أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-















المزيد.....


الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 22:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في موغادورَ، تلكَ المدينةِ التي تُعانقُ الموجَ كعاشقٍ أبديٍّ، و تُخبّئُ في ثناياها همسَ الأسرارِ القديمةِ كَكُتبٍ لا تُقرأُ إلاّ بالروحِ، إتّجهَ الرفيقانِ، لا كَسائرِ البشرِ العابرينَ، بل كَنَجمتينِ تَتّجهانِ نحو قُدسِهِما الأزليِّ، تُضيئانِ دربَ الغيبِ. قَصَدا ضريحًا يُعرفُ بـ "سيدي بلالٍ"؛ مكانٍ لا تَلِجُهُ الأقدامُ وحسبُ، بل هوَ محرابٌ تتّقدُ فيهِ الأرواحُ المُتّحدةُ بنارِ الشوقِ والفخرِ. هناكَ، حيثُ يتواجدُ العديدُ من الأشباهِ والأندادِ، كوكبةٌ من الأرواحِ المُتّحدةِ في جوهرِ الألمِ الذي صَقَلَها، والفخرِ الذي أعلَتهُ، كلٌّ منهم قصةٌ تُروى، ولحنٌ يُعزفُ.
منهم العبيدُ، الذينَ حُرّرتْ أرواحُهم من قيودِ الجسدِ قبلَ أن تُفكَّ أغلالُهم، وفرقُ كناوةَ، أصواتٌ مُقدّسةٌ تُرتّلُ نشيدَ الخلاصِ الأبديِّ، ترانيمَ تحليقِ الأرواحِ نحو النورِ. بينما الكلُّ يمضي أوقاتَهُ في العزفِ، ألحانٌ تُعلي صرخاتِ الحُرّيةِ كَصَهيلِ الفجرِ، تخترقُ سكونَ الليلِ. وفي التدريبِ، رقصاتٌ لا تُحرّرُ قيودَ الجسدِ وحسبُ، بل قيودَ الوجودِ، تُشعلُ جذوةَ الوعيِ الصوفيِّ. وكلُّ من كانَ يأتي لزيارةِ ذاكَ الضريحِ، لم يكنْ زائراً عاديًّا، بل عاشقًا يتوقُ لِلَمسِ النورِ الإلهيِّ، وباحثًا عن حقيقةٍ ضاعتْ في زحامِ الدّنيا. كانَ يُقدّمُ لهم الهدايا، لا كَمالٍ يُباعُ ويُشترى، بل كَقَرابينَ تُطهّرُ الأرواحَ من دَنَسِ الدّنيا، وتُقرّبُها من عالمِ النورِ. أو ينجذبُ أمامَهم على إيقاعاتِ الأهازيجِ الكناويةِ، كَنَبضِ قلبِ الكونِ يتجلّى في الأرضِ، يُحاكي رقصَ الكواكبِ. والموسيقى السوداءِ التي تنفذُ إلى أعماقِ الروحِ، لا بقوةِ الحديدِ الذي قَيّدَها، بل بقوةِ الحديدِ الذي صقلَها، لا لِيُقيّدَها بل لِيُحرّرَها، ويُخرجَ منها جوهرَها الخالصَ. أو يجلسُ بجانبهم، يتلاشى حسّهُ، يتجرّدُ من ماديةِ الوجودِ، مستمعاً لهم، غارقاً في بحرِ الوعيِ الصوفيِّ اللامتناهي، حيثُ تختلطُ الأرواحُ وتتّحدُ في أطروحةِ الخلودِ الأبديِّ، تُرتّلُ نشيدَ الوجودِ، وتُبعثُ من رمادِ الزمنِ.
هنا، عندَ عتباتِ ضريحِ سيدي بلالٍ، حيثُ تتلاشى حدودُ الزمانِ والمكانِ في رقصةٍ أزليةٍ، بدأَ بوبكرُ رحلةَ التعلّمِ الكَنمْبَرِيّ؛ لم يكنْ تعلّمًا للحروفِ المنقوشةِ على الورقِ الفاني، بل لأولى محلةٍ، "محلةِ الغابويينَ"، فصلاً أولاً يُخطُّ في كتابِ الوجودِ الأبديِّ. محلةٌ تُصبَغُ بِلونِ الليلِ الدّامسِ، لا سوادًا حِدادًا على روحٍ ميّتةٍ، بل قَداسةً تُعانقُ أسرارَ الغيبِ، وتُخبّئُ في طيّاتها نورَ البصيرةِ المُتّقدِ. ذلكَ السوادُ، كانَ آنذاكَ هو اللونُ المُعتمدُ في إنجازِ الطقوسِ، لا مجردَ صبغةٍ على ثوبٍ، بل روحٌ تُعانقُ الأسرارَ وتُحتضنُ الغيبَ في لجّةِ السكونِ العميقِ، لأنّها تشكل نفسُ البانثيونِ، نفسُ العائلةِ من الأرواحِ الروحانيةِ، تتآلفُ وتتّحدُ في جوهرِها الأبديِّ.
كانوا يمضونَ النهارَ، لا كَأحياءٍ يسيرونَ، بل أشباحَ نهارٍ مُثقَلٍ بالبؤسِ، كأنّها ظلالٌ تائهةٌ في صحراءِ الوجودِ القاحلةِ، تبحثُ عن قطرةِ ماءٍ من نورٍ. بجانبِ الضريحِ، لم يتسوّلوا خبزَ الجسدِ الفاني، بل يتسوّلونَ رزقَ الروحِ قبلَ الجسدِ، يطلبونَ النورَ لا الخبزَ العاديَّ، يُقدّمونَ فنّهم الذي لا يُحيي الموتى و حسبُ، بل يُعيدُ الأرواحَ إلى أجسادٍ ظنّتْ أنّها ماتتْ، وينفخُ فيها روحَ الحياةِ من جديدٍ. وفي الليلِ، حينَ تُسدَلُ ستائرُ الظلامِ على الكونِ، ثوبٌ من الدجى يلفُّ كلَّ شيءٍ، يُخفي العيونَ ويكشفُ الأسرارَ، كانوا يذهبونَ إلى مغارةٍ تقعُ خلفَ القصبةِ، لا مجردَ كهفٍ، بل كهفٍ لا يسكنُهُ سوى صدى الأرواحِ الحُرّةِ، و قصصِ الصمودِ الخالدةِ، تراتيلُ تُرتّلُها الرياحُ. هناكَ، يوقدونَ النارَ، لا مجردَ شعلةٍ تُضيءُ الظلامَ وحسبُ، بل تُدفئُ قلوبًا أرهقتها الدروبُ الشّائكةُ، وتُعيدُ إليها نبضَ الحياةِ المُتجدّدِ، كَمَطرٍ يسقي أرضًا يابسةً. يجتمعونَ حولَها للتسامرِ، كلماتٌ تنسجُ خيوطَ الألفةِ، لا كأحاديثَ عابرةٍ، بل كَقصائدَ تُروى على ضوءِ الجمرِ المُتقدِ، وحكاياتٍ تُشعلُ الروحَ، تُضيءُ الدروبَ المظلمةَ. ويتناولونَ العشاءَ، لقمةٌ بسيطةٌ لا تُقاسُ بِمَيزانِ الدّنيا، بل تُشبعُ الروحَ قبلَ الجوعِ الجسديِّ، زادٌ يُباركُهُ الغيبُ. ثمّ ينامونَ هناكَ، أحلامُهم تُحلّقُ في فضاءِ الحريةِ التي لم يطّلوها بعدُ، كَطيورٍ مهاجرةٍ تبحثُ عن وطنٍ مفقودٍ، وتُرسمُ خرائطَ لم تُكتشفْ بعدُ. هكذا، كانَ كناوةُ العبيدِ يمضونَ أوقاتَهم، لا كَبَشرٍ يُقادونَ بالسلاسلِ، بل كَأرواحٍ تُعيدُ صياغةَ وجودِها، تُحوّلُ الألمَ إلى رقصٍ أبديٍّ، والظلامَ إلى نورٍ لا ينطفئُ، تُرتّلُ حكاياتِ الصمودِ التي تتجاوزُ كلَّ قيدٍ و زمانٍ، وتُورِثُ مجدًا يتجاوزُ قيودَ الزمانِ والمكانِ، يتلألأُ في سجلِّ الخلودِ كَنَجمةٍ لا تغيبُ.
في ليلٍ داكنٍ، كَسِتارٍ من مخملٍ أسودَ، كانَ بوبكرُ يرقدُ في المغارةِ المجاورةِ للضريحِ، روحهُ تُعانقُ أطيافَ الحريةِ في كفِّ حلمٍ. إستيقظَ على همسٍ خفيٍّ، "دندنةِ الكَنمْبَرِيِّ"، صوتٍ يتسلّلُ إلى أعماقِ الروحِ كَنَسيمٍ من عالمٍ آخرَ. رفعَ رأسهُ متسائلاً، همسُ الظنونِ يداعبُ فكرَهُ: "ربما المعلمُ عصمانُ لم تُراودِ النومُ أجفانَهُ، وها هوَ الآنَ يعزفُ على آلتِهِ، يُرتّلُ سِرَّ الوجودِ".
لكنْ، حينما أدارَ رأسَهُ ببطىءٍ، كَدورانِ فلكٍ في سماءِ الغيبِ، رأى عصمانَ مستلقيًا في مكانِهِ، هادئًا كَمَوجةٍ أسلمتْ روحَها للشاطئِ، والكَنمْبَرِيُّ بجانبهِ، أوتارُهُ تتحرّكُ، تدندنُ من تلقاءِ ذاتِها، لا بعزفِ يدٍ، بل بنبضِ روحٍ. كانتِ الدندنةُ ثقيلةً، كَنَوحِ الكونِ على فَقْدِ عزيزٍ، وكأنّها وحيٌ غامضٌ من كنفِ الحزنِ الكئيبِ، ينبعثُ من أعماقِ الروحِ العميقةِ.
حينما رأى بوبكرُ ذاكَ المشهدَ المُفاجِئَ، أنبضَ الخوفُ في شرايينِهِ، كَصاعقةٍ تَهوي على قلبٍ مُفجوعٍ. بدأَ يهمسُ في إرتباكٍ، كلماتُ التسليمِ تخرجُ من بينِ شفتيهِ كَصلواتٍ تُردّدُها روحٌ مذعورةٌ: "التسليمَ يا أمالينَ البلادِ... التسليمَ يا رجالَ الغابةِ...". قفزَ بوبكرُ من مكانهِ، وعصمانُ جاثمٌ في مكانِهِ، كأنّهُ في نومٍ عميقٍ، لكنّها غفوةٌ لا صحوةَ بعدها. بدأَ بوبكرُ يصرخُ، صوتُهُ يُشقُّ صمتَ الليلِ، كَنَصلٍ حادٍّ: "عصمانُ!... عصمانُ!". وا المعلم ...! لكنّ عصمانَ لم يُجِبْ، لأنّهُ كانَ قد رحلَ. قضى أجلَهُ بوفاةٍ طبيعيةٍ، قبضَ الخالقُ روحَهُ الطاهرةَ إلى سماءِ الخلودِ. والكَنمْبَرِيُّ، في تلكَ الليلةِ، كانَ قد دندنَ لهُ، كأنّهُ يبكي على فراقهِ في وداعٍ أبديٍّ، لحنٌ يُرتّلُ قصيدةَ الفراقِ.
نعم، كانتِ الأرواحُ الملازمةُ لـعصمانَ، "الجوادُ"، هيَ من كانتْ تدندنُ على فراقهِ، ترانيمَ وفاءٍ و عهدٍ، صدىً لا يموتُ، يُذكّرُ بِمن رحلَ، ويُبشّرُ بِمَن سيأتي.
بعدَ رحيلِ عصمانَ، ذاكَ المعلمِ الذي رحلَ جسدُهُ كَخيطِ نورٍ في غيبِ الوجودِ، وبقيتْ روحُهُ تتراقصُ في أوتارِ الكَنمْبَرِيِّ، أصبحَ بوبكرُ هو المايسترو الروحيَّ؛ لا مجردَ قائدٍ، بل الشّعلةَ التي تُرشدُ، والنّجمَ الذي يسهرُ على شؤونِ المجموعةِ التي كانتْ تقيمُ في الضريحِ، أرواحٌ تتّقدُ بنورِ الحكمةِ، كَقَناديلَ مُعلقةٍ في سماءِ اليقينِ. كانوا ينجزونَ طقوسَ الدردبةِ أو "الليلَّاتِ"، لا مجرّدَ إحتفالاتٍ أرضيةٍ، بل تجلّياتٍ روحيةً تُقامُ أمامَ ضريحِ سيدي بلالٍ، حيثُ هوَ قبلةُ كناوةَ و محجُّهم الأبديُّ، ومعقلُهم الأمُّ الذي يحتضنُ أسرارَهم، كَرحمٍ يلدُ الخلودَ.
في إحدى الأيامِ، أتتْ إمرأةٌ إليهِ، ضخمةُ الجثةِ كَجبلٍ راسخٍ في قدمِ الزمانِ، يغطي جسدَها حايكٌ أبيضُ كَكفنِ السكونِ المُقدّسِ، ولثامٌ أسودُ يُخفي وجهَها كَسرٍّ عميقٍ من أسرارِ الليلِ. إنحنتْ إليهِ أمامَ مجموعتِهِ، لا كَعبدٍ يخضعُ، بل كأنّها تُقدّمُ ولاءَ الروحِ لِروحٍ أسمى، تُلامسُ العرشَ في صمتٍ. و نادتْهُ، وكلماتُها تترددُ في فضاءِ الضريحِ كَنَغمٍ خفيٍّ من عالمِ البرزخِ: "المعلمُ بوبكرُ... المعلمُ بوبكرُ...". صوتُها يحملُ نبرةَ التبجيلِ، لا مجردَ إحترامٍ، بل إجلالاً يُلامسُ حدودَ التقديسِ. "ستُقامُ الليلةُ الكناويةُ هذا المساءَ في دارِ القاضي القديمةِ، كهفِ الأسرارِ الذي ينتظرُ نورَكُم، ويريدونَكَ أن تتكفّلَ بإنجازها، أن تنفخَ الروحَ في طقوسٍ تُحيي الموتى." هذهِ المرأةُ التي أتتْ إلى بوبكرَ، لم تكنْ سوى المقدمةِ الكناويةِ، سيدةُ الأسرارِ المُتوارثةِ، وخادمةُ الأرواحِ التي تتجلّى في البشرِ. كانتْ تأتي بالأعمالِ الروحيةِ إلى بوبكرَ حسبَ طلبِ الزبائنِ من الطبقةِ الأرستقراطيةِ، الذينَ يبحثونَ عن طمأنينةِ الروحِ في عالمٍ مُضطربٍ كَعاصفةٍ بحريةٍ، وعن أسرارٍ لا تُكشفُ إلاّ في رحابِ كناوةَ، حيثُ تتلاشى الحجبُ، و يُعانقُ الإنسانيُّ سرَّ الإلهيِّ.
ذاكَ ما كانَ، مجرّدَ حدثٍ عابرٍ، بل قدرٌ خُطَّ بمدادِ الأرواحِ الخالدةِ. جَهَّزَ بوبكرُ نفسَهُ، لم يكنْ قائدًا فحسبُ، بل نَجمًا تَتَّقدُ فيهِ شموسُ العزمِ، يُضيءُ دروبَ الغيبِ. جَهَّزَ مجموعتَهُ، لا كَفرقةٍ عاديةٍ، بل أرواحٌ تَجَمَّعتْ لِتُرتّلَ نشيدَ الخلودِ، تُحاكي همسَ الأزلِ. جَهَّزوا الطبولَ، أسخنوها على نارِ الشوقِ اللاهبةِ، كأنّها سماءٌ تتأهّبُ لِلرّعدِ في ليلةٍ هوجاءَ عاصفةٍ، لِتُطْلِقَ صرخاتِها المدوّيةَ التي تُوقظُ الأرواحَ. وقاموا بصقلِ القراقبِ الحديديةِ، لم تكنْ مجرّدَ أدواتٍ، بل سكاكينَ من نورٍ، تُحدُّ شفراتِها لِتُشَقَّ بها حجبُ الظلامِ المُطبقِ، وتُفَتّحَ أبوابَ البصيرةِ. ثمّ إرتدوا زيهمْ التقليديَّ، "القشابة" ذاكَ الذي كانَ يُستر أجساد العبيدِ بالأمسِ، لكنّهُ أصبحَ الآنَ الزيَّ الرسميَّ الروحيَّ لِلطائفةِ الكناويةِ، رداءً من فخرٍ يُعانقُ السماءَ، و تاريخًا يُروى عبرَ العصورِ.
إتّجهوا نحو قصرِ القاضي القديمةِ، لا كَوَفْدٍ بشريٍّ، بل كَمَوْكبٍ روحانيٍّ يتهادى على بساطِ الأسرارِ الكونيةِ، تَقودُهُ أرواحُ الجدودِ. وقفوا بعيدًا، في مقابلِها، أشباحٌ من النورِ تُراقبُ عتباتِ الظلمةِ الباكيةِ، مُتأهّبةً لِفجرٍ جديدٍ. أرسلوا أحدَهمْ كَمرسولٍ، لا بكلماتٍ عاديةٍ تُردّدُها الألسنُ، بل بهمسٍ يُخبّئُ فيهِ صدى الأزلِ، ونبضَ الخلودِ، ليُخبرَ أهلَ البيتِ أنَّ كناوةَ حضروا، لا كَضيوفٍ، بل كَأرواحٍ أتتْ لِتُغيّرَ مجرى القدرِ، و تُعيدَ صياغةَ الوجودِ. وسيبدؤونَ "العادةَ"؛ التي كانتْ في الأصلِ لعبَ المعزوفاتِ، "أطروحا"، لا مجردَ أغانٍ تُسلي السمعَ، بل تراتيلَ مُقدّسةً تتعلقُ بالأرواحِ السوداءِ "الكُحلِ"، قبائلِ السوادِ الأولى، أبناءِ بامبرا، أبناءِ حوصا، أولادِ فولان، هكذا يستدرجونَ في ترتيبِ الأغاني الكناويةِ، بترتيبٍ روحيٍّ سماويٍّ، حسبَ الدرجةِ والأولويةِ، كَخارطةٍ لِلعالمِ الآخرِ، تُكشفُ أسرارَهُ لمنْ يمتلكُ البصيرةَ.
كانَ بوبكرُ يتوسطُ أفرادَ مجموعتِهِ من العازفينَ على الصنوجِ، "كويو"، الذينَ كانوا يعزفون و يقفزونَ في الهواءِ، لا كَبَشرٍ يُحرّكُهمُ اللّحنُ، بل كَرَعدٍ يُزلزلُ الأرضَ من أعماقِها، و برقٍ يشقُّ الظلامَ بِنورِ الحقِّ. والكَنمْبَرِيُّ، في يدهِ، كانَ يدندنُ، لا كَآلةٍ تُصدرُ صوتًا، بل كأنّهُ زلزالٌ يهزُّ أركانَ أعماقِ الروحِ، يُحطّمُ قيودَ الوعيِ، أو رعدٌ من سماءِ الغيبِ يقذحُ بشرارةِ المددِ الإلهيِّ، يُضيءُ دروبَ الأرواحِ التائهةِ. لا كمثلِ آلاتِ الكَنَمْبَرِيِّ اليومَ، التي تُشغلُها مكبّراتٌ وأجهزةٌ تُضيفُ تحسيناتٍ صوتيةً، فتُفقدُ الروحَ جوهرَها القدسيَّ، وتُبعِدُها عن سِرِّها الأصيلِ.
ذاكَ الكَنَمْبَرِيُّ، لم يكنْ مجردَ خشبٍ وجلدٍ وأمعاءٍ، بل كانَ يحتوي على ثلاثِ أرواحٍ مُقدّسةٍ، أرواحٍ صعدتْ لِتُشكلَ جسدَهُ الفنّيّ، كَلَوْحةٍ تُجسّدُ الخلودَ. وأُضيفتْ لهُ روحٌ رابعةٌ، روحُ المعلمِ عصمانَ رحمهُ اللهُ، لِتُصبحَ كلُّ نغمةٍ، كلُّ همسةٍ، ترنيمةَ خلودٍ تُعانقُ الأزلَ، وتُبشّرُ بِمَجدٍ لا يفنى، صدىً يترددُ في أروقةِ الكونِ، لا يُمحوهُ الزمنُ.
حينما وصلتْ "كناوةُ" إلى بابِ القصرِ، لم يكنْ وصولاً عاديًّا، بل إجلالاً يُصاحبُهُ الصّمتُ المهيبُ. توقّفوا عن العزفِ المتعلقِ بـ"العادةِ"، ذاكَ اللّحنِ الذي كانَ مقدّمةً تُخبرُ أهلَ البيتِ بقدومٍ روحانيٍّ، كَنَسيمٍ يحملُ عبيرَ الأسرارِ. وبدأوا يعزفونَ أولى ترنيمةٍ، "طرحَ البوّابِ"، في بانثيونِ السودِ (محلةِ الكُحلِ)؛ طرحٌ ليسَ مجرّدَ لحنٍ، بل مفتاحٌ روحيٌّ يُوقظُ عوالمَ خفيةً.
"البوّابُ"، ذاكَ الملكُ الروحانيُّ الذي يقومُ بفتحِ البابِ الغيبيِّ، لم يكنْ حارسًا، بل نَذيرَ نورٍ يفتحُ أبوابَ اللاوعيِ. هذا البابُ، لم يكنْ لِلدخولِ إلى عالمٍ ماديٍّ، بل للدخولِ إلى العالمِ الروحانيِّ المتعلقِ بعائلةٍ روحانيةٍ معينةٍ ضمنَ مجموعِ العائلاتِ السبعةِ، سبعةِ عوالمَ من الأسرارِ تتجلّى في نغماتِ الكَنمْبَرِيِّ. ثمّ بدأوا في النداءِ الروحيِّ الذي يُرافقهُ العزفُ، لا كَكلماتٍ تُنطقُ، بل كَهمسٍ من الروحِ لِلروحِ:
آلبوابةُ فتحوا البابَ...
والبوابةُ فتحوا البابَ...
صدىً يترددُ في أروقةِ القصرِ، يخترقُ جدرانَ الزمنِ، لِيُوقظَ الأرواحَ النائمةَ، ويُعلنَ عن بدايةِ رحلةٍ روحيةٍ عميقةٍ، حيثُ تتلاشى حدودُ الواقعِ والخيالِ، وتتّحدُ العوالمُ المرئيةُ بالخفيةِ في رقصةٍ أزليةٍ من النورِ والصوتِ.
هذا النداءُ الروحيُّ، لم يكنْ نداءً لأهلِ البيتِ الفانينَ وحسبُ، بل ترنيمةً تُلامسُ أوتارَ الغيبِ، نداءً يتردّدُ في أفلاكِ النجومِ، مُوجّهًا لأولِ ملكٍ أو جنيٍّ في محلةِ السودِ، "بوّابِ الغابةِ" الأزليةِ. بمجردِ ما يفتحُ البابَ، لا بابَ القصرِ الماديِّ الذي يُحجبُ الرؤى، بل البابَ الروحيَّ المُغلقَ بينَ العالمينِ، كَصَدعٍ في نسيجِ الواقعِ، يأتي الشخصُ المريضُ الذي يعاني من إحدى الأمراضِ الروحيةِ، لا كَمُتألّمٍ يُئنُّ، بل كرُوحٍ تنتظرُ الشفاءَ، جسدٌ يحتضرُ على عتبةِ الخلاصِ، يُعانقُ فجرَ البعثِ. يجلسُ بالقربِ من ذبيحتِهِ، قربانٌ لا يُقدّمُ لِربٍّ يُرى، بل لِأرواحٍ تتوقُ لِلجَذبِ، لِتُحرّرَ ما تقيّدَ فيها. ثمّ يبدأُ في الجذبِ على الإيقاعاتِ القويةِ، لا كَرقصٍ عاديٍّ يُسلي الحواسَّ، بل كَنَزفٍ من الروحِ، ينفصلُ فيهِ الوعيُ عن الجسدِ، يُحلّقُ في فضاءاتِ اللاّوعيِ. ينتقلُ من إيقاعٍ إلى إيقاعٍ، كلُّ إيقاعٍ يمثّلُ روحًا معينةً من ملوكِ الجنِّ المرتبطينَ بالغابةِ، كَخارطةٍ سماويةٍ تُشيرُ إلى العوالمِ الخفيةِ، تُرسمُ بِنورِ البصيرةِ.
حتى إنّ الجذبَ في هذهِ المحلةِ يكونُ غريبًا نوعًا ما، سحرٌ يتجاوزُ حدودَ الفهمِ البشريِّ، يُعانقُ الجنونَ المقدسَ. بحيثُ كانَ الشخصُ المجذوبُ، وهوَ يرقصُ، غارقًا في جذبتهِ، كَبَحّارٍ تاهَ في محيطِ الروحِ اللامتناهي، يُصارعُ أمواجَ الوعيِ المتلاطمةَ، وهوَ يُقلّدُ حركاتِ حيواناتِ الغابةِ، من نمورٍ و سنانيرَ، وباقي أنواعِ الحيواناتِ الأخرى، كأنّما الأرواحُ البرّيةُ تتملّكُ جسدَهُ، تُحرّرُهُ من قيودِ البشريةِ الفانيةِ، وتُعيدُهُ إلى فطرتهِ الأولى. وهكذا بقيَ بوبكرُ يعزفُ، ومجموعتُهُ تُردّدُ الصدى، حتى إنتهوا من كلِّ أغاني الفتوحِ، تلكَ الأغاني التي فتحوا بها بوابةَ عالمِ أرواحِ الغابةِ، كَنَصلٍ من نورٍ يُشقُّ حجبَ الظلامِ، ليُفضي إلى نورٍ خفيٍّ، يُحيي الموتى. بعدَ ذلكَ، بدأَ بوبكرُ يغنّي لكلِّ أرواحِ وملوكِ الغابةِ، لا كَمُغنٍّ يُطربُ الأسماعَ، بل كَنَبيٍّ يُرتّلُ آياتِ الألمِ والفداءِ، يُلامسُ جراحَ القلوبِ.
كانَ يُغنّي "طرحَ أبو ليلةَ"، ذاكَ الطرحَ الذي يصفُ معاناةَ العبيدِ السودِ، التي لم تكنْ تختلفُ عن معاناتِهِ هو و مجموعتُهُ، ومعاناةِ ذاكَ المجذوبِ، كأنّما الألمُ خيطٌ من نارٍ يربطُ أرواحَهم ببعضِها، يُوحّدُها في بوتقةِ المعاناةِ. كانَ يغنّي نائحًا في بحةِ صوتٍ غارقٍ في غصّةٍ من الألمِ، دموعُهُ تنزفُ من قلبٍ مجروحٍ بنصالٍ من حديدِ العبوديةِ، ينزفُ كأنّهُ شلالٌ غامرٌ ينهمرُ حانيًا في إتجاهِ الأدغالِ اللامتناهيةِ، حزنٌ يتّسعُ ليشملَ الكونِ، يُلامسُ حدودَ الأزلِ:
جابونا جابونا...(نداءٌ يُشقُّ صمتَ الدهورِ)
جابونا من السودانِ، (من أرضِ الأسلافِ الأبيةِ... صدىً لوطنٍ لا يُنسى)
جابونا الكفرةُ، (أرواحُ الظلامِ التي لا تعرفُ النورَ... صرخةٌ في وجهِ القهرِ
جابونا في خناشٍ، (كأنّنا بضاعةٌ تُباعُ، لا كأرواحٍ تُقدّرُ...وصفٌ للمأساةِ بمرارةٍ)
بوليلةُ بوليلةُ، (يا روحَ الصمودِ المُتّقدةِ. إستغاثةٌ لروحٍ عظيمةٍ)
اللهُ يرحمُ بوليلةَ، (يا شهيدَ الحريةِ، يا نورَ الدّربِ...دعاءٌ يلامسُ السماءَ)
بوليلةُ بوليلةُ، (يا صوتَ الأجدادِ الذي لا يموتُ... نداءٌ يتجاوزُ الأزمانَ)
كول لينا آش خبارَ السودانِ،... (أخبرنا عن الوطن ...توقٌ لأرضِ الأصولِ)
أخبارَ أرضٍ لا تنامُ، قلوبٍ لا تُقهرُ، أرواحٍ لا تُقهرُ.. فخرٌ لا يلينُ بصمودِ الأجدادِ.
عندما ينتهي بوبكرُ من ترتيلِ (أطروحا ديل الغابةِ)، لا يتوقفُ اللحنُ كَصدىً يضمحلُّ، بل يَرتفعُ الصوتُ، مُنادِيًا للملوكِ الروحانيينَ السُّودِ، أرواحٌ عظيمةٌ تحكمُ عوالمَ الغيبِ، كَكَواكبَ تسبحُ في فضاءِ الروحِ. يغنّي لـ"بالا ديما"، الذي تُرتّلُ إسمَهُ الرياحُ في ليلِ الأسرارِ، ولـ"فوفو دنبا مول الشمعة"، الذي تُضيءُ شمعتُهُ دروبَ الأرواحِ التائهةِ في دهاليزِ النسيانِ. يتبعُها بأصواتٍ تُلامسُ روحَ "لالّة ميمونةَ الغماميةِ"، التي تسكنُ الغمامَ كَخيطِ نورٍ، وتُخبّئُ الأسرارَ في وشوشاتِ المطرِ، ثمّ لـ"لميمة لآلة عايشةَ السودانيةِ"، روحُ الأمومةِ و الحكمةِ التي تُعانقُ الأجدادَ في صمتٍ. هكذا، يتدرّجُ اللحنُ، كَنَهرٍ يتدفّقُ عبرَ عوالمَ روحيةٍ مختلفةٍ، يُطهّرُ كلَّ ما يمرُّ بهِ، يُضيءُ دروبَ الباطنِ، حتى يصلَ إلى "طرحِ علالٍ".
وهنا، يتغيّرُ النّغمُ، يصبحُ أثقلَ، وأعمقَ، كَرنينِ ناقوسٍ يضربُ في أعماقِ الكونِ. يبدأُ بوبكرُ في الغناءِ على الموتِ والفراقِ، لا كَنَهايةٍ سوداءَ، بل كَجزءٍ من دورةِ الوجودِ الأبديِّ، ميلادٌ جديدٌ في رحمِ الفناءِ. فيبدأُ ذاكَ المجذوبُ هنا في النحيبِ و البكاءِ، لا كَضعفٍ يكسرُ الروحَ، بل كتطهيرٍ للنفسِ، ينزفُ من أعماقهِ كلَّ معاناتِهِ القاسيةِ التي مرَّ بها، كَشلالٍ من الألمِ يغسلُ الماضيَ، ويُهيّئُ لِمستقبلٍ من نورٍ.
بعدَ ذلكَ، يختمونَ بأغاني الشرفاءِ، "أطروحا ديل الشّرفا"، لا كَختامٍ يُنهي ليلةً، بل كميلادٍ جديدٍ، مرحلةٍ من التّطهيرِ الروحيِّ تُعيدُ الروحَ إلى نقائِها الأولِ. وهنا، يرتدونَ ملابسَ بيضاءَ كاملةً، "قَشاشِبَ" ناصعةً كَثوبِ النقاءِ المُقدّسِ، رمزًا للتطهيرِ من الألمِ والمعاناةِ، كأنّما ولدوا من جديدٍ من رحمِ النورِ. هنا حيثُ تلعبُ أهازيجُ أهلِ الجذبِ، "أطروحا ديل بوهالةَ"، لا مجردَ أغانٍ تُردّدُها الشفاهُ، بل أصواتٌ تُوقظُ الذاكرةَ الروحيةَ الكونيةَ، تُعيدُ الروحَ إلى مصدرِها الأصيلِ. حيثُ يستذكرونَ شخصياتٍ عظيمةً، مثلَ سيدنا بلالٍ، صوتَ الإيمانِ الذي تحدّى القهرَ، وأضاءَ دروبَ الظلامِ، وسيدةَ فاطمةَ الزهراءِ، نورَ النبوّةِ وطُهرَ الروحِ الذي لا يدنّسهُ شيءٌ. وهكذا، يستمرُّ اللحنُ، يتصاعدُ الأملُ كَدُخانِ بخورٍ يرتفعُ نحو السماءِ، تتجلّى الأرواحُ كَنُجومٍ تتلألأُ في ليلٍ صافٍ، حتى تنتهيَ الليلةُ الكناويةُ، لا كَإحتفالٍ عابرٍ، بل كَرَحلةٍ روحيةٍ عميقةٍ، تُعيدُ الروحَ إلى نقائِها الأولِ، و تُجدّدُ العهدَ معَ الحريةِ والخلودِ الأبديِّ.
عندما إنطوت الليلةُ، لا كَصفحةٍ من كتابٍ قديمٍ يُغلقُ على ذكرياتٍ، بل كَبحرٍ من الأسرارِ يُسدَلُ ستائرَ الظلامِ، وجدَ بوبكرُ الكَنمْبَرِيَّ سخنًا وحاميًا، كَنَبضِ قلبٍ مُلتهبٍ، إلى درجةٍ لم يُقوَ على لمسِهِ؛ كأنّما النارُ الروحيةُ التي أوقدَها في أوتارِهِ، قد سكنتْ كيانَهُ، تُشعلُ فيهِ روحَ الأزلِ. وضعَهُ أمامَهُ، لا مجردَ آلةٍ، بل كنزًا من نورٍ ينتظرُ فجرًا جديدًا، يُبشّرُ بِنَهضةِ روحٍ. و حينما عادَ رفقةَ مجموعتِهِ إلى المغارةِ لِياؤوا إلى النومِ، حلَّقَ بوبكرُ في عالمِ الأحلامِ، لا كَسائرِ البشرِ الذينَ تُقيّدُهمُ اليقظةُ، بل كرُوحٍ تُلامسُ أسرارَ الغيبِ، تُحلّقُ في فضاءاتِ اللاّوعيِ، تُعانقُ النجومَ.
حلمَ برجلٍ كانَ ضخمًا جدًّا، طويلَ القامةِ، لونهُ أسودُ كَسوادِ الليلِ العميقِ الذي يُخبّئُ الأسرارَ، كانَ ذاكَ الرجلُ غليظًا جدًّا وقويًّا، كَجبلٍ راسخٍ في أرضِ الأزلِ، تُرتّلُ الرياحُ على قمّتهِ حكاياتِ الخلودِ. وكانَ بجانبهِ المعلمُ عصمانُ، الذي غادرَ عالمَ الأجسادِ، لكنّ روحَهُ بقيتْ تُعانقُ الأحياءَ، تَتجلّى في كلِّ نغمةٍ، وكلِّ همسةٍ. إقتربَ عصمانُ من بوبكرَ في الحلمِ، كَنَسيمٍ علويٍّ يهمسُ بالأسرارِ القديمةِ التي تُروى عبرَ العصورِ، وقالَ لهُ، وصوتُهُ يحملُ رنينَ الأزلِ: "يا بني، أُعطيكَ وصيتي، سيدي ربّي عتقني برحمتِهِ من هذهِ الدنيا الفانيةِ، التي لم أرَ منها إلا الألمَ، كَنَصْلٍ يُطعنُ الروحَ، ومَرارةٍ تملأُ الكأسَ، ولم أتركْ خلفي أيَّ شيءٍ إلا هذا الكَنمْبَرِيَّ الذي نَجَرتُهُ وصنعتُهُ بيديّ، كلُّ خيطٍ فيهِ يحملُ نبضَ روحي، وكلُّ وترٍ يغنّي قصةَ حياتي."
وتابعَ عصمانُ، وكلماتُهُ تُنحتُ في ذاكرةِ الروحِ: "وصيتي لكَ يا بوبكرُ"... وصيتي لكَ يا بنيّ. وصِي بها من سيأتي بعدَكَ أيضًا... هذا الكَنمْبَرِيُّ خاصٌّ وحصريٌّ على ملوكِ الجنِّ السودِ، إنّهُ يحتوي على بركةِ الغابةِ التي قدمتُ منها أنا وأنتَ، جذورُنا مُتّحدةٌ في ترابِها المقدسِ، إنّهُ يحتوي على بركةِ سيدي "بالا ديما"، نورِ الغيبِ وسيدِ الأسرارِ الذي يُضيءُ دروبَ الظلامِ. في تلكَ الأثناءِ في الحلمِ، إلتفتَ عصمانُ إلى ذاكَ الرجلِ الضخمِ، قائلاً لـبوبكرَ، وكلماتُهُ تُشبهُ تراتيلَ مقدّسةً: "هذا سيدي بالا ديما، عهدُكَ معهُ، وأنا شاهدٌ على هذا... واللهُ يعوّنكَ يا ولدي بوبكرُ، و اللهُ يعوّنكم جميعًا، يا حملةَ السرِّ المقدسِ، ويا صُناعَ المجدِ الذي لا يفنى.
في تلكَ اللحظةِ، إستيقظَ بوبكرُ من حلمِهِ، كأنّما عادَ من رحلةٍ في عوالمَ أخرى، روحُهُ مُضاءةٌ بِنورٍ جديدٍ، مستوعبًا حقيقةً أعمقَ من الواقعِ، تجاوزتْ حدودَ الفهمِ البشريِّ. أدركَ أنَّ الكَنمْبَرِيَّ الذي ورثَهُ ليسَ مجردَ آلةٍ، بل مَسكونٌ بالقوى الروحانيةِ السوداءِ، مختومٌ بطابعِ الغيبِ، كَكتابٍ سماويٍّ لا يُقرأُ إلاّ بالروحِ، ولا ينبغي لهُ أن يتجاوزَ عتبةَ ضريحِ سيدي بلالٍ؛ هذا الكَنمْبَرِيُّ الذي صُنعَ من جذع شجرة يابسة مقطوعة الأوصال، وجلدِ ماعزٍ أسودَ ميتٍ، وأمعاءِ تيسٍ مذبوحٍ، لم يكنْ مجردَ مادةٍ، بل كانَ مختومًا بطابعٍ روحانيٍّ من رجالِ الغابةِ، مملوكًا لهم وحدَهم، أمانةً تُسلّمُ من روحٍ لِروحٍ، وتُصانُ في خبايا الزمانِ، لِتبقى شاهدًا على مجدٍ لا يزولُ.
لَمْ يَحِدْ بوبكرُ عن وصيةِ معلّمِهِ عصمانَ، ذاكَ الذي تراءى لهُ في عالمِ الأحلامِ، هَمْسٌ من الغيبِ يُضيءُ دروبَ اليقينِ. ظلَّ مُحافظًا على العهدِ الروحانيِّ معَ بالا ديما، روحِ الغابةِ الكبرى، وسيدِ الأسرارِ الخفيةِ، حاميًا لآلةِ الكَنمْبَرِيِّ، لا مجردَ آلةٍ، بل كنزًا من الأسرارِ في غياهبِ ضريحِ سيدي بلالٍ، حصنِ الأرواحِ الأمينِ.
بقيتْ أوتارُ الكَنمْبَرِيِّ تُرتّلُ تحتَ أناملِهِ، أنغامًا لا تُشبهُ أصواتَ البشرِ، بل صدىً لأرواحٍ صعدتْ، و لقصصٍ لم تُروَ بعدُ. ظلَّ بوبكرُ يرعى تلكَ الوديعةَ المقدّسةَ، كلُّ نغمةٍ فيها عهدٌ، وكلُّ إهتزازٍ قسمٌ، حتى وافتهُ المنيّةُ هو الآخرُ، كَنَجمةٍ غابتْ في سماءِ الخلودِ، لكنّ نورَها بقيَ يُضيءُ الدّربَ. رحلَ بوبكرُ جسدًا، لكنَّ روحَهُ بقيتْ تُعانقُ أوتارَ الكَنمْبَرِيِّ، لتُصبحَ جزءًا من سِرِّهِ الأبديِّ، خالدًا في ذاكرةِ الأرضِ والسماءِ، حارسًا لِعهدٍ لا يزولُ معَ الزمنِ، وروحًا تُبشّرُ بِمَجدٍ لا يفنى.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الْكِمُبْرِي -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- أَطْلَانتس وَسيِّدِي مُوسَى
- الزَّرَادِشْتِيَّة
- جَوْهَرٌ أَعْمَق أَسْرَار الْوُجُود
- إخْتِرَاق الزَّمَكَان
- المُثَقَّف الْمُزَيَّف
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٌ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءِ الثَّالِثِ-
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْء الثَّانِي-
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءِ الْأَوَّلِ-


المزيد.....




- فساتين النجمات في حفلات صيف 2025: بين الأناقة والتمرّد على ا ...
- مراسلة CNN تضغط على ترامب بشأن الاجتماع المحتمل مع بوتين
- البرغوثي يعلق على خطة غزة التي أعلنها نتنياهو
- ماذا كشف نتنياهو بخطة غزة الجمعة؟.. إليك ما نعلمه ولا نعلمه ...
- مفاوض سابق عن خطة احتلال غزة: من الصعب نجاحها وستكون باهظة ا ...
- لماذا تقود السعودية حملة دولية للاعتراف بدولة فلسطينية؟
- رفيقك الوفي.. كلبك قد يعيد لك توازنك ويخفف من الضغوط والتوتر ...
- وزير الهجرة اليوناني يشيد بتراجع أعداد الوافدين بعد شهر من ت ...
- فيدان: ناقشت مع الشرع تعميق التعاون والقضايا الأمنية
- حكم قضائي رابع يوقف أمر ترامب بمنع منح الجنسية الأميركية بال ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-