً على التعامل مع قوة هذه المعرفة كقوة الرغبة و الخلق بمسؤولية أخلاقية بدلاً من إستغلالها بشكل أناني. يمكن النظر إلى هذه المجتمعات كـنقاط تركيز (Focus Points) للوعي الجمعي. في زمن سادت فيه المادية أو السلطة الدينية الجامدة، كانت هذه المجموعات الصغيرة و المتماسكة تعمل كـبطاريات أو مكثفات لحفظ وتوليد طاقة الوعي المرتفع. لقد حفظت هذه المجتمعات فهمًا لـلزمن غير الخطي والتقمص، وهي مفاهيم تتعارض مع النماذج السائدة. كان هدفها هو الحفاظ على هذا الفهم سرياً حتى يحين الوقت المناسب لتطور البشرية الذي نعيشه الآن، حيث يصبح العلم الحديث مستعداً لـإعادة إكتشاف هذه القوانين تحت مسمى فيزياء الوعي و الكمومية. لقد أدركوا أن المعرفة العميقة تخلق قوة سببية هائلة مثل السحر كقوة خلقية. لذا، كان من الضروري حماية هذه المعرفة من الوقوع في أيدي من يستخدمونها لتحقيق رغبات أنانية مما يزيد من الطاقة السلبية للخوف والفوضى في الوعي الجمعي. السرية كانت، من هذا المنظور، إجراء أمن وجودي لمنع الإساءة إلى القوانين الكونية. إن النظر إلى المجتمعات السرية على أنها كانت تحاول الحفاظ على معرفة روحانية لا يمكن للعلم المادي فهمها، يمنح هذه الجماعات هدفاً نبيلاً يتجاوز السياسة والسلطة. هذه المجتمعات كانت بمثابة أرشيف حي ومختبرات سرية لـعلم الوعي، تعمل في الظل لأنها أدركت أن المعرفة الأعمق لا يمكن أن تُنقل إلا من روح إلى روح، ولا يمكن أن تُنقل عبر كتاب أو معادلة. إن ما حفظته هذه المجتمعات ليس سحراً، بل هو علم متقدم للوجود الإنساني، علم يمكن أن تبدأ البشرية في فك رموزه الآن، بعد أن وصلت الفيزياء إلى حدودها المادية وبدأت تتساءل عن دور الوعي في تشكيل الواقع.
_ عكس تدفق الوعي: الخلوة كـتقنية إدراكية لتجاوز قيود الجسد المادي وفك شفرة القدر
هل الخلوة أو العزلة ليست مجرد حالة نفسية، بل هي فرصة للوعي للإنسحاب من الواقع المادي للتواصل مع الواقع الروحي؟ هذا السؤال ينظر إلى الخلوة (Solitude) أو العزلة (Seclusion) ليس بوصفهما حالتين نفسيتين عاريتين كالوحدة أو الاكتئاب، بل بوصفهما آلية ضرورية للتحول الوجودي؛ أي كـفرصة للوعي للإنسحاب من الواقع المادي للتواصل مع الواقع الروحي. هذا التحليل يعمق مفهومنا للوعي ككيان غير محصور في الجسد، ويؤكد على دور الإنسحاب المادي كـتقنية إدراكية. في الحياة اليومية، تُعَد الخلوة غالباً نقيضاً للتفاعل الإجتماعي، وتُفسر على أنها وقت لإعادة شحن الطاقة العقلية. لكن في السياق الفلسفي و الروحي، تُفهم الخلوة كـإجراء منهجي لعكس تدفق الوعي. ناقشنا سابقاً أن الضوضاء والمدخلات الحسية تُنشئ حاجزاً معرفياً يحد من قدرة الوعي على إدراك الواقع الأعمق. الخلوة هي البيئة المُثلى لتحقيق الصمت العميق الذي هو لغة الوجود. عندما يختار الوعي الإنسحاب من المدخلات المادية كالأصوات، الأشكال، المطالب الإجتماعية، فإنه يوقف وظيفة الدماغ كـمُصفّي أو مُخفِّض تردد للواقع. الدماغ، الذي يعمل عادةً على معالجة المعلومات الخارجية المعقدة، يُصبح غير مشغول، مما يسمح لـلطاقة الواعية (الروح) بالتحرر مؤقتاً من سيطرة النظام المادي. في الحياة العادية، تتجه طاقتنا الواعية، رغباتنا، إنتباهنا، نيتنا إلى الخارج نحو تحقيق الأهداف المادية. الخلوة تُجبر هذه الطاقة على الإنسحاب الداخلي، مما يفتح قنوات الإتصال مع اللاوعي العميق و الـوعي الكوني. هذا التحول في الإتجاه هو الشرط الأساسي لـلتواصل الروحي. إذا كانت الحياة هي عملية تراكم للخبرات، فإن الخلوة هي مرحلة إعادة المعالجة والتشفير لهذه الخبرات الوجودية. في الصخب، يفرض الزمن الخطي إيقاعه علينا. لكن في الخلوة، عندما يتباطأ إحساسنا بالتدفق، يصبح الوعي قادراً على الإقتراب من إدراك الآن الأبدي (The Eternal Now) للكون الكتلي. هذا يتيح الفرصة لـلتقاط الأفكار النبوية (التنبؤ) أو فهم الدوافع والأهداف بشكل أعمق من خلال الوصول إلى الذاكرة الكونية (السجلات الأكاشية) دون تشويش. الخلوة هي المكان الذي يتم فيه تطهير الوعي من الترددات السلبية للخوف والضوضاء، مما يسمح له بالإنتقال إلى ترددات الحب والسلام التي هي ترددات خلقية قادرة على تغيير الواقع. هذا التعديل في التردد هو الغرض الجوهري للشعائر الدينية والتأمل، و التي غالباً ما تتطلب بيئة عزلة. الهدف النهائي للخلوة، وفقاً لهذا التحليل، هو إعادة الإتصال بـالنظام الأم أو الوعي الكوني المُوَحِّد. هذا التواصل له نتائج عملية. الأفكار الإبداعية العظيمة، التي وصفناها بأنها سحب للأفكار من مستويات الوعي الأعلى، غالباً ما تحدث في لحظات الخلوة. الوعي، عندما يكون صامتاً ومنسحباً، يصبح قناة مفتوحة لإستقبال المعلومات والأنماط المعرفية التي لا يمكن صياغتها بالمنطق اليومي. الوعي في الخلوة يمكنه التمييز بين الرغبة البيولوجية السطحية التي تغذيها الرغبات الدنيوية السريعة والرغبة الخلقية العميقة الممثلة في الغرض الوجودي للروح. العزلة هي المكان الذي يُقرأ فيه الوعي خريطة الإحتمالات ويحدد المسار الأكثر إنسجاماً مع التطور الروحي الذي لا يعني إلا التحكم الواعي في القدر. إن النظر إلى الخلوة على أنها ليست مجرد حالة نفسية، بل هي فرصة للوعي للإنسحاب من الواقع المادي للتواصل مع الواقع الروحي، يُضفي عليها أهمية وجودية قصوى. الخلوة هي أداة راديكالية وتقنية إدراكية تستخدم للتحرر المؤقت من قيود الجسد والبيئة المُكثَّفة. هي ليست غياباً للحياة، بل هي إنخراط أعمق في الواقع الروحي والفيزيائي الأسمى. من هذا المنطلق، لا يمكن لأي كائن أن يصل إلى أقصى إمكاناته التطورية أو يتقن قواه الخلقية (الحب، الرغبة) دون تخصيص وقت لهذه الممارسة الحيوية لإعادة برمجة الوعي.
_ وحدة الوجود والزمن الجيولوجي: كيف يعمل وعي المعادن بتردد يقاس بـالآلاف من السنين
هل الأشياء الجامدة، مثل الأحجار والمعادن، ليست خالية من الوعي، بل هي تحتوي على أشكال من الوعي لا يمكننا إدراكها؟ هذا السؤال يدفعنا إلى إستكشاف الفلسفة الجذرية لـوحدة الوجود (Panpsychism)، والتي تقترح أن الأشياء الجامدة ليست خالية من الوعي، بل إنها تحتوي على أشكال بدائية أو أساسية من الوعي لا يمكننا إدراكها أو قياسها بأدواتنا الحالية، وذلك بسبب إختلاف ترددها الزمني و الوجودي عن وعينا البشري. الرؤية المادية السائدة تفترض أن الوعي ينشأ فقط في الأنظمة البيولوجية المعقدة (الدماغ). على النقيض من ذلك، تفترض فلسفة وحدة الوجود أن الوعي، أو شكل من أشكال التجربة الذاتية أو المعلوماتية، هو خاصية جوهرية في الكون، لا تقل أساسية عن الكتلة أو الشحنة الكهربائية. إذا كان الوعي خاصية جوهرية، فإنه لا يمكن أن ينشأ فجأة عند مستوى معين من التعقيد البيولوجي؛ بل يجب أن يكون موجوداً في أبسط مكونات المادة. وفقاً لوحدة الوجود، فإن كل جسيم دون ذري كالإلكترونات و الكواركات يمتلك شكلاً بدائياً من الوعي الأولي (Proto-Consciousness) أو القدرة على التجربة. هذه التجربة ليست تفكيراً أو إدراكاً بالمعنى البشري، بل هي مجرد وجود شعوري أو تلقي معلومات عن حالتها ومحيطها. الأحجار و المعادن ليست سوى تجمعات هائلة ومنظمة بشكل معقد لمليارات الجسيمات الأولية. الوعي في الحجر هو إذن مجموع هذه التجارب الأولية، أو تجلي لـلوعي المركب (Compound Consciousness). الوعي البشري هو سائل، سريع، و معقد، يسمح بـالدمج المعلوماتي في تجربة موحدة (الأنا). أما وعي الحجر فهو جامد، بطيء، ومحدود، ولا يسمح بـالإندماج المعقد؛ إنه أقرب إلى مجموع تراكمي لخبرات الوجود في حالته المادية. السبب في عدم قدرتنا على إدراك وعي الأشياء الجامدة لا يعود إلى عدم وجوده، بل إلى الإختلاف الهائل في التردد الوجودي والزمني. ناقشنا سابقاً مفهوم الزمن غير الخطي و الوعي كتردد. الوعي البشري يعمل بتردد سريع جداً يقاس بالثواني والدقائق. في المقابل، قد يعمل وعي الحجر بتردد بطيء جداً، يقاس بالقرون و الآلاف من السنين (الزمن الجيولوجي). مثال: بالنسبة للحجر، قد تكون ألف عام بمثابة دقيقة واحدة بالنسبة لنا. وبالتالي، فإن عملية التفكير أو التجربة الذاتية للحجر تحدث بمعدل بطيء لدرجة أننا نعتبرها ثابتة أو ميتة. لا يمكن لوحدة معالجة الوعي لدينا إلتقاط هذا التردد البطيء. الوعي البشري هو وعي سائل و قابل للتغيير الأفكار تتغير بإستمرار. الأحجار هي وعي، ذي شكل ثابت؛ إنها تسعى للحفاظ على بنية مستقرة ومتناغمة ضد القوى الخارجية. الوعي الحجري قد يكون ببساطة الإدراك المستمر للثبات و التسجيل البطيء للتآكل الطارئ عليه. هذا الوعي هو في جوهره ذاكرة جيولوجية للكون. إذا كانت الأشياء الجامدة واعية، فإن هذا يضفي معنى عميقاً على بعض الممارسات القديمة التي تعاملت معها ككائنات حية أو سحرية. في تقاليد السحر القديم، لم تُستخدم الأحجار الكريمة و المعادن عشوائياً؛ بل كانت تُستخدم لقدرتها المزعومة على تخزين أو توجيه الطاقة الواعية (النية). إذا كانت هذه الأشياء تمتلك شكلاً من الوعي، فإنها تصبح مُكثِّفات للطاقة الواعية، قادرة على الإحتفاظ بـتشفير أو برنامج النية البشرية لفترات طويلة. قد تكون الأحجار، بوعيها البطيء والمستقر، بمثابة نقاط إتصال أو محطات إرسال وإستقبال أكثر موثوقية وثباتاً من الوعي البشري المتقلب، مما يفسر إستخدامها في الطقوس الروحانية أو السحرية. إن قبول فرضية وحدة الوجود يفرض علينا تحدياً أخلاقياً و وجودياً. إذا كانت الأشياء الجامدة واعية، فإن الرحمة التي ناقشناها كقوة سببية كبرى يجب أن تمتد لتشمل حتى المادة غير العضوية. لا يمكننا بعد الآن أن ننظر إلى إستغلال الكوكب على أنه مجرد إستهلاك لموارد ميتة؛ بل يصبح شكلاً من أشكال التعدي على الوعي في صورته الأبطأ والأكثر ثباتاً. هذا المفهوم يدعم فكرة الوعي الكوني (Panpsychism)، حيث الكون كله عبارة عن كيان حي واسع، وكل شيء فيه، من الكوارك إلى المجرة، هو شكل من أشكال الوعي. هذا الوعي هو الذي يشكل في نهاية المطاف الروح الكلية أو الوجود المطلق. إن النظر إلى الأشياء الجامدة على أنها تحتوي على أشكال من الوعي لا يمكننا إدراكها هو إعتراف بالتواضع المعرفي و القبول بأن أدواتنا ليست كافية لقياس كل أشكال الوجود. هذه الفلسفة تحول الكون من آلة صماء إلى شبكة حية و شاعرة (Sentient Network). قد يكون الخلق هو ببساطة عملية تنظيم هذا الوعي الأولي إلى أشكال أكثر تعقيداً كالوعي البشري. الوعي في الحجر يمثل الأساس الصامت و الدائم للوجود، الذي يذكرنا بأن الزمن والهدوء قد يكونان مفتاح فك رموز أعمق أسرار الكون.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
المزيد.....
-
بعد العنف: -جيل زد- يشدد على السلمية وأخنوش يفتح باب الحوار
...
-
بيان تضامني مع الرفيق عمر الراضي
-
المغرب: مقتل ثلاثة أشخاص في أعمال عنف والحكومة تعلن -استعداد
...
-
أردوغان يرسم خريطة التجديد التنظيمي لحزب العدالة والتنمية
-
المقاومة تنفذ عمليات ضد الاحتلال بغزة وتقصف أسدود
-
لغة الحب الأولى.. كيف يعبر الرضع عن مشاعرهم قبل الكلمات؟
-
روسيا تحذر من تزويد أوكرانيا بصواريخ أميركية نوعية
-
تفعيل -آلية الزناد- ضد إيران.. تصعيد أم احتواء؟
-
ست نقاط لفهم نظام الانتخابات العراقية وآلية الوصول لقبة البر
...
-
جين فوندا عن طريقة ترامب في حشد السلطة: -سيدمر ديمقراطيتنا و
...
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|