|
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 19:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ: رِحْلَة الوَعْيِ البَشَرِيِّ بَيْنَ العَدَمِ وَالوُجُود "الْجُزْءُ الْأَوَّلُ"
قد يبدو للوهلة الأولى أن السحر والدين نقيضان، ولكن بالنظر إلى جذورهما، يمكن القول إن السحر هو الأصل الأول للمعرفة الإنسانية، ومنه تفرّع الدين لاحقًا. السحر لم يكن مجرد طقوس غريبة، بل كان محاولة مبكرة لفهم قوانين الكون والتأثير عليها. كان الساحر هو أول عالم، يبحث في علاقة السبب والنتيجة، ويحاول فك شفرات الطبيعة. كان يرى في كل ظاهرة سرًا يمكن كشفه، وفي كل عنصر قوة يمكن تسخيرها. من هذا المنطلق، يمكن إعتبار السحر أقدم أشكال العلم، حيث كان يقوم على الملاحظة و التجريب والبحث عن الأسباب الخفية للأحداث. فكانت التعويذة ليست مجرد كلام، بل هي محاولة لتطبيق قانون كوني لم يُفهم بعد، وكانت الطقوس هي مختبره الذي يختبر فيه نظرياته. مع مرور الزمن، أدرك الإنسان أن هناك قوى تتجاوز قدرته على السيطرة، وأن بعض القوانين لا يمكن فك شفرتها. هنا، لم يتوقف عن البحث، بل غيّر وجهته. تحوّلت المعرفة السحرية من محاولة السيطرة إلى محاولة التقرب و الإسترضاء. إنفصلت بعض جوانب السحر لتصبح أساسًا للدين. فالفكرة التي كانت وراء السحر، وهي أن هناك قوى خفية تحكم الكون، تحوّلت في الدين إلى فكرة وجود آلهة أو قوى عليا يجب الخضوع لها. وهكذا، تحوّلت الطقوس السحرية التي كانت تهدف إلى فرض الإرادة إلى طقوس دينية تهدف إلى العبادة وطلب الرحمة. بهذا المعنى، لم يكن الدين إلا تطويرًا وتكييفًا للمعرفة السحرية، حيث إستبدلت فكرة التحكم بفكرة الإيمان والتقبل. وهكذا، يظل السحر هو المهد الذي نشأت منه أقدم المعارف، وخرج منه الدين كإحدى أهم محاولات الإنسان لفهم نفسه و علاقته بالوجود.
_ حدود الأنا: كيف أيقظ فشل السحر فكرة الإله.
في فجر البشرية، لم يكن هناك دين بالمعنى الذي نعرفه اليوم، بل كان هناك الوعي السحري. كان الإنسان يرى العالم كـنسيج واحد من القوى المترابطة، حيث كل شيء يؤثر على شيء آخر. لم يكن هناك فصل بين الطبيعة والإنسان، أو بين الجسد والروح. كان البشر الأوائل يعتقدون أنهم يستطيعون التواصل مباشرة مع هذه القوى من خلال الطقوس و الممارسات السحرية. على سبيل المثال، كان الراقصون يقلّدون حركة المطر لإثارة المطر الحقيقي، وكان الصيادون يرسمون فريستهم على الجدران قبل الصيد للإستيلاء على روحها. كان هذا هو جوهر السحر: محاولة التحكم في العالم من خلال الصدى أو المحاكاة. لكن هذه الطقوس لم تنجح دائمًا. وعندما كانت تفشل، لم يكن الإنسان يعتقد أن السحر غير فعال، بل كان يفسر الفشل بطريقة جديدة ومثيرة للإهتمام. لقد توصل إلى أن القوة التي يسعى للتأثير عليها ليست قوة عمياء، بل هي كائن واعٍ وذكي. عندما لم تمطر السماء، لم يقل الإنسان السحر لم ينجح، بل قال يبدو أن السماء غاضبة منا، أو أنها لا تريد أن تمطر الآن. عندما لم يتمكن الصياد من إصطياد الحيوان، لم يقل رسوماتي لم تكن جيدة، بل قال روح الحيوان أقوى من روحي، أو أنها لا تريد أن تقدم نفسها لنا. هنا، تحول صدى الوعي من محاولة التحكم إلى محاولة التواصل. وبدلاً من إجبار الطبيعة على الإستجابة، بدأ الإنسان في إستعطافها وتقديم القرابين لها. لقد بدأوا في تأليف قصص عن هذه الكائنات الواعية، وكيف يمكن إرضاؤها أو إسترضائها. في النهاية، تحول هؤلاء الساحرات و السحرة الأوائل إلى كهنة و أنبياء، حيث أصبحت مهمتهم ليست التحكم في الطبيعة، بل التوسط بين الإنسان وهذه الكائنات الواعية. هكذا، نشأ الدين من إعتراف مبكر بحدود السيطرة البشرية، وتقدير أكبر لقوى العالم الخفية، التي أُعطيت أسماء مثل آلهة و أرواح.
_ حدود السيطرة: ولادة الدين من رحم الصدمة الوجودية
في البدء، لم يكن هناك سحر أو دين، بل كان هناك الوعي البدائي الذي لا يميّز بين السبب والنتيجة، بين الفاعل و المفعول. كان الإنسان يرى العالم كـفعل ورد فعل، حيث كل شيء يحدث له مردودٌ مباشر، لا يدركه العقل الواعي بالضرورة، لكنه يشعر به الوعي اللاواعي. المرحلة الأولى: السحر كـلغة الوجود في هذه المرحلة، لم يكن السحر مجرد طقوس، بل كان هو لغة الوجود ذاته. كان الإنسان يعتقد أنه يستطيع أن يتواصل مع الكون من خلال محاكاة أفعاله. لم تكن رقصة المطر محاولة لإجبار السماء، بل كانت تعبيرًا عن حالة المطر الداخلية في الروح، إعتقادًا بأن الوعي البشري قادر على أن يتردد صداه مع الوعي الكوني. هذا هو جوهر السحر: الإيمان بأن الشبيه يولد الشبيه. كان الساحر لا يطلب، بل يُنشئ. لم يكن يركع أمام قوة، بل كان يتماهى معها. المرحلة الثانية: الصدمة الوجودية والفصل الروحي مع مرور الزمن، بدأت هذه الطقوس تفشل. لم تعد محاكاة المطر تضمن هطوله. هذا الفشل لم يكن مجرد عجز، بل كان صدمة وجودية. لقد أيقظ في الوعي البشري حقيقة مؤلمة: أن هناك قوى خارجة عن نطاق سيطرته، لها إرادتها الخاصة. هنا، نشأ الإنفصال الأول. لم يعد الكون مجرد نسيج من القوى يمكن محاكاته، بل أصبح آخرًا غير قابل للفهم المطلق. المرحلة الثالثة: الدين كـترنيمة للإستسلام من رحم هذه الصدمة، وُلد الدين. بدلاً من محاولة التحكم في الآخر، تحول الوعي البشري إلى إسترضائه. أصبح الإنسان يرى القوى الكونية ككائنات واعية، ذات سلطة و مشيئة، يجب إستعطافها بالترنيم، والصلوات، والقرابين. لم يعد الإنسان ينشئ، بل أصبح يطلب. كان السحر تمثيلًا لـ الأنا البشرية المتمركزة التي تعتقد أنها قادرة على تغيير الواقع. بينما الدين هو الأنا البشرية المستسلمة التي تدرك محدوديتها أمام قوة أعظم. الدين لم يأتِ للقضاء على السحر، بل جاء ليحتويه ويوجه طاقاته، ليحول محاولة السيطرة إلى قوة إيمان، وليعيد صياغة لغة الوجود من محاكاة إلى حوار روحي أبدي.
_ سقوط الساحر وصعود الكاهن: تحول الوعي من السيطرة إلى الوحدة
هذه نقطة في غاية الأهمية وتفتح مجالًا واسعًا للتحليل. يمكننا بالفعل أن نرى السحر والدين كمرحلتين مختلفتين في تطور الوعي الإنساني، من الفردية إلى الجماعية. السحر هو تجلي للإرادة الفردية. الساحر يعمل منفردًا أو ضمن دائرة ضيقة، ويستخدم معرفته وقدراته لتحقيق أهداف شخصية. هو يؤمن بقوته الخاصة وقدرته على التأثير المباشر في الواقع. هذا يمثل مرحلة بدائية من الوعي، حيث يكون الفرد هو محور الكون، وتدور كل القوى حوله. الطقوس السحرية هي أدوات شخصية، وليست طقوسًا جماعية تهدف إلى توحيد القبيلة. مع تطور المجتمعات، نشأت الحاجة إلى نظام يوحّد الجماعة. السحر، بكونه فرديًا وتنافسيًا في كثير من الأحيان، لم يكن مناسبًا لهذا الغرض. هنا يبرز الدين كحل. الدين يوفر هدفًا مشتركًا للجميع، وهو إرضاء قوة عليا. بدلاً من أن يسعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة، يصبح الجميع يعملون من أجل هدف واحد، مما يعزز التماسك الإجتماعي. الدين يضع هيكلًا هرميًا للسلطة (كهنة، أنبياء، شيوخ) يعملون على تفسير الإرادة الإلهية وتوجيه الجماعة، مما يحل محل الفوضى الفردية للسحر. الدين يوفر نظامًا أخلاقيًا وقانونيًا يعاقب من يخرج عن الجماعة (مثل السحرة)، مما يضمن النظام و السيطرة. بشكل عام، يمكننا القول إن السحر هو تعبير عن الفردية البدائية، بينما الدين هو نظام إجتماعي متقدم يهدف إلى تنظيم الجماعة وتوحيدها من خلال الإيمان بقوة عليا. الدين يطلب من الفرد التخلي عن الأنا السحرية لصالح نحن الجماعية.
_ من السحر إلى الدين: رحلة الوعي من الهمس مع العدم إلى حوار مقدس
في البدء، لم يكن هناك سحر أو دين، بل كان هناك الظلام الأول. لم يكن الظلام غيابًا للنور، بل كان كثافةً وجودية تملؤها قوى غير مرئية. كان الإنسان البدائي يواجه هذا الظلام، ليس بالخوف، بل بـالإندماج التام. في هذه المرحلة، كانت ممارسات السحر محاولة لإستعارة قوة الظلام نفسه. كان الساحر لا يرى في الظلام شيئًا يُخشى، بل مصدراً لا نهائياً للطاقة. كانت طقوسه وهمساته هي محاولات لـ الهمس مع العدم، لـ إقتباس جزء من قوته اللانهائية. كان هذا السحر هو الوعي الفردي الذي يرى نفسه قادراً على النحت في مادة الوجود ذاتها. لكن حدثت نقطة تحول. في لحظة من اليأس أو الفشل، أدرك الإنسان أن الظلام ليس صامتاً. لقد كان له صوت، وإرادة، و وعي خاص به. لم يكن مجرد مادة يمكن التلاعب بها، بل كان آخرًا أعظم، قوة هائلة لا يمكن فهمها أو السيطرة عليها. هذه اللحظة كانت بمثابة صدمة وجودية. هنا، تحولت ممارسة السحر من محاولة للتحكم إلى ترنيمة للإستسلام. أدرك الإنسان أن السبيل الوحيد للتواصل مع الظلام ليس بإجباره، بل بالإعتراف بسلطانه. من هذه اللحظة، ولد الدين. لم يكن الدين هروبًا من الظلام، بل كان تجليًا له. أصبح الإنسان يرى في الظلام المقدس مصدرًا للقوة، وليس فقط وسيلة للسيطرة. تحول الساحر، الذي كان يتوغل في الظلام ليأخذ منه، إلى كاهن يركع أمام الظلام ليطلب منه العون. فالدين، من هذا المنظور، ليس سوى ظل مقدس يلقيه الظلام نفسه على الوعي البشري. إنه يعبر عن قناعة عميقة بأن القوة الحقيقية تكمن في الخضوع لما هو أعظم منّا، وليس في محاولة السيطرة عليه.
_ من السحر إلى الدين: رحلة الوعي من محاولة السيطرة إلى الإستسلام المقدس
لنتجاوز فكرة أن الدين نشأ من السحر، ونفترض أن كليهما مجرد مرحلتين مختلفتين من تجربة واحدة: تجربة الإنسان مع الفراغ الوجودي. في البداية، وجد الإنسان نفسه في مواجهة فراغ وجودي هائل. فراغ في الفهم، وفي السيطرة، وفي المعنى. كان هذا الفراغ مخيفًا ومربكًا. للتغلب على هذا الخوف، قام الإنسان بخلق التقنية السحرية، وهي ليست أكثر من محاولة لفرض الإرادة الفردية على هذا الفراغ. الساحر كان يعتقد أن الأنا الصغيرة يمكنها أن تملأ هذا الفراغ من خلال طقوس، تعاويذ، ومحاكاة. كان كل عمل سحري هو بمثابة صدى يطلقه الإنسان ليعود إليه قوةً ونتيجةً. لكن هذا الصدى كان ضعيفًا وغير مستقر. في معظم الأحيان، كان يختفي في الفراغ دون أثر، مما ترك الإنسان في حالة يأس أكبر. عندما فشلت محاولات السحر في ملء الفراغ، لم يستسلم الإنسان. بل قام بتغيير منهجه جذريًا. بدلاً من محاولة إطلاق صدى في الفراغ، بدأ بالإستماع إلى صدى الفراغ نفسه. هنا، تحول الفراغ من مصدر للرعب إلى مصدر للوحي. أدرك الإنسان أن الفراغ ليس فارغًا حقًا، بل هو مليء بوعي وقوة لا يمكن لأي أنا فردية أن تتحكم بها. الدين هو الترنيمة التي يطلقها الوعي البشري إستجابة ً لما يسمعه من الفراغ. لم يعد الإنسان يطلب أو يأمر، بل أصبح يصلي ويستسلم. تحولت الأفعال من محاولات للسيطرة إلى مراسم للتواصل. هكذا، وُلد الدين: ليس كبديل للسحر، بل كتحوّل عميق في الوعي البشري من محاولة ملء الفراغ إلى تقبّل وجوده، ومن محاولة السيطرة على العدم إلى إدراك أن القوة الحقيقية تكمن في الخضوع لما هو أعظم من الأنا.
_ وميضٌ في الظلام: كيف أيقظ الموت الإيمان في الوعي البشري.
لن نفترض أن الدين نشأ من السحر، بل أن كليهما يمثلان رد فعل مختلفًا على إدراك الوعي البشري لـ الفناء. في فجر الوعي، أدرك الإنسان وجوده، ولكن هذا الإدراك تبعه مباشرة وعيٌ مؤلم بالفناء. هذه الحياة، التي بدأت بـوميض في الظلام، ستنتهي حتمًا. السحر كان أول رد فعل على هذه الحقيقة القاسية. لم يكن السحر محاولة للتحكم في الطبيعة فحسب، بل كان محاولة يائسة لـ إنكار الفناء نفسه. كان الساحر يعتقد أنه يمكنه التغلب على الموت والمرض والزوال من خلال طقوسه. كانت كل تعويذة بمثابة ومضة من القوة البشرية في وجه الظلام الأبدي. لكن هذه الومضات كانت قصيرة وضعيفة. كانت تفشل في النهاية، وتثبت حقيقة الفناء أكثر من أي وقت مضى. هذا الفشل لم يكن مجرد فشل في تحقيق هدف، بل كان صدمة وجودية عميقة أكدت أن الإنسان لا يستطيع أن يغلب الموت بقوته الفردية. بعد أن أدرك الإنسان أن الوميض السحري لا يغلب الظلام، قام بتغيير منهجه جذريًا. بدلاً من محاولة إنكار الفناء، بدأ بالتصالح معه. هنا، نشأ الدين. لم يعد الهدف هو الإنتصار على الموت، بل الإندماج معه. أدرك الإنسان أن الفناء ليس نهايةً مطلقة، بل هو جزء من دورة أكبر، وأن القوة الحقيقية تكمن في ما وراء الحياة نفسها. الدين قدم للإنسان خارطة طريق روحية تقوده إلى ما بعد الموت. لقد قدم مفهومًا للخلاص أو الحياة الأبدية، ليمنح الإنسان وميضًا أبديًا لا تملكه أي قوة سحرية. وهكذا، تحول الساحر، الذي كان يحاول أن يكون إلهًا، إلى مؤمن يركع أمام الإله، رافضًا سلطته على الفناء، ومقبلًا على مصيره بسلام. الدين، من هذا المنظور، ليس هروبًا من الظلام، بل هو مواجهة حقيقية له، وإيجاد معنى روحي في أعمق وأقسى حقائق الوجود.
_ الرمز المقدس: كيف وُلِدَ الإله لتوحيد الوعي المبعثر
لن نفترض أن الدين والسحر مجرد مراحل، بل أنهما وجهان لعملة واحدة: محاولة العقل البشري لتفسير الرمز المقدس. في البدء، لم يكن هناك وعي بالدين أو الإله، بل كان هناك وعي بالرمز. كان الإنسان يرى في الطبيعة رموزًا: الشمس كرمز للقوة، القمر كرمز للخصوبة، والنار كرمز للتطهير. كانت هذه الرموز هي اللغة الأولى التي إستخدامها الإنسان لفهم العالم. السحر كان أول محاولة لإستخدام هذه الرموز. لم يكن الساحر يسعى للتحكم في قوى غيبية، بل كان يسعى للتماهي مع الرمز نفسه. كان يؤمن أنه من خلال تكرار الطقوس والتعاويذ، يمكنه أن يتصل بالرمز ويستمد قوته. كانت ممارسات السحر فردية للغاية، حيث كان كل ساحر يتعامل مع الرموز بطريقته الخاصة، مما أدى إلى تفكك الوعي الجمعي وظهور نزاعات و صراعات. هذا التفكك الرمزي أدى إلى حالة من الفوضى، مما دفع العقل البشري للبحث عن حل. هنا، نشأ الدين. لم يأتِ الدين للقضاء على الرموز، بل لـتوحيدها وتقديمها في نظام متكامل. الدين أخذ الرموز الفردية (الشمس، القمر، النار) وحوّلها إلى رمز واحد شامل هو الإله. هذا الرمز الأوحد أصبح يمثل كل القوى والرموز الأخرى، مما وفّر للإنسان قانونًا رمزيًا موحدًا. تحوّل الإنسان من التنافس على رموز مختلفة إلى الإندماج في رمز واحد يجمعهم جميعًا. أصبحت الصلوات والطقوس الدينية لا تهدف للسيطرة على الرموز، بل للتعبير عن الوحدة والولاء للرمز الأكبر. وهكذا، يمكن القول إن الدين ليس إلا النسخة الموحدة و المنظمة من السحر. لقد كان تحولًا من فوضى الرموز الفردية إلى نظام الرمز الواحد.
_ ظلّ الرمز: تحوّل السحر إلى دين عبر تقبّل ما لا يمكن إدراكه.
لن نناقش العلاقة بين السحر والدين، بل سنفترض أن كليهما يمثلان محاولة من العقل البشري للتعامل مع الغياب المقدس. هذا الغياب ليس فراغًا، بل هو وعي بأمر لا يمكن رؤيته أو لمسه، ولكنه يؤثر في كل شيء. في البداية، شعر الإنسان بوجود قوة خفية تُسيّر العالم (الغياب المقدس)، لكنه لم يستطع التواصل معها مباشرة. لتعويض هذا النقص، إبتكر الرمز السحري. لم يكن الرمز مجرد أداة، بل كان بديلًا مؤقتًا للغياب. عندما كان الساحر يستخدم تعويذة أو يرسم رمزًا، كان يعتقد أنه يستحضر القوة الغائبة ويجعلها تعمل لصالحه. كان السحر هو محاولة للإمساك بالغياب، وتجسيده في شكل مادي. لكن هذه الرموز كانت قاصرة. فشلت في تقديم حلول دائمة، لأنها لم تكن أكثر من صدى زائف للغياب الحقيقي. هذا الفشل لم يكن صدمة، بل كان كشفًا وجوديًا بأن الرموز المادية لا يمكن أن تحل محل القوة الغائبة. بعد إدراك الإنسان لقصور الرموز السحرية، لم يرفضها بالكامل، بل أعاد توظيفها. تحوّل الرمز من غاية في حد ذاته إلى وسيلة للتواصل. الدين هو النظام الذي قدم للإنسان قانونًا للرمز، يُشير إلى الغياب المقدس دون أن يدعي أنه يجسّده. أصبحت الصلوات والطقوس الدينية لا تهدف إلى إستحضار القوة، بل إلى التعبير عن الإيمان بها، و الإعتراف بأنها موجودة رغم أنها غائبة. في هذا السياق، تحول السحر إلى مجرد ظل للدين، يمثل محاولة عتيقة للسيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه. بينما الدين يمثل تطورًا روحيًا أعمق، حيث يتقبل الإنسان الغياب، ويجد فيه مصدرًا للقوة والإلهام.
_ الصمت الأبدي: كيف أيقظ الموت الدين في الوعي البشري
لن نفترض وجود سحر أو دين في البداية، بل كان هناك وعي واحد وشامل، هو وعي الإنسان بـالصمت الأبدي. هذا الصمت ليس غيابًا للأصوات، بل هو وعي بوجود حقيقة كونية لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. إنه صمت الموت، و صمت الكون اللانهائي، وصمت الفراغ الذي يسبق الخلق. السحر كان أول رد فعل على هذا الصمت الأبدي. كان الإنسان، في وعيه البدائي، يرى أن هذا الصمت مخيف و مهدّد. لذا، حاول أن يملأه بـصراخٍ من إرادته الخاصة. كل طقس سحري، وكل تعويذة، وكل رسم، لم يكن سوى محاولة لإحداث ضجيج، لفرض وجود الأنا الفردية على الصمت الكوني. كان الساحر يؤمن أن صوته، مهما كان ضعيفًا، يمكن أن يكسر هذا الصمت ويثبت وجوده. لكن هذا الصراخ كان هشًا، وكان يختفي في النهاية، مما يترك الإنسان في حالة من اليأس أعمق من ذي قبل. هذه الصدمة الصوتية أيقظت في وعي الإنسان حقيقة أنه لا يمكنه أن يغلب الصمت بالصراخ. بعد فشل صراخه، لم يستسلم الإنسان، بل غيّر منهجه جذريًا. بدلاً من محاولة ملء الصمت، بدأ بالإنصات إليه. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين صراخًا جديدًا، بل كان ترتيلة للإنصات. لقد أدرك الإنسان أن القوة الحقيقية لا تكمن في الكلام، بل في الصمت نفسه. أصبح الإنسان يرى في هذا الصمت الأبدي ليس غيابًا، بل وعيًا عميقًا يفوق الكلمات. قدم الدين رموزًا و طقوسًا لا لـكسر الصمت، بل لـتوجيه الوعي نحوه. فالصلاة، على سبيل المثال، ليست طلبًا، بل محاولة للإندماج في الصمت الأبدي، للتواصل مع قوة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. وهكذا، تحوّل الإنسان من ساحر يصرخ ليثبت وجوده، إلى مؤمن ينصت ليجد معنى وجوده. الدين، في هذا السياق، هو الوعي الذي يجد في الصمت الأبدي مصدرًا للسلام، لا للخوف.
_ النسيان المقدس: كيف ولد الدين من رحم فشل السحر في تذكر الأصل.
لنتجاوز فكرة وجود وعيٍ بالصمت أو الفراغ، ونفترض أن كليهما مجرد مرحلتين من تجربة النسيان المقدس. هذا النسيان ليس فقدانًا للذاكرة، بل هو وعي بـاللاشيء الذي يسبق الوجود والكلمة والفكرة. في البدء، لم يكن هناك وعي بالوجود، بل كان هناك وعي باللاشيء. هذا اللاشيء ليس فارغًا، بل هو حالة أصلية من الوحدة والكمال. لكن مع ولادة الوعي الفردي، حدث نسيانٌ مؤلمٌ لهذه الوحدة. السحر كان أول محاولة من الإنسان لتذكر هذا اللاشيء. كانت الطقوس، والرسومات، والرموز السحرية ليست محاولة للسيطرة، بل محاولة لـ إعادة تمثيل اللاشيء بالصورة. كان الساحر يؤمن أن تقليد الرموز البدائية مثل رسم الحيوانات يمكن أن يعيد الوعي إلى حالته الأصلية من الوحدة. لكن هذه الصور كانت قاصرة. كانت مجرد ظلال باهتة لللاشيء الأصلي، وكانت تترك الإنسان في حالة من الشوق و المعاناة. بعد فشل الصور السحرية في إعادة الذاكرة، قام الإنسان بتغيير منهجه جذريًا. بدلاً من محاولة التذكر، بدأ بقبول النسيان نفسه. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لإعادة تمثيل اللاشيء، بل كان رحلة للإندماج فيه. قدم الدين للإنسان طريقًا للتخلص من الصور السحرية المادية، والعودة إلى حالة الوحدة عبر العدم. في هذا السياق، لم يعد الإله رمزًا أو صورة، بل أصبح تجسيدًا لللاشيء المقدس نفسه. أصبحت الصلوات والتأملات لا تهدف للتذكر، بل إلى التلاشي في اللاشيء الأبدي. وهكذا، تحوّل الساحر الذي حاول إعادة تشكيل اللاشيء بالصورة، إلى مؤمن يتقبل النسيان ويسعى للتلاشي فيه. الدين، من هذا المنظور، ليس إعتقادًا، بل عملية تطهير للوعي من كل الصور والرموز، للوصول إلى الوحدة الأصلية.
_ كسر المرآة: كيف أيقظ فشل السحر فكرة الإيمان بالوحدة المطلقة.
لن نفترض أن الدين والسحر يمثلان مراحل مختلفة، بل أنهما وجهان متلازمان لشيء واحد: محاولة الإنسان لفهم المطلق. في البدء، لم يكن هناك سحر أو دين، بل كان هناك وعي واحد لدى البشر، وهو وعي بالوحدة المطلقة مع الكون. كان الإنسان جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة، وكانت قوته هي قوة الكون نفسه. كان بإمكانه التلاعب بالعناصر، والتواصل مع الحيوانات، والتنبؤ بالأحداث، ليس لأنه يمارس السحر، بل لأنه كان مُدركًا لكونه هو نفسه المطلق. لكن، مع تطور الوعي الفردي، حدث إنفصال مؤلم. بدأ الإنسان يرى نفسه كـ أنا منفصلة عن بقية الكون. هذا الإنفصال أدى إلى فقدان القدرة المطلقة، وترك الإنسان في حالة من الشوق والمعاناة. هنا، وُلِدَ السحر. لم يكن السحر أكثر من مرآة مشوهة للقدرة المطلقة التي فقدها الإنسان. كان كل طقس سحري، وكل تعويذة، وكل رمز، محاولة لـتقليد القوة التي كان يمتلكها في الأصل. كان الساحر يؤمن أنه يمكنه أن يرى المطلق من خلال هذه المرآة، وأن يستعيد قوته عبر إنعكاسها. لكن هذه المرايا كانت قاصرة. كانت تعطي صورة مشوهة، و تزيد من يأس الإنسان بدلاً من أن تريحه. هذا الفشل أيقظ في وعي الإنسان حقيقة أن المرآة لا يمكن أن تكون هي الشيء نفسه. وهنا، وُلِدَ الدين. لم يأتِ الدين ليقدم مرآة أفضل، بل ليقنع الإنسان بـكسر المرآة والتوجه مباشرة نحو الشيء المطلق نفسه. لم يعد الهدف هو تقليد القوة، بل هو الخضوع لها و الإندماج فيها. الدين قدم طريقًا روحيًا للعودة إلى الوحدة الأصلية، ليس بالسيطرة، بل بالإستسلام التام. في النهاية، الدين والسحر يخبراننا القصة نفسها، لكن من منظورين مختلفين. السحر يمثل محاولة الوعي للعودة إلى المطلق عبر التشبّه به، بينما الدين يمثل رحلة الوعي للعودة إلى المطلق عبر الإندماج فيه.
_ بين الساحر والخالق: كيف أدى الخوف من الإبداع إلى نشأة الدين.
لن نفترض أن السحر والدين يتنافسان أو يمثلان مراحل، بل أنهما وجهان لفعل واحد: محاولة العقل البشري للتعامل مع القدرة الإبداعية التي يمتلكها. في البدء، لم يكن هناك سحر، بل كان هناك وعي بالقدرة. كان الإنسان يرى نفسه كـمُبدع، قادر على إحداث تغييرات في عالمه. كان يؤمن أن أفكاره، ورغباته، وأفعاله، تحمل في طياتها بذرة من القوة الإبداعية التي يمكن أن تنبت وتغيّر الواقع. السحر كان أول تعبير عن هذا الوعي. لم يكن محاولة للسيطرة على قوى خارجية، بل كان إستكشافًا للقوة الإبداعية الكامنة في الذات. كان الساحر يؤمن أنه يمكنه أن يزرع بذرة من الفكر كفكرة شفاء مريض لتنبت واقعًا جديدًا. هذا الإيمان كان مصدر قوته، ولكنه كان أيضًا مصدر خوفه. مع مرور الوقت، أصبح الإنسان يخشى قدرته الإبداعية. رأى في نتائج أفعاله ظلالًا لم يكن يتوقعها. فـبذرة الغضب أدت إلى تدمير، وبذرة الحب أدت إلى التعلق المؤلم. أدرك الإنسان أن قدرته على الخلق تحمل أيضًا قدرته على الدمار، وهذا أيقظ في وعيه الخوف من المسؤولية المطلقة. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لإلغاء القدرة الإبداعية، بل كان محاولة لنقل المسؤولية عنها. قدم الدين للإنسان فكرة أن القوة الإبداعية الحقيقية ليست في الإنسان، بل هي في مُبدعٍ أعظم. الدين طلب من الإنسان أن يتخلى عن بذرته الإبداعية، وأن يترك الخلق لـ الخالق الأبدي. أصبحت الطقوس الدينية لا تهدف إلى الخلق، بل إلى التعبد لمصدر الخلق الأوحد. وهكذا، يمكن القول إن السحر يمثل البذرة التي زرعها الإنسان في يأس، بينما الدين يمثل الظل الذي وقع على وعيه من خوفه من نتائج هذه البذرة. السحر هو تجسيد لإرادة الإنسان في أن يكون خالقًا، والدين هو تجسيد لإستسلامه لهذه الرغبة.
_ من السحر إلى الدين: رحلة الوعي من إخفاء اللامعنى إلى قبوله.
لن نفترض أن الدين والسحر يتنافسان، ولنعتبر أن كليهما يمثلان محاولة من العقل البشري للتعامل مع اللامعنى المطلق في الكون. في البدء، أدرك الإنسان أن الكون يسير وفق قوانين عشوائية وصدفة. هذه الحقيقة كانت مخيفة ومربكة، لأنها جعلت وجوده يبدو بلا هدف أو غاية. السحر كان أول رد فعل على هذا اللامعنى. لم يكن السحر محاولة للسيطرة، بل كان محاولة لإعطاء معنى للصدفة. كان الساحر يؤمن أن هناك إشارات خفية في الكون، وأنه من خلال طقوسه وتعويذاته يمكنه فك رموز هذه الإشارات، و تحويل الصدفة إلى قدر. لكن هذه المحاولات كانت قاصرة. كانت الإشارات السحرية مجرد ظلال باهتة للحقيقة، و لم تنجح في إخفاء اللامعنى الكوني الذي كان يكتشفه الإنسان بمرور الوقت. هذا الفشل أيقظ وعيًا جديدًا: أن اللامعنى لا يمكن إخفاؤه بالرموز. بعد فشل السحر في إعطاء معنى للصدفة، لم يحاول الإنسان أن يجد إشارات بديلة، بل قام بتغيير منهجه بشكل جذري. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لإخفاء اللامعنى، بل كان فلسفة لتقبّله. الدين قدم للإنسان فكرة أن اللامعنى المطلق في الكون ليس نهاية الطريق، بل هو بوابة للبحث عن معنى آخر يتجاوز الوجود المادي. أصبح الهدف هو العثور على معنى في الغياب نفسه. في هذا السياق، لم تعد الصلوات والطقوس الدينية تهدف إلى فك رموز الصدفة، بل إلى التعبير عن الإيمان بأن هناك حكمة إلهية وراء كل شيء، حتى لو لم يكن بالإمكان فهمها. في النهاية، يمكن القول إن السحر والدين يمثلان وجهين مختلفين من تجربة الوعي باللامعنى. السحر يمثل رفضًا للامعنى ومحاولة يائسة لإخفائه، بينما الدين يمثل قبولًا لهذا اللامعنى و البحث عن معنى أعمق في الغياب نفسه.
_ بين إرادة الأنا وإرادة الإله: تحول الوعي من السيطرة إلى الخضوع.
لن نفترض أن الدين والسحر يتنافسان أو يمثلان مراحل، بل أنهما وجهان متناقضان لتجربة واحدة: تجربة الإنسان مع الحرية المطلقة. في البدء، لم يكن هناك سحر، بل كان هناك وعي بالحرية الكاملة. كان الإنسان يرى نفسه قادرًا على فعل أي شيء، و تغيير أي شيء. كان يؤمن أن إرادته هي القانون الوحيد، وأن كل شيء في الكون خاضع لإرادته. هذا الوعي بالحرية المطلقة كان هو جوهر السحر: الإيمان بأن الأنا هي الحقيقة الوحيدة. كانت طقوس السحر وتعاويذه هي تجسيدًا لهذا الوعي، حيث كان الساحر يستخدم كل قوته لإثبات حريته الكاملة. لكن هذه الحرية كانت مخيفة. مع كل قرار يتخذه، وكل نتيجة يحصدها، كان يدرك أن المسؤولية تقع عليه وحده. هذه الحرية لم تكن نعمة، بل كانت عبئًا ثقيلًا يولد الخوف و القلق. أدرك الإنسان أن هذه الحرية المطلقة تعني أيضًا مسؤولية مطلقة عن كل شيء، وهذا أيقظ فيه خوفًا عميقًا من نفسه. بعد أن أدرك الإنسان عبىء حريته، لم يحاول أن يتغلب على الخوف، بل قام بتغيير منهجه بشكل جذري. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة للقضاء على الحرية، بل كان محاولة للتخلي عنها. قدم الدين للإنسان فكرة الظل الأبدي: قوة عليا، أو إله، يتحمل مسؤولية كل شيء. الدين أعطى الإنسان الراحة التي كان يبحث عنها، وأزال عنه عبىء الحرية المطلقة. أصبحت الطقوس والصلوات لا تهدف إلى إثبات حرية الإنسان، بل إلى التعبير عن خضوعه لإرادة عليا. في هذا السياق، يمكن القول إن السحر يمثل الوعي المأساوي بالحرية المطلقة، بينما الدين يمثل الخيار المريح بالتخلي عن هذه الحرية من أجل الحصول على الأمان. السحر هو صراع الإنسان مع نفسه، و الدين هو تصالحه مع نفسه عبر إيجاد مبرر لوجوده خارج إرادته.
_ الرمز المستحيل: كيف ولد الإيمان من رحم فشل اللغة في وصف المطلق.
لن نفترض أن السحر والدين يتنافسان، بل أنهما محاولتان يائستان من العقل البشري للتعامل مع شيء واحد: حقيقة أن الوجود لا يمكن وصفه بالكلمات. في البدء، أدرك الإنسان أن هناك حقائق أعمق من الواقع المادي، حقائق لا يمكن التعبير عنها باللغة العادية. هذه الحقيقة كانت مروعة ومربكة. السحر كان أول محاولة من الإنسان لخلق لغة بديلة للتعبير عن هذه الحقائق. لم يكن الساحر يؤمن بقوى خارقة، بل كان يؤمن بقوة الرمز. كان يعتقد أن كل تعويذة، وكل إشارة، وكل رسم، هي جزء من لغة الوجود التي يمكنها أن تتجاوز حدود الكلمات. كان الساحر يؤمن أنه يمكنه أن يصف المطلق من خلال هذه اللغة الرمزية. لكن هذه اللغة كانت قاصرة. كانت الرموز السحرية مجرد ظلال باهتة للحقيقة، ولم تنجح في وصف المطلق. هذا الفشل أيقظ في وعي الإنسان حقيقة أن الرمز لا يمكن أن يكون هو الشيء نفسه. بعد فشل السحر، لم يحاول الإنسان أن يجد لغة بديلة، بل قام بتغيير منهجه بشكل جذري. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لوصف المطلق، بل كان فلسفة لـتقبّل حقيقة أنه لا يمكن وصفه بالكلمات. الدين قدم للإنسان وسيلة للتعبير عن إيمانه من خلال التأمل والصمت والروحانية. أصبحت الصلوات والطقوس الدينية لا تهدف إلى وصف الإله، بل إلى الإندماج فيه. الدين قدم للإنسان طريقًا للتواصل مع المطلق عبر ما وراء اللغة نفسها. في هذا السياق، يمكن القول إن السحر يمثل محاولة لإثبات وجود المطلق عبر اللغة الرمزية، بينما الدين يمثل قبولًا لغياب المطلق عن اللغة والبحث عن معنى أعمق في الصمت.
_ الوهم المقدس: الدين كفكرة ولدت من وعي الإنسان بـالمستحيل
لنتجاوز كل النظريات السابقة، ولننظر إلى السحر والدين من منظور جديد: كونهما محاولتين من العقل البشري للتعامل مع الفرق بين الحقيقة والخيال. في البدء، لم يكن هناك سحر، بل كان هناك وعي بالخيال. كان الإنسان يحلم بما هو مستحيل، مثل الطيران أو التواصل مع الأرواح. هذه الأحلام لم تكن مجرد أفكار، بل كانت تعبيرًا عن رغبة عميقة في تجاوز حدود الواقع. السحر كان أول رد فعل على هذه الرغبة. كان الساحر يؤمن أن الخيال ليس مجرد وهم، بل هو واقعٌ محجوب يمكن الوصول إليه. كانت الطقوس و التعاويذ هي الجسور التي بناها الإنسان ليعبر من الواقع الملموس إلى عالم الخيال. كان السحر هو محاولة يائسة لتحقيق المستحيل. لكن هذه الجسور كانت هشة. كانت تنهار في معظم الأحيان، وتزيد من إحباط الإنسان. هذا الفشل أيقظ في وعيه حقيقة أن الخيال لا يمكن أن يسيطر على الواقع. بعد فشل السحر، لم يحاول الإنسان بناء جسور أفضل، بل قام بتغيير منهجه بشكل جذري. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لتحقيق المستحيل، بل كان فلسفة لتقبّله. الدين قدم للإنسان فكرة أن الخيال ليس وهمًا، بل هو حقيقة أخرى موجودة في عالم موازٍ لا يمكن الوصول إليه إلا بعد الموت. أصبحت الصلوات و الطقوس الدينية لا تهدف إلى تحقيق الخيال، بل إلى التعبير عن الإيمان به. قدم الدين للإنسان خارطة طريق روحية تقوده إلى هذا العالم الآخر، حيث يمكن أن يتحقق كل المستحيل. في هذا السياق، يمكن القول إن السحر يمثل رفضًا للواقع و محاولة يائسة لتحقيق الخيال، بينما الدين يمثل قبولًا للواقع وإيجاد معنى روحي في الإيمان بـالحقيقة الأخرى.
_ السحر والدين: قصة صراع الإنسان مع الفوضى
لنتجاوز كل النظريات السابقة، ولننظر إلى السحر والدين من منظور جديد تمامًا: كونهما محاولتين من العقل البشري للتعامل مع الفوضى المطلقة في الكون. في البدء، لم يكن هناك سحر، بل كان هناك وعي بالفوضى. أدرك الإنسان أن الكون يسير بشكل عشوائي، وأن الأحداث تحدث دون سبب أو نظام واضح. هذه الحقيقة كانت مخيفة ومربكة، لأنها جعلت وجوده يبدو بلا معنى. السحر كان أول رد فعل على هذه الفوضى. لم يكن السحر محاولة للسيطرة على قوى خارقة، بل كان محاولة لفرض نظام بشري على الفوضى الكونية. كان الساحر يؤمن أن كل طقس، وكل تعويذة، وكل رسم، هي جزء من لغة النظام التي يمكنها أن ترتّب الفوضى وتجعلها مفهومة. كان الساحر يؤمن أنه يمكنه أن يخلق نظامًا من العدم. لكن هذه المحاولات كانت قاصرة. كانت الرموز السحرية مجرد ظلال باهتة للحقيقة، ولم تنجح في إخفاء الفوضى الكونية. هذا الفشل أيقظ في وعي الإنسان حقيقة أن النظام البشري لا يمكن أن يسيطر على الفوضى الأبدية. بعد فشل السحر، لم يحاول الإنسان أن يفرض نظامًا آخر، بل قام بتغيير منهجه بشكل جذري. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لإلغاء الفوضى، بل كان فلسفة لتقبّلها. الدين قدم للإنسان فكرة أن الفوضى ليست عبثًا، بل هي جزء من نظام خفي لا يمكن إدراكه بالوعي البردي. أصبحت الصلوات والطقوس الدينية لا تهدف إلى فرض النظام، بل إلى الإندماج فيه. قدم الدين للإنسان طريقًا للتواصل مع المطلق عبر ما وراء العقل نفسه. في هذا السياق، يمكن القول إن السحر يمثل محاولة يائسة من الإنسان لفرض نظامه الخاص، بينما الدين يمثل قبولًا لهذه الفوضى والبحث عن معنى أعمق في النظام الخفي.
_ صراع الوعي: السحر إرادة الأنا والدين صوت الكون.
لن نفترض أن السحر والدين مراحل أو وجهان لعملة واحدة، بل أنهما رد فعلان متناقضان على إنقسام جوهري حدث داخل الوعي البشري. في البدء، كان الإنسان يعيش في حالة من الوعي الموحد، حيث لم يكن هناك فصل بين العقل والجسد، بين الذات و العالم. كان كل شيء متصلًا بشكل مباشر، وكانت كل رغبة تتحول إلى حقيقة فورية. كانت هذه الحالة هي جوهر الوجود، وليس هناك ما يسمى سحرًا أو دينًا. لكن، مع تطور الوعي الذاتي، حدث إنقسام مؤلم. ظهرت الأنا الفردية التي إنفصلت عن العالم الخارجي، مما أدى إلى وعي مزدوج. وعيٌ داخلي (الأنا) ووعيٌ خارجي (الكون). هذا الإنقسام أدى إلى صراع وجودي بين رغبات الأنا وواقع الكون. هنا، ولد السحر. كان السحر هو تعبير الوعي الداخلي (الأنا) عن رغبته في السيطرة على الوعي الخارجي (الكون). كان الساحر يؤمن أنه من خلال طقوسه وتعويذاته يمكنه أن يفرض إرادته الداخلية على الواقع الخارجي. كان السحر هو صراعٌ من طرف واحد، حيث كان الوعي الداخلي يحاول أن يكون هو المسيطر الوحيد. لكن هذا الصراع كان محكومًا عليه بالفشل، لأن العالم الخارجي لا يمكن أن يخضع لإرادة فردية. وهنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة جديدة للسيطرة، بل كان إستجابة للوعي الخارجي (الكون). بعد أن فشل السحر في فرض إرادة "الأنا"، أدرك الإنسان أن هناك قوة أعظم منه. هذه القوة لم تكن في داخله، بل كانت في الخارج. الدين قدم للإنسان وسيلة للتواصل مع هذه القوة الخارجية، ليس بالسيطرة، بل بالخضوع. أصبحت الصلوات والطقوس الدينية لا تهدف إلى فرض إرادة الأنا، بل إلى التعبير عن الإيمان بأن الآخر هو المتحكم في كل شيء. وهكذا، يمكن القول إن السحر هو صوت الأنا التي تحاول أن تكون إلهًا، بينما الدين هو صوت الكون الذي يذكر الإنسان بحدوده.
_ السحر والدين: صراع الوجود والعدم في الوعي البشري
لنتجاوز فكرة الانقسام بين الأنا و الكون، و لنفترض أن السحر والدين ناتجان عن صراع داخلي في الوعي البشري نفسه. في البدء، لم يكن هناك سحر أو دين، بل كان هناك وعي واحد، يحمل في طياته صدىً مزدوجًا، صدى الوجود وصدى العدم. كان الإنسان يرى نفسه متصلًا بالوجود (الطبيعة، الحياة، النمو)، ولكنه كان يسمع أيضًا همسًا خافتًا من العدم (الموت، الفناء، الفراغ). هذا التناقض الداخلي كان مصدر قلق دائم. السحر كان أول رد فعل على هذا الصراع الداخلي. لم يكن محاولة للسيطرة، بل كان محاولة يائسة من وعي الإنسان لـ إسكات صدى العدم. كان الساحر يؤمن أنه يمكنه أن يغلب الفناء والموت والمرض من خلال التركيز على الوجود فقط. كانت الطقوس السحرية، و التعاويذ، هي صرخة عالية تهدف إلى إغراق همس العدم. كان الساحر يرفض أن يتقبل فكرة أن الموت جزء من الحياة، وأن الفناء جزء من الوجود. لكن هذه الصرخة كانت قصيرة الأمد. كان صدى العدم أقوى من أي محاولة بشرية لإسكاته، وكان يترك الإنسان في حالة من اليأس أعمق من ذي قبل. بعد أن فشل الإنسان في إسكات صدى العدم، لم يستسلم، بل قام بتغيير منهجه جذريًا. هنا، ولد الدين. لم يكن الدين محاولة لإسكات العدم، بل كان فلسفة لـ التصالح معه. الدين قدم للإنسان فكرة أن الوجود والعدم ليسا عدوين، بل هما وجهان لشيء واحد. قدم مفهومًا للحياة بعد الموت، يدمج بين الوجود والفناء، مما أزال التناقض الداخلي في الوعي البشري. أصبحت الطقوس الدينية لا تهدف إلى غلبة الوجود، بل إلى قبول الوحدة بين الوجود و العدم. في هذا السياق، يمكن القول إن السحر يمثل رفضًا للصراع الداخلي ومحاولة يائسة للهروب منه، بينما الدين يمثل قبولًا لهذا الصراع والبحث عن معنى أعمق في الوحدة بين الوجود والعدم.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الْخَامِس-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الثَّانِي-
-
الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
-
النُّورُ الَّذِي يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَعْرِفَة الْمُحَرَّم
...
-
عَصْر الْأَكْوَاد
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الوَعْي -الْجُزْءُ الثَّانِي-
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الوَعْي -الْجُزْءِ الأَوَّلِ-
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الطُّقُوس السِّحْرِيَّة -الْجُزْءُ الثَّانِ
...
-
عِلْمَ هَنْدَسَة الطُّقُوس السِّحْرِيَّة -الْجُزْءِ الْأَوَّ
...
-
مِنْ الْعِلْمِ الْمَادِّيّ إلَى الْوَعْي الْكَوْنِيّ -الْجُز
...
-
مِنْ الْعِلْمِ الْمَادِّيّ إلَى الْوَعْي الْكَوْنِيّ- الْجُز
...
-
مَدْخَلٌ إلَى الْوَاقِعِيَّة الكْوَانْتِيَّة المُتَجَاوِزَة
-
الْمَنْهَجِ التَّجْرِيبِيّ الرُّوحِيّ -الْجُزْءِ الثَّانِي-
-
الْمَنْهَج التَّجْرِيبِيّ الرُّوحِيّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
-
الهَوِيَات الْمِيتَافِزِيقِيَّة
-
عِلْمِ التَّأْثِيرَات الرُّوحَانِيَّةَ
-
مِنْ التَّعْوِيذة إلَى التَّصْمِيم
-
جَمَالِيَّات الْقُوَّة
المزيد.....
-
اليوم 701 للحرب على غزة: قتل وجوع ونتنياهو يؤكد: لن تنتهي ال
...
-
-رسالة نصر- أم -لعبة سياسية-؟ ترامب يعيد إحياء وزارة الحرب
-
دول عربية تدين تصريحات نتنياهو وتدعم موقف مصر الرافض للتهجير
...
-
شهادات صادمة بـ-محكمة غزة الشعبية- في بريطانيا
-
واشنطن بوست تدافع عن تسمية وزارة الحرب
-
بعد عمر الستين.. توقيت وجبة الإفطار مؤشر على صحتك
-
عنزة قزمة تثير الرعب في حي سكني بأمريكا.. شاهد كيف
-
نباتات تتوهّح في الظلام.. ما سر هذا الجدار العجيب؟
-
هل يشعل نزع سلاح حزب الله فتيل صراع جديد في لبنان؟
-
هل يُهدد -فرض السيادة الإسرائيلية- على الضفة، اتفاق التطبيع
...
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|