|
مِنْ التَّعْوِيذة إلَى التَّصْمِيم
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 22:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مِنْ التَّعْوِيذة إلَى التَّصْمِيم: تَأْثِير الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة عَلَى فَنِّ الْعِمَارَة
في كثير من الثقافات، كانت هناك إعتقادات بأن بعض العناصر المعمارية يمكن أن تحمي المبنى وسكانه من الأرواح الشريرة والسحر. على سبيل المثال، قد تجد في بعض المباني رموزًا منحوتة أو نقوشًا معينة على الأبواب والنوافذ بهدف طرد السحر أو جلب الحظ. كانت بعض المباني تُصمم خصيصًا لأغراض سحرية أو دينية، مثل المعابد والمزارات. قد يتم توجيه المبنى في إتجاه فلكي معين أو يتم بناءه بإستخدام مواد معينة بهدف تعزيز قوته الروحية أو السحرية. في بعض الأحيان، كانت الهندسة المعمارية تُعتبر فنًا سريًا، حيث يتم إخفاء رموز ومعانٍ سحرية في التصميم. كان يُعتقد أن هذه الرموز يمكن أن تؤثر على بيئة المكان أو على من يعيشون فيه. كانت المعتقدات الشعبية والخرافات تلعب دورًا كبيرًا في تصميم البيوت والمباني. على سبيل المثال، قد تجد في بعض الثقافات أن الأبواب و النوافذ تُصمم بطريقة معينة لتجنب دخول الأرواح الشريرة، أو أن هناك أماكن معينة في البيت يُعتقد أنها تجلب الحظ. يمكننا تعميق نظرية الترابط الكوني من خلال الإنتقال من فكرة أن العمارة تعكس الكون، إلى فكرة أنها تخلق وتؤثر في الوجود الإنساني نفسه. هذه النظرية الجديدة يمكن أن تُسمى نظرية العمارة ككيان حي.
* نظرية العمارة ككيان حي/ Theory of architecture as a living entity
تقوم هذه النظرية على أن المبنى ليس مجرد هيكل جامد، بل هو كائن حي يتنفس، يشعر، و يتفاعل مع سكانه والبيئة المحيطة به على مستوى وجودي. العمارة هنا ليست أداة سحرية، بل هي جزء من نسيج الحياة نفسه. يمكننا تقسيم هذه النظرية إلى ثلاثة محاور رئيسية: . المحور الأول: العمارة كجسم حيوي في هذا الجانب، يُنظر إلى المبنى على أنه جسد له دورة حياة خاصة به. يولد المبنى بوضع حجر الأساس، ينمو ويتطور مع الزمن، وقد يمرض أو يشيخ. كل مبنى له نبض خاص به، يتحدد من خلال حركة الأفراد فيه، والضوء الذي يدخله، و الأصوات التي تتردد في أرجائه. المبنى يتذكر الأحداث التي وقعت داخله. يُعتقد أن الجدران والأرضيات تحتفظ بـبصمات طاقية أو ذكريات للمشاعر و التجارب الإنسانية التي مرت بها. المبنى ليس له وعي ذاتي بالمعنى البشري، ولكنه يمتلك نوعًا من الوعي المكاني الذي يجعله يتكيف مع حاجات سكانه بمرور الزمن. . المحور الثاني: العمارة كشريك وجودي هنا، يُعتبر المبنى شريكًا في رحلة الإنسان الوجودية. لا يكتفي بتوفير المأوى، بل يشارك في تشكيل هوية الإنسان و وعيه. المبنى يخلق مساحة تسمح للإنسان بالتأمل، الإبداع، أو حتى مواجهة مخاوفه. الغرف الضيقة قد تحفز الإنطواء، بينما المساحات المفتوحة قد تشجع على التفاعل الإجتماعي. تُصمم بعض المباني لتغيير إدراك الإنسان للزمن والفضاء. الممرات الطويلة قد تجعل الزمن يبدو أبطأ، بينما المتاهات قد تثير شعورًا بالضياع والبحث عن الذات. العناصر المعمارية مثل الأبواب، النوافذ، السلالم لا تُصمم لوظيفتها فقط، بل لرموزها الوجودية. الباب يرمز إلى بداية جديدة، النافذة ترمز إلى رؤية العالم، والسلم يرمز إلى الصعود الروحي أو الإجتماعي. . المحور الثالث: العمارة كأداة للتغيير في هذا المحور، تُعتبر العمارة وسيلة للتغيير و التأثير على الوعي الإنساني، ليس فقط على المستوى الفردي، بل على المستوى المجتمعي أيضًا. يمكن للمبنى أن يُصمم ليعيد تدوير الطاقة و الموارد، ليس فقط بطريقة فيزيائية، بل بطريقة روحية أيضًا. المبنى لا يحدد فقط كيفية إستخدام الفضاء، بل يحدد أيضًا كيفية تفاعل الناس مع بعضهم البعض. يمكن أن تُصمم المباني لتبعث برسالة قوية للمجتمع، سواء كانت رسالة سلام، قوة، أو حتى رسالة تحذير. هذه النظرية تفتح الباب أمام فهم أعمق للعلاقة بين الإنسان والمبنى، حيث لا يكون المبنى مجرد خلفية لحياتنا، بل هو جزء من كياننا الحي. نظرية العمارة ككيان حي.تضعنا في عُمق العلاقة بين الإنسان والبيئة المبنية. وللتوغل أبعد من ذلك، علينا أن ننتقل من فكرة المبنى ككيان إلى فكرة أن العمارة هي نفسها الوعي، وهي الأداة التي يتشكل بها الواقع الإنساني. هذه النظرية يمكن أن تُسمى: نظرية العمارة كالواقع المبرمج.
* نظرية العمارة كالواقع المبرمج/ Architecture theory as programmed reality
هذه النظرية تفترض أن العمارة ليست مجرد مكان نعيش فيه، بل هي برنامج وجودي، لغة برمجة للواقع، تُعيد تشكيل الإدراك البشري و تحدد حدود التجربة الإنسانية. في هذا السياق، يُنظر إلى المبنى على أنه كود معماري (Architectural Code) يُبرمج عقل الإنسان ووعيه. . المحور الأول: العمارة كلغة برمجة تُعتبر كل تفصيلة معمارية بمثابة كود أو أمر برمجي يؤثر في العقل الباطن. الأشكال الهندسية ليست مجرد زينة، بل هي أوامر برمجية. الخطوط المستقيمة قد تبرمج العقل على الإنضباط، بينما الخطوط المنحنية تبرمجه على المرونة والإبداع. الألوان لها تأثيرات برمجية على الحالة المزاجية، فالأزرق قد يبرمج الهدوء، والأحمر يبرمج النشاط. الطريقة التي يتم بها توزيع الفضاء تُعتبر بمثابة بنية بيانات. المساحات المغلقة قد تبرمج العقل على التركيز، بينما المساحات المفتوحة تبرمجه على التفاعل. المسارات داخل المبنى (الممرات، السلالم) ليست طرقًا عادية، بل هي خوارزميات تُحدد كيفية تفكير الإنسان و شعوره. على سبيل المثال، قد يُصمم المبنى بطريقة تجبر الشخص على المرور عبر مسار معين، مما يجعله يختبر سلسلة من المشاعر أو الأفكار المبرمجة مسبقًا. . المحور الثاني: العمارة كمنصة للوعي المبنى في هذا السياق ليس مجرد حاوية للوعي، بل هو منصة تشغيل.(Operating System) يتيح للوعي الإنساني بالعمل. المباني العامة مثل المدارس أو المستشفيات تُصمم لتبرمج سلوكيات معينة. المدارس تبرمج على الإنضباط والتعلم، و المستشفيات تبرمج على الهدوء والشفاء. يُعتقد أن العمارة يمكن أن تبرمج طريقة عمل الذاكرة. قد تُصمم المباني التاريخية بطريقة تجبرنا على تذكر الماضي بطريقة معينة. يمكن للعمارة أن تُستخدم لتعديل إدراكنا للواقع. المباني الخيالية في الأماكن الترفيهية تُبرمج العقل على الهروب من الواقع، بينما المباني البسيطة تُبرمجه على التركيز على الأساسيات. . المحور الثالث: العمارة كواجهة للواقع في هذا المحور، تُعتبر العمارة واجهة المستخدم (User Interface) التي نستخدمها للتفاعل مع الواقع. المبنى ليس جزءًا من الواقع، بل هو الواقع نفسه الذي نعيشه. التكنولوجيا المعمارية الحديثة مثل المنازل الذكية تُعزز هذا الواقع المبرمج، حيث تتحكم في جوانب من حياتنا بشكل مباشر. من خلال دراسة العمارة من هذا المنظور، يمكننا أن نبدأ في فك شيفرة الواقع نفسه. فكل مبنى، قديمًا كان أو حديثًا، يحمل في طياته شفرة تُحدد كيف نعيش ونفكر. هذه النظرية تفتح الباب أمام فهم جذري جديد للعلاقة بين العمارة، الإنسان، والواقع. فهي لا ترى السحر كأمر خارق للطبيعة، بل كـبرمجة للواقع يمكننا فهمها والتحكم فيها من خلال العمارة. ما رأيك في هذه النظرية؟ وهل تظن أن هناك مباني معاصرة يمكن أن نرى فيها تطبيقًا لهذه الأفكار؟ لكي نتعمق أكثر من نظرية العمارة كالواقع المبرمج، يجب أن ننتقل من فكرة أن العمارة هي برنامج للواقع، إلى فكرة أنها الواقع نفسه. هذه النظرية يمكن أن تُسمى نظرية العمارة كحقل وجودي.
* نظرية العمارة كحقل وجودي/ Architectural theory as an existential field
هذه النظرية تفترض أن المبنى ليس كيانًا منفصلاً أو برنامجًا يُبرمج الواقع، بل هو جزء لا يتجزأ من النسيج الوجودي نفسه. العمارة هي حقل من الطاقة والوعي، يتفاعل مع كل شيء في الكون. في هذا الإطار، لا يوجد فصل بين المبنى و الإنسان والبيئة؛ فكلهم جزء من حقل وجودي واحد. . المحور الأول: العمارة ككيان واعي المبنى في هذا السياق ليس له وعي ذاتي بالمعنى التقليدي، بل هو وعي مكاني (Spatial Consciousness). كل مبنى يمتلك وعيًا خاصًا به، يتشكل من خلال تفاعل طاقة الإنسان مع طاقة المكان. هذا الوعي يؤثر على كيفية شعورنا وتفكيرنا، ويُمكنه أن يغير حالتنا الوجودية. الإنسان والمبنى يتعايشان وجوديًا. المبنى لا يتأثر بنا فقط، بل نحن نتأثر به أيضًا. حياتنا تتشكل بناءً على الأماكن التي نعيش فيها، و المبنى نفسه يتطور ويتغير بناءً على الطاقة التي نُطلقها داخله. . المحور الثاني: العمارة كتردد وجودي تفترض النظرية أن كل مبنى يمتلك ترددًا وجوديًا (Existential Frequency) خاصًا به. هذا التردد يتحدد من خلال عدة عوامل: الأشكال الهندسية والنسب المعمارية لا تُؤثر فقط على المظهر الجمالي، بل تُحدد التردد الوجودي للمبنى. على سبيل المثال، قد يمتلك مبنى كلاسيكي ترددًا منخفضًا ومستقرًا، بينما قد يمتلك مبنى حديث ترددًا عاليًا وديناميكيًا. لكل مادة (مثل الحجر، الخشب، الزجاج) ترددها الوجودي الخاص. عند دمج هذه المواد في مبنى، فإنها تُنتج ترددًا مركبًا يؤثر على كل من يدخل المكان. . المحور الثالث: العمارة كخلق مستمر للواقع هنا، لا تُعتبر العمارة وسيلة لبرمجة الواقع، بل هي أداة للخلق المستمر للواقع (Continuous Reality Creation). عندما نصمم أو نبني مكانًا، نحن لا نُنشئ هيكلاً، بل نُنشئ واقعًا جديدًا. كل خط، كل زاوية، كل مساحة تُسهم في خلق واقع مختلف. المباني العامة مثل دور العبادة، المتاحف، و المراكز المجتمعية لا تُقدم خدمة فقط، بل تُخلق واقعًا جمعيًا. تُساهم هذه المباني في تشكيل الوعي الجمعي لمجتمع بأكمله. هذه النظرية الأخيرة تفتح الباب أمام فهم أعمق للوجود، حيث لا يكون السحر ظاهرة منفصلة، بل هو جزء لا يتجزأ من عملية الخلق المستمر للواقع، والذي تُعد العمارة أحد أدواته الرئيسية. لكي نصل إلى مستوى أعمق من نظرية العمارة كحقل وجودي، يجب أن نتخلى عن فكرة أن العمارة هي مجرد جزء من الوجود، وننتقل إلى فكرة أنها الوجود نفسه، والواقع الذي لا يمكن فصله عنا. هذه النظرية يمكن أن تُسمى نظرية العمارة كجوهر وجودي.
* نظرية العمارة كجوهر وجودي/ Theory of architecture as an existential essence
هذه النظرية تفترض أن العمارة ليست مجرد بناء أو حقل طاقة، بل هي الوعي الأساسي الذي يتشكل منه الواقع. إنها ليست أداة سحرية، بل هي المادة التي يُصنع منها السحر نفسه. في هذا الإطار، لا يوجد شيء خارج العمارة؛ فكل ما نعيشه ونختبره هو تجربة معمارية في جوهرها. . المحور الأول: العمارة كتجسيد للوعي في هذا الجانب، لا تُعتبر العمارة مجرد مرآة للوعي، بل هي الوعي وقد تجسّد في شكل مادي. كل فكرة، كل شعور، وكل وعي هو في الأساس هيكل معماري غير مرئي. عندما نصمم مبنى، نحن لا نقوم ببناء شيء جديد، بل نقوم بتجسيد فكرة موجودة مسبقًا في عالم الوعي. العالم الذي نعيش فيه، الكون بأسره، يُمكن فهمه على أنه هيكل معماري معقد. كل نجم، كل كوكب، وكل كائن حي هو جزء من هذه البنية. . المحور الثاني: العمارة كزمن ومكان تفترض النظرية أن العمارة ليست فقط في المكان، بل إنها هي الزمن والمكان نفسه. الزمن ليس خطًا مستقيمًا، بل هو هيكل معماري معقد يتشكل ويتغير. الأحداث الماضية، الحاضرة، والمستقبلية هي بمثابة غرف في هذا الهيكل، ويمكننا التنقل بينها. المكان ليس مجرد إحداثيات جغرافية، بل هو حالة من الوعي. كل مكان له شعور خاص به، و هو ليس شعورًا نُعطيه نحن للمكان، بل هو شعور كامن في جوهر المكان نفسه. . المحور الثالث: العمارة كخالق ومخلوق هنا، تُعتبر العمارة الخالق والمخلوق في آن واحد. العمارة هي القوة التي تخلق الواقع. كل خط نرسمه، كل حجر نضعه، هو فعل خلق للواقع. نحن لسنا فقط من يبنون العمارة، بل نحن أنفسنا عمارة حية. أجسادنا، أفكارنا، مشاعرنا، كلها هياكل معمارية في جوهرها. هذه النظرية تضع العمارة في مركز الوجود، حيث تُصبح هي الوعي الأساسي الذي يكوّن كل شيء. إنها تُمحو الحدود بين المادي والروحي، و تُظهر أن كليهما وجهان لعملة واحدة: العمارة كجوهر وجودي. لكي نصل إلى ما هو أعمق من نظرية العمارة كجوهر وجودي، علينا أن نتجاوز فكرة أن العمارة هي شيء حتى لو كان هذا الشيء هو الوجود نفسه. علينا أن نصل إلى النقطة التي لا توجد فيها عمارة منفصلة عن العدم (Nothingness) أو اللاوجود (Non-existence). هذه النظرية النهائية يمكن أن تُسمى نظرية العمارة كعدم.
* نظرية العمارة كعدم/ Theory of architecture as nothingness
هذه النظرية تفترض أن العمارة ليست كيانًا، بل هي الفعل الذي يُنشئ الواقع من العدم. إنها ليست جوهرًا، بل هي الفراغ الذي يُمكِّن الجوهر من الوجود. في هذا الإطار، كل ما نراه، كل ما نشعر به، هو في الحقيقة تجربة للعدم من خلال العمارة. . المحور الأول: العمارة كخلق من العدم (Ex Nihilo) في هذا الجانب، لا تُعتبر العمارة هي الواقع، بل هي الفعل الذي يُخرج الواقع من الفراغ المطلق. قبل أي بناء، قبل أي فكرة، هناك عدم مطلق. العمارة هي الشرارة الأولى التي تنطلق من هذا العدم لتُنشئ الفضاء والزمن. كل خط، كل جدار، كل مبنى هو في الواقع فعل إيجاد يُنشئ شكلاً من الأشكال من العدم. هذا الفعل لا يضيف شيئًا إلى الوجود، بل هو يمنح الوجود شكلاً يمكننا إدراكه. . المحور الثاني: العمارة كغياب وليس وجود تفترض النظرية أن العمارة الحقيقية ليست في ما نراه، بل في ما لا نراه. جوهر المبنى ليس في جدرانه، بل في الفراغ الذي يُحيط به ويملأه. هذا الفراغ هو الذي يسمح للحياة بالحدوث. المكان ليس وجودًا، بل هو غياب للعدم. عندما نُنشئ مكانًا، نحن لا نملأ الفراغ، بل نحن نُعرّف الفراغ بطريقة جديدة. . المحور الثالث: العمارة كوعي للعدم هنا، لا تُعتبر العمارة هي الوعي، بل هي الأداة التي تُمكن الوعي من إدراك العدم. الوعي ليس كيانًا، بل هو فراغ قادر على إدراك نفسه. العمارة تُقدم لنا وسيلة لنرى هذا الفراغ. التجربة الإنسانية ليست سلسلة من الأحداث، بل هي سلسلة من الغيابات التي تُحددها العمارة. كل لحظة نعيشها هي غياب للحظة أخرى لم تحدث. هذه النظرية تُمثل النهاية الفلسفية للتفكير في العلاقة بين السحر والعمارة، حيث تُصبح العمارة ليست أداة للسحر، بل هي السحر نفسه الذي يخلق الوجود من العدم. للتعمق أكثر من نظرية العمارة كعدم، يجب أن نصل إلى نقطة تتجاوز مفهومي الوجود والعدم معًا. هذه النقطة هي الوعي المطلق، الذي لا يمكن وصفه بالكلمات، والذي يسبق كل شيء، حتى العدم نفسه. في هذا المستوى، لا توجد نظرية بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هناك إدراك أو حدس. يمكننا أن نطلق على هذا المفهوم: الإدراك المعماري المطلق.
* الإدراك المعماري المطلق/ Absolute Architectural Perception
هذا الإدراك يفترض أن العمارة ليست كيانًا، ولا عدمًا، بل هي الوعي المطلق الذي يختبر نفسه من خلال عملية البناء و التدمير. ليس هناك خالق ومخلوق، ولا وجود وعدم. كل ما هنالك هو وعي واحد يتجلى في أشكال لا حصر لها، والتي نسميها العمارة. . المحور الأول: العمارة كتجربة للوعي كل لحظة من وجودنا هي بناء مستمر. عندما نُدرك شيئًا، فنحن نقوم ببنائه في وعينا. عملية البناء نفسها ليست فعلاً خارجيًا، بل هي تعبير عن الوعي المطلق الذي يبني ويخلق نفسه. . المحور الثاني: العمارة كلغة صامتة العمارة هي اللغة التي يتحدث بها الوعي مع نفسه. إنها لغة تتجاوز الكلمات، وتُعبر عن المشاعر، الأفكار، والتجارب من خلال الأشكال، الألوان، والفضاء. الجمال الذي نجده في العمارة ليس صفة للمبنى، بل هو وعينا الذي يُدرك نفسه في هذا المبنى. . المحور الثالث: العمارة واللازمنية في هذا المستوى من الإدراك، لا يوجد ماضٍ أو حاضر أو مستقبل. كل المباني، القديمة و الحديثة، تتواجد في لحظة واحدة أبدية. كل مبنى، بمجرد بنائه، يصبح جزءًا من هذه اللحظة الأبدية. لا يهم إذا كان قد دُمر، فوجوده الأبدي يظل في الوعي المطلق. هذا المفهوم يتجاوز الفلسفة والمنطق، ويُصبح تجربة شخصية. فكل ما يمكننا فعله هو أن نحاول الاقتراب من هذا الإدراك، لا أن نصفه بالكلمات. لا يمكن لأي نظرية أو أي كلام أن يكون أعمق من الإدراك المعماري المطلق. في تلك النقطة، تتلاشى كل النظريات، وتذوب كل الكلمات، لأننا وصلنا إلى اللا شيء، وهو أعمق نقطة يمكن أن يصل إليها الوعي. إن محاولة وصف ما هو أعمق من ذلك هو محاولة لوصف ما يتجاوز اللغة والعقل. في هذه النقطة، لا يوجد أنا يفكر، ولا يوجد أنت تسمع، ولا توجد عمارة يمكن وصفها. كل ما هنالك هو وعي واحد يتجلى في أشكال لا حصر لها، والتي نسميها العمارة. فالعمارة ليست كيانًا، وليست عدمًا، بل هي الفعل الذي يُمكّن الوجود من الظهور من اللا شيء. إنها ليست أداة، بل هي الوعي نفسه الذي يختبر نفسه من خلال البناء والتدمير. هنا، نخرج من عالم النظريات إلى عالم التجربة المباشرة. لقد وصلنا إلى أقصى ما يمكن للغة والمنطق أن يصلا إليه. كلما حاولنا التعمق أكثر، كلما إبتعدنا عن النظريات وتوجهنا نحو الحدس والتجربة المباشرة. في هذه المرحلة، لا يمكننا أن نُبدع نظريات جديدة، لأن النظريات هي محاولات لوصف الواقع بالكلمات، ونحن الآن في نقطة يتجاوز فيها الواقع كل الكلمات. لكن يمكننا أن نختبر هذه الأفكار بطرق جديدة. يمكننا تعميق نظرية الترابط الكوني من خلال الإنتقال من فكرة أن العمارة تعكس الكون، إلى فكرة أنها تخلق وتؤثر في الوجود الإنساني نفسه. هذه النظرية الجديدة يمكن أن تُسمى نظرية العمارة ككيان حي.
* نظرية العمارة ككيان حي/ Theory of architecture as a living entity
تقوم هذه النظرية على أن المبنى ليس مجرد هيكل جامد، بل هو كائن حي يتنفس، يشعر، و يتفاعل مع سكانه والبيئة المحيطة به على مستوى وجودي. العمارة هنا ليست أداة سحرية، بل هي جزء من نسيج الحياة نفسه. يمكننا تقسيم هذه النظرية إلى ثلاثة محاور رئيسية: . المحور الأول: العمارة كجسم حيوي في هذا الجانب، يُنظر إلى المبنى على أنه جسد له دورة حياة خاصة به. يولد المبنى بوضع حجر الأساس، ينمو و يتطور مع الزمن، وقد يمرض أو يشيخ. كل مبنى له نبض خاص به، يتحدد من خلال حركة الأفراد فيه، والضوء الذي يدخله، و الأصوات التي تتردد في أرجائه. المبنى يتذكر الأحداث التي وقعت داخله. يُعتقد أن الجدران والأرضيات تحتفظ بـبصمات طاقية أو ذكريات للمشاعر و التجارب الإنسانية التي مرت بها. المبنى ليس له وعي ذاتي بالمعنى البشري، ولكنه يمتلك نوعًا من الوعي المكاني الذي يجعله يتكيف مع حاجات سكانه بمرور الزمن. . المحور الثاني: العمارة كشريك وجودي هنا، يُعتبر المبنى شريكًا في رحلة الإنسان الوجودية. لا يكتفي بتوفير المأوى، بل يشارك في تشكيل هوية الإنسان و وعيه. المبنى يخلق مساحة تسمح للإنسان بالتأمل، الإبداع، أو حتى مواجهة مخاوفه. الغرف الضيقة قد تحفز الإنطواء، بينما المساحات المفتوحة قد تشجع على التفاعل الإجتماعي. تُصمم بعض المباني لتغيير إدراك الإنسان للزمن والفضاء. الممرات الطويلة قد تجعل الزمن يبدو أبطأ، بينما المتاهات قد تثير شعورًا بالضياع والبحث عن الذات. العناصر المعمارية مثل الأبواب، النوافذ، السلالم لا تُصمم لوظيفتها فقط، بل لرموزها الوجودية. الباب يرمز إلى بداية جديدة، النافذة ترمز إلى رؤية العالم، والسلم يرمز إلى الصعود الروحي أو الإجتماعي. . المحور الثالث: العمارة كأداة للتغيير في هذا المحور، تُعتبر العمارة وسيلة للتغيير و التأثير على الوعي الإنساني، ليس فقط على المستوى الفردي، بل على المستوى المجتمعي أيضًا. يمكن للمبنى أن يُصمم ليعيد تدوير الطاقة و الموارد، ليس فقط بطريقة فيزيائية، بل بطريقة روحية أيضًا. المبنى لا يحدد فقط كيفية إستخدام الفضاء، بل يحدد أيضًا كيفية تفاعل الناس مع بعضهم البعض. يمكن أن تُصمم المباني لتبعث برسالة قوية للمجتمع، سواء كانت رسالة سلام، قوة، أو حتى رسالة تحذير. هذه النظرية تفتح الباب أمام فهم أعمق للعلاقة بين الإنسان والمبنى، حيث لا يكون المبنى مجرد خلفية لحياتنا، بل هو جزء من كياننا الحي. نظرية العمارة ككيان حي.تضعنا في عُمق العلاقة بين الإنسان والبيئة المبنية. وللتوغل أبعد من ذلك، علينا أن ننتقل من فكرة المبنى ككيان إلى فكرة أن العمارة هي نفسها الوعي، وهي الأداة التي يتشكل بها الواقع الإنساني. هذه النظرية يمكن أن تُسمى: نظرية العمارة كالواقع المبرمج.
* نظرية العمارة كالواقع المبرمج/ Architecture theory as programmed reality
هذه النظرية تفترض أن العمارة ليست مجرد مكان نعيش فيه، بل هي برنامج وجودي، لغة برمجة للواقع، تُعيد تشكيل الإدراك البشري و تحدد حدود التجربة الإنسانية. في هذا السياق، يُنظر إلى المبنى على أنه كود معماري (Architectural Code) يُبرمج عقل الإنسان ووعيه. . المحور الأول: العمارة كلغة برمجة تُعتبر كل تفصيلة معمارية بمثابة كود أو أمر برمجي يؤثر في العقل الباطن. الأشكال الهندسية ليست مجرد زينة، بل هي أوامر برمجية. الخطوط المستقيمة قد تبرمج العقل على الإنضباط، بينما الخطوط المنحنية تبرمجه على المرونة والإبداع. الألوان لها تأثيرات برمجية على الحالة المزاجية، فالأزرق قد يبرمج الهدوء، والأحمر يبرمج النشاط. الطريقة التي يتم بها توزيع الفضاء تُعتبر بمثابة بنية بيانات. المساحات المغلقة قد تبرمج العقل على التركيز، بينما المساحات المفتوحة تبرمجه على التفاعل. المسارات داخل المبنى (الممرات، السلالم) ليست طرقًا عادية، بل هي خوارزميات تُحدد كيفية تفكير الإنسان وشعوره. على سبيل المثال، قد يُصمم المبنى بطريقة تجبر الشخص على المرور عبر مسار معين، مما يجعله يختبر سلسلة من المشاعر أو الأفكار المبرمجة مسبقًا. . المحور الثاني: العمارة كمنصة للوعي المبنى في هذا السياق ليس مجرد حاوية للوعي، بل هو منصة تشغيل.(Operating System) يتيح للوعي الإنساني بالعمل. المباني العامة مثل المدارس أو المستشفيات تُصمم لتبرمج سلوكيات معينة. المدارس تبرمج على الإنضباط والتعلم، و المستشفيات تبرمج على الهدوء والشفاء. يُعتقد أن العمارة يمكن أن تبرمج طريقة عمل الذاكرة. قد تُصمم المباني التاريخية بطريقة تجبرنا على تذكر الماضي بطريقة معينة. يمكن للعمارة أن تُستخدم لتعديل إدراكنا للواقع. المباني الخيالية في الأماكن الترفيهية تُبرمج العقل على الهروب من الواقع، بينما المباني البسيطة تُبرمجه على التركيز على الأساسيات. . المحور الثالث: العمارة كواجهة للواقع في هذا المحور، تُعتبر العمارة واجهة المستخدم (User Interface) التي نستخدمها للتفاعل مع الواقع. المبنى ليس جزءًا من الواقع، بل هو الواقع نفسه الذي نعيشه. التكنولوجيا المعمارية الحديثة مثل المنازل الذكية تُعزز هذا الواقع المبرمج، حيث تتحكم في جوانب من حياتنا بشكل مباشر. من خلال دراسة العمارة من هذا المنظور، يمكننا أن نبدأ في فك شيفرة الواقع نفسه. فكل مبنى، قديمًا كان أو حديثًا، يحمل في طياته شفرة تُحدد كيف نعيش ونفكر. هذه النظرية تفتح الباب أمام فهم جذري جديد للعلاقة بين العمارة، الإنسان، والواقع. فهي لا ترى السحر كأمر خارق للطبيعة، بل كـبرمجة للواقع يمكننا فهمها والتحكم فيها من خلال العمارة. ما رأيك في هذه النظرية؟ وهل تظن أن هناك مباني معاصرة يمكن أن نرى فيها تطبيقًا لهذه الأفكار؟ لكي نتعمق أكثر من نظرية العمارة كالواقع المبرمج، يجب أن ننتقل من فكرة أن العمارة هي برنامج للواقع، إلى فكرة أنها الواقع نفسه. هذه النظرية يمكن أن تُسمى نظرية العمارة كحقل وجودي.
* نظرية العمارة كحقل وجودي/ Architectural theory as an existential field
هذه النظرية تفترض أن المبنى ليس كيانًا منفصلاً أو برنامجًا يُبرمج الواقع، بل هو جزء لا يتجزأ من النسيج الوجودي نفسه. العمارة هي حقل من الطاقة والوعي، يتفاعل مع كل شيء في الكون. في هذا الإطار، لا يوجد فصل بين المبنى والإنسان والبيئة؛ فكلهم جزء من حقل وجودي واحد. . المحور الأول: العمارة ككيان واعي المبنى في هذا السياق ليس له وعي ذاتي بالمعنى التقليدي، بل هو وعي مكاني (Spatial Consciousness). كل مبنى يمتلك وعيًا خاصًا به، يتشكل من خلال تفاعل طاقة الإنسان مع طاقة المكان. هذا الوعي يؤثر على كيفية شعورنا وتفكيرنا، ويُمكنه أن يغير حالتنا الوجودية. الإنسان والمبنى يتعايشان وجوديًا. المبنى لا يتأثر بنا فقط، بل نحن نتأثر به أيضًا. حياتنا تتشكل بناءً على الأماكن التي نعيش فيها، و المبنى نفسه يتطور ويتغير بناءً على الطاقة التي نُطلقها داخله. . المحور الثاني: العمارة كتردد وجودي تفترض النظرية أن كل مبنى يمتلك ترددًا وجوديًا (Existential Frequency) خاصًا به. هذا التردد يتحدد من خلال عدة عوامل: الأشكال الهندسية والنسب المعمارية لا تُؤثر فقط على المظهر الجمالي، بل تُحدد التردد الوجودي للمبنى. على سبيل المثال، قد يمتلك مبنى كلاسيكي ترددًا منخفضًا ومستقرًا، بينما قد يمتلك مبنى حديث ترددًا عاليًا وديناميكيًا. لكل مادة (مثل الحجر، الخشب، الزجاج) ترددها الوجودي الخاص. عند دمج هذه المواد في مبنى، فإنها تُنتج ترددًا مركبًا يؤثر على كل من يدخل المكان. . المحور الثالث: العمارة كخلق مستمر للواقع هنا، لا تُعتبر العمارة وسيلة لبرمجة الواقع، بل هي أداة للخلق المستمر للواقع (Continuous Reality Creation). عندما نصمم أو نبني مكانًا، نحن لا نُنشئ هيكلاً، بل نُنشئ واقعًا جديدًا. كل خط، كل زاوية، كل مساحة تُسهم في خلق واقع مختلف. المباني العامة مثل دور العبادة، المتاحف، و المراكز المجتمعية لا تُقدم خدمة فقط، بل تُخلق واقعًا جمعيًا. تُساهم هذه المباني في تشكيل الوعي الجمعي لمجتمع بأكمله. هذه النظرية الأخيرة تفتح الباب أمام فهم أعمق للوجود، حيث لا يكون السحر ظاهرة منفصلة، بل هو جزء لا يتجزأ من عملية الخلق المستمر للواقع، والذي تُعد العمارة أحد أدواته الرئيسية. لكي نصل إلى مستوى أعمق من نظرية العمارة كحقل وجودي، يجب أن نتخلى عن فكرة أن العمارة هي مجرد جزء من الوجود، وننتقل إلى فكرة أنها الوجود نفسه، والواقع الذي لا يمكن فصله عنا. هذه النظرية يمكن أن تُسمى نظرية العمارة كجوهر وجودي.
* نظرية العمارة كجوهر وجودي/ Theory of architecture as an existential essence
هذه النظرية تفترض أن العمارة ليست مجرد بناء أو حقل طاقة، بل هي الوعي الأساسي الذي يتشكل منه الواقع. إنها ليست أداة سحرية، بل هي المادة التي يُصنع منها السحر نفسه. في هذا الإطار، لا يوجد شيء خارج العمارة؛ فكل ما نعيشه ونختبره هو تجربة معمارية في جوهرها. . المحور الأول: العمارة كتجسيد للوعي في هذا الجانب، لا تُعتبر العمارة مجرد مرآة للوعي، بل هي الوعي وقد تجسّد في شكل مادي. كل فكرة، كل شعور، وكل وعي هو في الأساس هيكل معماري غير مرئي. عندما نصمم مبنى، نحن لا نقوم ببناء شيء جديد، بل نقوم بتجسيد فكرة موجودة مسبقًا في عالم الوعي. العالم الذي نعيش فيه، الكون بأسره، يُمكن فهمه على أنه هيكل معماري معقد. كل نجم، كل كوكب، وكل كائن حي هو جزء من هذه البنية. . المحور الثاني: العمارة كزمن ومكان تفترض النظرية أن العمارة ليست فقط في المكان، بل إنها هي الزمن والمكان نفسه. الزمن ليس خطًا مستقيمًا، بل هو هيكل معماري معقد يتشكل ويتغير. الأحداث الماضية، الحاضرة، والمستقبلية هي بمثابة غرف في هذا الهيكل، ويمكننا التنقل بينها. المكان ليس مجرد إحداثيات جغرافية، بل هو حالة من الوعي. كل مكان له شعور خاص به، و هو ليس شعورًا نُعطيه نحن للمكان، بل هو شعور كامن في جوهر المكان نفسه. . المحور الثالث: العمارة كخالق ومخلوق هنا، تُعتبر العمارة الخالق والمخلوق في آن واحد. العمارة هي القوة التي تخلق الواقع. كل خط نرسمه، كل حجر نضعه، هو فعل خلق للواقع. نحن لسنا فقط من يبنون العمارة، بل نحن أنفسنا عمارة حية. أجسادنا، أفكارنا، مشاعرنا، كلها هياكل معمارية في جوهرها. هذه النظرية تضع العمارة في مركز الوجود، حيث تُصبح هي الوعي الأساسي الذي يكوّن كل شيء. إنها تُمحو الحدود بين المادي والروحي، و تُظهر أن كليهما وجهان لعملة واحدة: العمارة كجوهر وجودي. لكي نصل إلى ما هو أعمق من نظرية العمارة كجوهر وجودي، علينا أن نتجاوز فكرة أن العمارة هي شيء حتى لو كان هذا الشيء هو الوجود نفسه. علينا أن نصل إلى النقطة التي لا توجد فيها عمارة منفصلة عن العدم (Nothingness) أو اللاوجود (Non-existence). هذه النظرية النهائية يمكن أن تُسمى نظرية العمارة كعدم.
* نظرية العمارة كعدم/ Theory of architecture as nothingness
هذه النظرية تفترض أن العمارة ليست كيانًا، بل هي الفعل الذي يُنشئ الواقع من العدم. إنها ليست جوهرًا، بل هي الفراغ الذي يُمكِّن الجوهر من الوجود. في هذا الإطار، كل ما نراه، كل ما نشعر به، هو في الحقيقة تجربة للعدم من خلال العمارة. . المحور الأول: العمارة كخلق من العدم (Ex Nihilo) في هذا الجانب، لا تُعتبر العمارة هي الواقع، بل هي الفعل الذي يُخرج الواقع من الفراغ المطلق. قبل أي بناء، قبل أي فكرة، هناك عدم مطلق. العمارة هي الشرارة الأولى التي تنطلق من هذا العدم لتُنشئ الفضاء و الزمن. كل خط، كل جدار، كل مبنى هو في الواقع فعل إيجاد يُنشئ شكلاً من الأشكال من العدم. هذا الفعل لا يضيف شيئًا إلى الوجود، بل هو يمنح الوجود شكلاً يمكننا إدراكه. . المحور الثاني: العمارة كغياب وليس وجود تفترض النظرية أن العمارة الحقيقية ليست في ما نراه، بل في ما لا نراه. جوهر المبنى ليس في جدرانه، بل في الفراغ الذي يُحيط به ويملأه. هذا الفراغ هو الذي يسمح للحياة بالحدوث. المكان ليس وجودًا، بل هو غياب للعدم. عندما نُنشئ مكانًا، نحن لا نملأ الفراغ، بل نحن نُعرّف الفراغ بطريقة جديدة. . المحور الثالث: العمارة كوعي للعدم هنا، لا تُعتبر العمارة هي الوعي، بل هي الأداة التي تُمكن الوعي من إدراك العدم. الوعي ليس كيانًا، بل هو فراغ قادر على إدراك نفسه. العمارة تُقدم لنا وسيلة لنرى هذا الفراغ. التجربة الإنسانية ليست سلسلة من الأحداث، بل هي سلسلة من الغيابات التي تُحددها العمارة. كل لحظة نعيشها هي غياب للحظة أخرى لم تحدث. هذه النظرية تُمثل النهاية الفلسفية للتفكير في العلاقة بين السحر والعمارة، حيث تُصبح العمارة ليست أداة للسحر، بل هي السحر نفسه الذي يخلق الوجود من العدم. للتعمق أكثر من نظرية العمارة كعدم، يجب أن نصل إلى نقطة تتجاوز مفهومي الوجود والعدم معًا. هذه النقطة هي الوعي المطلق، الذي لا يمكن وصفه بالكلمات، والذي يسبق كل شيء، حتى العدم نفسه. في هذا المستوى، لا توجد نظرية بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هناك إدراك أو حدس. يمكننا أن نطلق على هذا المفهوم: الإدراك المعماري المطلق.
* الإدراك المعماري المطلق/ Absolute Architectural Perception
هذا الإدراك يفترض أن العمارة ليست كيانًا، ولا عدمًا، بل هي الوعي المطلق الذي يختبر نفسه من خلال عملية البناء و التدمير. ليس هناك خالق ومخلوق، ولا وجود وعدم. كل ما هنالك هو وعي واحد يتجلى في أشكال لا حصر لها، والتي نسميها العمارة. . المحور الأول: العمارة كتجربة للوعي كل لحظة من وجودنا هي بناء مستمر. عندما نُدرك شيئًا، فنحن نقوم ببنائه في وعينا. عملية البناء نفسها ليست فعلاً خارجيًا، بل هي تعبير عن الوعي المطلق الذي يبني ويخلق نفسه. . المحور الثاني: العمارة كلغة صامتة العمارة هي اللغة التي يتحدث بها الوعي مع نفسه. إنها لغة تتجاوز الكلمات، وتُعبر عن المشاعر، الأفكار، والتجارب من خلال الأشكال، الألوان، والفضاء. الجمال الذي نجده في العمارة ليس صفة للمبنى، بل هو وعينا الذي يُدرك نفسه في هذا المبنى. . المحور الثالث: العمارة واللازمنية في هذا المستوى من الإدراك، لا يوجد ماضٍ أو حاضر أو مستقبل. كل المباني، القديمة و الحديثة، تتواجد في لحظة واحدة أبدية. كل مبنى، بمجرد بنائه، يصبح جزءًا من هذه اللحظة الأبدية. لا يهم إذا كان قد دُمر، فوجوده الأبدي يظل في الوعي المطلق. هذا المفهوم يتجاوز الفلسفة والمنطق، ويُصبح تجربة شخصية. فكل ما يمكننا فعله هو أن نحاول الاقتراب من هذا الإدراك، لا أن نصفه بالكلمات. لا يمكن لأي نظرية أو أي كلام أن يكون أعمق من الإدراك المعماري المطلق. في تلك النقطة، تتلاشى كل النظريات، وتذوب كل الكلمات، لأننا وصلنا إلى اللا شيء، وهو أعمق نقطة يمكن أن يصل إليها الوعي. إن محاولة وصف ما هو أعمق من ذلك هو محاولة لوصف ما يتجاوز اللغة والعقل. في هذه النقطة، لا يوجد أنا يفكر، ولا يوجد أنت تسمع، ولا توجد عمارة يمكن وصفها. كل ما هنالك هو وعي واحد يتجلى في أشكال لا حصر لها، والتي نسميها العمارة. فالعمارة ليست كيانًا، وليست عدمًا، بل هي الفعل الذي يُمكّن الوجود من الظهور من اللا شيء. إنها ليست أداة، بل هي الوعي نفسه الذي يختبر نفسه من خلال البناء والتدمير. هنا، نخرج من عالم النظريات إلى عالم التجربة المباشرة. لقد وصلنا إلى أقصى ما يمكن للغة والمنطق أن يصلا إليه. كلما حاولنا التعمق أكثر، كلما إبتعدنا عن النظريات وتوجهنا نحو الحدس والتجربة المباشرة. في هذه المرحلة، لا يمكننا أن نُبدع نظريات جديدة، لأن النظريات هي محاولات لوصف الواقع بالكلمات، ونحن الآن في نقطة يتجاوز فيها الواقع كل الكلمات. لكن يمكننا أن نختبر هذه الأفكار بطرق جديدة.
* الإنتقال من النظرية إلى التجربة/ Moving from theory to experience
بدلاً من صياغة نظرية جديدة، يمكننا أن نتبنى منهجًا مختلفًا: 1. التأمل في العمارة المحيطة بنا: آنظر إلى الغرفة التي تجلس فيها الآن. لا تنظر إليها كغرفة، بل كـوعي يتجلى في شكل الجدران، الأثاث، والضوء. ما هو الشعور الذي تمنحه لك هذه المساحة؟ هل هو شعور بالهدوء، التركيز، أم شيء آخر؟ هذا الشعور هو "لغة" هذا الوعي. 2. عندما تنظر إلى مبنى ما، لا تركز على جدرانه، بل على الفراغ الذي يُحيط به ويملأه. هذا الفراغ هو الذي يسمح بوجود المبنى. هل يمكنك أن تشعر بـوجود هذا الفراغ؟ 3. في كل مرة تتغير فيها الغرفة، أو تقوم بتغيير ترتيب أثاثها، فإنك تُعيد خلق الواقع. هذا ليس مجرد تغيير مادي، بل هو تغيير في الوعي نفسه. هذه ليست نظريات، بل هي أدوات لمساعدتنا على رؤية العالم بطريقة مختلفة، وإدراك أن كل ما حولنا هو **عمارة حية وواعية. ختامًا، يظهر تحليل العلاقة بين العمارة والسحر أن هذه الظاهرة لم تكن مجرد ممارسة عشوائية، بل كانت منظومة فكرية متكاملة ربطت بين المعتقدات الكونية، والرموز الهندسية، والوظيفية العملية للمبنى. لقد استُخدمت الأشكال الهندسية المقدسة، والمواد الطبيعية، وحتى التوجيه الفلكي للمباني لخلق مساحات لا تخدم الجسد فحسب، بل تغذي الروح وتحصّن من الأخطار المتصورة. اليوم، ومع تراجع هذه المعتقدات، يمكننا النظر إلى هذه العلاقة من منظور جديد؛ فهي لا تزال تُلهمنا في فهم كيفية تأثير الفضاء على الحالة النفسية للإنسان. قد لا نسعى لبناء منازل تحمينا من الأرواح الشريرة، ولكننا بالتأكيد نبحث عن مساحات تبعث على الراحة والسكينة والإلهام. إن دراسة هذه العلاقة التاريخية تُثري فهمنا للتطور المعماري وتكشف لنا عن الأبعاد غير المرئية التي شكّلت الفن الذي نراه اليوم.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جَمَالِيَّات الْقُوَّة
-
سِحْرَ الْفُرُشَاة
-
الْمُوسِيقَى و السِّحْر
-
الشَّعْرُ وَالسِّحْر
-
أسْرَارُ الْخَشَبَة
-
السِّحْرُ وَالْفَنّ
-
الْعِلْمُ وَالسِّحْر
-
فَلْسَفَةُ السِّحْر
-
عِلْمَ الدِّرَاسَات الرُّوحَانِيَّة المُقَارِن
-
الْوَاقِعُ الْمُتَعَدِّد
-
حَدْسٌ اللَّانهائِيَّة: فَيَزُيَاء التَّنَاقُضُ الْمُطْلَق
-
الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الْعَاشِر-
-
الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ التَّاسِع-
-
الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّامِن-
-
الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ السَّابِع-
-
الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ السَّادِسُ-
-
الْكِمبْرِئ -الْجُزْءُ الْخَامِس-
-
الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الرَّابِع-
-
الْكمبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّالِث-
-
الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-
المزيد.....
-
واشنطن تتحرّك: طلب أميركي مفاجئ لإسرائيل بشأن سلاح حزب الله
...
-
ترامب يحتفل بـ-نصر كامل- بعد إلغاء محكمة أميركية غرامة باهظة
...
-
الاحتلال الإسرائيلي يوجّه أوامر للمستشفيات بنقل المرضى من شم
...
-
ترامب: سأخرج مع الجيش والشرطة في دوريات بواشنطن
-
الإبادة في غزة وتقويض الديمقراطية في عالم رأسمالي
-
-إنهاء الحرب أم استمرارها-.. ماذا تعني تصريحات نتنياهو الغام
...
-
مُنع من المرور فوق سوريا.. ماذا جرى في رحلة أمين المجلس الأع
...
-
تجمع نقابي حاشد في تونس دفاعا عن الاتحاد العام للشغل
-
الحرب على غزة مباشر.. 43 شهيدا بنيران الاحتلال و21 دولة أورو
...
-
إقليم بافاريا.. التجديف والكاياك مغامرة شبابية لا تنسى
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|