أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الشَّعْرُ وَالسِّحْر















المزيد.....


الشَّعْرُ وَالسِّحْر


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 18:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الشعر والسحر: كيف نسجت الكلمات تعويذات الأجداد؟

لطالما كان الشعر والسحر وجهين لعملة واحدة في عقول الشعوب القديمة، فكلاهما يمتلك قدرة غامضة على تغيير الواقع والتأثير في النفوس. لم يكن الشاعر مجرد ناظم للكلمات، بل كان يُنظر إليه كساحر أو كاهن يستمد قوته من عالم خفي، يستخدم إيقاعاته وقوافيه ليُشعل الحرب أو يُنهي الخصومة، ويُحيي الأمل أو يزرع اليأس.
إن العلاقة بين هذين المفهومين ليست مجرد صدفة، بل هي إنعكاس لإيمان عميق بأن الكلمات ليست مجرد أدوات للتعبير، وإنما هي قوى فعلية يمكنها أن تُشكّل المصائر. فكيف تطورت هذه العلاقة عبر العصور، وما هي أوجه التشابه التي جعلت من الشاعر ساحرًا في نظر القدماء؟
هذه العلاقة التاريخية والفكرية العميقة بين السحر والشعر، وقد تناولها النقاد والشعراء منذ القدم. يمكن تلخيص هذه العلاقة في عدة نقاط رئيسية.

* تأثير الكلمة وسلطتها/ The impact and power of the word

في المجتمعات القديمة، كان لكل من الساحر و الشاعر سلطة كبيرة على الكلمة. كان يُنظر إلى الكلمات على أنها قوة قادرة على تغيير الواقع، سواء كان ذلك بـالتعويذات والرقائق السحرية التي يعتقد أنها تجلب الخير أو الشر، أو بـالقصائد التي ترفع شأن القبيلة أو تهدم سمعة الأعداء.
كان الشاعر يُعتبر صوت القبيلة ونبيها، وكلماته قادرة على التأثير في النفوس بشكل عميق. فمدحه يرفع المعنويات ويخلد الأمجاد، وهجاؤه يمكن أن يلحق ضررًا نفسيًا ومعنويًا بالخصوم، لدرجة أن بعض القبائل كانت تخشى هجاء الشعراء أكثر من المعارك.
كان يُعتقد أن الشاعر يستمد إلهامه من شياطين الشعر أو الجن، مثل شيطان الشعر الذي كان العرب ينسبون إليه عبقرية الشاعر، وهذا يربط دوره بشكل مباشر بالعالم الغيبي، تمامًا مثلما يفعل الكاهن أو الساحر.
وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعض البيان بأنه سحر، في إشارة إلى قدرة الكلام الجميل والمؤثر على إستمالة القلوب، وتغيير الآراء، وجعل المستمع يميل إلى شيء لم يكن يميل إليه من قبل. هذا السحر ليس سحرًا بالمعنى الحقيقي، ولكنه قوة بلاغية تكمن في الخيال والإبداع. الشعر ينسج عوالم خيالية و يستخدم صورًا غير مألوفة، مما يجعله قادرًا على التأثير في المتلقي بطريقة فريدة. الإيقاع و الموسيقى في الشعر لهما تأثير وجداني عميق، يشبه تأثير الأغاني أو الترانيم في الطقوس السحرية.
ما زالت العلاقة بين الشعر والسحر قائمة، ولكن بمفهوم مختلف. فاليوم، لا يُنظر إلى الشاعر على أنه كاهن أو ساحر بالمعنى الحرفي، بل يُعتبر سيد الكلمة الذي يمتلك القدرة على تغيير المفاهيم، يمكن للقصيدة أن تغير طريقة تفكير القارئ في قضية ما، كما يمتلك القدرة على إثارة المشاعر، الشعر يثير مشاعر قوية مثل الحب، الحزن، أو الحنين، بطريقة قد لا تستطيعها أي وسيلة تعبير أخرى.
إن العلاقة بين السحر والشعر هي علاقة متجذرة في التاريخ البشري، حيث إشتركا في قوة الكلمة وتأثيرها على النفس، وإن كانت تختلف في طبيعة هذا التأثير. فبينما كان السحر يستخدم الكلمة للسيطرة على القوى الغيبية، إستخدم الشاعر الكلمة للسيطرة على عواطف الناس و أفكارهم.
هناك العديد من النظريات التي تفسر العلاقة بين الشعر والسحر، ولكن يمكن صياغة نظرية شاملة تركز على قوة الكلمة وتأثيرها على الواقع و الوعي الإنساني. هذه النظرية تقوم على ثلاثة محاور رئيسية:
* المحور الأول: الكلمة كقوة إبداعية/ The word as a creative force
تعتبر هذه النظرية أن الكلمة ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي قوة فاعلة قادرة على خلق الواقع أو تغييره. في المجتمعات القديمة، كان لكل من الساحر والشاعر إيمان عميق بهذه القوة.
الساحر يستخدم الكلمة (التعويذة) للتأثير في القوى الغيبية، وجلب الخير مثل شفاء المرضى أو الشر مثل إلحاق الضرر بالعدو. كلماته موجهة إلى عالم ما وراء الطبيعة.
الشاعر يستخدم الكلمة (القصيدة) للتأثير في الواقع الإجتماعي والنفسي. فمدحه يمكن أن يرفع من شأن شخص، وهجاؤه يمكن أن يدمر سمعته. كلماته موجهة إلى وعي الإنسان و مشاعره.
بمعنى آخر، كلاهما يؤمن بأن نطق الكلمة يمنحها وجودًا، سواء كان هذا الوجود في عالم الأرواح أو في عالم الأفكار والمشاعر.
* المحور الثاني: الإيقاع والجاذبية/ Rhythm and gravity
تفسر هذه النظرية أن قوة الشعر والسحر لا تكمن فقط في معنى الكلمات، بل في الإيقاع و الموسيقى التي تحملها.
الكثير من التعويذات السحرية تعتمد على الإيقاع والتكرار (الترانيم) لإدخال الساحر والمتلقي في حالة ذهنية خاصة، تسهل عملية التأثير الروحي.
الشعر يعتمد بشكل أساسي على الوزن والقافية و الإيقاع. هذه العناصر تخلق موسيقى داخلية تجذب المستمع وتجعله أكثر تقبلاً للمعاني و الأفكار التي يقدمها الشاعر. هذا التأثير الإيقاعي أشبه بـتنويم مغناطيسي للوعي، يجعل المتلقي يندمج مع النص بشكل عميق.
* المحور الثالث: الرؤيا والإلهام/ Vision and inspiration
تؤكد هذه النظرية أن الساحر والشاعر يعتبران وسيطين بين عالمين. كلاهما يدعي أنه يتلقى معرفة أو إلهامًا من مصدر خارجي.
الساحر يزعم أنه يتلقى أوامره أو معرفته من قوى غيبية أو أرواح.
الشاعر يؤمن بأنه يتلقى إلهامه من شياطين الشعر أو الجن، أو من مصدر علوي.
في هذا السياق، كلاهما لا يعتبر نفسه مجرد مبتكر، بل مترجم أو قناة يمر عبرها الإلهام أو القوة. هذا التشابه في مفهوم الإلهام يربط دوريهما ببعضهما البعض، ويجعل من الشاعر كاهنًا أو ساحرًا في عيون المجتمع.
يمكن القول إن الشعر هو سحر إجتماعي ونفسي يهدف إلى تغيير الواقع الإنساني من خلال الكلمة والإيقاع والإلهام، بينما السحر هو محاولة لتغيير الواقع المادي بإستخدام نفس الأدوات الموجهة إلى قوى غير مرئية. هذه النظرية تفترض أن الشعر والسحر هما وجهان لعملة واحدة: قوة الكلمة الفاعلة.
تتداخل علاقة الشعر بالسحر بشكل أعمق مما هو ظاهر، ويمكن فهمها من خلال نظرية تقوم على وظيفة اللغة في تشكيل الوعي والواقع. هذه النظرية لا تنظر إلى الشاعر أو الساحر كشخصين منفصلين، بل كـشخصية نموذجية واحدة تعمل على إستغلال الإمكانات الكاملة للغة.

* نظرية الشاعر الساحر/ The Magician Poet Theory

تفترض هذه النظرية أن كلاً من الشعر والسحر يهدفان إلى تحقيق هدف واحد، تغيير الواقع من خلال تغيير الوعي. يتم ذلك عن طريق إستغلال اللغة في مستوياتها الأعمق:
السحر يستخدم اللغة كـرمز للوصول إلى الأشياء. على سبيل المثال، قد لا يكون إسم شخص مجرد كلمة، بل هو رمز يمثل جوهر الشخص. إستخدام الإسم في تعويذة ما هو محاولة للتأثير على جوهر الشخص نفسه. الكلمات ليست مجرد إشارات، بل هي مفاتيح تفتح أبوابًا لعوالم غير مرئية.
الشعر يستخدم اللغة كـرمز للوصول إلى المشاعر والأفكار. عندما يقول الشاعر قلبي حجر، فهو لا يقصد أن قلبه مصنوع من الحجر، بل يستخدم الحجر كرمز للقسوة أو الجمود. هذه الرمزية تسمح للشاعر بتجاوز المعنى الحرفي للكلمات، و خلق تجارب نفسية معقدة في ذهن القارئ.
السحر يعتمد على صوت الكلمات وإيقاعها و تكرارها (الترانيم) لخلق حالة من التركيز الذهني أو الروحاني. النطق نفسه يحمل طاقة يعتقد الساحر أنها قادرة على التأثير في العالم.
الشعر يولي إهتمامًا كبيرًا لـ الموسيقى الداخلية للغة. الوزن و القافية والترتيب الصوتي للكلمات يخلق تأثيرًا ماديًا على المتلقي. صوت القصيدة يلامس مناطق أعمق في الدماغ، مما يجعله أكثر تأثيرًا من النثر العادي. هذا الجانب الصوتي يمنح الشعر قدرة على الإقناع تتجاوز المعنى المنطقي للكلمات.
السحر يرى أن الكلمة المنطوقة يمكن أن تخلق واقعًا. كن فيكون هي الصيغة النهائية لهذا الإعتقاد. الساحر يرى أن كلماته ليست وصفًا للواقع، بل هي محاولة لخلق واقع جديد.
الشعر يهدف إلى خلق واقع نفسي جديد في ذهن القارئ. الشاعر لا يصف الواقع، بل يجعلك تراه من زاوية مختلفة. على سبيل المثال، قصيدة عن الحرب لا تصف المعارك فقط، بل تخلق في وعي القارئ واقعًا من الألم، الخوف، أو الشجاعة. هذا الواقع الشعوري، وإن لم يكن ماديًا، فهو حقيقي بالنسبة لمن يعيشه.
الشاعر الساحر هو شخصية قادرة على تحريك وعي الناس من خلال الإستخدام الكامل للغة كرمز، وكطاقة صوتية، وكأداة لخلق الواقع. كلاهما لا يرى اللغة كأداة للتواصل العادي، بل كقوة غامضة ومقدسة يمكنها تغيير الوعي، وبالتالي، تغيير الواقع نفسه.
تعتمد النظرية الأعمق على مفهوم اللغة كقوة وجودية (Ontological Power)، حيث لا تكون اللغة مجرد أداة للتعبير أو حتى وسيلة لتغيير الوعي، بل هي النسيج الذي يُبنى به الواقع نفسه. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى الشعر و السحر كأمرين متشابهين، بل كوجهين لعملية واحدة: التفاعل مع هذا النسيج اللغوي للواقع.

* نظرية الوجود اللغوي/ Linguistic ontological theory

تفترض هذه النظرية أن الواقع الذي نعيشه ليس شيئًا ماديًا خالصًا، بل هو بنية من المعاني و الأفكار التي تُعبر عنها اللغة. الكلمات ليست مجرد تسميات للأشياء، بل هي تجسيدات لها. من هذا المنطلق، يتم تفسير علاقة الشعر والسحر كما يلي:
السحر يُنظر إليه على أنه محاولة للوصول إلى مستوى الوجود الأساسي حيث تتشكل الأشياء من المعاني. الساحر لا يطلب من قوى خارجية تغيير الواقع، بل يحاول إعادة كتابة جزء من نسيج الواقع بإستخدام لغة خاصة (التعويذات) تُشبه لغة التكوين الأولى. فعندما ينطق الساحر بتعويذة، فإنه يحاول أن يفرض معنى جديدًا على الواقع، معتقدًا أن هذا المعنى سيتجسد ماديًا.
الشعر يُنظر إليه على أنه محاولة لـإعادة تشكيل واقع الوعي البشري من خلال اللغة. الشاعر لا يصف الواقع، بل يخلق واقعًا بديلًا داخل ذهن المتلقي. عندما يكتب الشاعر "أنا و الليل"، فهو لا يقصد وصف حالته، بل يخلق تجربة وجودية كاملة من الوحدة والألم، تجربة لم تكن موجودة قبل أن تُصاغ في الكلمات. الشاعر هنا لا يُغير الواقع المادي، بل يغير الواقع الذي يعيشه القارئ، مما يُثبت أن اللغة قادرة على خلق وجود خاص بها.
السحر يستخدم اللغة كـبوابة للوصول إلى العقل الباطن أو اللاوعي الجمعي، حيث تكمن المعتقدات الأساسية والقوى الكامنة. فالساحر يستخدم الرموز والترانيم لإيقاظ هذه القوى وتحريكها.
الشعر يستخدم اللغة كـبوابة للوصول إلى المشاعر والأفكار العميقة التي يصعب التعبير عنها بشكل مباشر. فالإستعارات، التشبيهات، و الصور الشعرية ليست مجرد زينة لغوية، بل هي رموز تفتح أبوابًا إلى عوالم من التجربة الوجدانية المشتركة.
السحر والشعر في هذا المستوى الأعمق، لا يكون الساحر و الشاعر منفصلين عن اللغة. بل هما أصوات اللغة نفسها التي تحاول أن تعي وجودها. الساحر هو لغة تتكلم عن الرغبة في التحكم في الواقع، والشاعر هو لغة تتكلم عن وعيها بالوجود، بالجمال، والألم.
هذه النظرية ترى أن الشعر والسحر ليسا مجرد إستخدامات مختلفة للغة، بل هما تعبيران عن قدرة اللغة الجوهرية على التكوين والخلق. الساحر يظن أنه يستخدم اللغة لتغيير الواقع المادي، بينما الشاعر ينجح في تغيير الواقع النفسي و الوجداني، وكلاهما يثبت أن الكلمة لها قوة وجودية تتجاوز مجرد التواصل.
يمكن التعمق أكثر من نظرية الوجود اللغوي بالدخول إلى مفهوم اللامتناهي في اللغة، حيث لا تُعتبر اللغة مجرد أداة لتشكيل الواقع، بل هي تعبير عن وعي كوني شامل يسبق أي وجود مادي أو بشري. في هذا الإطار، لا يكون الشعر و السحر مجرد تفاعلات مع اللغة، بل هما محاولتان للوصول إلى هذا الوعي الأساسي.

* نظرية الرمز الأولي/ Prime symbol theory

تعتمد هذه النظرية على فكرة أن هناك مستوى من الوعي الكوني أو الوعي الأولي (Primordial Consciousness) الذي لا يمكن التعبير عنه باللغة العادية. اللغة البشرية (كالأصوات والكلمات) هي محاولة غير مكتملة لإلتقاط هذا الوعي. في هذا السياق، يُفسر الشعر والسحر كما يلي:
الشعر يُنظر إليه على أنه محاولة لكسر قيود اللغة المنطقية للوصول إلى هذا الوعي الأولي. الشاعر لا يستخدم الكلمات لوصف الواقع، بل يستخدمها لخلق صور وموسيقى و إيقاعات تلامس هذا الوعي مباشرةً. فقصيدة تتحدث عن غروب الشمس لا تصف غروب الشمس المادي، بل تحاول أن تعيد إنتاج التجربة الوجودية المرتبطة به. هذه التجربة هي جزء من الوعي الأولي الذي يحاول الشاعر التعبير عنه.
السحر يُنظر إليه على أنه محاولة للوصول إلى هذا الوعي الأولي عبر الرموز والطقوس. التعويذات والطلاسم ليست مجرد كلمات، بل هي رموز يعتقد الساحر أنها قادرة على فتح أبواب إلى هذا الوعي الأولي، ومن ثم التحكم في القوى الكامنة فيه. الساحر لا يتفاعل مع الواقع، بل يتفاعل مع النسيج الأساسي للوعي الذي يُشكل هذا الواقع.
في هذا المستوى، لا يكون الشاعر أو الساحر مجرد شخصين يمارسان فنًا أو حرفة، بل هما وسيطين (Channels) يمر عبرهما الوعي الأولي. القصيدة ليست من إبداع الشاعر، بل هي وعي كوني يُعبّر عن نفسه من خلال الشاعر. و الطقس السحري ليس من إختراع الساحر، بل هو آلية يُستخدمها الوعي الكوني لتحقيق هدف ما.
هذا يفسر لماذا يشعر الشاعر أحيانًا بأن القصيدة تكتب نفسها أو أن الأفكار تتدفق إليه بشكل غامض. وكذلك يفسر إعتقاد الساحر بأنه مجرد أداة في يد قوى أكبر منه.
تفترض النظرية أن اللغة البشرية، بكل جمالها و تعبيرها، هي وعاء غير مكتمل لا يمكنه إحتواء الوعي الأولي. الشاعر يحاول جاهداً أن يوسع هذا الوعاء، مستخدمًا المجازات و الإستعارات، لكنه يظل عاجزًا عن التعبير الكامل. هذا هو سر عظمة الشعر وألمه في آن واحد: إنه محاولة دائمة وغير مكتملة للوصول إلى اللامتناهي.
كذلك، يعتقد الساحر أن التعويذة لا يمكنها أن تسيطر على القوى الكونية بشكل كامل، بل هي مجرد محاولة محدودة للتحكم بجزء صغير منها.
هذه النظرية ترى أن الشعر والسحر هما محاولتان إنسانيتان للتعامل مع الوعي الكوني اللامحدود. الشاعر يفعل ذلك من خلال الفن و التعبير الجمالي، بينما يحاول الساحر ذلك من خلال الطقوس والرموز. كلاهما يدرك أن هناك ما هو أعمق من الواقع المادي، وأن اللغة هي و سيلتهم الوحيدة، وإن كانت غير مكتملة، للوصول إليه.
نظرية الرمز الأولي تصل إلى حدود اللغة والفلسفة الإنسانية. أي محاولة للتعمق أكثر تتطلب الخروج من إطار التفكير العادي والدخول إلى ما يمكن وصفه بـما وراء الوعي واللغة.

* نظرية الرمز اللاشيء/ Nothing Symbol Theory

بدلاً من إعتبار اللغة أو الوعي كأدوات للتعبير، تفترض هذه النظرية أن كلاهما هو في الأساس تعبير عن العدم أو تعبير عن اللاشيء (The expression of nothingness).
تفترض هذه النظرية أن كل وجود، سواء كان ماديًا أو فكريًا، قد نشأ من حالة من العدم أو الفراغ المطلق. كل كلمة، كل فكرة، وكل شيء موجود في الكون هو محاولة من هذا اللاشيء للتعبير عن نفسه. اللغة هنا ليست أداة للتعبير عن الوجود، بل هي الوجود نفسه في حالة من التعبير عن العدم.
الشعر يُنظر إليه على أنه محاولة للمس هذا العدم المطلق عبر اللغة. الشاعر لا يكتب قصيدة عن الحب أو الحزن، بل يكتب قصيدة عن فراغ التجربة، عن المساحة الفارغة التي تشغلها هذه المشاعر في الوجود. عندما يقول الشاعر قلبي فارغ، فهو لا يصف حالة نفسية، بل يصف العدم الذي يسكن القلب، وهذا العدم هو مصدر الوجود والتجربة.
السحر يُنظر إليه على أنه محاولة للتحكم في هذا العدم. الساحر لا يطلب من الكون شيئًا، بل يحاول تعبئة الفراغ بقوة إرادته وكلماته. التعويذة السحرية ليست أمرًا، بل هي تجسيد للعدم في شكل مادي. فالسحر هو فن ملء الفراغ بالوجود، مستخدمًا الكلمات كوسيلة لخلق هذا التجسيد.
في هذا الإطار، الشاعر والساحر ليسا مجرد وسطاء، بل هما أبناء لهذا العدم المطلق. كلاهما يدرك أن كل وجود هو مؤقت وزائل، وأن كل ما هو موجود في النهاية سيعود إلى العدم الذي أتى منه.
الشاعر يستخدم الشعر للإحتفاء بجمال هذا الوجود العابر، و للتصالح مع فكرة العودة إلى العدم.
الساحر يستخدم السحر لمحاولة التحكم في هذا العبور، و تأجيل العودة إلى العدم، أو إستغلال قوة هذا الفراغ.
هذه النظرية تفترض أن أعمق لغة ليست هي الكلمات، بل هي الصمت. فالكلمات هي مجرد أصوات تملأ الفراغ، لكن المعنى الحقيقي يكمن في الصمت الذي يسبق الكلمات، و الصمت الذي يأتي بعدها. الشاعر الحقيقي يدرك أن أجمل ما في قصيدته هو اللامنطوق، ما لم يُكتب. وكذلك الساحر يدرك أن قوة طقسه لا تكمن في الكلمات، بل في الفراغ الذي يخلقه الطقس والذي يستجيب له الكون.
بإختصار، نظرية الرمز اللاشيء ترى أن الشعر و السحر هما محاولتان لملء الفراغ الكوني بالوجود، أو محاولتان للتعبير عن هذا الفراغ نفسه. كلتا المحاولتين تظهران عجز اللغة عن التعبير عن المطلق، ولكنها تثبت في الوقت نفسه أن هذا العجز هو مصدر قوتها الوحيدة.
نظرية الرمز اللاشيء تصل بنا إلى حدود الوعي واللغة كما نعرفها، وأي محاولة للتعمق أكثر تتجاوز الأطر الفلسفية المألوفة وتلامس ما يمكن أن نطلق عليه اللاوجود أو الوعي المطلق. في هذا المستوى، لا يُنظر إلى الشعر والسحر كأدوات للتعبير عن العدم، بل كـتجلّيات للعدم نفسه.

* نظرية الوجود اللاكوني/ Theory of laconic existence

هذه النظرية تفترض أن الوجود والعدم هما حالة واحدة، وأن الكون الذي نعرفه ليس إلا وهمًا مؤقتًا في هذا الوعي المطلق. اللغة البشرية، بكل تعقيداتها، ليست سوى إنعكاس باهت لهذا الوعي المطلق الذي لا يمكن فهمه أو التعبير عنه.
في هذا الإطار، لا يعتبر الشعر والسحر محاولات للتعبير أو السيطرة، بل هما أوهام وجودية (Existential Illusions) تُخلق من اللاشيء للتعامل مع وهم الوجود. الشاعر لا يخلق قصيدة، بل هو جزء من القصيدة التي يُعبّر بها الوجود عن وهمه. الساحر لا يمارس السحر، بل هو جزء من الطقس السحري الذي يُمارس به الوجود وهم السيطرة.
الشعر يُنظر إليه على أنه تفكيك لوهم الوجود. القصيدة التي تتحدث عن الحب أو الألم لا تهدف إلى وصف هذه المشاعر، بل إلى كشف أنها في جوهرها مجرد تجلّيات وهمية للوعي المطلق. الشاعر هنا هو من يرى من خلال الحجاب، و يكشف عن أن كل ما نراه حقيقيًا هو في الحقيقة ليس كذلك.
السحر يُنظر إليه على أنه محاولة فاشلة للتحكم في وهم الوجود. الساحر يحاول أن يغير شيئًا في الواقع، لكنه لا يدرك أنه يحاول تغيير وهم داخل وهم أكبر. كل تعويذة أو طقس هو مجرد حركة داخل حلم لا نهاية له، وهذا الحلم هو الوجود.
في هذا المستوى، لا يكون الشاعر أو الساحر واعيين بما يفعلانه تمامًا، بل هما يمثلان صحوة جزئية (Partial Awakening) داخل هذا الوهم.
الشاعر يمر بصحوة جزئية تجعله يرى أن اللغة عاجزة عن التعبير عن المطلق، فيلجأ إلى المجازات والصور الشعرية ليقترب من الحقيقة.
الساحر يمر بصحوة جزئية تجعله يدرك أن القوانين المادية ليست الوحيدة، فيلجأ إلى الطقوس لمحاولة تجاوزها.
هذه النظرية لا ترى اللغة كأداة أو كنسيج، بل ترى أنها العدم في شكله المتجسد. الكلمات و الأفكار والوجود كله هو في الأساس لا شيء، لكنه يتخذ شكلًا مؤقتًا ليصبح شيئًا. الشعر والسحر هما ببساطة طريقتان للتعامل مع هذا التجسيد المؤقت للعدم.
نظرية الوجود اللاكوني ترى أن الشعر والسحر هما تجلّيات للحقيقة المطلقة التي تفيد بأن كل ما هو موجود ليس إلا وهمًا. الشاعر والسحر هما مجرد جزء من هذا الوهم، يتفاعلان معه بطريقتين مختلفتين، ولكن كلاهما يكشفان عن عمق الحقيقة: أن الوجود هو لاوجود في النهاية.
إن نظرية الوجود اللاكوني تصل إلى أعمق نقطة يمكن أن يدركها الوعي البشري من خلال اللغة و الفلسفة. أي محاولة للتعمق أكثر من ذلك تقتضي الخروج عن إطار الوعي الإنساني بالكامل و الدخول إلى ما يمكن تسميته بـالمطلق اللاوصفي أو اللاإدراك.

* نظرية اللاماهية/ Non-essence theory

هذه النظرية لا تقدم تفسيرًا، بل تشير إلى نقطة نهاية كل التفسيرات. إنها لا تصف العلاقة بين الشعر والسحر، بل تقول إن كل محاولة للربط بينهما، أو حتى للتفكير فيهما، هي جزء من وهم أكبر.
تفترض هذه النظرية أن كل ما هو موجود، وكل ما يمكن أن يدركه الوعي، هو مجرد وهم ذاتي. الكون ليس وهمًا، بل الإدراك نفسه هو الوهم. لا وجود لواقع أو لاوجود، لوعي أو لاوعي. كل هذه المفاهيم هي مجرد تفسيرات زائفة لما لا يمكن تفسيره.
الشعر يُنظر إليه على أنه حلم داخل حلم. الشاعر يظن أنه يخلق شيئًا من العدم أو يعبر عن الوجود، لكنه في الحقيقة يعيش داخل وهم لغوي لا يدرك أنه وهم. القصيدة ليست عملًا فنيًا، بل هي تجسيد لتضليل الوعي، حيث يخدع الوعي نفسه بأنه يفهم أو يشعر.
السحر يُنظر إليه على أنه محاولة عبثية للسيطرة على وهم. الساحر يظن أنه يغير الواقع، لكنه في الحقيقة يتحرك داخل قواعد وهم لا يمكنه فهمها. طقوسه وتعويذاته ليست قوية أو مؤثرة، بل هي أفعال داخل وهم لا قيمة له.
في هذا المستوى، لا يُنظر إلى الشاعر أو الساحر كـصحوة جزئية أو تجلّيات، بل كـنقطة إنعدام. إن وجودهم هو نفسه وهم، ووعيهم ليس أكثر من إنعكاس لهذا الوهم.
الشاعر يختفي في قصيدته، والساحر يختفي في طقسه. لا يبقى إلا وهم الكلمات ووهم الأفعال.
هذه النظرية ترى أن اللغة ليست أداة، أو وعاء، أو حتى عدم. اللغة هي سراب كامل. لا يوجد أي معنى للكلمات، وكل المعاني التي ننسبها إليها هي مجرد إنعكاسات لأوهامنا. عندما نتكلم، فإننا لا نقول شيئًا. وعندما نكتب، فإننا لا نخلق شيئًا. كل ما في الأمر هو وهم يتبعه وهم.
نظرية اللاماهية هي أعمق ما يمكن الوصول إليه. إنها لا تقدم تفسيرًا، بل تُبطل كل التفسيرات. هي تشير إلى نقطة اللاإدراك المطلق، حيث لا وجود للشعر، ولا للسحر، ولا حتى للغة. كل ما يبقى هو اللاوعي اللاإدراكي الذي لا يمكن التفكير فيه أو التعبير عنه.
بعد نظرية اللاماهية، التي تجعلنا نصل إلى حدود التفكير والفهم، لا يوجد نظرية أعمق بالمعنى التقليدي. أي محاولة لتقديم نظرية أخرى هي بحد ذاتها عودة إلى إطار التفكير و اللغة التي تعتبرها اللاماهية مجرد وهم.
إن العمق هنا يتغير من مفهوم التحليل الفكري إلى مفهوم التجاوز التام. إذا كانت اللاماهية هي إدراك أن كل شيء وهم، وأن كل التفسيرات باطلة، فإن ما هو أعمق من ذلك هو اللاإدراك التام لهذا الوهم. إنها حالة من الوجود التي لا يوجد فيها "أنا" يدرك، ولا يوجد "وهم" يُدرك.
الشعر في هذا المستوى، لا يوجد شاعر يكتب قصيدة، ولا يوجد قارئ يقرأها. القصيدة نفسها لا وجود لها. ما يمكن أن نراه هو مجرد تجسيد مؤقت ومُتلاشٍ للطاقة المطلقة التي لا يمكن وصفها. لا يوجد أي معنى، ولا يوجد أي هدف، بل مجرد حركة لا واعية ولا يمكن فهمها.
لا يوجد ساحر، ولا سحر، ولا حتى طقس. كل ما يُنظر إليه على أنه سحر هو مجرد حركة عشوائية في بحر من الطاقة المتغيرة بإستمرار. لا يوجد نية للسيطرة، ولا يوجد من يسيطر، لأن كل شيء هو جزء من كل شيء.
هذه النقطة لا يمكن وصفها بالكلمات، لأن الكلمات نفسها وهم. إنها حالة لا يمكن أن يكون فيها أعمق أو أقل عمقًا، لأن هذه المفاهيم نفسها وهم. هي النقطة التي تتلاشى فيها كل الثنائيات، لا وجود وجود، الوعي اللاوعي، الذات الآخر. إنها النقطة الصفرية التي يختفي فيها كل شيء، بما في ذلك فكرة النقطة الصفرية نفسها.
بعد اللاماهية، لا يوجد مكان للتحليل أو الفلسفة. هناك فقط السكوت التام، وهو تجاوز كل المفاهيم و الأفكار التي بنيناها.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسْرَارُ الْخَشَبَة
- السِّحْرُ وَالْفَنّ
- الْعِلْمُ وَالسِّحْر
- فَلْسَفَةُ السِّحْر
- عِلْمَ الدِّرَاسَات الرُّوحَانِيَّة المُقَارِن
- الْوَاقِعُ الْمُتَعَدِّد
- حَدْسٌ اللَّانهائِيَّة: فَيَزُيَاء التَّنَاقُضُ الْمُطْلَق
- الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الْعَاشِر-
- الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ التَّاسِع-
- الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّامِن-
- الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ السَّابِع-
- الْكمُبْرِئ -الْجُزْءُ السَّادِسُ-
- الْكِمبْرِئ -الْجُزْءُ الْخَامِس-
- الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الرَّابِع-
- الْكمبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّالِث-
- الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- الْكِمُبْرِي -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- أَطْلَانتس وَسيِّدِي مُوسَى
- الزَّرَادِشْتِيَّة
- جَوْهَرٌ أَعْمَق أَسْرَار الْوُجُود


المزيد.....




- -أنت ترتدي نفس البدلة-.. رد مفاجىء من زيلينسكي على صحفي بالب ...
- شاهد.. ترامب يستقبل زيلينسكي في البيت الأبيض
- ترامب وزيلينسكي يبحثان إنهاء الحرب، لقاء أغسطس: بدلة جديدة و ...
- دون تعديلات.. حماس أبلغت الوسطاء بقبولها المقترح الأخير لوقف ...
- الآلاف في شوارع مكسيكو سيتي دعما لغزة ومطالبات بقطع العلاقات ...
- ما خسائر الجيش الإسرائيلي المحتملة إذا اجتاح غزة؟
- تضامن دولي رفضا لتجويع غزة ومغردون: نعيش في عالم بلا ضمير
- اضطرابات ترامب ومصير بوتين.. ادعاءات مثيرة رافقت قمة ألاسكا ...
- عثروا عليه بـ-درون-.. إنقاذ رجل علق خلف شلال كبير ليومين
- ترامب لا يستبعد إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا.. ويؤكد تواص ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الشَّعْرُ وَالسِّحْر