|
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ الثَّامِن-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 22:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ العلم والسحر: الفصل التام والإندماج الكامل في رحلة الوعي إلى الواقع.
إذا كان العلم يعتمد على الفصل التام بين الملاحظ و الملاحظة، فهل يكمن جوهر السحر في الإندماج التام بينهما، حيث يصبح وعي الفرد جزءًا لا يتجزأ من الظاهرة التي يريد تحقيقها؟هذا السؤال يمس جوهر العلاقة بين الذات و الموضوع، ويقدم إطارًا فلسفيًا عميقًا لفهم الفارق بين العلم والسحر. نعم، يمكن القول إن جوهر السحر يكمن في الإندماج التام بين الملاحظ و الملاحظة، بينما يعتمد العلم على الفصل التام بينهما، مما يجعل المنهجين مختلفين جذريًا في نظرتهم إلى الواقع. المنهج العلمي الحديث مبني على مبدأ الموضوعية (Objectivity). لتحقيق هذه الموضوعية، يجب على العالم أن يفصل نفسه عن الظاهرة التي يدرسها. الهدف هو أن تكون النتائج حقيقية وموثوقة، بغض النظر عن هوية أو مشاعر أو نوايا الشخص الذي يجري التجربة. في العلم، يُعتبر الملاحظ (العالم) كأداة تسجيل محايدة. يجب أن تكون ملاحظاته قابلة للتكرار من قبل أي شخص آخر، في أي مكان، و في أي وقت. قوانين الفيزياء، على سبيل المثال، تعمل بنفس الطريقة سواء لاحظها عالم مسلم أو ملحد، لأنها مستقلة عن الوعي. يُنظر إلى الواقع (الملاحظة) ككيان مستقل عن الوعي البشري. الجاذبية موجودة سواء كنا نؤمن بها أم لا. هذا الفصل هو ما يمنح العلم قوته في التنبؤ و التحكم، ولكنه أيضًا يترك فراغًا في فهم الجانب الذاتي من الوجود. على النقيض تمامًا، فإن السحر يعمل على مبدأ الذاتية (Subjectivity) والإندماج. الساحر لا يفصل نفسه عن الظاهرة التي يريد تحقيقها، بل يندمج فيها بشكل كامل. في السحر، يصبح الملاحظ (الساحر) جزءًا من الظاهرة التي يريد تحقيقها. النية، المشاعر، وحتى الخيال، كلها عوامل أساسية في العملية السحرية. الساحر لا يراقب الحدث، بل يشارك في خلقه. يُنظر إلى الواقع ككيان مرن يمكن أن يتأثر بالوعي. على سبيل المثال، في سحر الشفاء، لا يتم إستخدام العلاج المادي فقط، بل يتم توجيه النية و الوعي لإحداث تغيير في الجسم المريض. هنا تكمن الإجابة الفلسفية الأكثر تعقيدًا. إذا كان العلم يركز على الواقع الخارجي (الموضوعي)، و السحر يركز على الواقع الداخلي (الذاتي)، فهل يمكن أن يكون الفهم الكامل للعالم يأتي من دمج هذين المنهجين؟ بعض التفسيرات الفلسفية للفيزياء الكمومية، مثل تفسير كوبنهاغن، تشير إلى أن فعل الملاحظة نفسه يؤثر على الواقع المادي على المستوى الكمومي، مما يفتح الباب أمام فكرة أن هناك درجة من الإندماج بين الوعي والواقع. هذا لا يعني أن السحر سيصبح علمًا، بل يعني أن العلم قد يكون في طريقه لإكتشاف أن الواقع ليس موضوعيًا تمامًا كما كان يعتقد. في النهاية، العلم والسحر يمثلان طريقتين مختلفتين للوصول إلى الحقيقة. العلم يسعى إلى حقيقة موضوعية يمكن التحقق منها، بينما السحر يسعى إلى حقيقة شخصية وذاتية. الفاصل بينهما ليس مجرد مسألة أدوات، بل هو مسألة طبيعة العلاقة بين الإنسان والكون.
_ تغيير مسار الزمن: العلم يتقدم والسحر يعيد كتابة الماضي
هل يكمن الفرق الجوهري في أن العلم يعالج الزمن كخط مستقيم يمكن قياسه، بينما يتعامل السحر مع الزمن كدائرة أو شبكة متشابكة حيث الماضي والحاضر والمستقبل يمكن أن يؤثر كل منهم في الآخر؟ هذا تحليل فلسفي عميق ومثير للإهتمام، لكنه ليس دقيقًا تمامًا. فالعلاقة بين العلم والسحر معقدة، ولا يمكن إختزالها في مجرد تصور مختلف للزمن. مع ذلك، يمكن القول إن تصور الزمن هو أحد الفروقات الجوهرية بينهما، ولكنه ليس الفرق الوحيد. في النموذج العلمي الكلاسيكي، يُنظر للزمن على أنه خط مستقيم. هذا الخط أحادي الإتجاه، يتحرك من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. هذا التصور يسمح بالقياس الدقيق للزمن بإستخدام أدوات مثل الساعات. في الفيزياء النيوتونية، الزمن مطلق وثابت، وهو إطار مرجعي يمكن فيه وصف الحركة. على الرغم من أن نظرية النسبية لأينشتاين غيرت هذا المفهوم، حيث جعلت الزمن نسبيًا ويتأثر بالسرعة و الجاذبية، إلا أن فكرة التقدم الخطي للزمن لم تختفِ. فالسبب يسبق النتيجة دائمًا، والماضي لا يمكن تغييره. هذا التصور يمثل حجر الزاوية في المنهج العلمي: التجربة تُجرى في زمن محدد، والنتائج تُسجل في زمن لاحق. هذا التسلسل الزمني يسمح بإعادة إنتاج التجارب والتحقق من النتائج، مما يؤسس للموثوقية والموضوعية. على النقيض من ذلك، يرى العديد من التقاليد السحرية والفلسفات الباطنية الزمن ككيان أكثر مرونة وتعقيدًا. فبدلاً من كونه خطًا مستقيمًا، يُنظر إليه كـدائرة أو شبكة متشابكة. في هذا التصور، يمكن للماضي و الحاضر والمستقبل أن يتأثر كل منهم بالآخر. الساحر لا يحاول التنبؤ بالمستقبل فحسب، بل يسعى للتأثير عليه من خلال التلاعب بالماضي أو الحاضر. على سبيل المثال، يمكن لطقس سحري أن يُقام في الحاضر بهدف إعادة كتابة الماضي أو تغيير مسار الأحداث المستقبلية. هذا يتناقض تمامًا مع المنهج العلمي، الذي يعتبر الماضي ثابتًا وغير قابل للتغيير. يعتمد العلم على السببية المادية. كل حدث له سبب يمكن ملاحظته وقياسه. على سبيل المثال، إذا قمت بضرب كرة، فإن سبب حركتها هو القوة التي طبقتها. في المقابل، يعتمد السحر على السببية الرمزية أو التناظرية. يعتقد الساحر أن هناك علاقة خفية بين الأشياء، وأن التلاعب برمز شيء ما يمكن أن يؤثر على الشيء نفسه. على سبيل المثال، قد يستخدم الساحر دمية تمثل شخصًا معينًا للتأثير على هذا الشخص. هذا يسمى قانون التعاطف في الفلسفة السحرية. يسعى العلم إلى فهم الطبيعة من خلال الملاحظة و التجربة، بهدف التحكم بها أو تسخيرها لخدمة البشرية. هذا التحكم يعتمد على قوانين قابلة للتنبؤ والتحقق منها. على الجانب الآخر، يسعى الساحر أيضًا إلى التحكم، ولكنه يعتمد على قوى غير مرئية أو خارقة للطبيعة، لا يمكن إخضاعها للمنهج العلمي. فالسحر يعتمد على الإيمان بوجود قوى خفية يمكن إستحضارها أو التفاعل معها. المعرفة العلمية تراكمية و موضوعية، و تُبنى على أساس الإجماع العلمي والتحقق التجريبي. أي عالم في أي مكان في العالم يمكنه إعادة التجربة للوصول إلى نفس النتيجة. في المقابل، المعرفة السحرية غالبًا ما تكون سرية و شخصية. تُنقل من المعلم إلى التلميذ، وتعتمد على الخبرة الشخصية والحدس والإيمان. لا يمكن لشخص أن يتعلم السحر بمجرد قراءة كتاب، بل يتطلب الأمر ممارسة شخصية وإتصالًا روحيًا. إذًا، يمكن القول إن الفروق الجوهرية بين العلم و السحر تتجاوز مجرد تصور الزمن. فبينما يرى العلم الزمن كبعد ثابت يمكن قياسه، ويستند إلى قوانين مادية قابلة للتحقق، يرى السحر الزمن ككيان مرن يمكن التلاعب به، ويستند إلى قوانين رمزية وميتافيزيقية. هذه الإختلافات في النظرة للزمن ليست سوى جزء من منظومة فكرية أعم وأشمل، تحدد كيفية فهم كل منهما للعالم والتحكم فيه.
_ بين صمم الآلة ووعي الكون: هل للعلم والسحر رؤية مختلفة للوجود
هل يعكس السحر إيمانًا بأن الكون لديه ذاكرة أو وعي جمعي يمكن الوصول إليه، بينما العلم يرى الكون كآلة صماء بلا ماضٍ أو حاضر خارج قوانينه الفيزيائية الصارمة؟ هذا تحليل عميق و مثير للإهتمام يطرح سؤالًا جوهريًا حول طبيعة الوجود ومصادر المعرفة. يمكن القول إن الفرضية القائلة بأن السحر يعكس إيمانًا بوجود وعي كوني، بينما العلم يرى الكون كآلة صماء، هي فرضية صحيحة إلى حد كبير. هذا الإختلاف ليس مجرد تباين في المنهج، بل هو تباين في النظرة الأساسية إلى الوجود نفسه. في العديد من التقاليد السحرية والفلسفات الباطنية، يُنظر إلى الكون على أنه كيان حي أو وعي جمعي. هذا الوعي ليس مجرد خاصية من خصائص الكائنات الحية، بل هو سمة متأصلة في كل شيء، من الكواكب إلى الذرات. الساحر يؤمن بوجود ذاكرة كونية يمكن الوصول إليها، أو ما يُعرف في بعض الفلسفات بـسجل الأكاشا. هذا السجل يحتوي على كل الأحداث و الأفكار و العواطف التي حدثت في الماضي والحاضر و المستقبل. الطقوس السحرية والتعاويذ ليست مجرد أفعال، بل هي محاولات للتواصل مع هذا الوعي الكوني، والتأثير على الأحداث من خلال التناغم مع طاقاته. من منظور السحر، كل شيء في الكون مترابط. لا توجد أحداث منفصلة. هذا الترابط ليس فيزيائيًا بحتًا، بل هو روحي و رمزي. على سبيل المثال، يرى الساحر أن حركة الكواكب لا تؤثر على حياتنا من خلال الجاذبية فقط، بل من خلال الروابط الرمزية التي تربطنا بها. يؤمن الساحر بأن وعيه الفردي هو جزء من هذا الوعي الكوني الأكبر. وبالتالي، يمكنه إستخدام وعيه الخاص كأداة للتأثير على الكون. هذا هو أساس فكرة قانون الجذب (Law of Attraction)، حيث يمكن للأفكار أن تؤثر على الواقع المادي. على النقيض من ذلك، يرى العلم الحديث الكون كآلة صماء و باردة، تعمل وفقًا لقوانين فيزيائية صارمة وغير شخصية. لا يوجد مكان للوعي أو القصد في هذا التصور. كل شيء يمكن تفسيره من خلال قوانين الفيزياء، من الجاذبية إلى الكهرومغناطيسية. الماضي لا يؤثر على الحاضر إلا من خلال التسلسل السببي، ولا يمكن تغييره. لا يوجد وعي جمعي أو ذاكرة يمكن الوصول إليها. في هذا التصور، الكون هو نظام مغلق يعمل وفقًا لقوانين ميكانيكية. كل حدث هو نتيجة حتمية لأسباب سابقة، ولا توجد أحداث تحدث دون سبب مادي. يهدف العلم إلى إزالة الذاتية من التجربة. فالواقع العلمي هو واقع مستقل عن وعي الفرد. لا يهم ما يؤمن به العالم، لأن التجربة ستعطي نفس النتيجة دائمًا. هذا المنهج يسمح بالتحقق والموضوعية، وهما حجر الزاوية في المنهج العلمي. إذًا، يمكن القول إن الفرق بين السحر والعلم ليس فقط في المنهج، بل في النظرة الأساسية إلى الوجود. فالسحر يرى الكون ككائن حي ذي ذاكرة ووعي، بينما يرى العلم الكون كآلة صماء. هذا الإختلاف يؤدي إلى نتائج مختلفة. فبينما يعطينا العلم فهمًا دقيقًا لكيفية عمل الكون المادي، يمنحنا السحر إحساسًا بالمعنى والترابط في عالم يبدو عشوائيًا. السؤال الفلسفي الأهم هو: هل يمكن أن نجمع بين هذين التصورين؟ هل يمكن أن يكون الكون آلة تعمل بقوانين فيزيائية صارمة، وفي نفس الوقت، يحتوي على وعي كامن؟ هذه الأسئلة تقع في صميم الفلسفة الحديثة، وهي محل نقاش بين العلماء و الفلاسفة.
_ بين الصدفة والقصد: هل العلم يفهم الكون بلا هدف، بينما السحر يمنحه معنى
هل يمكن أن يكون العلم هو محاولة لفهم الكون من منظور العدمية أي بلا هدف، بينما السحر هو محاولة لإيجاد معنى و هدف في كل ظاهرة، و هل هذا الإختلاف في الرؤية الكونية هو الذي يفرق بينهما؟ نعم، يمكن القول إن الخلاف بين العلم والسحر يعكس إختلافًا أساسيًا في الرؤية الكونية: حيث يسعى العلم إلى فهم الكون كآلية صامتة بلا هدف، بينما يسعى السحر لإيجاد معنى وقصد في كل ظاهرة. هذا التباين في الرؤية الكونية هو بالفعل أحد أبرز الفروقات الجوهرية بينهما. ينطلق العلم الحديث من إفتراض أن الكون بلا هدف أو غاية متأصلة. كل ظاهرة طبيعية، من إنفجار النجوم إلى تطور الحياة، تُفسَّر من خلال قوانين فيزيائية و عمليات عشوائية. على سبيل المثال، يرى علم الأحياء التطوري أن الحياة لم تنشأ بهدف معين، بل هي نتاج لآلية الإنتخاب الطبيعي التي تعمل على تكييف الكائنات مع بيئتها. في هذا الإطار، الإنسان ليس مركز الكون، ووجوده ليس نتيجة لخطة إلهية، بل هو نتيجة عشوائية لسلسلة طويلة من الأحداث. يركز المنهج العلمي على الموضوعية. فهو يهدف إلى وصف العالم كما هو، دون إضفاء أي معانٍ شخصية أو روحية عليه. هذا التجرد يسمح للعلم بالوصول إلى نتائج قابلة للقياس و التحقق، لكنه في الوقت نفسه يُجرّد الكون من أي قيمة أو معنى. على النقيض من ذلك، يفترض السحر أن الكون ذو معنى و قصد عميق. كل ظاهرة، حتى تلك التي تبدو عشوائية، تحمل في طياتها رسالة أو دلالة. فالسحر يرفض فكرة الصدفة، و يؤمن بأن كل شيء مترابط في شبكة من العلاقات الرمزية و الروحية. الساحر لا يرى الكون كآلة ميتة، بل ككائن حي و واعي. على سبيل المثال، قد يرى أن العاصفة ليست مجرد ظاهرة جوية، بل هي تعبير عن غضب الطبيعة أو رسالة من قوى كونية. هذا التصور يسمح للساحر بالإنخراط مع العالم بطريقة شخصية، محاولاً فك رموز الرسائل الكونية والتناغم معها لتحقيق أهدافه. السحر لا يكتفي بوصف الظواهر، بل يبحث عن المعنى الكامن وراءها. فطقس سحري لا يُجرى بهدف مادي بحت، بل يهدف إلى إحداث تغيير في الوعي، أو التواصل مع قوى خفية لإعادة التوازن. إذًا، يكمن الفرق الأساسي بين العلم والسحر في كيفية تعاملهما مع الكون. فالعلم يراه ككيان مادي بلا غاية، مما يمنحه القدرة على التنبؤ و التحكم، لكنه يتركه فارغًا من أي معنى. بينما السحر يراه ككيان رمزي ذي قصد، مما يمنحه إحساسًا بالترابط والغاية، ولكنه يجعله غير قابل للتحقق العلمي. قد لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، بل يمكن أن يكونا وجهين لعملة واحدة: العلم يخبرنا كيف يعمل الكون، و السحر أو الروحانية بشكل عام يخبرنا لماذا نحن فيه.
_ العلم والسحر: هل الإنسان مهندس الواقع أم نتاج لعمليات كونية
هل يكمن الفرق الجذري في أن السحر يرى الإنسان ككيان يمتلك القدرة على إعادة صياغة الواقع من خلال الإرادة، بينما يرى العلم الإنسان كناتج لعمليات بيولوجية وكونية لا يملك السيطرة النهائية عليها؟ نعم، هذا التحليل يلامس جوهر الخلاف الفلسفي بين السحر و العلم. الفرق الجذري يكمن بالفعل في النظرة إلى دور الإنسان في الكون وقدرته على التأثير فيه. فبينما يمنح السحر الإنسان قوة الخلق و التغيير، يراه العلم كجزء من آلة أكبر لا يمتلك السيطرة النهائية عليها. يمنح السحر الإنسان مكانة محورية وفريدة من نوعها في الكون. فهو يؤمن بأن الإنسان ليس مجرد كائن مادي، بل هو كيان روحي وواعي يمتلك قوة إرادة هائلة. هذه الإرادة ليست مجرد رغبة، بل هي طاقة يمكن إستخدامها لإعادة صياغة الواقع. الساحر يرى نفسه كـمهندس للواقع، يستخدم الرموز و الطقوس لتركيز إرادته و توجيهها نحو تحقيق هدف معين. في هذا السياق، الوعي ليس مجرد نتاج للدماغ، بل هو أداة فعالة يمكنها التأثير على العالم الخارجي. ففكرة قانون الجذب (Law of Attraction) التي شاعت مؤخرًا هي مثال حديث على هذا التصور القديم: أن أفكارنا و مشاعرنا يمكن أن تجذب واقعًا معينًا. الساحر يؤمن بأن الإنسان يمكنه تجاوز قوانين الطبيعة المادية بإستخدام قوى خفية. هذا الإيمان يمنحه شعورًا بالتحكم في مصيره، وهو ما يفسر جاذبية السحر للكثيرين. على النقيض من ذلك، يرى العلم الحديث الإنسان كجزء من نظام أكبر، لا يمتلك السيطرة النهائية عليه. من منظور بيولوجي، الإنسان هو نتاج لعملية الإنتخاب الطبيعي التي إستمرت لملايين السنين. من منظور فيزيائي، الإنسان هو مجموعة من الذرات التي تخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء. العلم يرى الكون كآلة عملاقة، و الإنسان هو مجرد جزء صغير من هذه الآلة. حتى القرارات التي نتخذها، من منظور علم الأعصاب، هي نتاج لعمليات بيولوجية معقدة في الدماغ، و ليست بالضرورة تعبيرًا عن إرادة حرة. العلم يضع حدودًا واضحة لقدرة الإنسان. لا يمكن للإنسان أن يطير بمجرد إرادته، ولا يمكنه أن يشفي نفسه من مرض عضال بمجرد التفكير الإيجابي. فكل شيء يخضع لقوانين فيزيائية لا يمكن تجاوزها بالإرادة وحدها. إذًا، يكمن الخلاف الفلسفي في النظرة إلى الإرادة الحرة وقدرتها على تشكيل الواقع. السحر يرى الإرادة كقوة خارقة يمكنها إعادة صياغة الواقع، مما يمنح الإنسان شعورًا بالقدرة والسيطرة. أما العلم، فيرى الإرادة كناتج لعمليات بيولوجية و كونية، مما يمنح الإنسان فهمًا موضوعيًا للعالم، و لكنه يجرده من أي سيطرة نهائية. هذا لا يعني أن أحدهما صحيح والآخر خاطئ؛ بل قد يكونان وجهين لعملة واحدة. فربما تكمن الحقيقة في مكان ما بينهما، حيث يمتلك الإنسان القدرة على التأثير في عالمه، ولكن ضمن حدود القوانين التي تحكمه.
_ الفيزياء الكمومية: عندما يقودنا العلم إلى حقيقة السحر
إذا كان السحر يعتمد على فكرة أن الوجود لا يقتصر على ما هو مادي، فهل يمكن أن يكون العلم، عند وصوله إلى أقصى حدوده، سيكتشف أن الواقع المادي الذي يدرسه ليس سوى إنعكاس لواقع روحي أو طاقي أعمق؟ هذا السؤال يمثل تقاطعًا فلسفيًا عميقًا بين العلم والروحانية، و يستعرض إمكانية أن تتلاقى مساراتهما في نهاية المطاف. إذا كان السحر ينطلق من فرضية وجود واقع غير مادي، فهل يمكن للعلم، الذي يبدأ من المادية، أن ينتهي إلى نفس الإستنتاج؟ هذا التحليل يغوص في هذه الإمكانية، معتبرًا أن أحدث الإكتشافات العلمية قد تشير إلى هذا التحول الفلسفي. منذ الثورة العلمية، كان المنهج العلمي يعتمد بشكل أساسي على الواقع المادي الملموس، الذي يمكن قياسه وتجربته. الفيزياء الكلاسيكية، على سبيل المثال، ترى الكون كآلة ميكانيكية ضخمة تتكون من جسيمات صلبة تتفاعل وفقًا لقوانين ثابتة. في هذا الإطار، لا يوجد مكان للوعي أو الروحانية؛ كل شيء يمكن تفسيره من خلال حركة المادة. لكن هذا النموذج بدأ يتغير مع ظهور فيزياء الكم. فيزياء الكم، التي تدرس سلوك الجسيمات على المستوى دون الذري، أظهرت أن الواقع على هذا المستوى ليس صلبًا أو ثابتًا كما كنا نعتقد. فالجسيمات يمكن أن توجد في عدة حالات في نفس الوقت (مبدأ التراكب)، وسلوكها يتأثر بالملاحظة. هذا الإكتشاف المدهش أثار تساؤلات حول العلاقة بين الوعي والمادة. بعض علماء الفيزياء، مثل نيلز بور وفيرنر هايزنبرغ، أشاروا إلى أن الواقع المادي ليس كيانًا مستقلاً عنا، بل هو مرتبط إرتباطًا وثيقًا بعملية الملاحظة. هذا يكسر الحاجز بين الذات والموضوع الذي كان أساسًا للعلم الكلاسيكي. تُعرّف فيزياء الكم الجسيمات الأولية بأنها ليست أشياء صلبة، بل هي بالأحرى حالات طاقة أو إحتمالات. هذا يفتح الباب أمام فكرة أن المادة ليست سوى شكل من أشكال الطاقة، وأن الواقع الذي نراه هو نسيج طاقي معقد. هذا التصور ليس بعيدًا عن الفلسفات الروحية التي تؤمن بأن الوجود كله يتكون من طاقة أو وعي كوني. إذا إستمر العلم في هذا المسار، فمن الممكن أن يصل إلى نقطة يكتشف فيها أن القوانين الفيزيائية التي درسها ليست سوى قواعد لعبة في مستوى أدنى، وأنها تحكمها قوانين أعمق و أكثر جوهرية تتعلق بالوعي والطاقة. إذا كان الوعي يلعب دورًا في تشكيل الواقع، فهل يمكن أن يكون هناك وعي كوني أو وعي جمعي يؤثر في كل شيء؟ هذا المفهوم، الذي يمثل حجر الزاوية في العديد من الفلسفات السحرية و الروحية، قد يجد أرضية مشتركة مع أحدث النظريات في الفيزياء النظرية التي تحاول فهم العلاقة بين الكون والوعي. ربما يكون الواقع المادي الذي نختبره هو مجرد واجهة لواقع أعمق. تمامًا كما أننا نرى إنعكاسات الأشياء في الماء، فإن قوانين الفيزياء قد تكون إنعكاسات لقوانين أكثر عمقًا تتعلق بالوعي و الطاقة. في هذه الحالة، سيكون العلم قد وصل إلى أقصى حدوده، مكتشفًا أن الأدوات المادية لا يمكنها فهم الواقع الكامل. إذًا، يمكن القول إن العلم، في سعيه لفهم المادة، قد يكتشف في النهاية أن المادة ليست سوى تجلٍ للوعي أو الطاقة. هذا لا يجعل العلم سحرًا، بل يغير من تعريفه للواقع. إنه تحول فلسفي من المادية إلى الوعيانية، حيث لم يعد الوعي ناتجًا ثانويًا للمادة، بل هو أساس الوجود نفسه. هذا التحول سيفتح الباب أمام حوار جديد بين العلم والفلسفة والروحانية، مما يجعل من الممكن دمج الفهم العلمي للكون مع الفهم الروحي له.
_ الخلاف الوجودي: العلم يفصل الإنسان عن الكون، والسحر يدمجه فيه
إذا كان العلم مبنياً على فصل الذات عن الموضوع، فهل يكمن عمق السحر في قدرته على محو هذا الفصل تماماً، و العمل من خلال علاقة وجودية بين الإنسان والكون؟ هذا التحليل الفلسفي يلامس بالفعل أحد أهم النقاط الجوهرية التي تفرق بين العلم والسحر. فبينما يعتمد العلم على مبدأ الموضوعية المطلقة، حيث يُفصل الباحث عن الموضوع الذي يدرسه، فإن السحر يعتمد على مبدأ التكامل الوجودي، حيث يصبح الساحر جزءًا لا يتجزأ من العملية التي يسعى للتأثير فيها. هذا الإختلاف ليس مجرد تباين في المنهج، بل هو تباين في الرؤية الكونية لطبيعة الوجود نفسه. العلم الحديث مبني على مبدأ أساسي وهو الموضوعية. هذا المبدأ يتطلب من الباحث أن يكون محايدًا ومجردًا من أي أفكار مسبقة أو مشاعر شخصية عند دراسة الظاهرة. على سبيل المثال، عندما يدرس عالم فيزياء تفاعلًا كيميائيًا، فإنه يفترض أن هذا التفاعل سيحدث بنفس الطريقة بغض النظر عن حالة العالم العاطفية أو معتقداته. الهدف هو الوصول إلى حقيقة موضوعية قابلة للتحقق من قبل أي شخص آخر. في هذا الإطار، يُنظر إلى الكون ككيان مستقل تمامًا عن وعي الإنسان. قوانينه تعمل سواء كان هناك من يراقبها أم لا. الإنسان هو مجرد مراقب يسعى لإكتشاف هذه القوانين و فهمها. هذا الفصل بين الذات (العالم) والموضوع (الكون) يمنح العلم قوة هائلة، حيث يمكنه بناء معرفة تراكمية و موثوقة، وتجنب الإنحيازات الشخصية. يعبر العلم عن هذا الفصل من خلال لغة مجردة مثل الرياضيات، التي لا تحمل أي شحنات عاطفية أو رمزية. هذا التجرد يسمح للعلم بالوصف الدقيق للواقع المادي، ولكنه في الوقت نفسه يترك مساحة فارغة لأي علاقة وجودية أو روحية بين الإنسان و الكون. على النقيض تمامًا، يعمل السحر من خلال محو هذا الفصل بين الذات والموضوع. الساحر لا يرى نفسه كـ مراقب منفصل عن الكون، بل كجزء متكامل منه. في هذا الإطار، يصبح وعي الساحر وإرادته جزءًا من القوى التي تحرك الكون، و يمكنه إستخدام هذا الإرتباط الوجودي للتأثير على الواقع. الساحر يؤمن أن الوجود ليس مجرد مجموعة من الأشياء المستقلة، بل هو نسيج من العلاقات والروابط التي تجمع بين كل شيء. هذه العلاقات ليست مادية بحتة، بل هي وجودية و رمزية. فعلى سبيل المثال، عندما يقوم الساحر ببعض الطقوس، فإنه لا يقوم بها من الخارج، بل يدخل في علاقة وجودية مع القوى التي يستدعيها. في السحر، الوعي ليس مجرد نتاج ثانوي للدماغ، بل هو قوة فاعلة يمكنها أن تؤثر على الواقع المادي. الإرادة ليست مجرد رغبة، بل هي طاقة يمكن توجيهها لإعادة صياغة الواقع. هذا التصور يمنح الإنسان شعورًا بالسيطرة على مصيره، ولكنه يضع على عاتقه مسؤولية هائلة، لأن أفكاره ومشاعره يمكن أن تشكل واقعه. إذًا، يكمن الخلاف الفلسفي بين العلم والسحر في كيفية تعاملهما مع العلاقة بين الإنسان والكون. فبينما يرى العلم هذه العلاقة كـذات مقابل موضوع، يراها السحر كـذات ضمن موضوع. هذا لا يعني أن أحدهما صحيح والآخر خاطئ، بل قد يكونان وجهين لعملة واحدة. فالعلم يمنحنا فهمًا للكون من الخارج، والسحر يمنحنا فهمًا للكون من الداخل. ربما يكمن الفهم الكامل للوجود في الجمع بين هاتين النظرتين: فهمنا للكون كآلية موضوعية، وفي نفس الوقت، فهمنا له ككيان وجودي نحن جزء لا يتجزأ منه.
_ إما اكتشاف نظام الكون أو فرض نظام على الواقع: العلم و السحر في صراع على السيطرة
هل العلم هو محاولة لإكتشاف النظام الذي وُضع مسبقاً في الكون، بينما السحر هو محاولة لفرض نظام جديد على الواقع من خلال قوة الإرادة و الرمز؟ نعم، يمكن القول إن هذا التحليل يلامس أحد الفروق الفلسفية الأساسية بين العلم و السحر. فبينما ينطلق العلم من فرضية وجود نظام كامن في الكون يسعى لإكتشافه، فإن السحر ينطلق من فكرة أن الإنسان قادر على فرض نظامه الخاص على الواقع من خلال الإرادة والرمز. هذا الإختلاف الجوهري في الرؤية يحدد كل شيء آخر، من المنهج إلى الهدف النهائي. العلم الحديث، وخاصة الفيزياء، مبني على فكرة وجود نظام كوني هذا النظام يتمثل في قوانين طبيعية ثابتة و موضوعية تحكم كل شيء في الكون، من حركة الكواكب إلى تفاعلات الجسيمات دون الذرية. مهمة العالم ليست خلق هذا النظام، بل إكتشافه وفك رموزه. يرى العالم الكون ككتاب مفتوح مكتوب بلغة الرياضيات. مهمة العالم هي قراءة هذا الكتاب و فهم قوانينه. هذا الفهم يمنحنا القدرة على التنبؤ بالظواهر و التحكم فيها، لكنه لا يغير من جوهر القوانين نفسها. في هذا الإطار، المعرفة تأتي من الخارج، من ملاحظة الطبيعة. العقل البشري هو أداة لإكتشاف هذا النظام، وليس لخلقه. هذا يمنح العلم موضوعية وموثوقية، حيث يمكن لأي باحث أن يتبع نفس الخطوات للوصول إلى نفس النتائج. على النقيض من ذلك، يرى السحر أن الواقع ليس كيانًا ثابتًا، بل هو نسيج مرن يمكن إعادة تشكيله. الساحر لا يسعى لإكتشاف نظام الكون، بل يسعى إلى فرض نظامه الخاص على الواقع. هذا النظام يُفرض ليس من خلال القوانين الفيزيائية، بل من خلال قوة الإرادة والرمز. في السحر، الإنسان ليس مجرد مراقب، بل هو مركز الكون. إرادته ووعيه هما القوة التي يمكنها أن تؤثر في الواقع المادي. الطقوس و التعويذات ليست مجرد أفعال رمزية، بل هي أدوات لتوجيه هذه الإرادة وفرضها على الكون. يرى الساحر الواقع كقطعة من الصلصال يمكن تشكيلها. على سبيل المثال، قد يستخدم الساحر تمثالًا لتمثيل شخص ما، ثم يجري عليه بعض الطقوس بهدف التأثير على هذا الشخص. هذا الفعل لا يهدف إلى إكتشاف قانون كوني، بل إلى خلق واقع جديد من خلال التوافق الرمزي بين التمثال والشخص. إذًا، يكمن الفرق الجذري بين العلم والسحر في مصدر النظام. فالعلم يؤمن أن النظام موجود في الكون، بينما يؤمن السحر أن النظام يمكن أن يُخلق من خلال الإرادة البشرية. هذا لا يعني أن أحدهما صحيح والآخر خاطئ؛ فربما يكون الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. فربما يكون الكون يمتلك نظامًا داخليًا (ما يدرسه العلم)، وفي الوقت نفسه، يمتلك مرونة تسمح بفرض نظام خارجي عليه (ما يحاول السحر تحقيقه). هذه الفكرة تفتح الباب أمام حوار فلسفي عميق حول طبيعة الوجود والإرادة الحرة.
_ إلى من تذهب القوة؟ العلم يوزعها، والسحر يحتكرها
هل الفرق الجوهري بينهما ليس في كيفية عملهما، بل في أخلاقيات القوة؟ هل العلم يمنح القوة للمؤسسات والجمهور، بينما السحر يمنحها للفرد الذي يكتشف أسرارها؟ هذا تحليل عميق و مثير للإهتمام يذهب إلى ما وراء المنهج و الأدوات، ويصل إلى جوهر الفلسفة السياسية و الأخلاقية لكل من العلم والسحر. نعم، يمكن القول إن أحد الفروق الجوهرية بينهما يكمن في أخلاقيات القوة، وكيفية توزيعها وتداولها. فبينما يهدف العلم إلى جعل القوة متاحة للمؤسسات و الجمهور، يميل السحر إلى حصرها في يد الفرد. العلم الحديث مبني على مبدأ المعرفة المتاحة للجميع. الإكتشافات العلمية تُنشر في المجلات و الدوريات العلمية، وتخضع لمبدأ إعادة الإنتاج، حيث يمكن لأي باحث أن يجري نفس التجربة و يصل إلى نفس النتيجة. هذا المنهج يجعل المعرفة العلمية ليست ملكًا لشخص واحد، بل هي ملك للإنسانية جمعاء. يهدف العلم إلى أن تكون نتائجه متاحة للجميع، وهذا يمنح القوة للمؤسسات مثل الجامعات والمستشفيات و الشركات، بل وللجمهور العام. فعلى سبيل المثال، إكتشاف المضادات الحيوية لم يقتصر على شخص واحد، بل أصبح ملكًا للجميع، مما أدى إلى إنقاذ ملايين الأرواح. هذا الإنتشار للمعرفة يمنح قوة جماعية يمكن إستخدامها لتحقيق أهداف كبيرة، ولكنه في الوقت نفسه قد يُستخدم بشكل خاطئ من قبل هذه المؤسسات. بما أن المعرفة العلمية متاحة للجميع، فهناك درجة من المساءلة. يمكن للجمهور أن يطالب المؤسسات بتبرير قراراتها بناءً على أدلة علمية، ويمكن لأي عالم أن يراجع عمل عالم آخر. هذا يقلل من إحتمالية إحتكار القوة في يد شخص واحد أو مجموعة صغيرة. على النقيض من ذلك، يميل السحر إلى أن يكون معرفة سرية. الأسرار السحرية تُنقل غالبًا من المعلم إلى التلميذ، و تظل حكرًا على من يمتلك المعرفة. هذا المنهج يمنح القوة للفرد، الذي يرى نفسه فريدًا بسبب معرفته السرية. في السحر، القوة لا تأتي من المؤسسات أو الجمهور، بل من الفرد نفسه. فكلما كان الساحر أكثر خبرة و معرفة، زادت قوته. هذا يجعله لا يحتاج إلى أي مؤسسة أو سلطة خارجية لتحقيق أهدافه، مما يمنحه شعورًا بالإستقلالية المطلقة. بما أن المعرفة السحرية سرية، فلا توجد مساءلة حقيقية. الساحر لا يحتاج إلى تبرير أفعاله لأي جهة خارجية، لأنه لا يوجد من يمتلك المعرفة الكافية لمساءلته. هذا قد يؤدي إلى سوء إستخدام القوة، حيث يمكن للساحر أن يستخدمها لتحقيق أهداف شخصية أو أنانية دون أي رقابة. إذًا، يكمن الفرق الجوهري بين العلم والسحر في كيفية تعاملهما مع القوة. فالعلم يسعى إلى جعل القوة ديمقراطية و مركزية، بينما السحر يميل إلى جعلها فردية وسرية. هذا لا يعني أن العلم دائمًا أخلاقي أو أن السحر دائمًا غير أخلاقي، بل إن لكل منهما مخاطره. فالعلم قد يؤدي إلى ظهور أنظمة قوية تتحكم في حياة الناس، بينما السحر قد يؤدي إلى فوضى حيث يستخدم كل شخص قوته الخاصة دون رقابة. في النهاية، كل من العلم والسحر يمثلان محاولة للتحكم في الواقع، لكنهما يختلفان في أخلاقيات هذا التحكم و توزيعه.
_ بين الأرقام والحدس: هل العلم يحلل الواقع بينما السحر يعيشه
إذا كان العلم يسعى لفهم الواقع من خلال القياس والتحليل الكمّي، فهل يكمن جوهر السحر في فهمه من خلال الحدس والتجربة الكيفية، و هل كلتا الطريقتين ضرورية لفهم الوجود؟ هذا تحليل عميق ومثير للإهتمام يلامس بالفعل جوهر الإختلاف المنهجي بين العلم والسحر. فالإختلاف بينهما لا يقتصر على المواضيع التي يدرسونها، بل يمتد إلى كيفية فهمهم للواقع نفسه. العلم يركز على القياس الكمي، بينما يركز السحر على التجربة الكيفية، ويمكن القول إن كلتيهما ضروريتان لفهم الوجود بشكل كامل. يعتمد العلم الحديث بشكل أساسي على القياس. فكل شيء في الكون يجب أن يُخضع للقياس الكمي لكي يُعتبر حقيقيًا. من الكتلة والسرعة إلى درجة الحرارة والجهد الكهربائي، كل هذه الظواهر تُعبر عنها بالأرقام. هذا المنهج يمنح العلم دقة و موثوقية لا مثيل لها، حيث يمكن لأي باحث أن يجري نفس القياسات ويحصل على نفس النتائج. يرى العلم الواقع كـمجموعة من البيانات يمكن تحليلها وتفسيرها. على سبيل المثال، يفسر العلم العاطفة على أنها مجموعة من التفاعلات الكيميائية في الدماغ، يمكن قياسها و دراستها. هذا النهج يسمح للعلم ببناء معرفة تراكمية وموضوعية، ولكنه في الوقت نفسه يتجاهل الجانب الكيفي أو الشخصي للظواهر. يركز العلم على الواقع الخارجي والموضوعي الذي يمكن إخضاعه للمختبر. هذا يمنح العلم قوة هائلة في فهم العالم المادي والتحكم فيه، ولكنه يترك مساحة فارغة لأي تجربة شخصية أو وعي داخلي. على النقيض من ذلك، يرى السحر أن الواقع لا يمكن إختزاله في الأرقام. فهو يعتمد على الحدس و التجربة الكيفية لفهم العالم. الساحر لا يقيس طاقة الحجر الكريم بالكيلووات، بل يشعر بها. هو لا يحلل الأسطورة ببيانات تاريخية، بل يعيشها من خلال الطقس. يرى السحر الواقع كـخبرة شخصية. على سبيل المثال، لا يرى السحر العاطفة على أنها مجرد تفاعلات كيميائية، بل يراها كطاقة روحية أو تجربة شخصية فريدة. هذا النهج يمنح السحر القدرة على فهم الجوانب غير المادية للوجود، ولكنه يجعله غير قابل للقياس أو التحقق العلمي. يركز السحر على الواقع الداخلي والذاتي. فهو يرى أن وعي الإنسان و إرادته يمكن أن يؤثرا في الواقع الخارجي. هذا التصور يمنح السحر مرونة هائلة، ولكنه يجعله عرضة للإنحيازات الشخصية و الخطأ. هنا تكمن الإجابة الفلسفية الأكثر عمقًا. فإذا نظرنا إلى الوجود كجسم كامل، نجد أنه يتكون من جانب كمي وآخر كيفي. العلم يبرع في فهم الجانب الكمي، بينما السحر يبرع في فهم الجانب الكيفي. لا يمكن فهم الوجود بشكل كامل من خلال طريقة واحدة فقط. فالطاولة، على سبيل المثال، يمكن وصفها من خلال الأرقام (طولها، وزنها، كثافتها)، وهذا هو ما يفعله العلم. لكن الطاولة هي أيضًا رمز للإستقرار، ومكان لتجمع العائلة، وهذا هو ما يفعله السحر أو الفن أو الدين. قد يكون الفهم الكامل للوجود يتطلب توازنًا بين الطريقتين. فالعلم يمنحنا المعرفة الدقيقة لكيفية عمل الكون، بينما السحر يمنحنا الحكمة لفهم المعنى الكامن وراءه. المعرفة بدون حكمة قد تؤدي إلى تدمير الذات، والحكمة بدون معرفة قد تكون غير فعالة في العالم المادي. في النهاية، كلتا الطريقتين ضروريتان لعيش حياة متكاملة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الس
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْ
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الر
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الث
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الث
...
-
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْ
...
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الْخَامِس-
المزيد.....
-
مبيعات الأسلحة الإسرائيلية -مُزدهرة- لكن التكلفة -كبيرة-.. ل
...
-
هل لا يزال للقانون الدولي الإنساني معنى وسط الانتهاكات الواس
...
-
رشيد حموني يسائل وزير الداخلية ووزير التجهيز والماء حول بناء
...
-
كيف هي استجابتنا للتحديات؟
-
واشنطن تتعهد مجددا بالدفاع عن -كل شبر من أراضي الناتو- في مو
...
-
فرنسا: بلديات ترفع العلم الفلسطيني على واجهات مبانيها
-
جدل -لقاء نجل ترامب- يتصاعد بتركيا وأردوغان يرد على المعارضة
...
-
دوا ليبا تفصل وكيل أعمالها بسبب دعمه للحرب الإسرائيلية على غ
...
-
-زنزانات عائمة-.. هكذا غيّرت غواصات التهريب تجارة المخدرات ا
...
-
هل تركيا هي الهدف التالي لإسرائيل في الشرق الأوسط؟
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|